صفحة 1 من 1

الإبداعُ في الفكر، فلسفةً وعلمًا، من نتائج العقل الفاعل

مرسل: الثلاثاء مايو 25, 2010 12:52 am
بواسطة منيرة القرينــي(101)
الإبداعُ في الفكر، فلسفةً وعلمًا، من نتائج العقل الفاعل

كان "العقلُ الفاعل" هو العامل الحاسم المُؤسِّس والمُنتِج والمُطوِّر والمُزهر لكلِّ فكرٍ فلسفيٍّ أو علميٍّ ناضج، ابتداءً من طاليس وأنكسمندريس وسقراط وأفلاطون وأرسطو، مرورًا بالكِنديّ والفارابيّ وابن سينا والخوارزميّ وجابر بن حيَّان وابن الهيثم وابن رُشد وابن خلدون وغيرهم، وانتهاءً بالعصر الحديث ابتداءً من كوبرنيكس وغاليليو وديكارت ونيوتن وآينشتاين وغيرهم.

وينبغي، قبل كلِّ شيء، أن نَعي بدقَّة وعُمق أنَّ أيَّ تقدُّمٍ حضاريّ، لا سيَّما في هذا العَصر الحديث، لا يُمكن أن يتحقـق إلاَّ من خلال إرساءِ أُسُسٍ ومبادئَ فلسفيَّـة وعلميَّـة وتراكـُمِها. فالحضارةُ الغربيَّـة الحديثة قامت على هذه الأُسُس. حتَّى النهضة التي حدثَت ابتداءً من منتصَف القرن التاسع عشر، في اليابان، قامت استنادًا إلى تــَبـْيـِئة الفلسفة الغربيَّـة والعقل الغربيّ العلميّ والثقافيّ لمتطلَّبات المجتمع اليابانيّ، إلى الحدِّ الذي صرخ فيه المثقَّفون الشَّباب من الساموراي، منذ ستـينات القرن التاسع عشر: "ليس هناك تاريخٌ ماضٍ، فتاريُخنا يبدأُ اليوم!"

ويقول فرانك غيبني F. Gibney في هذا الصدد: "لم يحدث في مناسبة أُخرى من التاريخ الحديث أنَّ أمَّةً كبيرة، غيرَ اليابان، غيَّرت بهذا الشكل الجذريّ، مجتمعَها وعاداتِها وأُسُسَها الاقتصاديَّة بالإضافة إلى بـِنيتها السياسيَّة... ومع ذلك، لم يفقد اليابانيـُّون هُويَّـتهم القوميَّة خلال هذه العمليَّة، بل على العكس، فقد قَوَّوا هذه الُهويَّة..."17

أمَّا نحن فقد أَضَعنا، بسبب عَدَم وعينا بأهمِّـيَّة استخدام عقلنا الفاعل، وترددنا، بل رَفـضِنـا لاستيعابِ وتـفهُـم أسباب الحضارة الحديثة وأُسُسها، وفلسفتَها، وعلمها، ولعجزِنا عن تَـبـْـيـِئـَتـِها لظروفنا واحتياجاتنا وعقـليَّـتـنا ـ أقولُ أضَعنا، بسبب ذلك، كِلا الأمرَين: فقد فشلَت، اولا، نهضتـُنا فشلاً ذريعًا، بدليل واقعيَّة إعادة احتلال أراضينا، وتَوالي نكباتنا في فلسطين ولبنان والعراق والجزائر والسودان وغيرها، فضلاً عن التخلُّف الاقتصاديّ والإنمائيّ والفكريّ والعِلميّ، كما بدأنا، ثانيا، بفَقدِ هُويَّـتـِنا تدريجيّا ً، بسبب سيطرة الأجنبيّ المباشرة على مُـقـدَّراتنا، التي تظهرُ خاصَّةً من خلال الحصار المباشر أو الاحتلال المفروض على بلدانٍ عربيَّةٍ . وهذا يُؤدِّي إلى فـقـدان كلِّ شيء، بل الكفر بكلِّ المبادئ والقِيَم والأخلاق، طلبًا للُقمةِ العَيش. يقول الإمامُ عليّ :"كادَ الفقرُ أن يكون كفرًا."18 فأين أصبحتْ عقيدتـُنا وهُويَّـتـُنـا وكرامتـُنا وقِيَمُنا وثقافـتـُنا وشرفـُنا، ونحن نشهدُ ما وصلنا إليه اليوم من ذلٍّ ومَهانة أمامَ الجيوش الأجنبيَّة الغازية، وذلٍّ ومهانةٍ ونحن نتفاوضُ على استرجاع أشبارٍ من أراضينا المُغتصَبة؟ فضلا عن أن أمريكا، ومن ورائها إسرائيل، أخذتْ تتدخل حتىُ في تغيير ِمناهجِنا الدراسيَّة بل وتغيير النصوص الدينيَّة، لجعلِها ملائمة لتقبلِ أو تجرع ِذُلـِّنا واحتلالِ أراضينا.

هذا على صعيد النفوذ المباشر؛ أمَّا النفوذُ الأجنبيُّ غير المُباشر الذي يُؤدِّي إلى إضاعة هُويَّـتـنا بما فيها قـِيَمُنا وثقافـتـُنا، فيتجلَّى بحاجتنا الماسَّة إلى كلِّ ما يُقدّمه لنا الآخر من منتجات تكنولوجية جاهزة، فضلا عن الغذاء والكساء والدواء. هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخرى فإنَّ تيَّارَ "العَولمة"، الذي يتغلغلُ كلَّ يومٍ في جميع أجزاء وطننا، سيقضي تدريجًا على البقيَّة الباقية من هُويـَّـتـنا، وسنصبحُ أُمَّـة ً تابعة ً خانعة ً قد ينتهي مصيرُها إلى مصيرٍ مُشابه لسُكـان أمريكا الأصليـِّيـن في بلادهم. في حين أنَّ اليابان، التي دُمِّرت أثناءَ الحرب العالميَّة الثانية، أصبحَت تُنافسُ أمريكا في إنتاجها، فدَعَتها أن تخطبَ ودَّها19.

يقول أَرنولد توينبي: "حاربوا الغرب بذات أسلحته"؛ وهو يقصدُ بأسلحته من المعرفةَ والفلسفة والعلمَ والتكنولوجيا والتقدُّمَ الحضاريّ بوجهٍ عامّ. فلماذا فشلنا في تحقيق ذلك؟

لأنـَّنا فشلنا في تحرير عقلنا الفاعل من سيطرة عقلنا المُنفعِل؛ الأمر الذي أدَّى بنا إلى هذه النتيجة والحالة المأساويَّة الراهنة.
[عدل] كلمة ختاميَّة

جميعُ المحاولات التي بُذِلَت لإصلاح شأن هذه الأمـَّة باءت بالفشل، لأنـَّها أهملَت، إلى حدٍّ بعيد، إصلاحَ "عقلها" قبل شَهرِ السيوف لمقاومة المُحتـلّ أو الغاصِب.

لقد تنوَّعت الآراءُ والاتِّجاهاتُ في تشخيص أدواءِ الأُمـِّة ومعالجتِها؛ منها الاتِّجاهُ السَّلَفيّ، والاتِّجاهُ الليبراليّ، والاتِّجاهُ القوميّ، والاتِّجاهُ الماركسي. وكلُّ واحدٍ من هذه الاتجاهات يُحلِّلُ الخَلَل ويُعالجُه بمنظاره المنفرِد. "بفكر" يرى أبعادَ الخلل، لا بالشكل الذي تكون عليه تلك الأبعادُ بالفِعل، بل بالشكل الذي يُصوِّره له ذلك "الفكر" الملوَّن بالاتِّجاه المسبَق. أي أنه صادرٌ عن عقل مُـنـفعلٍ إما بـ"الأنا" الذي فاتـَه قطارُ الحضارةِ السريع منذ عدة قرون (الاتجاه السلفي)، أو بـإيديولوجية مقتبسة بل منقولة "الآخر"( الاتجاه الليبرالي أو القومي أو الماركسي).

ونادرًا ما اتَّجهَ "الفكرُ"، قبل أن يُمعنَ النظرَ في نقدِ الأوضاع وتشخيص الداءِ لوصفِ الدواء، إلى النظر في ذاتِه هو. فلئن شهَرنا "سلاحَ النقد" ضدَّ أوضاعنا، فما أحرانا بأن ننقدَ، أوَّلاً، ذلك السلاحَ نفسه الذي نستخدمُه في نَقد الأوضاع. وبعبارةٍ أُخرى، ننقدُ "العقل" الذي يتوجَّهُ بالنقد إلى الأوضاع، كما يقول الجابري. فإذا كان "سلاح النقد" نفسه معطوبًا -أي مُنفعلاً- فإنَّ نتائجَ نقده ستكون ناقصة، بل باطلة. وبالتالي فإنَّ تشخيصَه للداءِ سيكون خاطئًا، ووصفَه للدواء سيصبح قاتلاً، أحيانًا!

فقد واجهنا مُعضلاتِنا إمَّا بعقلٍ مكرسٍ للماضي، وإمَّا بعقلٍ تشبَّعَ بمفاهيمِ "عقلنا المُجتمَعيّ" الحاضر، المتأثرةِ بعقلٍ مُجتمَعيٍّ آخر؛ أي إنـَّنا لم نتمكـن، حتَّى الآن، من مُواجهة مشكلاتنا بابتكارِ حلولٍ نابعةٍ من "عقلنا الفاعل"، لا "عقلنا المنفعل"، أي المنفعل سواء بآراء "الأنا" الماضي أي السَلَف، أو بآراء "الآخر" الحاضر أي الغرب.

فإذا أردنا حقا ً تحريرَ الإنسان العربيّ لإنجاز نهضته وتقدُّمه، فينبغي علينا أوَّلاً، وقبل كلِّ شيء، تحريرُ عقله الذي تعرَّض للقهرِ على مرِّ العصور، فأصبح خاضعًا خانعًا تابعًا، مُقـلـِّدًا مُردِّدًا لا مُجدِّدًا.

* * *

ولا شكَّ بأنَّ القارئَ المتأمِّلَ والمُدقّـِق لا يفهمُ من كلامي أنَّني أُريد "التغريب" ولا أُريد "التعريب"، لأنَّ من الواضح جدًّا أنـَّني انتقدتُ "التغريب" الذي اعتبرتـُه هو الآخر واحدًا من مُنتَجات "العقل المنفعِل" بتقليد الغرب، بنفس القدر الذي يكون عقلُنا منفعِلا بتقليد السَلَف.

ولكنني أدعو مع ذلك إلى استيعابِ مُـقوِمات الحداثة التي لمْ تـَعُـد مِلكاً للغربِ، بل للبشرية أجمع، خاصة أن بلداناً شرقية ً متعددة ً تبنتْ أسسَ الحداثةِ وأتقـنتها بلْ تفوقتْ على بعض البلدان الغربيةِ مع احتفاظها بثقافتِها.

ولئن أدعو إلى استيعابِ مُقومات الحضارة الحديثةِ وتفهُّمها، فإنـَّني أقصدُ بذلك علمَها ومُـكتـَشَـفاتِها وتِـقـناتها ومناهِجَها البحْـثـيـَّة ومَـفاهيمَها الإبسْـتمولوجيَّـة وديمقراطيَّـتـَها القائمة على حكم الأغلبـيَّـة وفصل السلطاتِ واحترامها الرأي الآخر، إلخ ، أي أُسسها وبُـناها التحتيّْـة. ومع ذلك فلا يعني ذلك تقليدَها، بل تـَبْـيـئـتها لظروفنا واحتياجاتنا وثقافتنا، فضلاً عن أنـَّني أدعو إلى تمحيصها وتلَـمُس ِ نقاطِ ضَعْـفها، أي نقدها بعقلٍ فاعلٍ لا مُنفعِل.

في كتابه نقد العقل الغربي، يقول المفكر مُطاع الصَّفدي: "مع ذلك إنَّ قصَّة العقل الغربيّ مع ذاته ليست أُمثولة للآخرين، ولا نمَوذجًا للتقليد، ولا بضاعةً للاستيراد والتبادُل. لكنَّها هي كذلك قصَّة للعقـل قابلة لأن تـُكتَب بغير حروفيـَّـتـها الأصليَّة، وأن تـُقرأ بغير عيون وألسنة أبطالها وحدهم. فهي، لشدَّة دراميـَّتها وشموليَّة معانيها، تبدو كما لو كانت قصَّة لكلِّ عقل يُفارق الامتثال مع أصنامه، ويُقرِّرُ المغامرة في مجهوله الخاصّ" 20(أي يُصبح "عقلاً فاعلاً" بعد أن كان "مُنفعِلا ً بأصنامه). لا سيَّما أنَّ أُسُسَ الحضارةِ القائمةِ ليست مُلكًا لأحد، كما أسلفنا بل للبشريَّةِ جمعاء، تمامًا كما كانت الحضارةُ اليونانيَّة والحضارةُ العربيَّة الإسلاميَّة تُراثًا مُشتركًا للبشريَّة بأكملها.

وعلى نفس المنوال، فإنَّ التعريب الذي أدعو إليه لا يَعني اجترارَ مُنتَجاتِ الحضارةِ العربيَّة الإسلامية أو ترديدَ مفاهيمها ترديدًا ببَّغائيًّا، كما يحدث اليوم، بل يعني بحثَها واستقصاءَها وتفهُّمَها واستيعابَها ونقدَها بموضوعيَّة وبمنهجيَّة علميَّة صارمة، وبعقلٍ مُتـفـتِّحٍ فاعل، لا بعقلٍ مُنغلِقٍ مُنفعِل، لا يَرى إلاَّ بعضَ جوانبها السطحيَّة.

وسيُؤدِّي بنا ذلك إلى أن نفهمَ أنَّ المعايير والمبادئَ التي كانت تَسُود تلك الحضارة وُضِعَت لذلك الزمان، وأنَّ زمانَنا بحاجةٍ إلى استنباط مفاهيمَ ومبادئَ جديدة تنسجم مع ظروفه وأحواله.

ومن خلال هذا الفِعل والتفاعُل بين استيعاب الحضارتَين قد يتوصَّلُ عقلُنا الفاعل إلى إبداع نهجٍ لإنقاذ هذه الأُمـَّة من هذه الغمَّة.