- الثلاثاء مايو 25, 2010 3:12 pm
#27085
سجل الإسلام حضورا متجددا في ميدان العلاقات الاجتماعية والسياسية في البلاد العربية المعاصرة كفاعل كبير في صوغ مشهدها العام وفي توليد ديناميات جديدة فيها، ولم تعد السياسة تملك أن تعبر عن نفسها في العقود الثلاثة الأخيرة بمعزل عن الدين -تماهيا كليا أو توظيفا جزئيا- ليس فقط بالنسبة للذين أتقنوا دائما الصلة بينهما كالإسلاميين، بل حتى بالنسبة للذين جربوا باستمرار فك تلك الصلة دفاعا منهم عن دهريتهم السياسية.
غلاف الكتاب
-اسم الكتاب: الإسلام والسياسة: دور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي
-المؤلف: عبد الإله بلقزيز
-الطبعة: الأولى 2001
-الناشر: المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ المغرب
لقد كرست تجربة الدولة العربية الحديثة في فترة الاحتلال ثم الاستقلال عملية إزاحة صريحة للدين من المجال السياسي، وكرست أيضا حكم نخبة حديثة غربية الولاء الثقافي، وأحرزت الحداثة الاجتماعية والسياسية والثقافية نجاحا هائلا في المجتمع العربي المعاصر، وهو نجاح مس نظام القيم ومنظومة الأفكار، وترشح تيار كوني جارف يعظم المادة على حساب الروح، وفجأة انهزمت الحداثة أمام التقليد في الدولة والمجتمع.
ولكن موجة الحداثة والعلمانية لم تستطع -وإن طغت- حجب وقائع وحقائق راسخة في التكوين الثقافي للمجتمع العربي تحتل الفكرة الدينية فيه موقعا مميزا في منظومة الأفكار لم تغيره موجة التحديث.
والمسألة السياسية كانت دائما جوهرية في الإسلام لم تفتعلها الحركات الإسلامية المعاصرة، فالتاريخ الإسلامي يشهد تلازما بين السياسة والدين، ويصدق ذلك على العصر الحديث، فقد تداخلت عوامل الدين والوطنية في تشكيل وجدان سياسي عام، وبالتأكيد فإن غياب الحريات السياسية سيؤدي إلى استثمار الدين في المواجهة أو في البحث عن مجالات بديلة للعمل.
”
المسألة السياسية كانت دائما جوهرية في الإسلام لم تفتعلها الحركات الإسلامية المعاصرة، فالتاريخ الإسلامي يشهد تلازما بين السياسة والدين، ويصدق ذلك على العصر الحديث، فقد تداخلت عوامل الدين والوطنية في تشكيل وجدان سياسي عام، وبالتأكيد فإن غياب الحريات السياسية سيؤدي إلى استثمار الدين في المواجهة أو في البحث عن مجالات بديلة للعمل
”
إن الإسلام -بالتعريف- عقيدة وثقافة وحضارة، وأما الحركات الإسلامية فهي حركات سياسية بلا زيادة أو نقصان، فلا إسهام فعلي لها في التراكم الفقهي، ولم تقدم نفسها بوصفها مدارس معرفية جديدة بل بحسبانها تيارات سياسية، ولو نظرنا إلى إسهاماتها الفكرية قياسا بإسهام الإصلاحية الإسلامية في القرن العشرين لوجدنا أن الفارق يمنع القياس من كل الوجوه.
ويخشى أن يؤدي التماهي بين الحركات السياسية الإسلامية وبين الإسلام إلى تبعات ومحاذير منها تحميل الإسلام كعقيدة أوزار أفعال غير راشدة تأتيها حركات "الإسلام السياسي" وتحريف معنى الإسلام بتحويله من عقيدة جامعة للأمة إلى أيدولوجيات سياسية لفريق منها، وتكريس نظام كهنوتي يأباه الإسلام.
وهذا لا يعني تجاهل إنجازات الحركة الإسلامية المعاصرة وتضحياتها، فقد بذلت وحققت الكثير في صون هوية الأمة وتحرير الأرض من الاحتلال ومواجهة الاضطهاد والتهميش، ثم هي قوة سياسية رئيسية بين الشعب العربي استعادت بعض توازنات علاقات الصراع الداخلي بين المجتمع والسلطة.
وأضافت الحركة الإسلامية إلى العمل القومي والسياسي والإصلاحي بعدا دينيا استنهض طاقات الأمة وعبأها، وكسرت احتكار الدين الذي كانت تمارسه السلطة السياسية لتجعله عملا شعبيا واسع النطاق، واستعادت الأمة هذا الكنز الروحي المصادر وأعادت حيويته الوظيفة الاجتماعية والتحررية للإسلام ليكون سلاح المستضعفين في مواجهة الطغيان والاستضعاف.
الدين والدولة
يرى المؤلف أن السجال الدائر بين علمنة الدولة وتطبيق الشريعة الإسلامية هو في حقيقته سياسي وصراع على السلطة وليس خلافا فكريا وفلسفيا، والنظر إليه بغير ذلك يشبه دراسة وتحليل الخلاف بين الخوارج والمرجئة والشيعة على أنه في أساسه وجوهره على الإيمان والتفكير. لقد صدرت السياسة مشكلاتها إلى حقل الثقافة والفكر، بل استعارت هذا الحقل لتعبر عن نفسها، ومن المفيد لنا -نحن المعاصرين- أن نستفيد من درس الفرق والمذاهب فلا نكرر الخطأ عينه وهو استنزاف الوعي في مشاكل لا تحلها إلا السياسة، ونستفيد من درس "الفتنة الكبرى" حتى لا نعيد إنتاج فتنة فكرية وحرب أهلية جديدة.
لم ترسم النصوص الدينية شكلا للنظام السياسي وآليات عمل الاجتماع السياسي للمسلمين، والمرجع الوحيد في ذلك هو التجربة النبوية في دولة المدينة وتجربة الخلافة الراشدة فيما بعد، وهي دولة لم تقم على أسس دينية بأي من المعاني التي تفهم من عبارة الدولة الدينية، ولكن هذا الغياب للتشريع الديني في المجال السياسي فتح المجال للاجتهاد لاقتراح نظم وقواعد وقوانين ليس منصوصا عليها بدليل أن غياب التشريع لم يمنع المسلمين من إقامة دولة ومن توسيع جغرافيتها ومن تأسيس فقه للسياسة واكب الدولة.
وحدثت تحولات كبيرة بعد الخلفاء الراشدين في أنماط الحكم واختيار الحكام، ولكن لم تتعرض ثوابت النسق الإسلامي السياسي لتغيير جوهري بل حوفظ عليها وأعيد إنتاجها.
الاجتهاد والبدعة
أقر الإسلام -كما العقل الإسلامي- بالتطور والتحول واحتسبه ناموسا في الوجود ورتب على الإقرار به قاعدة فكرية تناسبه هي وجوب العمل بمبدأ التجديد، ويشهد تاريخ الاجتماع السياسي وتاريخ الفكر الإسلامي بالدرجة المتقدمة للاجتهاد التي تجلت في الفقه الإسلامي وأصوله والفلسفة الإسلامية. ثم أغلق باب الاجتهاد وتوقف الإبداع الفكري لأسباب سياسية وحضارية، وتبع ذلك موجة تقليد رأت في الاجتهاد بدعة يجب محاربتها.
وقد يصعب الفصل في التمييز بين الاجتهاد والبدعة، وقد أنشأت صدمة الحداثة وما رافقها من احتلال أجنبي وغزو فكري وثقافي مغالاة في الفكر والممارسة ووجد الوعي الإسلامي نفسه في موقف دفاعي لم يستطع دائما أن يتحرر من أحكامه تحررا إيجابيا. ورغم أن الحركة الإسلامية المعاصرة سلكت الدعوة إلى رفض التجديد فإن سلوكها كان أحيانا اضطراريا، وإلا فلن نستطيع أن نفهم المنزع الثوري العنيف في أفكار جمال الدين الأفغاني وسيد قطب على سبيل المثال.
الغلو والتكفير
”
ترد كثير من الدراسات ظاهرة العنف الإسلامي إلى الطبيعة المغلقة للنصوص الدينية الإسلامية والفكرة الأصولية عن الجهاد التي تشرع للعنف وترفعه إلى مرتبة الواجب، ويتجاهل هؤلاء الدارسون أنهم إزاء ظاهرة اجتماعية في المقام الأول
”
ترد كثير من الدراسات ظاهرة العنف الإسلامي إلى الطبيعة المغلقة للنصوص الدينية الإسلامية والفكرة الأصولية عن الجهاد التي تشرع للعنف وترفعه إلى مرتبة الواجب، ويتجاهل هؤلاء الدارسون أنهم إزاء ظاهرة اجتماعية في المقام الأول، ولذلك فإن فهمها وتحليلها يقع في محيط علاقات الاجتماع المتشابكة التي تصنعها وليس بالانصراف إلى تحليل نصوصي جامد يتوهم الواقع محض إفراز تلقائي للفكرة. وهم يختارون من النصوص ما يؤيد فكرة معدة مسبقا ولا يذهبون في التحليل النصوصي إلى نهايته الطبيعية. ويتكرر التجاهل للأمثلة والنصوص على صعيد وعي واستحضار وقائع التاريخ.
إن عناصر الشبه والقرب بين أفكار التكفير القديمة وأفكار التكفير الحديثة قائمة ومتكررة وثابتة وإن تباينت في الإخراج والعبارة، والسبب في ذلك أن التكفير واحد في النوع وإن اختلف في التفاصيل، فالعناصر التأسيسية للتكفير هي سياسية ترتبط بمجمل المصالح الاجتماعية التي تجد في فكرة التكفير واسطة من وسائطها إلى التحقق، ومعرفية تتعلق ببديهيات غير مفحوصة تدفع أصحابها إلى اعتناق التكفير باعتباره صوابا.
إن الإيمان بحيازة الحقيقة المطلقة هو الطاقة الحيوية التي تتزود بها فكرة التكفير وتستمد منها الشرعية. ونعيش اليوم تدهورا حادا في رؤية الفكر الإسلامي إلى مسألة السلطة الدينية والسياسية في الإسلام، ونشأ جيل إسلامي جديد مقطوع الصلة بالتراث الإسلامي الإصلاحي، وتشكل لدى إسلاميي ما بعد الإصلاحية جموح متزايد للدفاع عن ممارستين شاذتين: ممارسة السياسة في الدين بإخضاع الإسلام إلى مطالب السياسة والمصلحة والصراع، وممارسة الدين في السياسة عن طريق بقاء موقع قوي فيها باسم المقدس.
العقيدة والسياسة
”
يعبر الإسلاميون في عملهم السياسي عن وعي حاد بأهمية استثمار المقدس الديني وتوظيفه في المعارك الاجتماعية المختلفة وخاصة في المعركة السياسية من أجل السلطة، وربما نجحت الحركة الإسلامية بهذا التسييس الواسع للإسلام في إعادة بعث بعض أسباب قوته وإشعاعه في العالم المعاصر، ولكن الإسلاميين بذلك يخرجون بالمسلمين من عهد الأمة والجماعة إلى عهد الانقسام السياسي والنفسي
”
أغفلت معظم الدراسات والكتابات التي تناولت الظاهرة الإسلامية الأسباب التي كانت في أساس القيام المتجدد للسياسة على الدين والأسباب التي تدفع جمهورا متزايدا للتعبير عن مطالبه السياسية والاجتماعية تعبيرا دينيا، والأسباب التي تفسر الطلب المتزايد على الرأسمال الديني في حقل السياسة والصراع الاجتماعي، وشغلت غالبا في توظيف سياسي غير ذي قيمة بمعيار المعرفة الموضوعية.
يحتاج التفكير في "الإسلام والسياسة" وفي عناوين هذه العلاقة إلى مقاربة معرفية تحلل الخطاب إلى مقدمات وفروض، ومنهج ورؤية، ثم مقاربة سوسيولوجية تحاول فهم ما وراء الأفكار أي جملة الملابسات والشروط الموضوعية التي قادت إلى التعبير عن أفكار بعينها.
يعبر الإسلاميون في عملهم السياسي عن وعي حاد بأهمية استثمار المقدس الديني وتوظيفه في المعارك الاجتماعية المختلفة وخاصة في المعركة السياسية من أجل السلطة، وربما نجحت الحركة الإسلامية بهذا التسييس الواسع للإسلام في إعادة بعث بعض أسباب قوته وإشعاعه في العالم المعاصر، ولكن الإسلاميين بذلك يخرجون بالمسلمين من عهد الأمة والجماعة إلى عهد الانقسام السياسي والنفسي.
إن تجربة الأيدولوجيات التي سبقت الإسلاميين وسادت في ساحة الأمة كالليبرالية والقومية والاشتراكية يقود إلى مقولة أن التيارات الإسلامية حالما تدخل تجربة السلطة ستتخلى عن مثاليتها وتحرق أيدولوجيتها السياسية، وهذا ما يبدو اليوم في إيران والسودان على سبيل المثال. والأيدولوجيا تمثل على الدوام شكلا من أشكال التمثل المثالي للواقع وبالتالي فهي ستظل دائما بعيدة عن أن تترجم نفسها حرفيا في تجربة سياسية متحققة.
المشروع السياسي الإسلامي
يقترن ميلاد المشروع الإسلامي المعاصر زمانا بأفول المشروع السياسي لقوى الحداثة العربية بطبعاتها العقائدية المختلفة. وينتمي الخطاب السياسي الإسلامي في القواعد والمقدمات والمفاهيم إلى الخطاب السياسي المعاصر، فهو خطاب دعوي تبشيري تحريضي يميل إلى إنجاز تواصل سهل مع جهوده يحقق له الظهور والنفاذ.
والمشروع السياسي للحركات الإسلامية هو رفضوي في المقام الأول، فهي تملك برنامج ثورة وهدم دون أن تملك برنامج تأسيس وبناء. ويمضي المؤلف في ملاحظة أوجه الشبه والعلاقة بين المد الثوري الإسلامي والثوري الاشتراكي في رفض الإصلاح والحلول الوسط، بل ويرى كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب نسخة إسلامية معربة عن كتاب لينين "ما العمل؟"، وينبه إلى التأثر الشديد لسيد قطب بالاشتراكية في كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام".
الإصلاحية الإسلامية والحركة الإسلامية
يميز بلقزيز بين اتجاهين أو تيارين إسلاميين هما الإصلاحي والنهضوي الذي يعبر عنه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد بلحسن الحجوي في المغرب، وبين تيار الصحوة الإسلامية ويعبر عنه حسن البنا وسيد قطب وعبد السلام ياسين في المغرب وتقي الدين النبهاني (حزب التحرير الإسلامي).
وقد حدثت قطيعة كبرى بين التيارين فاشتغل الثاني منهما بالسياسة والأول لم ينغمس بها، ولكن المفارقة المثيرة أن وعي الإصلاحيين كان إلى الوعي السياسي أقرب من وعي" الصحويين" رغم أنهم (الإصلاحيون) تمسكوا بموقعهم الفكري كدعاة إلى مشروع إصلاحي مجتمعي، ولم تكن مطالبهم متواضعة ولكنها واقعية، ومحكومة بمراعاة حقائق التحول الكوني الجديد الناشئ في امتداد ميلاد المدنية الغربية.
وأما "الصحوية" فقد ظلت مثالية غير معنية بالبحث عن الممكنات في مضمار البناء الفكري والاجتماعي، ولم تقدر على التحرر من وهمها الإرادي في اجتراح المعجزات رغم أنف الواقع.
لقد كانت حركة "الإخوان المسلمين" بقيادة مرشدها حسن البنا تلميذ رشيد رضا محاولة في التعبير السياسي عن الفكرة الإصلاحية الإسلامية، لكنها انتهت في هذه المحاولة من التعبير عنها في مشروع سياسي حزبي إلى إجهاضها كمشروع فكري، فقد أدت اتجاهات الجيل الثاني في الحركة (سيد قطب، ومحمد قطب..) المرتكزة إلى أفكار أبي الأعلى المودودي إلى نشوء بنى سياسية متطرفة أساءت استخدام فكرة الجهاد وفتحت المجال السياسي والاجتماعي (التكفير والهجرة وجماعة الجهاد..)، وجاءت تجربة المقاومة الأفغانية للاحتلال السوفياتي لتعطي زخما لهذه الحركات على صعيد قدراتها المادية الضاربة بعد أن زودتها الثورة الإيرانية بالطاقة الفكرية والنفسية.
”
حاولت بعض الاتجاهات في الحركة الإسلامية استعادة طبيعتها الإصلاحية إدراكا لخطورة التطرف والعنف في مجتمع وسطي معتدل كالمجتمع العربي وفي ظل توازنات قوى مختلفة لصالح السلطة والعودة إلى أفكار المؤسس حسن البنا منطلقا فكريا وسياسيا
”
وقد حاولت بعض الاتجاهات في الحركة الإسلامية استعادة طبيعتها الإصلاحية إدراكا لخطورة التطرف والعنف في مجتمع وسطي معتدل كالمجتمع العربي وفي ظل توازنات قوى مختلفة لصالح السلطة والعودة إلى أفكار المؤسس حسن البنا منطلقا فكريا وسياسيا كما حدث في السودان بقيادة الترابي وفي تونس بقيادة راشد الغنوشي اللذين مثلا أعلى حالات الانفتاح والاجتهاد في الفكر الإسلامي "الصحوي" المعاصر، ولكن الترابي سقط سريعا في الإغراء الانقلابي العسكري ناقلا ميدان الدعوة من مؤسسات المجتمع المدني إلى السلطة مغامرا بتصفية تراثه الفكري الاجتهادي.
وثمة مثقفون إسلاميون كثيرون ينتمون إلى الإخوان المسلمين أو ممن جاء إليها من ضفاف الفكرة القومية والاشتراكية مثل محمد الغزالي ومحمد سليم العوا وطارق البشري ومنير شفيق يؤمنون بالعودة إلى مشروع الفكر الإصلاحي واستئنافه وتطوير الوعي الإسلامي بمتغيرات العالم.
هل في وسعنا أن نغامر بالاستنتاج أن الدعوة الإصلاحية على وشك أن تطل من جديد وأن تستأنف مشروعها الفكري الذي تعرض للاحتجاز؟!
غلاف الكتاب
-اسم الكتاب: الإسلام والسياسة: دور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي
-المؤلف: عبد الإله بلقزيز
-الطبعة: الأولى 2001
-الناشر: المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ المغرب
لقد كرست تجربة الدولة العربية الحديثة في فترة الاحتلال ثم الاستقلال عملية إزاحة صريحة للدين من المجال السياسي، وكرست أيضا حكم نخبة حديثة غربية الولاء الثقافي، وأحرزت الحداثة الاجتماعية والسياسية والثقافية نجاحا هائلا في المجتمع العربي المعاصر، وهو نجاح مس نظام القيم ومنظومة الأفكار، وترشح تيار كوني جارف يعظم المادة على حساب الروح، وفجأة انهزمت الحداثة أمام التقليد في الدولة والمجتمع.
ولكن موجة الحداثة والعلمانية لم تستطع -وإن طغت- حجب وقائع وحقائق راسخة في التكوين الثقافي للمجتمع العربي تحتل الفكرة الدينية فيه موقعا مميزا في منظومة الأفكار لم تغيره موجة التحديث.
والمسألة السياسية كانت دائما جوهرية في الإسلام لم تفتعلها الحركات الإسلامية المعاصرة، فالتاريخ الإسلامي يشهد تلازما بين السياسة والدين، ويصدق ذلك على العصر الحديث، فقد تداخلت عوامل الدين والوطنية في تشكيل وجدان سياسي عام، وبالتأكيد فإن غياب الحريات السياسية سيؤدي إلى استثمار الدين في المواجهة أو في البحث عن مجالات بديلة للعمل.
”
المسألة السياسية كانت دائما جوهرية في الإسلام لم تفتعلها الحركات الإسلامية المعاصرة، فالتاريخ الإسلامي يشهد تلازما بين السياسة والدين، ويصدق ذلك على العصر الحديث، فقد تداخلت عوامل الدين والوطنية في تشكيل وجدان سياسي عام، وبالتأكيد فإن غياب الحريات السياسية سيؤدي إلى استثمار الدين في المواجهة أو في البحث عن مجالات بديلة للعمل
”
إن الإسلام -بالتعريف- عقيدة وثقافة وحضارة، وأما الحركات الإسلامية فهي حركات سياسية بلا زيادة أو نقصان، فلا إسهام فعلي لها في التراكم الفقهي، ولم تقدم نفسها بوصفها مدارس معرفية جديدة بل بحسبانها تيارات سياسية، ولو نظرنا إلى إسهاماتها الفكرية قياسا بإسهام الإصلاحية الإسلامية في القرن العشرين لوجدنا أن الفارق يمنع القياس من كل الوجوه.
ويخشى أن يؤدي التماهي بين الحركات السياسية الإسلامية وبين الإسلام إلى تبعات ومحاذير منها تحميل الإسلام كعقيدة أوزار أفعال غير راشدة تأتيها حركات "الإسلام السياسي" وتحريف معنى الإسلام بتحويله من عقيدة جامعة للأمة إلى أيدولوجيات سياسية لفريق منها، وتكريس نظام كهنوتي يأباه الإسلام.
وهذا لا يعني تجاهل إنجازات الحركة الإسلامية المعاصرة وتضحياتها، فقد بذلت وحققت الكثير في صون هوية الأمة وتحرير الأرض من الاحتلال ومواجهة الاضطهاد والتهميش، ثم هي قوة سياسية رئيسية بين الشعب العربي استعادت بعض توازنات علاقات الصراع الداخلي بين المجتمع والسلطة.
وأضافت الحركة الإسلامية إلى العمل القومي والسياسي والإصلاحي بعدا دينيا استنهض طاقات الأمة وعبأها، وكسرت احتكار الدين الذي كانت تمارسه السلطة السياسية لتجعله عملا شعبيا واسع النطاق، واستعادت الأمة هذا الكنز الروحي المصادر وأعادت حيويته الوظيفة الاجتماعية والتحررية للإسلام ليكون سلاح المستضعفين في مواجهة الطغيان والاستضعاف.
الدين والدولة
يرى المؤلف أن السجال الدائر بين علمنة الدولة وتطبيق الشريعة الإسلامية هو في حقيقته سياسي وصراع على السلطة وليس خلافا فكريا وفلسفيا، والنظر إليه بغير ذلك يشبه دراسة وتحليل الخلاف بين الخوارج والمرجئة والشيعة على أنه في أساسه وجوهره على الإيمان والتفكير. لقد صدرت السياسة مشكلاتها إلى حقل الثقافة والفكر، بل استعارت هذا الحقل لتعبر عن نفسها، ومن المفيد لنا -نحن المعاصرين- أن نستفيد من درس الفرق والمذاهب فلا نكرر الخطأ عينه وهو استنزاف الوعي في مشاكل لا تحلها إلا السياسة، ونستفيد من درس "الفتنة الكبرى" حتى لا نعيد إنتاج فتنة فكرية وحرب أهلية جديدة.
لم ترسم النصوص الدينية شكلا للنظام السياسي وآليات عمل الاجتماع السياسي للمسلمين، والمرجع الوحيد في ذلك هو التجربة النبوية في دولة المدينة وتجربة الخلافة الراشدة فيما بعد، وهي دولة لم تقم على أسس دينية بأي من المعاني التي تفهم من عبارة الدولة الدينية، ولكن هذا الغياب للتشريع الديني في المجال السياسي فتح المجال للاجتهاد لاقتراح نظم وقواعد وقوانين ليس منصوصا عليها بدليل أن غياب التشريع لم يمنع المسلمين من إقامة دولة ومن توسيع جغرافيتها ومن تأسيس فقه للسياسة واكب الدولة.
وحدثت تحولات كبيرة بعد الخلفاء الراشدين في أنماط الحكم واختيار الحكام، ولكن لم تتعرض ثوابت النسق الإسلامي السياسي لتغيير جوهري بل حوفظ عليها وأعيد إنتاجها.
الاجتهاد والبدعة
أقر الإسلام -كما العقل الإسلامي- بالتطور والتحول واحتسبه ناموسا في الوجود ورتب على الإقرار به قاعدة فكرية تناسبه هي وجوب العمل بمبدأ التجديد، ويشهد تاريخ الاجتماع السياسي وتاريخ الفكر الإسلامي بالدرجة المتقدمة للاجتهاد التي تجلت في الفقه الإسلامي وأصوله والفلسفة الإسلامية. ثم أغلق باب الاجتهاد وتوقف الإبداع الفكري لأسباب سياسية وحضارية، وتبع ذلك موجة تقليد رأت في الاجتهاد بدعة يجب محاربتها.
وقد يصعب الفصل في التمييز بين الاجتهاد والبدعة، وقد أنشأت صدمة الحداثة وما رافقها من احتلال أجنبي وغزو فكري وثقافي مغالاة في الفكر والممارسة ووجد الوعي الإسلامي نفسه في موقف دفاعي لم يستطع دائما أن يتحرر من أحكامه تحررا إيجابيا. ورغم أن الحركة الإسلامية المعاصرة سلكت الدعوة إلى رفض التجديد فإن سلوكها كان أحيانا اضطراريا، وإلا فلن نستطيع أن نفهم المنزع الثوري العنيف في أفكار جمال الدين الأفغاني وسيد قطب على سبيل المثال.
الغلو والتكفير
”
ترد كثير من الدراسات ظاهرة العنف الإسلامي إلى الطبيعة المغلقة للنصوص الدينية الإسلامية والفكرة الأصولية عن الجهاد التي تشرع للعنف وترفعه إلى مرتبة الواجب، ويتجاهل هؤلاء الدارسون أنهم إزاء ظاهرة اجتماعية في المقام الأول
”
ترد كثير من الدراسات ظاهرة العنف الإسلامي إلى الطبيعة المغلقة للنصوص الدينية الإسلامية والفكرة الأصولية عن الجهاد التي تشرع للعنف وترفعه إلى مرتبة الواجب، ويتجاهل هؤلاء الدارسون أنهم إزاء ظاهرة اجتماعية في المقام الأول، ولذلك فإن فهمها وتحليلها يقع في محيط علاقات الاجتماع المتشابكة التي تصنعها وليس بالانصراف إلى تحليل نصوصي جامد يتوهم الواقع محض إفراز تلقائي للفكرة. وهم يختارون من النصوص ما يؤيد فكرة معدة مسبقا ولا يذهبون في التحليل النصوصي إلى نهايته الطبيعية. ويتكرر التجاهل للأمثلة والنصوص على صعيد وعي واستحضار وقائع التاريخ.
إن عناصر الشبه والقرب بين أفكار التكفير القديمة وأفكار التكفير الحديثة قائمة ومتكررة وثابتة وإن تباينت في الإخراج والعبارة، والسبب في ذلك أن التكفير واحد في النوع وإن اختلف في التفاصيل، فالعناصر التأسيسية للتكفير هي سياسية ترتبط بمجمل المصالح الاجتماعية التي تجد في فكرة التكفير واسطة من وسائطها إلى التحقق، ومعرفية تتعلق ببديهيات غير مفحوصة تدفع أصحابها إلى اعتناق التكفير باعتباره صوابا.
إن الإيمان بحيازة الحقيقة المطلقة هو الطاقة الحيوية التي تتزود بها فكرة التكفير وتستمد منها الشرعية. ونعيش اليوم تدهورا حادا في رؤية الفكر الإسلامي إلى مسألة السلطة الدينية والسياسية في الإسلام، ونشأ جيل إسلامي جديد مقطوع الصلة بالتراث الإسلامي الإصلاحي، وتشكل لدى إسلاميي ما بعد الإصلاحية جموح متزايد للدفاع عن ممارستين شاذتين: ممارسة السياسة في الدين بإخضاع الإسلام إلى مطالب السياسة والمصلحة والصراع، وممارسة الدين في السياسة عن طريق بقاء موقع قوي فيها باسم المقدس.
العقيدة والسياسة
”
يعبر الإسلاميون في عملهم السياسي عن وعي حاد بأهمية استثمار المقدس الديني وتوظيفه في المعارك الاجتماعية المختلفة وخاصة في المعركة السياسية من أجل السلطة، وربما نجحت الحركة الإسلامية بهذا التسييس الواسع للإسلام في إعادة بعث بعض أسباب قوته وإشعاعه في العالم المعاصر، ولكن الإسلاميين بذلك يخرجون بالمسلمين من عهد الأمة والجماعة إلى عهد الانقسام السياسي والنفسي
”
أغفلت معظم الدراسات والكتابات التي تناولت الظاهرة الإسلامية الأسباب التي كانت في أساس القيام المتجدد للسياسة على الدين والأسباب التي تدفع جمهورا متزايدا للتعبير عن مطالبه السياسية والاجتماعية تعبيرا دينيا، والأسباب التي تفسر الطلب المتزايد على الرأسمال الديني في حقل السياسة والصراع الاجتماعي، وشغلت غالبا في توظيف سياسي غير ذي قيمة بمعيار المعرفة الموضوعية.
يحتاج التفكير في "الإسلام والسياسة" وفي عناوين هذه العلاقة إلى مقاربة معرفية تحلل الخطاب إلى مقدمات وفروض، ومنهج ورؤية، ثم مقاربة سوسيولوجية تحاول فهم ما وراء الأفكار أي جملة الملابسات والشروط الموضوعية التي قادت إلى التعبير عن أفكار بعينها.
يعبر الإسلاميون في عملهم السياسي عن وعي حاد بأهمية استثمار المقدس الديني وتوظيفه في المعارك الاجتماعية المختلفة وخاصة في المعركة السياسية من أجل السلطة، وربما نجحت الحركة الإسلامية بهذا التسييس الواسع للإسلام في إعادة بعث بعض أسباب قوته وإشعاعه في العالم المعاصر، ولكن الإسلاميين بذلك يخرجون بالمسلمين من عهد الأمة والجماعة إلى عهد الانقسام السياسي والنفسي.
إن تجربة الأيدولوجيات التي سبقت الإسلاميين وسادت في ساحة الأمة كالليبرالية والقومية والاشتراكية يقود إلى مقولة أن التيارات الإسلامية حالما تدخل تجربة السلطة ستتخلى عن مثاليتها وتحرق أيدولوجيتها السياسية، وهذا ما يبدو اليوم في إيران والسودان على سبيل المثال. والأيدولوجيا تمثل على الدوام شكلا من أشكال التمثل المثالي للواقع وبالتالي فهي ستظل دائما بعيدة عن أن تترجم نفسها حرفيا في تجربة سياسية متحققة.
المشروع السياسي الإسلامي
يقترن ميلاد المشروع الإسلامي المعاصر زمانا بأفول المشروع السياسي لقوى الحداثة العربية بطبعاتها العقائدية المختلفة. وينتمي الخطاب السياسي الإسلامي في القواعد والمقدمات والمفاهيم إلى الخطاب السياسي المعاصر، فهو خطاب دعوي تبشيري تحريضي يميل إلى إنجاز تواصل سهل مع جهوده يحقق له الظهور والنفاذ.
والمشروع السياسي للحركات الإسلامية هو رفضوي في المقام الأول، فهي تملك برنامج ثورة وهدم دون أن تملك برنامج تأسيس وبناء. ويمضي المؤلف في ملاحظة أوجه الشبه والعلاقة بين المد الثوري الإسلامي والثوري الاشتراكي في رفض الإصلاح والحلول الوسط، بل ويرى كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب نسخة إسلامية معربة عن كتاب لينين "ما العمل؟"، وينبه إلى التأثر الشديد لسيد قطب بالاشتراكية في كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام".
الإصلاحية الإسلامية والحركة الإسلامية
يميز بلقزيز بين اتجاهين أو تيارين إسلاميين هما الإصلاحي والنهضوي الذي يعبر عنه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد بلحسن الحجوي في المغرب، وبين تيار الصحوة الإسلامية ويعبر عنه حسن البنا وسيد قطب وعبد السلام ياسين في المغرب وتقي الدين النبهاني (حزب التحرير الإسلامي).
وقد حدثت قطيعة كبرى بين التيارين فاشتغل الثاني منهما بالسياسة والأول لم ينغمس بها، ولكن المفارقة المثيرة أن وعي الإصلاحيين كان إلى الوعي السياسي أقرب من وعي" الصحويين" رغم أنهم (الإصلاحيون) تمسكوا بموقعهم الفكري كدعاة إلى مشروع إصلاحي مجتمعي، ولم تكن مطالبهم متواضعة ولكنها واقعية، ومحكومة بمراعاة حقائق التحول الكوني الجديد الناشئ في امتداد ميلاد المدنية الغربية.
وأما "الصحوية" فقد ظلت مثالية غير معنية بالبحث عن الممكنات في مضمار البناء الفكري والاجتماعي، ولم تقدر على التحرر من وهمها الإرادي في اجتراح المعجزات رغم أنف الواقع.
لقد كانت حركة "الإخوان المسلمين" بقيادة مرشدها حسن البنا تلميذ رشيد رضا محاولة في التعبير السياسي عن الفكرة الإصلاحية الإسلامية، لكنها انتهت في هذه المحاولة من التعبير عنها في مشروع سياسي حزبي إلى إجهاضها كمشروع فكري، فقد أدت اتجاهات الجيل الثاني في الحركة (سيد قطب، ومحمد قطب..) المرتكزة إلى أفكار أبي الأعلى المودودي إلى نشوء بنى سياسية متطرفة أساءت استخدام فكرة الجهاد وفتحت المجال السياسي والاجتماعي (التكفير والهجرة وجماعة الجهاد..)، وجاءت تجربة المقاومة الأفغانية للاحتلال السوفياتي لتعطي زخما لهذه الحركات على صعيد قدراتها المادية الضاربة بعد أن زودتها الثورة الإيرانية بالطاقة الفكرية والنفسية.
”
حاولت بعض الاتجاهات في الحركة الإسلامية استعادة طبيعتها الإصلاحية إدراكا لخطورة التطرف والعنف في مجتمع وسطي معتدل كالمجتمع العربي وفي ظل توازنات قوى مختلفة لصالح السلطة والعودة إلى أفكار المؤسس حسن البنا منطلقا فكريا وسياسيا
”
وقد حاولت بعض الاتجاهات في الحركة الإسلامية استعادة طبيعتها الإصلاحية إدراكا لخطورة التطرف والعنف في مجتمع وسطي معتدل كالمجتمع العربي وفي ظل توازنات قوى مختلفة لصالح السلطة والعودة إلى أفكار المؤسس حسن البنا منطلقا فكريا وسياسيا كما حدث في السودان بقيادة الترابي وفي تونس بقيادة راشد الغنوشي اللذين مثلا أعلى حالات الانفتاح والاجتهاد في الفكر الإسلامي "الصحوي" المعاصر، ولكن الترابي سقط سريعا في الإغراء الانقلابي العسكري ناقلا ميدان الدعوة من مؤسسات المجتمع المدني إلى السلطة مغامرا بتصفية تراثه الفكري الاجتهادي.
وثمة مثقفون إسلاميون كثيرون ينتمون إلى الإخوان المسلمين أو ممن جاء إليها من ضفاف الفكرة القومية والاشتراكية مثل محمد الغزالي ومحمد سليم العوا وطارق البشري ومنير شفيق يؤمنون بالعودة إلى مشروع الفكر الإصلاحي واستئنافه وتطوير الوعي الإسلامي بمتغيرات العالم.
هل في وسعنا أن نغامر بالاستنتاج أن الدعوة الإصلاحية على وشك أن تطل من جديد وأن تستأنف مشروعها الفكري الذي تعرض للاحتجاز؟!