لعبة الديمقراطية .. أمريكا نموذجاً
مرسل: الاثنين مايو 17, 2010 7:21 pm
إن التوق إلى رؤية الديمقراطية على الأسلوب الأمريكي وهي تستنسخ في العالم أجمع كان محوراً دائماً في السياسة الخارجية الأمريكية .
نيل لويس : المراسل الدبلوماسي لجريدة نيويورك تايمز .
تعد " الديمقراطية " بمعناها المعروف اليوم وهو " حكم الشعب نفسه بنفسه " مصطلحاً يونانياً قديماً عرف في أثينا والمدن اليونانية قبل الميلاد (578ق.م.ـ335ق.م.)، حيث "كان الرجال يجتمعون في الساحة العامة ويقترحون القوانين ويصوتون عليها، ثم يتم اختيار بعض الرجال ،من خلال القرعة، لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه ".
ومن ثم تطور مفهوم هذا المصطلح بعد اقتباسه في العصر الحالي ، فلم تعد الديمقراطية تعني حكم الشعب بشكل مباشر ، بل بات يقصد بالحكم الشعبي الأجهزة التنفيذية والتشريعية التي ينتخبها الشعب من أجل تمثيله والتحدث بإسمه .
هذا ويعود السبب في دعوة الفلاسفة إلى تطبيق النظام الديمقراطي في الحكم،إلى الاختلاف الذي وقع بينهم وبين رجال الكنيسة في فترة من فترات التاريخ ، حيث عمدت الكنيسة ، تحت ستار الدين ، إلى فرض نظم وقوانين ديكتاتورية استبدادية ، وقامت بتقييد الحريات وكبت الأفواه ، مما جعل الناس يجدون في المبدأ الديمقراطي القائم على فصل الدين عن الدولة ، وإعطاء السيادة والحق للشعب في أن يحكم نفسه بنفسه ، ويسن قوانينه بإرادته المطلقة ، منفساً للتخلص من سلطة الكنيسة .
هذه الدعوة إلى الديمقراطية التي حملت لواءها الولايات المتحدة ، والتي جعلت منها تارة جزرة تعطيها مكافئة لمؤيدي سياستها والداعيمن لإقتصادها ، وجعلت منها تارة أخرى عصا ترفعها في وجه معارضيها واعدائها ، تواجه اليوم معارضة شديدة حتى من داخل بعض تلك الدول التي تمارس تلك الديمقراطية ، وذلك لأسباب عديدة ، منها :
1- إلغاء الخصوصية الفردية والحضارية لكثير من الشعوب وخاصة الإسلامية منها ، والتي تملك مشروعاً حضارياً وقانونياً وأخلاقياً خاصاً يمتد في جدزوره إلى عقيدة إلهية تنظم الحكم وفق رؤية واضحة المعالم والخطوط ، تحتكم إلى أمر الله سبحانه وتعالى دون سواه ، وذلك استناداً إلى قوله عز وجل : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم " ، المائدة 49 .
من هنا فإن المقارنة متعذرة " من الناحية المنهجية بين الإسلام الذي هو دين رسالة تتضمن مبادئ تنظم عبادات الناس وأخلاقهم ومعاملاتهم ، وبين الديمقراطية التي هي نظام للحكم وآلية للمشاركة " .
2- فشل النظام الديمقراطي في الدول التي تطبقه أو تصدره ، فقد انتاب بعض هذه الدول الضعف نفسه الذي أصاب الأنظمة الاستبدادية سواء بسواء ، حيث خضعت على الصعيد الداخلي إلى سيطرة فئة من النخبة السياسية والاقتصادية التي تملك القدرة الدعائية والمالية الكافية من أجل الحصول على أصوات الناخبين، وخضعت على الصعيد الخارجي إلى مقتضيات السوق العالمية التي تقوم على حمايتها ، وتنظيم شؤونها قوة الولايات المتحدة .
إضافة إلى ذلك فإن من الملاحظ في تلك الدول التي تدافع عن النظام الديمقراطي، وعلى رأسها أمريكا، أن الانتخابات النيابية وحتى الرئيسية لا تغير كثيراً من السياسات المعتمدة في البلاد ، والتي تخضع لاعتبارات عديدة لا يمكن لأشخاص مهما كانت مكانتهم ان يغيرّروا منها .
بهذا يمكن أن نشبه تلك الانتخابات الرئاسية بالمخدرات التي تذهب العقول وتجعل مدمنيها يصلون في أحلامهم إلى السحاب ، بينما هم في الواقع لم يتجاوزوا حدود المساحة التي يتواجدون فيها ، وكذلك الأمر بالنسبة للشعب الذي يتوهم بأنه هو الذي انتخب ذلك النائب أو الرئيس الذي وعده بالتغيير ودعم قضاياه ، بينما هو في حقيقة الأمر ليس سوى حجر من أحجار الدومنو التي يحركها " خبراء" ، يعملون من وراء الكواليس وفق سياسة ثابتة ، يضعون خطوطها الداخلية والخارجية " .
أما الناخبين وهم الذي يطلق عليهم اسم " الرأي العام " فليسوا في الحقيقة كما يقول " الخبراء " الأمريكيين إلا سخفاء جهلة يؤمنون بالخرافات ، يشكلون تهديداً للنظام والحكومة الجيدة ، لذلك نجد هؤلاء الخبراء يعمدون إلى إخفاء الحقائق عن هذا " الرأي العام " ، فليس له ان ينشغل بمعرفة مصالح بلاده المشتركة ، بل يترك هذا الأمر " لطبقة متخصصة تتجاوز مصالحها الخاصة الناحية المحلية " ، وينصرف هو إلى التمتع بحياته الدنيوية التي تتكفل وسائل الإعلام بتوجيهها وفق سياسة محددة من الخبراء ، يقول " فيليب هـ. ميلانسون" ، استاذ العلوم السياسية في جامعة ماساشوسيتس ، واصفاً حال هذا الرأي العام : " حتى في الانظمة الديمقراطية هناك معلومات سرية لا يمكن للمواطنين أن يعرفوها لأن الأمن القومي يتوقف عليها ".
ولعل أول هذه المصالح القديمة الجديدة تلك المتعلقة بتعزيز المصلحة الاقتصادية الأمريكية ، التي تهدف في سياستها الخارجية إلى تحقيق مصالح أمريكا الاقتصادية ، فإذا علمنا أن أمريكا في الوقت الراهن تعاني من أزمة اقتصادية خانقة كما عبر عنها " باتريك سيل " في مقالة في مجلة «العالِم» عدد سبتمبر 2002 بقوله: " تواجه امريكا أزمة مالية خانقة تأخذ أبعاداً كارثية وقد تكون مقبلة على انهيار اقتصادي كبير مشابه للذي حدث عام 1929" ، يمكن أن نتخيل مدى الانفراج الاقتصادي الذي تناله امريكا بعد استيلائها على النفط العراقي الذي يشكل ربع مجمل الاحتياط العالمي أو ما يعادل 112 مليار برميل من النفط .
فإذا كان هذا هو مفهوم الديمقراطية المطبقة في أمريكا يمكن لنا في هذه الحالة أن نتصور أسباب اصرار هذه الدولة على تعميم هذا النموذج على العالم بأسره وخاصة على الدول النامية والمتخلفة ، والتي يدخل من بينها عدد كبير من دول العالم الإسلامي والعربي ، ويمكن لنا أيضاً أن نتساءل عن هذه الديمقراطية المطاطة التي تختلف من زمن إلى آخر ، حتى أن هذا الاختلاف قد يقع في الدولة نفسها ، فتارة يكون حاكم هذه الدول نموذجاً مثالياً للديمقراطية ، ويصبح تارة أخرى من ألد اعداء هذه الديمقراطية .
من النماذج المعروفة عن موقف أمريكا الديمقراطي هذا موقفها " مع "ماركوس " رئيس الفيلبين السابق الذي كان منذ أمد غير طويل ديمقراطياً نموذجياً ، "رجل نذر نفسه للديمقراطية " ، كما يقول رونالد ريغان ، أما نائبه جورج بوش فقد أعلن في مانيلا قائلاً " اننا نحب تمسكك بالديمقراطية وبالعملية الديمقراطية وخدمتك للحرية " . بيد أن هذا كان قبل أن يفقد ماركوس السيطرة ، ففقد بذلك مؤهلاته كديمقراطي محب للحرية".
إن التأرجح في فهم أمريكا لمصطلح الديمقراطية رافقه تأرجح في فهم مصطلحات أخرى مرتبطة بالديمقراطية روجت لها أمريكا وعملت على تعميمها على العالم ، مثل مصطلح العنف والارهاب ، فالملاحظ في الديمقراطية الأمريكية وجود نوعين من العنف في قاموسها ، نوع يعد إرهاباً ونوع آخر يعد " فناً من فنون الحكم " أو " خطأ من الأخطاء القابلة للفهم " ، ففي دراسة قام بها كل من " نعوم شومسكي " و" إدوارد هرمان " حول موضوع " القوة والعقيدة في الولايات المتحدة " استعرضا نوعين من الفظائع " حمّامات دم حميدة وبنّاءة " و"حمّامات دم شائنة " يرتكبها الأعداء الرسميون، ورد الفعل هنا يسير على منوال التعاون مع الإرهاب .
ويثير النوع الثاني من حمّامات الدم غضباً عظيماً كما يستدعي في غالب الأحيان خداعا وتلفيقاً على نطاق واسع " ، بحيث يصبح كل من يدافع عن وطنه إرهابياً ، فالفلسطيني إرهابي ، والأفغاني إرهابي ، والعراقي إرهابي ، كل هؤلاء إرهابيون لأنهم يدافعون عن كيانهم ووجودهم .
بينما يجري تجاهل وإنكار النوع الأول من حمّامات الدم أو حتى يجري الترحيب به احياناً ، ومن نماذج هذا النوع المبارك على الصعيد الداخلي ، أي عنف يمكن أن يخدم مصلحة أمريكا التوسعية ، مثل العنف الممارس ضد "الزنوج الذين شيّد الرأسماليون الأميركيون ثرواتهم الأولى على آلام الملايين منهم ، والذين اختطفوا من أرجاء أفريقية ، وكذلك الأمر بالنسبة للملايين من الأوروبيين الذين استغلوا بتجارة الرقيق الأبيض، إضافة إلى مئات الألوف من المكسيكيين والصينيين والفيليبينيين الذين استغلوا في انشاء السكك الحديدية والمزارع الرأسمالية في البقاع الجنوبية الغربية بأجور بخسة واجواء من العمل غير ملائمة ".
أما الهنود الحمر ، سكان بلاد الولايات المتحدة الأصليين ، الذين انتزعت منهم أراضيهم ،فقد قامت الديمقارطية الأمريكية بإسباغ لقب مواطن أمريكي على كل غازي أبيض يقتل هندي ويسلب أمواله وذلك تحت مبدأ " حرية الدفاع عن النفس " وضد من ، ضد السكان الأصليين المالكون للأراضي والذين كل ذنبهم أنهم يدافعون عن حقوقهم.
من هنا لا نستغرب اليوم تلك الحملات الإعلامية الشرسة التي شنتها أمريكا على العراق ، والقاءها القبض على أبنائه واذلالها لشعبه ، الذي كان ذنبه أنه يقاوم العدوان الغاشم على أراضيه ، فلقد اتبعت أمريكا هذه السياسة من قبل في نيكاراغوا " حيث كان البيت الأبيض والكونغرس ووسائل الإعلام ينظمون بين حين وحين حملات لفضح شيمة الغدر في نفس الضحية : أسلحة لعصابات من السلفادور... طائرات ميغ لتهديد نصف الكرة الأرضية الغربي " .
هذا على الصعيد العنف المبارك الداخلي اما على الصعيد العنف الخارجي ، فمن أنواعه المباركة العنف الذي يمارسه اليهود داخل فلسطين المحتلة والذي تحميه أمريكا باستمرار عبر منع أي عقاب يمكن أن يطاله من مجلس الأمن ، او بالسماح له بامتلاك أسلحة الدمار الشامل الممنوعة عن غيره من الدول وخاصة العربية منها.
أخيراً ، كثير من المسلمين يتساءلون عن موقف الإسلام من الديمقراطية التي تعني حكم الشعب نفسه بنفسه ، وخاصة أنه يمكن لهذه الديمقراطية إذا طبقت ، أن تمنح المواطن حرية التعبير والرأي والانتخاب وغير ذلك ، ثم ألا يمكن لهذا الأمر إذا طبق أن يؤدي إلى الخلاص من النظم الاستبدادية المنتشرة في كثير من الدول ؟
من المفيد قبل الإجابة عن هذا التأكد من كون تلك الدول التي نحاول تقليدها تطبق الديمقراطية فعلاً، وأن سجونها خالية من المظلومين ، وأن ناخبيها يستخدمون إرادتهم الحرة دون ترغيب او ترهيب ، وأخيراً التأكد بأن الحرية التي حصلوا عليها هي حرية في التبديل والتغيير وصنع القرار وليس فقط حرية في الكلام والتظاهر.
د. نهى قاطرجي
نيل لويس : المراسل الدبلوماسي لجريدة نيويورك تايمز .
تعد " الديمقراطية " بمعناها المعروف اليوم وهو " حكم الشعب نفسه بنفسه " مصطلحاً يونانياً قديماً عرف في أثينا والمدن اليونانية قبل الميلاد (578ق.م.ـ335ق.م.)، حيث "كان الرجال يجتمعون في الساحة العامة ويقترحون القوانين ويصوتون عليها، ثم يتم اختيار بعض الرجال ،من خلال القرعة، لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه ".
ومن ثم تطور مفهوم هذا المصطلح بعد اقتباسه في العصر الحالي ، فلم تعد الديمقراطية تعني حكم الشعب بشكل مباشر ، بل بات يقصد بالحكم الشعبي الأجهزة التنفيذية والتشريعية التي ينتخبها الشعب من أجل تمثيله والتحدث بإسمه .
هذا ويعود السبب في دعوة الفلاسفة إلى تطبيق النظام الديمقراطي في الحكم،إلى الاختلاف الذي وقع بينهم وبين رجال الكنيسة في فترة من فترات التاريخ ، حيث عمدت الكنيسة ، تحت ستار الدين ، إلى فرض نظم وقوانين ديكتاتورية استبدادية ، وقامت بتقييد الحريات وكبت الأفواه ، مما جعل الناس يجدون في المبدأ الديمقراطي القائم على فصل الدين عن الدولة ، وإعطاء السيادة والحق للشعب في أن يحكم نفسه بنفسه ، ويسن قوانينه بإرادته المطلقة ، منفساً للتخلص من سلطة الكنيسة .
هذه الدعوة إلى الديمقراطية التي حملت لواءها الولايات المتحدة ، والتي جعلت منها تارة جزرة تعطيها مكافئة لمؤيدي سياستها والداعيمن لإقتصادها ، وجعلت منها تارة أخرى عصا ترفعها في وجه معارضيها واعدائها ، تواجه اليوم معارضة شديدة حتى من داخل بعض تلك الدول التي تمارس تلك الديمقراطية ، وذلك لأسباب عديدة ، منها :
1- إلغاء الخصوصية الفردية والحضارية لكثير من الشعوب وخاصة الإسلامية منها ، والتي تملك مشروعاً حضارياً وقانونياً وأخلاقياً خاصاً يمتد في جدزوره إلى عقيدة إلهية تنظم الحكم وفق رؤية واضحة المعالم والخطوط ، تحتكم إلى أمر الله سبحانه وتعالى دون سواه ، وذلك استناداً إلى قوله عز وجل : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم " ، المائدة 49 .
من هنا فإن المقارنة متعذرة " من الناحية المنهجية بين الإسلام الذي هو دين رسالة تتضمن مبادئ تنظم عبادات الناس وأخلاقهم ومعاملاتهم ، وبين الديمقراطية التي هي نظام للحكم وآلية للمشاركة " .
2- فشل النظام الديمقراطي في الدول التي تطبقه أو تصدره ، فقد انتاب بعض هذه الدول الضعف نفسه الذي أصاب الأنظمة الاستبدادية سواء بسواء ، حيث خضعت على الصعيد الداخلي إلى سيطرة فئة من النخبة السياسية والاقتصادية التي تملك القدرة الدعائية والمالية الكافية من أجل الحصول على أصوات الناخبين، وخضعت على الصعيد الخارجي إلى مقتضيات السوق العالمية التي تقوم على حمايتها ، وتنظيم شؤونها قوة الولايات المتحدة .
إضافة إلى ذلك فإن من الملاحظ في تلك الدول التي تدافع عن النظام الديمقراطي، وعلى رأسها أمريكا، أن الانتخابات النيابية وحتى الرئيسية لا تغير كثيراً من السياسات المعتمدة في البلاد ، والتي تخضع لاعتبارات عديدة لا يمكن لأشخاص مهما كانت مكانتهم ان يغيرّروا منها .
بهذا يمكن أن نشبه تلك الانتخابات الرئاسية بالمخدرات التي تذهب العقول وتجعل مدمنيها يصلون في أحلامهم إلى السحاب ، بينما هم في الواقع لم يتجاوزوا حدود المساحة التي يتواجدون فيها ، وكذلك الأمر بالنسبة للشعب الذي يتوهم بأنه هو الذي انتخب ذلك النائب أو الرئيس الذي وعده بالتغيير ودعم قضاياه ، بينما هو في حقيقة الأمر ليس سوى حجر من أحجار الدومنو التي يحركها " خبراء" ، يعملون من وراء الكواليس وفق سياسة ثابتة ، يضعون خطوطها الداخلية والخارجية " .
أما الناخبين وهم الذي يطلق عليهم اسم " الرأي العام " فليسوا في الحقيقة كما يقول " الخبراء " الأمريكيين إلا سخفاء جهلة يؤمنون بالخرافات ، يشكلون تهديداً للنظام والحكومة الجيدة ، لذلك نجد هؤلاء الخبراء يعمدون إلى إخفاء الحقائق عن هذا " الرأي العام " ، فليس له ان ينشغل بمعرفة مصالح بلاده المشتركة ، بل يترك هذا الأمر " لطبقة متخصصة تتجاوز مصالحها الخاصة الناحية المحلية " ، وينصرف هو إلى التمتع بحياته الدنيوية التي تتكفل وسائل الإعلام بتوجيهها وفق سياسة محددة من الخبراء ، يقول " فيليب هـ. ميلانسون" ، استاذ العلوم السياسية في جامعة ماساشوسيتس ، واصفاً حال هذا الرأي العام : " حتى في الانظمة الديمقراطية هناك معلومات سرية لا يمكن للمواطنين أن يعرفوها لأن الأمن القومي يتوقف عليها ".
ولعل أول هذه المصالح القديمة الجديدة تلك المتعلقة بتعزيز المصلحة الاقتصادية الأمريكية ، التي تهدف في سياستها الخارجية إلى تحقيق مصالح أمريكا الاقتصادية ، فإذا علمنا أن أمريكا في الوقت الراهن تعاني من أزمة اقتصادية خانقة كما عبر عنها " باتريك سيل " في مقالة في مجلة «العالِم» عدد سبتمبر 2002 بقوله: " تواجه امريكا أزمة مالية خانقة تأخذ أبعاداً كارثية وقد تكون مقبلة على انهيار اقتصادي كبير مشابه للذي حدث عام 1929" ، يمكن أن نتخيل مدى الانفراج الاقتصادي الذي تناله امريكا بعد استيلائها على النفط العراقي الذي يشكل ربع مجمل الاحتياط العالمي أو ما يعادل 112 مليار برميل من النفط .
فإذا كان هذا هو مفهوم الديمقراطية المطبقة في أمريكا يمكن لنا في هذه الحالة أن نتصور أسباب اصرار هذه الدولة على تعميم هذا النموذج على العالم بأسره وخاصة على الدول النامية والمتخلفة ، والتي يدخل من بينها عدد كبير من دول العالم الإسلامي والعربي ، ويمكن لنا أيضاً أن نتساءل عن هذه الديمقراطية المطاطة التي تختلف من زمن إلى آخر ، حتى أن هذا الاختلاف قد يقع في الدولة نفسها ، فتارة يكون حاكم هذه الدول نموذجاً مثالياً للديمقراطية ، ويصبح تارة أخرى من ألد اعداء هذه الديمقراطية .
من النماذج المعروفة عن موقف أمريكا الديمقراطي هذا موقفها " مع "ماركوس " رئيس الفيلبين السابق الذي كان منذ أمد غير طويل ديمقراطياً نموذجياً ، "رجل نذر نفسه للديمقراطية " ، كما يقول رونالد ريغان ، أما نائبه جورج بوش فقد أعلن في مانيلا قائلاً " اننا نحب تمسكك بالديمقراطية وبالعملية الديمقراطية وخدمتك للحرية " . بيد أن هذا كان قبل أن يفقد ماركوس السيطرة ، ففقد بذلك مؤهلاته كديمقراطي محب للحرية".
إن التأرجح في فهم أمريكا لمصطلح الديمقراطية رافقه تأرجح في فهم مصطلحات أخرى مرتبطة بالديمقراطية روجت لها أمريكا وعملت على تعميمها على العالم ، مثل مصطلح العنف والارهاب ، فالملاحظ في الديمقراطية الأمريكية وجود نوعين من العنف في قاموسها ، نوع يعد إرهاباً ونوع آخر يعد " فناً من فنون الحكم " أو " خطأ من الأخطاء القابلة للفهم " ، ففي دراسة قام بها كل من " نعوم شومسكي " و" إدوارد هرمان " حول موضوع " القوة والعقيدة في الولايات المتحدة " استعرضا نوعين من الفظائع " حمّامات دم حميدة وبنّاءة " و"حمّامات دم شائنة " يرتكبها الأعداء الرسميون، ورد الفعل هنا يسير على منوال التعاون مع الإرهاب .
ويثير النوع الثاني من حمّامات الدم غضباً عظيماً كما يستدعي في غالب الأحيان خداعا وتلفيقاً على نطاق واسع " ، بحيث يصبح كل من يدافع عن وطنه إرهابياً ، فالفلسطيني إرهابي ، والأفغاني إرهابي ، والعراقي إرهابي ، كل هؤلاء إرهابيون لأنهم يدافعون عن كيانهم ووجودهم .
بينما يجري تجاهل وإنكار النوع الأول من حمّامات الدم أو حتى يجري الترحيب به احياناً ، ومن نماذج هذا النوع المبارك على الصعيد الداخلي ، أي عنف يمكن أن يخدم مصلحة أمريكا التوسعية ، مثل العنف الممارس ضد "الزنوج الذين شيّد الرأسماليون الأميركيون ثرواتهم الأولى على آلام الملايين منهم ، والذين اختطفوا من أرجاء أفريقية ، وكذلك الأمر بالنسبة للملايين من الأوروبيين الذين استغلوا بتجارة الرقيق الأبيض، إضافة إلى مئات الألوف من المكسيكيين والصينيين والفيليبينيين الذين استغلوا في انشاء السكك الحديدية والمزارع الرأسمالية في البقاع الجنوبية الغربية بأجور بخسة واجواء من العمل غير ملائمة ".
أما الهنود الحمر ، سكان بلاد الولايات المتحدة الأصليين ، الذين انتزعت منهم أراضيهم ،فقد قامت الديمقارطية الأمريكية بإسباغ لقب مواطن أمريكي على كل غازي أبيض يقتل هندي ويسلب أمواله وذلك تحت مبدأ " حرية الدفاع عن النفس " وضد من ، ضد السكان الأصليين المالكون للأراضي والذين كل ذنبهم أنهم يدافعون عن حقوقهم.
من هنا لا نستغرب اليوم تلك الحملات الإعلامية الشرسة التي شنتها أمريكا على العراق ، والقاءها القبض على أبنائه واذلالها لشعبه ، الذي كان ذنبه أنه يقاوم العدوان الغاشم على أراضيه ، فلقد اتبعت أمريكا هذه السياسة من قبل في نيكاراغوا " حيث كان البيت الأبيض والكونغرس ووسائل الإعلام ينظمون بين حين وحين حملات لفضح شيمة الغدر في نفس الضحية : أسلحة لعصابات من السلفادور... طائرات ميغ لتهديد نصف الكرة الأرضية الغربي " .
هذا على الصعيد العنف المبارك الداخلي اما على الصعيد العنف الخارجي ، فمن أنواعه المباركة العنف الذي يمارسه اليهود داخل فلسطين المحتلة والذي تحميه أمريكا باستمرار عبر منع أي عقاب يمكن أن يطاله من مجلس الأمن ، او بالسماح له بامتلاك أسلحة الدمار الشامل الممنوعة عن غيره من الدول وخاصة العربية منها.
أخيراً ، كثير من المسلمين يتساءلون عن موقف الإسلام من الديمقراطية التي تعني حكم الشعب نفسه بنفسه ، وخاصة أنه يمكن لهذه الديمقراطية إذا طبقت ، أن تمنح المواطن حرية التعبير والرأي والانتخاب وغير ذلك ، ثم ألا يمكن لهذا الأمر إذا طبق أن يؤدي إلى الخلاص من النظم الاستبدادية المنتشرة في كثير من الدول ؟
من المفيد قبل الإجابة عن هذا التأكد من كون تلك الدول التي نحاول تقليدها تطبق الديمقراطية فعلاً، وأن سجونها خالية من المظلومين ، وأن ناخبيها يستخدمون إرادتهم الحرة دون ترغيب او ترهيب ، وأخيراً التأكد بأن الحرية التي حصلوا عليها هي حرية في التبديل والتغيير وصنع القرار وليس فقط حرية في الكلام والتظاهر.
د. نهى قاطرجي