منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
#26829
بسم الله الرحمن الرحيم



السياسة الامريكية ومبادرة الشرق الأوسط الكبير والأهداف غير اقراءات/



في مقابلة صحفية اجرتها مجلة "فيلي"* العدد 27 لشهر اب 2008 مع الدكتور صلاح كَرميان

التغيرات والمستجدات الحاصلة في النظام العالمي أخذت أفقاً واسعاً بعد إنهيار المنظومة الاشتراكية وظهور الولايات المتحدة كقوة إقتصادية وعسكرية كبيرة لعبت دوراً كبيراً في السياسة العالمية وتغير اتجاهاتها حسب مقتضيات مصالحها. وشكلت منطقة الشرق الاوسط جزءاً كبيراً من السياسة الامريكية التي رسمت الامبريالية العالمية مخططات كبيرة تمثلت بمبادرة الشرق الاوسط الكبير وإنشاء بنك تنمية شرق أوسطي، فكان لابد لهذه السياسات من ردود أفعال ووجهات نظر متباينة من شعوب المنطقة للوقوف على المعالم الحقيقية لهذه السياسات.

كان لمجلة "فيلي" لقاء مع احد المثقفين الكورد وهو الدكتور صلاح كَرميان ليغني القارئ الكريم عن السياسات والستراتيجيات الامريكية الجديدة في المنطقة.



•· تتضمن مبادرة الشرق الأوسط الكبير القيام بالإصلاحات الأساسية في برامج التعليم، وورشات عمل حول المرأة والقيادة ، القضايا القانونية، الصحافة، الفساد الإداري، دعم النقابات المهنية ضمن المساحة الواقعة ما بين المغرب وباكستان بالإضافة إلى الدول العربية، ما هي النقاط المشتركة التي تجمع كل دول هذه المنطقة، وكم من الوقت تحتاج لذلك ؟

كثيرة هي النقاط المشتركة بين الدول التي تشملها مبادرة الشرق الاوسط الكبير والتي تقع مابين شواطئ الاطلسي وسلسلة جبال همالايا، ولكن يمكن الاشارة الى النقاط الاساسية الرئيسة والتي تشترك فيها تلك الدول. ومن أهمها: كون الاسلام هو الدين الرئيسي لمعظم الأمم والشعوب التي تقطن تلك المساحة الشاسعة من الاراضي التي تضم العديد من البلدان والاقاليم رغم تنوع ثقافاتها ولغاتها وبيئاتها الاجتماعية (بأستثناء إسرائيل). وقد يبادر الى الذهن تساؤل عن وجود دول أسلامية أخرى مثل اندونوسيا وماليزيا لم تشملها المبادرة. فالسبب من شمولها على الدول الاسلامية الممتدة من المغرب الى باكستان، هو أنتشار التطرف الديني وتنظيمات الاسلام السياسي المتشددة التي تمتلك قواعد جماهيرية وشبكة من الخلايا السرية الناشطة ضد الوجود الامريكي والقوى المتحالفة معه في العراق وأفغانستان وضد انظمة الحكم في السعودية والجزائر ومصر واليمن وغيرها من الدول، وإن هذه البقعة الجغرافية الشاسعة تشتمل على دول ترتبط ببعضها بواسطة حدود مشتركة لاتفصل بينها دول غير أسلامية، بينما تفصلها الهند عن أندونسيا وماليزيا.

ومن النقاط المشتركة لاخرى التي تجمع تلك الدول، هي غياب الديمقراطية وسيطرة أيديولوجيات حزبية أو سلطات فردية مطلقة، مدنية أو عسكرية أو سيطرة العائلة أو العشيرة الواحدة على مقاليد الحكم. وتشترك تلك الدول في اتباع سياسة القمع والاضطهاد ضد مناوئي الانظمة فيها وتهتم كثيرأ في إقامة السجون والمعتقلات. وهناك انتهاكات مستمرة لحقوق الإنسان، وقيود ورقابة على حرية الصحافة والرأي. ولاتحترم فيها حقوق المرأة ومكانتها في المجتمع وتحرمها من حق المساواة وتكافؤ الفرص، حيث إن دورها مهمش في معظم الدول التي تشملها المبادرة. وكذلك فأن أنظمة الحكم فيها لاتسمح لمنظمات المجتمع المدني ومنها النقابات والاتحادات المهنية بممارسة دورها بالشكل المطلوب، فضلاً عن الفساد الادراي والمالي المستشري في جميع مرافق الدولة وغياب العدالة الاجتماعية وضعف الجهاز القضائي وتدني مستوى التعليم لدى أفراد المجتمع.

تلك النقاط المشتركة التي أشرت اليها، هي الأسباب المعلنة للمبادرة الاميريكية للشرق الاوسط الكبير وهي تتطابق تماماً مع الاهداف المعلنة للبنك الدولي التي تساهم أمريكا بأكبر نسبة في تمويل نشاطاته. بينما الشعار الرئيسي للبنك الدولي هو العمل من أجل عالم خالٍ من الفقر، فأنه يفرض الكثير من الشروط القاسية عند منح القروض المالية للدول النامية ويتدخل في السياسات الاقتصادية والتنموية لتلك الدول. وبنفس الاسلوب تحاول أمريكا التدخل لفرض سياساتها من خلال مبادرة الشرق الاوسط الكبير وهدفها الرئيسي هو الهيمنة على المنطقة وتنفيذ سياساتها في حملتها المزعومة على الارهاب، والهدف الاساسي هو الاستفادة من الطاقات البشرية والموارد الطبيعية لتلك الدول وانتعاش اقتصاد السوق ضمن سياسة العولمة الرأسمالية.

إن أمريكا تخطط لتنفيذ هذه المبادرة بمساعدة حلفائها من الدول الصناعية الكبرى وتحاول جاهدة اقناع أو ممارسة الضغوط على دول المنطقة للرضوخ لمخططها، وإنها ليست بعملية يسيرة، حيث إن هناك ردود افعال متباينة بين الرفض والقبول وابداء التحفظات بشأن المبادرة. لذا فأنني لا اتوقع تطبيق المبادرة خلال سنوات قليلة، ففي كل الاحوال اذا ما كثفت أمريكا جهودها ومارست كل السبل لتنفيذها بما فيها التغلب على العقبة الرئيسة أمامها والتي تتمثل في النظام الاسلامي في إيران، فلا اتوقع لتلك المبادرة أن ترى النور قبل سنة 2020.



*
تدعو المبادرة إلى إنشاء بنك تنمية شرق الأوسط الكبير على غرار البنك الأوربي للتنمية والأعمار وإنشاء المناطق التجارية الحرة والضغط باتجاه انضمام دول المنطقة إلى منظمة التجارة العالمية ، من المستفيد في هذا المشروع ، ألا ترى أن أفريقيا أولى بهكذا مبادرة وبأمس الحاجة إليها ؟

يوجد هناك بنك التنمية الافريقي الذي تأسس عام 1964 فبالاضافة الى الدول الافريقية الاعضاء البالغة 53 دولة افريقية، تساهم في عضوية البنك خمسة وعشرون دولة أجنبية من بينها أمريكا وبريطانيا. وهناك بنك التنمية الآسيوي ومؤسسات مالية أقليمية مماثلة. وكل هذه المؤسسات تهدف الى تحقيق الارباح من فوائد القروض والمشاريع التي تمولها.

وتعد القروض أو ما يسمى بالمساعدات المالية التي يلعب العامل السياسي دوراً كبيراً في منحها وتحديد اتجاهاتها والتي تقدمها المؤسسات المالية الدولية التي تهيمن عليها أمريكا والدول الرأسمالية، وسائل فعالّة للضغط باتجاه فرض المشاريع الاستعمارية لربط اقتصادياتها بالدول الكبرى ولزرع القواعد العسكريه والتدخل في شؤون تلك الدول عن طريق زرع مراكز التجسس ووسائل التآمر على أنظمة الحكم متى ما وجدوها مناسبة لمصالحهم.

وقد دأبت المؤسسات المالية الدولية مثل: البنك الدولي WB وصندوق النقد الدولي IMF ومنظمة التجارة العالمية WTO التي تهيمن عليها أمريكا، الى إخضاع الدول النامية ومنها الدول التي تشملها مبادرة الشرق الاوسط الكبير إلى سيطرة الأسواق المالية العالمية برسم خطط وإستراتيجيات تحت شعارات مكافحة الفقر والتنمية البشرية التي تتركز على توسيع الفرص والخيارات أمام السكان في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وتوفير الحريات وحماية حقوق الانسان ومساواة المرأة بالرجل. وإن العمل على تنفيذ تلك السياسات سوف يحقق مصالح تلك المؤسسات المالية الدولية في إدارة النظام الاقتصادي العالمي حسب التوجهات النيوليبرالية Neo-liberalism للعولمة الرأسمالية التي تؤكد على أهمية النمو الاقتصادي بتفعيل إقتصاد السوق وتقليص دور الحكومات وشركات القطاع العام والعمل على خصصة الانشطة الصناعية والزراعية والمالية. وزيادة الاستثمار العالمي للشركات المتعددة الجنسيات والدخول في الشراكة مع هذه الدول وإقامة مناطق التجارة الحرة ورفع القيود عن التجارة وزيادة التبادل التجاري بين دول المنطقة بضمنها إسرائيل. وهنا يكمن الهدف من إنشاء بنك تنمية الشرق الاوسط الكبير الذي ستهيمن عليه بدون شك المؤسسات المالية الكبرى وسوف تساهم فيها أمريكا بأكبر نسبة من الاسهم، وتربط بذلك اقتصاديات دول المنطقة بعجلة الاقتصاد الرأسمالي العالمي وتفرض الشروط عليها وتتدخل في رسم سياساتها الاقتصادية، مما تحمل تلك الدول على التركيز على تلبية التزامات تلك الشروط على حساب تحسين مستويات المعيشة لشعوبها.

أما لماذا تستهدف تلك الاستراتيجيات والسياسات الدول التي تشملها مبادرة الشرق الاوسط الكبير، فبرأيي ذلك يرجع الى عوامل عدة منها كما سبقت الاشارة اليها: هي تزايد نشاط جماعات الاسلام السياسي المتطرفة فيها، وترى أمريكا والدول الصناعية الكبرى، أن القيام بتلك الاصلاحات في الشرق الأوسط يعد من الخطوات المهمة في الحرب على الإرهاب التي تقودها أمريكا. وبأن خلق الفرص الجديدة و إطلاق الحريات بالنسبة لشعوب المنطقة، سوف يسهمان في تخلي الناس عن دعم نشاطات المنظمات الارهابية وإن تحقيق الديموقراطية وأجراء الاصلاحات سيدفع الى تحقيق الامن والاستقرار في المنطقة والعالم، ويتم ذلك بالقضاء على الارهاب ومصدره في المنطقة.

ومن الاسباب المهمة وراء إطلاق المبادرة هو وجود الزيادة العالية في السكان مع تدنى مستوى المعيشة وارتفاع نسبة البطالة، ووجود خلل في البنية الاقتصادية والاجتماعية وضعف الخدمات الصحية والتعليمية والرعاية الاجتماعية ووجود الفساد الاداري والمالي. وتلك هي نفسها الاسباب الرئيسة لتدفق الهجرة باتجاه أوروبا وأمريكا.



*
التخوف من المبادرة وما تحمل في جعبتها من التغيرات التي تعرقل مسيرتها ، فأنها تثير التساؤل حول الجانب الآخر للسياسة الأمريكية الداعمة لحكومات المنطقة وسياساتها القمعية ضد شعوبها وانتهاكاتها لحقوق الإنسان وعدم الالتزام بالمواثيق الدولية، كيف يمكن لشعوب المنطقة الوثوق والاطمئنان للنوايا غير المعلنة ؟

إن شعوب المنطقة تعي الدور الامريكي جيداً وتدرك إن السياسة الامريكية في المنطقة تدعم إسرائيل بكل قوة وتتماشى مع مخططاتها الاستيطانية وإنكارها للحقوق الفلسطينية، وهي تتعاطف من أجل حماية مصالحها مع الحكام والانظمة التي تقييد حريات شعوبها وتنتهك حقوق الانسان وتزج بالاف المعارضين لها في المعتقلات دون محاكمات أصولية. وتدرك كذلك إن الاصلاحات التي تنادي بها أمريكا ضمن تلك المبادرة ليست الاّ إصلاحات شكلية لاتشمل تغيير الانظمة القمعية، بل تدعو الى الشراكة معها لتحقيق بعض الاصلاحات البرلمانية. ولأجل الوصول الى الاهداف الاساسية في مقدمتها الحرب على الارهاب والقضاء على تنظيمات الاسلام السياسي وفرض هيمنتها على المنطقة وربطها بالاقتصاد الرأسمالي المعولم.

وفي جانب آخر فإن المبادرة الامريكية لاتراعي الخصوصيات الثقافية والاجتماعية ومصالح الشعوب في الدول المعنية، من حيث إن لكل دولة وضع خاص بها وتمر بمرحلة خاصة من التطور السياسي والاجتماعي والثقافي.

ينظر المراقبون والسياسيون في المنطقة الى المبادرة نظرة الارتياب من إنها تتضمن بنود غير معلنة، ولربما تستغل المبادرة لتحقيق مآرب سياسية والتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة تحت شعارات تحقيق الديمقراطية وضمان الحريات والدفاع عن حقوق الانسان. مثلما أستغلت معاهدة هلسنكي لعام 1975 المبرمة بين دول المعسكر الغربي والاتحاد السوفيتي السابق وحلفائها في المعسكر الاشتراكي، عندما استخدمت بنود المعاهدة المتعلقة بحقوق الانسان والحريات الاساسية ونشر مفهوم دولة القانون من قبل الدول الرأسمالية في التدخل في شؤون دول المنظومة الاشتراكية السابقة، والتى كانت من ألاسباب الرئيسية التي ساهمت في انهيارها.

يقول هنري كيسينجر في دراسة له عام 2001 "بوصفي أحد المشاركين الأساسيين في مباحثات النص النهائي لمؤتمر هلسنكي، أستطيع التأكيد بأن الإدارة الأمريكية التي مثلتها، كانت تعتبر الوثيقة، في المقام الأول، سلاحا سياسياً لمحاربة الشيوعيين".



*
أمريكا ترى مسألة تطبيق الإصلاحات في الشرق الأوسط كساحة معركة رئيسة في الحرب على الإرهاب ، بينما أوروبا تريد حكومات مستقرة ومسؤولة توقف الهجرة غير الشرعية وتمنع الجرائم ، هل يمكن نشر وترسيخ الديموقراطية من دون حصول التغييرات الجوهرية في المجتمع والثقافة ؟

كل المجتمعات في العالم تطالب بتطبيق الديمقراطية وتعمل وتناضل من أجل تحقيقها. لكن الديموقراطية لايمكن أن تأتي كوصفة جاهزة من قبل الاخرين، وهي ليست بثوب يرتدى متى ما كانت هناك رغبة في ذلك. بل لها أجوائها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تزدهر فيها لتصبح اسلوباً للحياة والحكم وقيادة المجتمع. لذا فأن الديمقراطية لا يمكن أستيرادها أو فرضها من الخارج. وهذا لايعني إمكانية تطبيق الديمقراطية في دول وإستحالة تطبيقها في دول أخرى. بل أن العملية تتطلب تهيئة الاجواء والارضية المناسبة لها. فلابد قبل كل شئ توفر التوجهات الحقيقية السليمة نحو الديمقراطية لدى القيادات السياسية في الدولة، والابتعاد عن الشعارات غير الواقعية، والغاء قوانين الطوارئ والسماح بتشكيل الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وضمان حرية الصحافة ووسائل الاعلام واطلاق حق تشكيل الاحزاب. وكذلك العمل على تحقيق الرفاه الاجتماعي والاهتمام بالجوانب التعليمية والتربوية والثقافية وتكثيف الجهود لوضع البرامج التي تهدف الى توعية وتثقيف الجماهير وخلق كوادر مخلصة من بينهم للقيام بنشر المفاهيم الديمقراطية والتعريف بمميزاتها وإنعكاساتها الايجابية على حياة الناس وتقدم المجتمع. وبناء الديمقراطية يتطلب تبني الشفافية والمرونة في التعامل مع الواقع، مع ضرورة وجود خطاب ثقافي واضح. كما وأنه من الضروري التوجه نحو أستقطاب الطاقات الشابة المثقفة والواعدة للمساهمة في بناء الاسس السليمة لاقامة الديمقراطية، مع توخي الحذر من الافراد والفئات الانتهازية والوصولية التي تتظاهر بالدعوة للديمقراطية، ليس أيماناً منها بمبادئها ومفاهيمها، بل من أجل استغلال الفرص وتوظيفها لتحقيق مصالحها الذاتية والفئوية الضيقة.



*
البعض يرى أن المشروع يهمل المشاكل الرئيسة في الشرق الأوسط ، ويركز على أمور بعيدة عن الواقع الحقيقي للمنطقة ، ما نسبة رفض وقبول أنظمة دول المنطقة للمشروع ، وكيف يتسنى لها أن تعمل في الحالتين ؟

تباينت ردود الأفعال حول مبادرة الشرق الاوسط الكبير بين القبول والرفض والتحفظ والتريث. ففيما لاقت المبادرة التأييد والقبول من بعض الاطراف مع المطالبة بفتح حوار بناء مع الولايات المتحدة. رفضتها أطراف أخرى لأنها لم تشترك في صياغتها.‏ فيما ينادي بعض الاطراف الاخرى بالتريث والانتظار وإجراء المزيد من الاتصالات والمشاورات حولها، ويبدي البعض الآخر التحفظ ويطالب بإيضاحات وتفسيرات إضافية من الولايات المتحدة وحليفاتها من الدول الصناعية الكبرى.‏

ويمكن القول إن أعداد كبيرة من السياسيين والمثقفين في المنطقة و بالاخص من الدول العربية ينظرون الى مبادرة الشرق الاوسط الكبير نظرة الشك والارتياب والتخوف من النوايا الامريكية غير المعلنة من وراء إطلاقها، حيث برزت ردود أفعال قوية برفض المبادرة وإعتبارها تدخل أمريكا في الشؤون الداخلية للدول، وبأن الدعوة الى التغيير والاصلاحات الديمقراطية، لايجوز أن تأتي عن طريق الاملاء والفرض من الخارج. وأعتبرت المبادرة هي محاولة أخرى لضم إسرائيل واندماجها ضمن النسيج الاقليمي. لاسيما إنها تهمل خصوصية كل دولة وثقافتها وتدعو الى الاصلاحات السياسية والاجتماعية والتعليمية في قوالب جاهزة مصدرة دون مشاورة الدول والشعوب التي تعنيها المبادرة. وتضم هذه المجموعة الاحزاب والتيارات اليسارية التي تناهض السياسات الامريكية، وتنظيمات الاسلام السياسي ومؤيديها والتي تستهدفها المبادرة الامريكية ضمن سياسة الحرب على الارهاب. وكذلك الاحزاب والتيارات القومية التي لا تثق بالنوايا الامريكية وترى إن أمريكا لاتتخلى عن دعم إسرائيل، وتنظر الى توسيع الرقعة الجغرافية لمنطقة الشرق الاوسط ستقلل من اهمية القضية الفلسطينية وتزحزح موقعها كقضية محورية في الشرق الاوسط وتهمشها ضمن القضايا الشائكة في الدول التي تعنيها المبادرة الجديدة.

ويكمن مصدرالتخوف كذلك في أن المبادرة تتفق مع دعوة الزعيم الاسرائيلي شمعون بيريز الى توسيع رقعة الشرق الأوسط لتشمل دول اخرى في آسيا الوسطى إلى جانب تركيا وإيران، كما جاء في كتاب نشره بعنوان الشرق الأوسط الجديد. فضلاً عن التجارب السابقة لامريكا التي تؤكد إن أي خطوة تقدم عليها لابد أن تسعى الى تحقيق أهداف و مصالح خاصة بها دون مراعاة مصالح الاطراف الاخرى. وإن أمريكا في حربها على الارهاب تتجاهل الاسباب الجوهرية لتصاعد وأنتشار ظاهرة الارهاب، مثلما تتجاهل القضية الاساسية في الشرق الاوسط وهي الاحتلال الاسرائيلي. كما وأن المبادرة تاتي بعد التدخل العسكري المباشر لامريكا وحليفاتها الاوربية وتورطها في أحتلال العراق وأفغانستان وما جلبه من دمار ومآسي وويلات التي فاقت التصورات.

أما بالنسبة لمواقف الانظمة العربية تجاه المبادرة، فبأستثناء الدول الخليجية التي ابدت موافقتها عليها، تراوحت المواقف بين اعلان الرفض وابداء التحفظات بشأنها. فبالرغم من علاقات التعاون القائمة بين السعودية والولايات المتحدة الاَ انها رفضت المبادرة، لتخوفها من الافراط بقضية فلسطين نظراً لحساسيتها واهميتها المصيرية بالنسبة للشعوب العربية، وكذلك رفضت المبادرة من قبل مصر للسبب نفسه، فضلاً عن تخوفها من الاصلاحات بحجة كونها تفرض من الخارج، بينما الواقع يشير الى أن إطلاق الحريات ومشاركة الشعب في اتخاذ القرارات، ستزحزح مواقع تلك الانظمة ولربما ستؤدى بالنتيجة الى إسقاطها. وقد زادت الشكوك والمخاوف حول النوايا الامريكية بعد إحتلال العراق وسقوط صدام من قبل القوات الامريكية وحلفائها والقبض عليه ذليلاً ذليل وإعدامه لاحقاً.

إن إطلاق الحريات العامة والاصلاحات البرلمانية وبناء المجتمع المعرفي وإعطاء الدور المناسب للمرأة للمساهمة الفعالة في المجتمع، التي تركز عليها المبادرة ليست كافية لحل تلك القضايا التي تعد من أهم الاسباب في خلق الصراعات والنزاعات السياسية وفقدان الامن والاستقرار وتفاقم الازمات الاجتماعية والاقتصادية.

فإن تمرير المبادرة يستدعي إظهار النوايا الحسنة في تسوية القضايا الشائكة العالقة وإعطاء الاولوية لمصالح شعوب المنطقة المصيرية وضمان حق تقرير المصير لهم. أن المبادرة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الصراعات الإقليمية وقضايا الحقوق القومية للشعوب والطوائف التي لاتتمتع بالاستقلال السياسي وتضع حلولاً جوهرية لها. كالصراع العربي - الاسرائيلي حول قضية فلسطين، والقضية الكوردية التي تعد من القضايا الرئيسة في الشرق الاوسط وقضية شعب الامازيغ والصحراء الغربية في المغرب العربي وقضية سكان جنوب السودان من الدينكا المسيحيين.



*
قد يقبل مثقفو المنطقة وتؤيد بعض الحركات المعارضة هذا المشروع لمجرد الخلاص من أنظمتها الحاكمة ليتسنى لهم اللعب في ساحة جديدة كحلول وأن كانت مؤقتة لتحقيق بعض المصالح، ما هي البدائل التي ترونها متاحة أمامهم للظهور على المسرح السياسي بشكل أكبر؟

في السابق وقبل القطب الواحد وإنهيار المعسكر السوفيتي، كانت الحركات السياسية تنظم المظاهرات والاحتجاجات الصاخبة، عندما كانت سفينة حربية أمريكية تقترب من سواحل بلد ما، أو عند قيام مسؤول أمريكي بزيارة الى إحدى البلدان. ولكن الاوضاع تغييرت الآن وإختلفت المعايير بعد سقوط جدار برلين وإنهيار النظام السوفيتي وإنتهاء الحرب الباردة. واصبحت للسياسة الامريكية وحلفائها في دول الناتو أدوراً هامة في إحداث التغييرات في الخريطة الجيو- بوليتيكية في العالم، كما حدثت في كوسوفو وافغانستان والعراق. فضلاً عن إن فقدان الحريات وتسلط الانظمة الدكتاتورية أو سلطة الحزب الواحد في البلدان التي تشملها المبادرة الامريكية والتخلف والفساد والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية فيها، اصبحت الدواعي التي من شأنها حث بعض الاطراف والجهات السياسية والاجتماعية ومنظمات غير حكومية الترحيب بالمبادرة، نتيجة اليأس من تغيير الواقع السياسي والاجتماعي، حيث القمع والارهاب والاستبداد التي تمارسها أجهزة السلطات الامنية في تلك الدول. كما حدث في العراق عندما رحبت المعارضة السياسية العراقية وقطاعات واسعة من جماهير العراق بالتدخل الامريكي وتعاونت بشكل مباشر في إسقاط النظام الديكتاتوري البائد رغم قناعتها بان هدف أمريكا ليس هو إنقاذ الشعب العراقي بل هو من أجل تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية وبسط هيمنتها في المنطقة. ولم يكن ذلك تعاطفاً مع الاحتلال، بل لانها رأت في ذلك السبيل الوحيد للخلاص من كابوس الدكتاتورية الذي جثم على العراق لاكثر من ثلاثة عقود.

لذا تعد الديموقراطية والتعددية وتقاسم السلطة والقضاء على الفساد والحد من البطالة ومعالجة الازمات الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية النقاط المشتركة بين المبادرة الامريكية ومتطلبات الواقع السياسي على الرغم من النوايا الامريكية غير المعلنة.

إن البديل الامثل للمثقفين والمنظمات الاجتماعية والمعارضة السياسية، هوالسعي لتغيير الاوضاع الراهنة، بالعمل على تأسيس وتقوية منظمات المجتمع المدني وضمان حرية الصحافة وسيادة القانون والضغط باتجاه إضفاء الشفافية على اداء المؤسسات الحكومية، واتباع سياسة اللاعنف واذا تطلب الامر اللجؤ الى اعلان العصيان المدني للوصول الى تحقيق الاهداف المرجوة في التغيير باتجاه مجتمع معرفي تسوده الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية. ويمكن إعتبار حركة الكفاية في مصر نموذج يحتذى به في الدول التي تعنيها مبادرة الشرق الاوسط الكبير.



*
هناك من يتهم أمريكا بالسعي وراء مصالحها من خلال إيجاد فرص عمل لشركاتها العملاقة دون أي اكتراث بقضايا الشعوب والمآسي التي تلحق بها جراء سياساتها في المنطقة ، ما هي الأسباب الرئيسة التي جعلت المنطقة هدف سهل للغرب؟

تعد الحرب على الارهاب أحدى الاسباب الرئيسة التي تدفع أمريكا والدول الغربية الى إستهداف المنطقة وفرض اجنداتها السياسية على الحكومات وانظمة الحكم في المنطقة. وترى أمريكا وحلفائها الغربيين إن الانظمة التي تتصف بغياب الديمقراطية والحريات الشخصية والخيار السياسي والشفافية في إدارتها للحكم، وعدم توافر الفرص الاقتصادية، ووجود حالات الغنى الفاحش لدى فئة قليلة والفقر الشديد لدى الاكثرية، والقمع والاستبداد والفساد، وتزايد العنف والجريمة والحروب والنزاعات والأمراض النفسية والازمات الاجتماعية، كلها تخلق حالة من الإضطراب في الموازين لدى المجتمعات في تلك الدول، وتهيأ الارضية المناسبة لكي تتحول إلى حاضنات للتنظيمات الارهابية. ومن الاسباب الهامة الاخرى هو تحقيق عملية اندماج إسرائيل ضمن النسيج الاقليمي للمنطقة وإقامة التبادل التجاري والديبلوماسي معها. وكذلك تحقيق المنافع الاقتصادية والتجارية والاستفادة من الموارد والثروات الطبيعية وفي مقدمتها النفط التي تزخر بها دول عديدة في المنطقة كالسعودية ودول الخليج وإيران والعراق وليبيا، فضلاً عن الاستفادة من الطاقات البشرية وتشغيلها في المشاريع الصناعية العملاقة للشركات الرأسمالية العالمية ومن خلالها يمكن الحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية التي تعاني منها الدول الصناعية الاوربية.

هذا وإن المؤسات المالية العالمية كمنظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي هي التي تروج لمثل هذه الإستراتيجيات بهدف الغاء الخصوصيات القومية والثقافية ونشر ثقافة ماكدونالدز وكوكاكولا وفرض النمط الثقافي التي تفرضها العولمة الرأسمالية.



*
هل ترون منطقة الشرق الأوسط منطقة خصبة لزرع البذرة الأمريكية، وما مدى النجاح الذي تتوقعونه لها ؟

فقدت السياسة الامريكية تجاه شعوب العالم مصداقيتها منذ امد بعيد، حيث كان لأمريكا دور كبير في جميع الصراعات والحروب والازمات في العالم. وشهد العالم جرائم القوات الامريكية في فيتام ودعمها للنظام الدكتاتوري في العراق في حربه مع إيران والتزام أمريكا جانب الصمت على جرائم الابادة الجماعية في عمليات الانفال وإستخدام الاسلحة الكيمياوية في كوردستان، وتدخلها العسكري في الصومال ومن ثم إحتلالها لافغانستان والعراق بعد تغيير الاوضاع الدولية وتغيير طبيعة الصراعات فيها. كما وإن الدعم الامريكي اللامحدود لأسرائيل ووقوفها ضد إرادة الشعب الفلسطيني، فضلاً عن تعاونها مع الانظمة القمعية والدكتاتورية في المنطقة، كلها تعد عوامل هامة لتجعل من منطقة الشرق الاوسط تربة غير خصبة للبذرة الامريكية.

بالطبع سوف تلجأ أمريكا والدول الغربية الى إتباع كل السبل لضمان نجاح إجندتها السياسية وتأمين مصالح شركاتها الرأسمالية ومشاريعها الاقتصادية، ولكنها بالمقابل ستجابه بالتصدي والمقاومة من القوى المعارضة لسياساتها. وإن ألادعات الامريكية بدعم دور المنظمات غير الحكومية وتقديم المساعدات الانسانية الخيرية من قبل المنظمات التي تمولها الشركات الامريكية لايمكن تمريرها، لان هذه الاجراءات ماهي الاّ محاولات لتجزئة القضايا الحيوية الرئيسة وتشويهها وإظهارها كقضايا المرأة والاطفال وحقوق الانسان والاقليات والفساد الاداري. فامريكا هي الداء قبل أن تكون الدواء، فهي نفسها تقف ضد مصالح الشعوب وتدعم الانظمة القمعية التي سببت التخلف الاجتماعي والاقتصادي لشعوب بلدانها التي تعاني من تدني مستوى الخدمات الصحية والتعلمية وفرص العمل وزيادة نسبة البطالة. وبأختصار شديد إن المبادرة الامريكية للاصلاح في الشرق الاوسط الكبير، تهدف الى فرض الهيمنة ورسم السياسات التي تخدم مصالح المؤسسات المالية الكبرى والشركات الرأسمالية العالمية، وهي لاتتسم بالجدية في حل القضايا الحيوية ولاتستند على مبادئ وقيم إنسانية في التعامل معها، بل تؤكد على الجوانب الفنية السطحية في الديمقراطية والاصلاح البرلماني، لقناعتها بأن القيام بالاصلاح اليوم هو افضل طريقة لتلافي الثورة او الحركات الجماهيرية في المستقبل.

وأخيراً فإن الاصلاح الحقيقي يجب أن يبدأ بأصلاح المجتمع الذي لايتم الاّ بإصلاح الإنسان للأنطلاق نحو فضاءات الأبداع والبناء من أجل تحقيق ذاته وليشعر بأدميته وكرامته وكل هذا يدفعه بشكل او بآخر الى الأنتماء لوطنه والحرص عليه ومن ثم المطالبة وعن طريق الشرائح المثقفة بالأستقلال والسياده ومن ثم تمهيد الطريق أمامه، ولايمكن تحقيق ذلك في ظل الأنظمة التسلطية الجائرة.




الرفيق /
احمد اسعد