- الثلاثاء مايو 25, 2010 4:52 pm
#27099
العلاقات الدولية بين منهج الإسلام والمنهج الحضاري المعاصر (4/4)
18-4-2002
لم يكن الهدف من المقارنة السابقة هدفاً نظرياًّ، وإلا لكان هدفاً هيناً، وإنما يلتمس الكاتب هدفاً عملياًّ، هو أن يثور السؤال: هل يمكن أن يقدم المنهج الإسلامي - في العلاقات الدولية - العلاج الإيجابي لأزْمة الجنس البشري المعاصرة؟
بالرغم من سيادة الثقافة الطاغية لمنهج الحضارة الغربية - في العلاقات الدولية - إلا أن من الصعب افتراض أن هذا المنهج هو نهاية التاريخ.
إن انتشار أسلحة الدمار الشامل يجعل العالم أمام خيارين:
(أ) التهديد بالفناء المادي أو المعنوي أو كليهما،
أو (ب) تغيير المنهج السائد في العلاقات الدولية. ولتغيير هذا المنهج لا مناصَ - فيما يبدو - من اختيار منهج مثل المنهج الإسلامي حيث تقوم العلاقات الدولية على أساس العدل المرتكز على أساس الالتزام الخلقي أو الديني.
بقلم معالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين
الفصل الثالث
وبعد، فلم يكن الهدف من المقارنة السابقة هدفاً نظرياًّ، وإلا لكان هدفاً هيناً، وإنما يلتمس الكاتب هدفاً عملياًّ، هو أن يثور السؤال: هل يمكن أن يقدم المنهج الإسلامي - في العلاقات الدولية - العلاج الإيجابي لأزْمة الجنس البشري المعاصرة؟بالرغم من سيادة الثقافة الطاغية لمنهج الحضارة الغربية - في العلاقات الدولية - إلا أن من الصعب افتراض أن هذا المنهج هو نهاية التاريخ.إن انتشار أسلحة الدمار الشامل يجعل العالم أمام خيارين:(أ)التهديد بالفناء المادي أو المعنوي أو كليهما، أو (ب) تغيير المنهج السائد في العلاقات الدولية. ولتغيير هذا المنهج لا مناصَ - فيما يبدو - من اختيار منهج مثل المنهج الإسلامي حيث تقوم العلاقات الدولية على أساس العدل المرتكز على أساس الالتزام الخلقي أو الديني.إن هذه الفكرة البسيطة هي ما انتهى إليه فيما يبدو أغلب المفكرين الغربيين، وللتدليل على ما أقول أقدِّم فيما يلي عينة من الآراء لمشاهير من المفكرين الذين عاصروا الحربين العالميتين، وكما يلاحظ القارئ حرصت على أن تضم هذه العينة على التوالي: عالما طبيعيا، ومؤرخا، وفيلسوفا كاثوليكيا أوربيا، وفيلسوفا بروتستانتيا أمريكيا، وفيلسوفاً لا دينيا. راجيا أن تكون هذه العينة معبرة بصدق عن اتجاه عام للتفكير العاقل الحكيم في الغرب.في سنواته الأخيرة كتب البرت اينشتاين:(( لقد ربحنا الحرب، ولكنا خسرنا السلام … لقد وعد العالم - بعد الحرب - بالتحرر من الخوف، ولكن الخوف - بعد انتهائها - زاد في الواقع. لقد وعد العالم بالحرية والعدل، ولكننا لا نزال نرى قوى "الحرية" تصب النار وتقصف بالقنابل شعوباً لا لشيء إلا أنها تطالب بالحرية والعدل والاستقلال. وتدعم بقوة السلاح الأحزاب والأفراد الذين يحققون المصالح الأنانية لتلك القوى )).(( لقد أوجدت التكنولوجيا وسائل للتدمير جديدة وفعالة، لم يعهد مثلها الإنسان من قبل، وهذه الوسائل حين تقع في أيدي أمم تدعي أن لها الحق في الحرية المطلقة للعمل تصبح تهديداً محدقاً بفناء الجنس البشري )).(( إن وسائل الاتصال والإعلام حينما تتحد مع الأسلحة الحديثة فإنه يمكن حينئذ أن يوضع الجسد والروح كلاهما تحت سيطرة القوة الأقوى، ونكون حينئذ أمام مصدر آخر للخطر يهدِّد المجتمع الإنساني )).وكتب: (( إن المجتمع الإنساني يجتاز الآن أزمة حقيقية، وقد انهار استقراره انهياراً شديداً، ومن نتائج مثل هذا الوضع أن لا يكترث الأفراد بمصير الجماعة، بل لعلهم أن يهدِّدوا هذا المصير … كنت أتحدَّث منذ وقت قصير - مع رجل ذكي متزن عن وعيد حرب عالمية أخرى قد تعرض فيما أرى - الجنس البشري لخطر الفناء، فقال - في برود وهدوء شديد -: "ولكن لماذا تنزعج من فناء الجنس البشري؟!" إني على يقين أنه قبل قرن واحد فقط ما كان يمكن أن ترد مثل هذه العبارة على لسان إنسان، إن هذه العبارة لا يمكن أن تصدر إلا عن شخص فقد الأمل في الحصول في نفسه على التوازن بعد أن حاول عبثاً أن يحصل عليه، إن هذا السؤال يعبر عن عزلة أليمة ووحشة ويأس يعاني منها - هذه الأيام - جمهور من الناس. فما السبب في ذلك، وهل هناك مخرج؟ … إن محور الأزمة في عصرنا يتعلق بالصلة بين الفرد والجماعة … إن موقف الفرد من الجماعة يحمل على تضخيم دوافعه الفردية في حين أن دوافعه الاجتماعية - وهي بالطبع أضعف - تتدهور شيئاً فشيئاً، وكل فرد مهما كان مركزه في المجتمع يشكو هذا التدهور، إن الناس يحسون - وهم سجناء أنانيتهم من حيث لا يعلمون - أنهم يعيشون في قلق وعزلة محرومين من الاستمتاع بالحياة الاجتماعية استمتاعاً عفوياًّ وبسيطاً لا تعقيد فيه، والواقع أن الإنسان لا يستطيع أن يجد لحياته - برغم قصرها - معنى إلا إذا أعطى من نفسه للمجتمع )).ويرى البرت اينشتاين أن المخرج هو في الإيمان بالقيم الإنسانية، أو بالعودة إلى نوع من الدين، ويقول: (( إن الشخص المستنير من الناحية الدينية يبدو لي كأنه رجل حرَّر نفسه - على قدر ما يستطيع - من قيود أنانيته ورغباته الفردية، وشغل نفسه بالأفكار والمشاعر والآمال التي يتعلَّق بها لقيمتها التي تسمو على ذاته )). (( الرجل المتدين هو كذلك، لأنه على يقين من أهمية تلك الأهداف التي تسمو على الذات.. وهي أهداف لا تتطلب أساساً من المحاكمة العقلية، لأنها موجودة كأمر ضروري واقعي … والدين بهذا المعنى محاولة قديمة من الإنسان لكي يعي هذه القيم والأهداف.. وينشر آثارها على الدوام، فإذا تصورنا الدين والعلم بهذا التصور أصبح الخلاف بينهما مستحيلاً، لأن العلم إنما يحقق فيما هو كائن لا فيما ينبغي أن يكون، ويبقى القيم من الضروريات التي لا تدخل في نطاقه. أما الدين فلا يتعرض إلا إلى تقويم الفكر البشري والأعمال البشرية، وبالرغم من انفصال مجال الدين عن مجال العلم فإنه تقوم علاقات متبادلة قوية ويرتكز أحدهما على الآخر في بعض النواحي، فالدين قد تكون وظيفته تحقيق الهدف، إلا أنه يأخذ عن العلم بأوسع معانيه الوسائل الموصلة لهذا الهدف، والعلم لا يخترعه إلا أولئك المتشبعون حقا بحب الحق والحكمة، ومصدر هذا الشعور ينبع من الدين … ولا أستطيع أن أتصوَّر عالماً حقاًّ بغير الإيمان العميق بأن من الممكن أن تكون القواعد التي تطبق على عالم الوجود معقولة، ويمكن التعبير عن هذا الرأي بهذه الصورة: العلم بغير دين أعرج، والدين بغير علم أعمى )).ويكتب أرنولد توينبي: (( إن التاريخ قد أعاد نفسه عشرين مرة تقريباً، وفي كل مرة توجد مجتمعات بشرية من النوع الذي ينتمي إليه مجتمعنا الغربي، هذه المجتمعات قد بادت، أو هي في دور الاحتضار، وحين ندرس تاريخ هذه الحضارات البائدة نجد ما يشبه النموذج المتكرر في طريقة انهيارها وتدهورها ))، (( إني لأعجب كيف يعمى عن حقيقة أن الحضارة الغربية ليست أقوى حصانة من الحضارات البائدة )). (( إذا نحن بحثنا عن العلة في تدهور الحضارات نجد أنه دائماً وبدون استثناء: الحرب أو نظام الطبقات أو كلاهما )). (( إن نظام الحرب ونظام الطبقات ليسا إلا انعكاساً للجانب السلبي من الطبيعة البشرية، والآثار الاجتماعية الناتجة عن هذه الطبيعة لم تضعف بسبب التقدم المشؤوم الحديث في معرفتنا التكنولوجية، بل تعاظمت وزاد خطرها فأصبح نظام الطبقات قادراً على تفكيك روابط المجتمع بشكل قاطع، كما أصبحت الحرب قادرة على إفناء الجنس البشري بأكمله )). (( إن المشكلات التي أحاطت بالحضارات الأخرى وقهرتها في النهاية قد بلغت اليوم ذروتها في عالمنا )).(( إن علينا أن نواجه تحدياً لم يسبق لمن سبقونا أن يواجهوه فإما أن نقضي على نظامي الحرب والطبقات، وإما أن نشهر انتصارهما على الإنسان نصراً يكون هذه المرة نهائيا وحاسما )).
ويكتب جاك ماريتان: (( لقد أفصح عالم الإنسان الحاضر عن الشر وفاض به حتى حطم ثقتنا، كم من جريمة شهدناها لا يعوضها أي عقاب عادل… وكم من مواقف من الامتهان المذل للطبيعة البشرية… لقد اتجه العلم والتقدم نحو دمارنا، وكياننا أصبح مهدَّداً بالخطر من جراء التحلل لقوى الحكمة والأخلاق واللغة ذاتها قد انحرفت فأصبح اللفظ كأنما لا ينقل إلا خداعا، إننا نعيش - حقاًّ - في عالم كافكا )). (( إن القوة بغير هدف إنساني أصبحت وثناً يقود الحضارة المعاصرة إلى حافة الفوضى والانهيار )). (( إن روح الوثنية التي تشرَّبتها حضارتنا ساقت الإنسان إلى أن يجعل هدفه القوة، والقدرة على الكراهية في حين أن المثل السياسي الأعلى يجب أن يكون العدل )). (( إن كنا نود أن نمهد للسلام … في وعي الأمم فلن يكون ذلك إلا إذا اقتنعنا بأن السياسة الصحيحة هي أولاً وقبل كلِّ شيءٍ السياسة العادلة… على كل شعب أن يجاهد لكي يفهم نفسية الشعوب الأخرى وتطورها وتقاليدها وحاجاتها المادية والمعنوية، ويعترف بكرامتها ودورها التاريخي. وكل شعب لا يجوز له أن ينظر إلى مصلحته فقط، بل إلى الصالح العام لكل الشعوب… إن وضع المصلحة القومية فوق كل شيء وسيلة مؤكدة لفقد كل شيء، إن العالم الحر لا يمكن تصوره إلا بالاعتراف بأن الصدق هو التعبير عمَّا هو واقع، والصواب هو التعبير عمَّا هو عادل، وليس هو التعبير عمَّا هو نافع في وقت معين لمصلحة مجموعة بشرية معينة )). (( إن المساواة الحقة بين الناس تجعل التعصب العنصري والطبقي والطائفي والتميز العنصري جرائم ترتكب في حق الإنسان، كما تجعله تهديداً قوياًّ للسلام )).(( الحقيقة الواقعة أننا فقدنا الإيمان بالإنسان ))، (( العقل يقتضينا أن نؤمن بالإنسان ما دام الإنسان جزءاً من الطبيعة، وفي الطبيعة - بالرغم من سيادة قانون تنازع البقاء - نجد أن السلام يتخلَّلها في أعماقها، والإنسان كجزء من الطبيعة لديه جوهر خَيْر في حدِّ ذاته، إن تطوُّر الكون عبارة عن حركة دائمة - بالرغم من انحرافها الدائم أيضاً - نحو صورٍ أسمى من الحياة، حركة تنتهي دائماً بالفوز النهائي للإنسانية … إن التقدم البطيء للجنس البشري هذا التقدم الذي يمر خلال سلسلة من المعاناة والألم، يدل على وجود طاقات عند الإنسان تجعل أي ازدراء للجنس البشري صبيانيا لا يستند إلى تفكير سليم )).
وكتب رينولد نيبر: (( إن الوضع في الحياة الجماعية للإنسان في الوقت الحاضر يدل على أننا حطمنا حياتنا العامة عن طريق القوى الجديدة والإمكانيات التي وضعتها في أيدينا المدنية والتكنولوجيا. وهذه الحياة المحطمة التي تظهر في بؤس العالم كله وقلقه هي حكم تاريخي موضوعي علينا، هي حقيقة الموت الذي ترتب على حياة الغرور التي تعيشها الأمم والشعوب، وهي بغير إيمان ليست إلا فناء )).(( إن تاريخنا المعاصر - هو في واقعه - مثل ناصع للوسيلة التي يباغت بها الإله كبرياء الإنسان وغروره واستعلاءه، وللطريقة التي يوقع بها الحكم الإلهي العقوبة على الأفراد والشعوب الذين يرفعون أنفسهم فوق مستواهم )).(( إن فرصة انتصارنا على عدونا تكون أقرب إذا نحن قلَّلنا من ثقتنا بما عندنا من طهارة … وفضيلة، إن غرور الأمم القوية وإيمانها بفضلها أشد خطراً على نجاحها في مجال السياسة من كيد الأعداء )).(( إن الحياة الجديدة التي نحتاج إليها مجتمعين في عصرنا إنما يتحقق بقيام مجتمع يتسع لأن يجعل تعاون كل أمة مع غيرها - في هذا العصر التكنولوجي - أمراً محتَّماً وعدالةً متزنة اتزاناً دقيقاً ))، (( إن العامل الحاسم في إيجاد التماسك الاجتماعي في المجتمع العالمي هو القوة الروحية )).
وكتب برتراند رسل: (( إن خطر الحرب يبقى دائماً محلَّقاً فوق رؤوسنا )). (( ما دام نظامنا السياسي قائما كما هو، إنَّ من المؤكد أن الحروب العظمى سوف تقع بين الحين والحين، ولا مفر من حدوث ذلك ما دامت هناك دولٌ مختلفة لكل منها سيادتها، ولكل منها قواتها المسلَّحة، ولكل منها حكمها المطلق فيما يختص بمصلحتها وحقوقها في أيِّ نزاع ينشب )). (( الحرب الحديثة بغض النظر عن شدة فتكها أسوأ في كثير من الوجوه من الحروب التي وقعت في الماضي )). (( في الحروب المسلية المطمئنة التي وقعت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كان المحاربون هم الذين يتعرضون فيها للآلام، أما في هذه الأيام فإن وقع الحرب يتزايد على المدنيين. وإن رجلاً بلغ من العمر مثل ما بلغت ليذكر ذلك الوقت الذي فيه كانت الحرب التي تصيب النساء والأطفال أمراً لا يقع في الحسبان، غير أن هذا العصر السعيد قد انتهى وفات )).(( إن العالم يواجه كارثة محدقة، وهو يتساءل في حيرة: لماذا لا يلوح في الأفق مجال للنجاة من مصير مؤسف لا يرغب فيه إنسان؟! إن السبب الرئيسي في ذلك أننا لم نهيئ عقولنا للتعامل مع وسائلنا التكنولوجية وما زلنا نسمح لأنفسنا بطرق للتفكير ربما كانت تتلاءم مع عصر أكثر بساطة في وسائله التكنولوجية. فإن أردنا أن نحيا حياة سعيدة بوسائلنا التكنولوجية … فلا مناص لنا من نبذ بعض الآراء والاستعاضة عنها بغيرها، فنستعيض بالمساواة عن حب السيطرة، وبالذكاء عن الأعمال الوحشية، وبالتعاون عن التغالب، ونستعيض بالعدالة عن حب الغلبة وشهوة الانتقام )).
وبعد، فحتى لو قبلنا رأي المفكر الأمريكي الشهير جون موريس كلارك في الحضارة المعاصرة بأنها حضارة تخرت جذورها حتى لم تعد تستطيع حمل ثقل جذعها، وفروعه المنتشرة على مساحة واسعة، وأن القوة بغير هدف إنساني أصبحت وثناً يعبد ويقود الحضارة إلى حافة الانهيار، وأنه لا معنى أن نأمل - في عالم أسلحة الدمار الشامل - بقيام عالم آمن تسوده الحرية والديمقراطية، حتى لو قبلنا هذا الرأي فلا أقل من أن نقبل النتيجة التي انتهى إليها هذا المفكر من أنه: لا بدَّ من تنمية قدرتنا على التفكير السليم والعمل البنَّاء، إذ أن ذلك هو فرصتنا الوحيدة للكفاح بالرغم من سيف داموكليز المسلط على رقابنا.في هذا السبيل ماذا يمكن أو ما يجب أن يعملأوَّلاً: بالنسبة للمسلمين.لا حظ برتراند رسل أن (( الغرب أهدى للشرق مساوئه: القلق، وعدم الرضا، والروح العسكرية، والإيمان الغالي بالآلة. ولكن الدول القوية في الغرب تحاول دائماً صرف الشرق عن أفضل ما لدى الغرب: روح البحث الحر، والتعرف على الظروف التي تؤدي إلى الرفاهية التامة، والتحرر من الخرافة )).كمثل على صحَّة ملاحظة رسل فإن الإرهاب الذي يعتبر الآن مرادفاً للفظ مسلم في لغة الغرب - كان ضمن هدايا الغرب للعالم الإسلامي. ألا نتذكر أنَّ أول مبنى عام تم تفجيره على سكانه في الشرق الأوسط (وهو فندق ديفيد في القدس)، وأن أول طائرة مدنية أسقطت في الشرق الأوسط (وهي طائرة الخطوط المصرية) كلاهما نفذا بأيدي أناس ينتمون لعالم الغرب المتحضِّر.لكن ربما كان أسوأ هدايا الغرب للعالم الإسلامي في مجال السياسة تقديس الميكيافيلية وقبول المقياس المزدوج للعدل، والتسليم بمبادئ الغرب في العلاقات الدولية. وقد ساعد على ضعف جهاز المناعة الإسلامي ضد هذه الشرور، غلبة الشعور بالنقص الناشئ عن الانبهار بما لدى الغرب من قوى الفكر والتكنولوجيا، وبما استطاع الغرب أن يحقِّقه داخل مجتمعاته من الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة أمام القانون بالمقارنة بما ترزح تحته مجتمعات العالم الإسلامي - أحياناً بمساعدة الغرب - من تخلُّف، وظلم، واستبداد، وحرمان من الحرية، والعدل الاجتماعي، والقانوني.غير أن العالم الإسلامي لم يكن في يوم من الأيام منذ أن بدأ تعرضه للغزو الغربي في ميدان الثقافة الشريرة مهيَّئاً لصحوة النائم، وإدراك الجانب السلبي للحضارة الغربية كما هو مهيَّؤٌ في الوقت الحاضر. ذلك أن الإنسان مفطور بطبعه على كراهية الظلم - إذا كان صادرا من غيره - حتى لو كان واقعاً على غيره، فكيف إذا كان هو الضحية؟!وفي السنوات الأخيرة - وهي سنوات أصبحت فرص الوعي فيها أكبر - مرت المجتمعات الإسلامية بسلسلة من أشنع المظالم ظهرت في صورة من الوحشية والهمجية والتنكر لكل المعاني الإنسانية، وقد صدرت من العالم "المتحضر" وبمباركته مثلاً في فلسطين، والبوسنة والهرسك، والشيشان، بل إن ما كان الإعلام الغربي يصفه على حقيقته بأنه حركة ضد الظلم والاستعباد في تركستان الشرقية، وكشمير أصبح على لسان الساسة الغربيين إرهاباً يبرِّر التحالف الدولي للقضاء عليه.مَغْزَى ما سبق أن البيئة الفكرية في العالم الإسلامي مهيَّئة الآن للتعرف على الجانب السلبي للحضارة الغربية وإدراك خطر وخطل المبادئ السياسية الغربية في العلاقات الدولية. وأصبح المسلم الآن أكثر استعداداً للثقة بمنهج الإسلام وأنه طوق النجاة للعالم إذا أراد أن يتغلَّب على قوى الشر.وإذاً، فعلى أهل الفكر والرأي أن يبذلوا أقصى جهد لتوعية الجماهير في العالم الإسلامي بأمرين:1) المنهج الإسلامي في علاقة الإنسان بغيره، وأنه لا خيار للمسلم - إذا أراد أن يبقى مسلماً حقيقياًّ - إلا الالتزام بهذا المنهج والمبادئ التي تبنى عليه، وأن واجبه الديني في ذلك لا يقل عن واجبه في أداء العبادات من الصلاة والصوم والحج.2) كشف حقيقة الجوانب السلبية للحضارة الغربية، والتوعية بتنائج هذه الجوانب الفكرية والعملية، والإلحاح على تعرية صورها الحقيقية ممثَّلة في الحوادث الواقعية، وفي تصريحات الساسة والمفكِّرين لا بقصد إثارة الكراهية ضد الغرب، وإنما إثارة الكراهية ضد المبادئ الشريرة في الثقافة الغربية.وأبلغ أثراً من كل هذا أن يهتمَّ المربُّون بهذه النواحي، ويضمنوا مناهج الدراسة عناصر كافية للوفاء بهذا الفرض، ليس في مادة التاريخ والجغرافيا فحسب، بل في غيرهما من مواد الدراسة، ولا سيما دروس الدين.ولا بد بعد ذلك وقبله من إنعاش روح الأمل لدى المسلم، وتذكيره بأن من مقتضى دينه الإيمان الذي لا يتزعزع بأن السلام ممكن على الأرض، وأنها سوف تملأ عدلاً كما ملئت جوراً، وأن نور الله - الذي تريد قوى الشر أو الإشراك أن يطفؤوه بأفواههم - لا بدَّ أن يتم: (( وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) (سورة الروم: 6).
ثانياً: بالنسبة لغير المسلمين:إذا كانت الحقيقة الواقعة كما يرى جاك ماريتان (( إن الغرب فقد الإيمان بالإنسان ))، فلا بدَّ لتهيئة العالم الغربي لقبول تغير منهجه السياسي اللاأخلاقي، أن يعاد إليه الإيمان بالإنسان كمطلب أولى للتغيير.ويتشابه الفيلسوفان الكاثوليكي واللاديني في الحكم بإمكانية التغيير، وطريقه.فبينما يؤكد ماريتان الكاثوليكي على ضرورة إنعاش الإيمان والأمل لدى الإنسان ويرى (( أنه في أسعد فترات التاريخ كان الشر يعمل في خفية لتحقيق أهدافه، وكذلك فإنه في أحلك العصور ظلمة يظل الخير على أهبة دائمة يعمل باستمرار لتحقيق انتصارات غير متوقعة وغير ظاهرة ))، ويرى (( التطور التاريخي … لا يتحقق في يوم واحد، فلا بدَّ من عامل الزمن ليتمكن العقل من السيطرة على الوسائل المادية المروعة التي وضعتها في أيدينا الثورة الصناعية التكنولوجية، ولا بدَّ من عامل الزمن لإنضاج الثورة الخلقية والروحية وبعثها من أعماق الخبرة البشرية )).يرى رسل اللاديني (( أننا يجب أن نتعلم أن ننظر إلى الجنس البشري كأسرة واحدة ))، و (( إن التغيير العقلي المنشود شاقٌّ جداًّ، ولا يتمُّ في يوم واحد، على أنه إن أدرك المربون إلحاح هذا الهدف وعملوا له، وإذا أمكن بجهودهم أن ينشأ الصغار كمواطنين عالميين لا كأفراد في عالم من المتقاتلين الذين يعيشون على السلب والاستعباد، فإنه يمكن حينئذ أن نأمل في إنقاذ الجنس البشري من الهلاك العالمي الشامل الذي يهدِّدنا به السعي في سبيل تحقيق أفكار بائدة )).
إنه لمنطقي جدا الاعتقاد بأنه في عصر ثورة المعلومات والاتصالات تكون المسؤولية الأولى للعمل من أجل الخلاص من براثن الخطر المحدق بالفناء تقع على المفكرين وعلى المربين.ومن أجل هذا الهدف جرؤ قلم متواضع على كتابة هذه الورقة.
18-4-2002
لم يكن الهدف من المقارنة السابقة هدفاً نظرياًّ، وإلا لكان هدفاً هيناً، وإنما يلتمس الكاتب هدفاً عملياًّ، هو أن يثور السؤال: هل يمكن أن يقدم المنهج الإسلامي - في العلاقات الدولية - العلاج الإيجابي لأزْمة الجنس البشري المعاصرة؟
بالرغم من سيادة الثقافة الطاغية لمنهج الحضارة الغربية - في العلاقات الدولية - إلا أن من الصعب افتراض أن هذا المنهج هو نهاية التاريخ.
إن انتشار أسلحة الدمار الشامل يجعل العالم أمام خيارين:
(أ) التهديد بالفناء المادي أو المعنوي أو كليهما،
أو (ب) تغيير المنهج السائد في العلاقات الدولية. ولتغيير هذا المنهج لا مناصَ - فيما يبدو - من اختيار منهج مثل المنهج الإسلامي حيث تقوم العلاقات الدولية على أساس العدل المرتكز على أساس الالتزام الخلقي أو الديني.
بقلم معالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين
الفصل الثالث
وبعد، فلم يكن الهدف من المقارنة السابقة هدفاً نظرياًّ، وإلا لكان هدفاً هيناً، وإنما يلتمس الكاتب هدفاً عملياًّ، هو أن يثور السؤال: هل يمكن أن يقدم المنهج الإسلامي - في العلاقات الدولية - العلاج الإيجابي لأزْمة الجنس البشري المعاصرة؟بالرغم من سيادة الثقافة الطاغية لمنهج الحضارة الغربية - في العلاقات الدولية - إلا أن من الصعب افتراض أن هذا المنهج هو نهاية التاريخ.إن انتشار أسلحة الدمار الشامل يجعل العالم أمام خيارين:(أ)التهديد بالفناء المادي أو المعنوي أو كليهما، أو (ب) تغيير المنهج السائد في العلاقات الدولية. ولتغيير هذا المنهج لا مناصَ - فيما يبدو - من اختيار منهج مثل المنهج الإسلامي حيث تقوم العلاقات الدولية على أساس العدل المرتكز على أساس الالتزام الخلقي أو الديني.إن هذه الفكرة البسيطة هي ما انتهى إليه فيما يبدو أغلب المفكرين الغربيين، وللتدليل على ما أقول أقدِّم فيما يلي عينة من الآراء لمشاهير من المفكرين الذين عاصروا الحربين العالميتين، وكما يلاحظ القارئ حرصت على أن تضم هذه العينة على التوالي: عالما طبيعيا، ومؤرخا، وفيلسوفا كاثوليكيا أوربيا، وفيلسوفا بروتستانتيا أمريكيا، وفيلسوفاً لا دينيا. راجيا أن تكون هذه العينة معبرة بصدق عن اتجاه عام للتفكير العاقل الحكيم في الغرب.في سنواته الأخيرة كتب البرت اينشتاين:(( لقد ربحنا الحرب، ولكنا خسرنا السلام … لقد وعد العالم - بعد الحرب - بالتحرر من الخوف، ولكن الخوف - بعد انتهائها - زاد في الواقع. لقد وعد العالم بالحرية والعدل، ولكننا لا نزال نرى قوى "الحرية" تصب النار وتقصف بالقنابل شعوباً لا لشيء إلا أنها تطالب بالحرية والعدل والاستقلال. وتدعم بقوة السلاح الأحزاب والأفراد الذين يحققون المصالح الأنانية لتلك القوى )).(( لقد أوجدت التكنولوجيا وسائل للتدمير جديدة وفعالة، لم يعهد مثلها الإنسان من قبل، وهذه الوسائل حين تقع في أيدي أمم تدعي أن لها الحق في الحرية المطلقة للعمل تصبح تهديداً محدقاً بفناء الجنس البشري )).(( إن وسائل الاتصال والإعلام حينما تتحد مع الأسلحة الحديثة فإنه يمكن حينئذ أن يوضع الجسد والروح كلاهما تحت سيطرة القوة الأقوى، ونكون حينئذ أمام مصدر آخر للخطر يهدِّد المجتمع الإنساني )).وكتب: (( إن المجتمع الإنساني يجتاز الآن أزمة حقيقية، وقد انهار استقراره انهياراً شديداً، ومن نتائج مثل هذا الوضع أن لا يكترث الأفراد بمصير الجماعة، بل لعلهم أن يهدِّدوا هذا المصير … كنت أتحدَّث منذ وقت قصير - مع رجل ذكي متزن عن وعيد حرب عالمية أخرى قد تعرض فيما أرى - الجنس البشري لخطر الفناء، فقال - في برود وهدوء شديد -: "ولكن لماذا تنزعج من فناء الجنس البشري؟!" إني على يقين أنه قبل قرن واحد فقط ما كان يمكن أن ترد مثل هذه العبارة على لسان إنسان، إن هذه العبارة لا يمكن أن تصدر إلا عن شخص فقد الأمل في الحصول في نفسه على التوازن بعد أن حاول عبثاً أن يحصل عليه، إن هذا السؤال يعبر عن عزلة أليمة ووحشة ويأس يعاني منها - هذه الأيام - جمهور من الناس. فما السبب في ذلك، وهل هناك مخرج؟ … إن محور الأزمة في عصرنا يتعلق بالصلة بين الفرد والجماعة … إن موقف الفرد من الجماعة يحمل على تضخيم دوافعه الفردية في حين أن دوافعه الاجتماعية - وهي بالطبع أضعف - تتدهور شيئاً فشيئاً، وكل فرد مهما كان مركزه في المجتمع يشكو هذا التدهور، إن الناس يحسون - وهم سجناء أنانيتهم من حيث لا يعلمون - أنهم يعيشون في قلق وعزلة محرومين من الاستمتاع بالحياة الاجتماعية استمتاعاً عفوياًّ وبسيطاً لا تعقيد فيه، والواقع أن الإنسان لا يستطيع أن يجد لحياته - برغم قصرها - معنى إلا إذا أعطى من نفسه للمجتمع )).ويرى البرت اينشتاين أن المخرج هو في الإيمان بالقيم الإنسانية، أو بالعودة إلى نوع من الدين، ويقول: (( إن الشخص المستنير من الناحية الدينية يبدو لي كأنه رجل حرَّر نفسه - على قدر ما يستطيع - من قيود أنانيته ورغباته الفردية، وشغل نفسه بالأفكار والمشاعر والآمال التي يتعلَّق بها لقيمتها التي تسمو على ذاته )). (( الرجل المتدين هو كذلك، لأنه على يقين من أهمية تلك الأهداف التي تسمو على الذات.. وهي أهداف لا تتطلب أساساً من المحاكمة العقلية، لأنها موجودة كأمر ضروري واقعي … والدين بهذا المعنى محاولة قديمة من الإنسان لكي يعي هذه القيم والأهداف.. وينشر آثارها على الدوام، فإذا تصورنا الدين والعلم بهذا التصور أصبح الخلاف بينهما مستحيلاً، لأن العلم إنما يحقق فيما هو كائن لا فيما ينبغي أن يكون، ويبقى القيم من الضروريات التي لا تدخل في نطاقه. أما الدين فلا يتعرض إلا إلى تقويم الفكر البشري والأعمال البشرية، وبالرغم من انفصال مجال الدين عن مجال العلم فإنه تقوم علاقات متبادلة قوية ويرتكز أحدهما على الآخر في بعض النواحي، فالدين قد تكون وظيفته تحقيق الهدف، إلا أنه يأخذ عن العلم بأوسع معانيه الوسائل الموصلة لهذا الهدف، والعلم لا يخترعه إلا أولئك المتشبعون حقا بحب الحق والحكمة، ومصدر هذا الشعور ينبع من الدين … ولا أستطيع أن أتصوَّر عالماً حقاًّ بغير الإيمان العميق بأن من الممكن أن تكون القواعد التي تطبق على عالم الوجود معقولة، ويمكن التعبير عن هذا الرأي بهذه الصورة: العلم بغير دين أعرج، والدين بغير علم أعمى )).ويكتب أرنولد توينبي: (( إن التاريخ قد أعاد نفسه عشرين مرة تقريباً، وفي كل مرة توجد مجتمعات بشرية من النوع الذي ينتمي إليه مجتمعنا الغربي، هذه المجتمعات قد بادت، أو هي في دور الاحتضار، وحين ندرس تاريخ هذه الحضارات البائدة نجد ما يشبه النموذج المتكرر في طريقة انهيارها وتدهورها ))، (( إني لأعجب كيف يعمى عن حقيقة أن الحضارة الغربية ليست أقوى حصانة من الحضارات البائدة )). (( إذا نحن بحثنا عن العلة في تدهور الحضارات نجد أنه دائماً وبدون استثناء: الحرب أو نظام الطبقات أو كلاهما )). (( إن نظام الحرب ونظام الطبقات ليسا إلا انعكاساً للجانب السلبي من الطبيعة البشرية، والآثار الاجتماعية الناتجة عن هذه الطبيعة لم تضعف بسبب التقدم المشؤوم الحديث في معرفتنا التكنولوجية، بل تعاظمت وزاد خطرها فأصبح نظام الطبقات قادراً على تفكيك روابط المجتمع بشكل قاطع، كما أصبحت الحرب قادرة على إفناء الجنس البشري بأكمله )). (( إن المشكلات التي أحاطت بالحضارات الأخرى وقهرتها في النهاية قد بلغت اليوم ذروتها في عالمنا )).(( إن علينا أن نواجه تحدياً لم يسبق لمن سبقونا أن يواجهوه فإما أن نقضي على نظامي الحرب والطبقات، وإما أن نشهر انتصارهما على الإنسان نصراً يكون هذه المرة نهائيا وحاسما )).
ويكتب جاك ماريتان: (( لقد أفصح عالم الإنسان الحاضر عن الشر وفاض به حتى حطم ثقتنا، كم من جريمة شهدناها لا يعوضها أي عقاب عادل… وكم من مواقف من الامتهان المذل للطبيعة البشرية… لقد اتجه العلم والتقدم نحو دمارنا، وكياننا أصبح مهدَّداً بالخطر من جراء التحلل لقوى الحكمة والأخلاق واللغة ذاتها قد انحرفت فأصبح اللفظ كأنما لا ينقل إلا خداعا، إننا نعيش - حقاًّ - في عالم كافكا )). (( إن القوة بغير هدف إنساني أصبحت وثناً يقود الحضارة المعاصرة إلى حافة الفوضى والانهيار )). (( إن روح الوثنية التي تشرَّبتها حضارتنا ساقت الإنسان إلى أن يجعل هدفه القوة، والقدرة على الكراهية في حين أن المثل السياسي الأعلى يجب أن يكون العدل )). (( إن كنا نود أن نمهد للسلام … في وعي الأمم فلن يكون ذلك إلا إذا اقتنعنا بأن السياسة الصحيحة هي أولاً وقبل كلِّ شيءٍ السياسة العادلة… على كل شعب أن يجاهد لكي يفهم نفسية الشعوب الأخرى وتطورها وتقاليدها وحاجاتها المادية والمعنوية، ويعترف بكرامتها ودورها التاريخي. وكل شعب لا يجوز له أن ينظر إلى مصلحته فقط، بل إلى الصالح العام لكل الشعوب… إن وضع المصلحة القومية فوق كل شيء وسيلة مؤكدة لفقد كل شيء، إن العالم الحر لا يمكن تصوره إلا بالاعتراف بأن الصدق هو التعبير عمَّا هو واقع، والصواب هو التعبير عمَّا هو عادل، وليس هو التعبير عمَّا هو نافع في وقت معين لمصلحة مجموعة بشرية معينة )). (( إن المساواة الحقة بين الناس تجعل التعصب العنصري والطبقي والطائفي والتميز العنصري جرائم ترتكب في حق الإنسان، كما تجعله تهديداً قوياًّ للسلام )).(( الحقيقة الواقعة أننا فقدنا الإيمان بالإنسان ))، (( العقل يقتضينا أن نؤمن بالإنسان ما دام الإنسان جزءاً من الطبيعة، وفي الطبيعة - بالرغم من سيادة قانون تنازع البقاء - نجد أن السلام يتخلَّلها في أعماقها، والإنسان كجزء من الطبيعة لديه جوهر خَيْر في حدِّ ذاته، إن تطوُّر الكون عبارة عن حركة دائمة - بالرغم من انحرافها الدائم أيضاً - نحو صورٍ أسمى من الحياة، حركة تنتهي دائماً بالفوز النهائي للإنسانية … إن التقدم البطيء للجنس البشري هذا التقدم الذي يمر خلال سلسلة من المعاناة والألم، يدل على وجود طاقات عند الإنسان تجعل أي ازدراء للجنس البشري صبيانيا لا يستند إلى تفكير سليم )).
وكتب رينولد نيبر: (( إن الوضع في الحياة الجماعية للإنسان في الوقت الحاضر يدل على أننا حطمنا حياتنا العامة عن طريق القوى الجديدة والإمكانيات التي وضعتها في أيدينا المدنية والتكنولوجيا. وهذه الحياة المحطمة التي تظهر في بؤس العالم كله وقلقه هي حكم تاريخي موضوعي علينا، هي حقيقة الموت الذي ترتب على حياة الغرور التي تعيشها الأمم والشعوب، وهي بغير إيمان ليست إلا فناء )).(( إن تاريخنا المعاصر - هو في واقعه - مثل ناصع للوسيلة التي يباغت بها الإله كبرياء الإنسان وغروره واستعلاءه، وللطريقة التي يوقع بها الحكم الإلهي العقوبة على الأفراد والشعوب الذين يرفعون أنفسهم فوق مستواهم )).(( إن فرصة انتصارنا على عدونا تكون أقرب إذا نحن قلَّلنا من ثقتنا بما عندنا من طهارة … وفضيلة، إن غرور الأمم القوية وإيمانها بفضلها أشد خطراً على نجاحها في مجال السياسة من كيد الأعداء )).(( إن الحياة الجديدة التي نحتاج إليها مجتمعين في عصرنا إنما يتحقق بقيام مجتمع يتسع لأن يجعل تعاون كل أمة مع غيرها - في هذا العصر التكنولوجي - أمراً محتَّماً وعدالةً متزنة اتزاناً دقيقاً ))، (( إن العامل الحاسم في إيجاد التماسك الاجتماعي في المجتمع العالمي هو القوة الروحية )).
وكتب برتراند رسل: (( إن خطر الحرب يبقى دائماً محلَّقاً فوق رؤوسنا )). (( ما دام نظامنا السياسي قائما كما هو، إنَّ من المؤكد أن الحروب العظمى سوف تقع بين الحين والحين، ولا مفر من حدوث ذلك ما دامت هناك دولٌ مختلفة لكل منها سيادتها، ولكل منها قواتها المسلَّحة، ولكل منها حكمها المطلق فيما يختص بمصلحتها وحقوقها في أيِّ نزاع ينشب )). (( الحرب الحديثة بغض النظر عن شدة فتكها أسوأ في كثير من الوجوه من الحروب التي وقعت في الماضي )). (( في الحروب المسلية المطمئنة التي وقعت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كان المحاربون هم الذين يتعرضون فيها للآلام، أما في هذه الأيام فإن وقع الحرب يتزايد على المدنيين. وإن رجلاً بلغ من العمر مثل ما بلغت ليذكر ذلك الوقت الذي فيه كانت الحرب التي تصيب النساء والأطفال أمراً لا يقع في الحسبان، غير أن هذا العصر السعيد قد انتهى وفات )).(( إن العالم يواجه كارثة محدقة، وهو يتساءل في حيرة: لماذا لا يلوح في الأفق مجال للنجاة من مصير مؤسف لا يرغب فيه إنسان؟! إن السبب الرئيسي في ذلك أننا لم نهيئ عقولنا للتعامل مع وسائلنا التكنولوجية وما زلنا نسمح لأنفسنا بطرق للتفكير ربما كانت تتلاءم مع عصر أكثر بساطة في وسائله التكنولوجية. فإن أردنا أن نحيا حياة سعيدة بوسائلنا التكنولوجية … فلا مناص لنا من نبذ بعض الآراء والاستعاضة عنها بغيرها، فنستعيض بالمساواة عن حب السيطرة، وبالذكاء عن الأعمال الوحشية، وبالتعاون عن التغالب، ونستعيض بالعدالة عن حب الغلبة وشهوة الانتقام )).
وبعد، فحتى لو قبلنا رأي المفكر الأمريكي الشهير جون موريس كلارك في الحضارة المعاصرة بأنها حضارة تخرت جذورها حتى لم تعد تستطيع حمل ثقل جذعها، وفروعه المنتشرة على مساحة واسعة، وأن القوة بغير هدف إنساني أصبحت وثناً يعبد ويقود الحضارة إلى حافة الانهيار، وأنه لا معنى أن نأمل - في عالم أسلحة الدمار الشامل - بقيام عالم آمن تسوده الحرية والديمقراطية، حتى لو قبلنا هذا الرأي فلا أقل من أن نقبل النتيجة التي انتهى إليها هذا المفكر من أنه: لا بدَّ من تنمية قدرتنا على التفكير السليم والعمل البنَّاء، إذ أن ذلك هو فرصتنا الوحيدة للكفاح بالرغم من سيف داموكليز المسلط على رقابنا.في هذا السبيل ماذا يمكن أو ما يجب أن يعملأوَّلاً: بالنسبة للمسلمين.لا حظ برتراند رسل أن (( الغرب أهدى للشرق مساوئه: القلق، وعدم الرضا، والروح العسكرية، والإيمان الغالي بالآلة. ولكن الدول القوية في الغرب تحاول دائماً صرف الشرق عن أفضل ما لدى الغرب: روح البحث الحر، والتعرف على الظروف التي تؤدي إلى الرفاهية التامة، والتحرر من الخرافة )).كمثل على صحَّة ملاحظة رسل فإن الإرهاب الذي يعتبر الآن مرادفاً للفظ مسلم في لغة الغرب - كان ضمن هدايا الغرب للعالم الإسلامي. ألا نتذكر أنَّ أول مبنى عام تم تفجيره على سكانه في الشرق الأوسط (وهو فندق ديفيد في القدس)، وأن أول طائرة مدنية أسقطت في الشرق الأوسط (وهي طائرة الخطوط المصرية) كلاهما نفذا بأيدي أناس ينتمون لعالم الغرب المتحضِّر.لكن ربما كان أسوأ هدايا الغرب للعالم الإسلامي في مجال السياسة تقديس الميكيافيلية وقبول المقياس المزدوج للعدل، والتسليم بمبادئ الغرب في العلاقات الدولية. وقد ساعد على ضعف جهاز المناعة الإسلامي ضد هذه الشرور، غلبة الشعور بالنقص الناشئ عن الانبهار بما لدى الغرب من قوى الفكر والتكنولوجيا، وبما استطاع الغرب أن يحقِّقه داخل مجتمعاته من الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة أمام القانون بالمقارنة بما ترزح تحته مجتمعات العالم الإسلامي - أحياناً بمساعدة الغرب - من تخلُّف، وظلم، واستبداد، وحرمان من الحرية، والعدل الاجتماعي، والقانوني.غير أن العالم الإسلامي لم يكن في يوم من الأيام منذ أن بدأ تعرضه للغزو الغربي في ميدان الثقافة الشريرة مهيَّئاً لصحوة النائم، وإدراك الجانب السلبي للحضارة الغربية كما هو مهيَّؤٌ في الوقت الحاضر. ذلك أن الإنسان مفطور بطبعه على كراهية الظلم - إذا كان صادرا من غيره - حتى لو كان واقعاً على غيره، فكيف إذا كان هو الضحية؟!وفي السنوات الأخيرة - وهي سنوات أصبحت فرص الوعي فيها أكبر - مرت المجتمعات الإسلامية بسلسلة من أشنع المظالم ظهرت في صورة من الوحشية والهمجية والتنكر لكل المعاني الإنسانية، وقد صدرت من العالم "المتحضر" وبمباركته مثلاً في فلسطين، والبوسنة والهرسك، والشيشان، بل إن ما كان الإعلام الغربي يصفه على حقيقته بأنه حركة ضد الظلم والاستعباد في تركستان الشرقية، وكشمير أصبح على لسان الساسة الغربيين إرهاباً يبرِّر التحالف الدولي للقضاء عليه.مَغْزَى ما سبق أن البيئة الفكرية في العالم الإسلامي مهيَّئة الآن للتعرف على الجانب السلبي للحضارة الغربية وإدراك خطر وخطل المبادئ السياسية الغربية في العلاقات الدولية. وأصبح المسلم الآن أكثر استعداداً للثقة بمنهج الإسلام وأنه طوق النجاة للعالم إذا أراد أن يتغلَّب على قوى الشر.وإذاً، فعلى أهل الفكر والرأي أن يبذلوا أقصى جهد لتوعية الجماهير في العالم الإسلامي بأمرين:1) المنهج الإسلامي في علاقة الإنسان بغيره، وأنه لا خيار للمسلم - إذا أراد أن يبقى مسلماً حقيقياًّ - إلا الالتزام بهذا المنهج والمبادئ التي تبنى عليه، وأن واجبه الديني في ذلك لا يقل عن واجبه في أداء العبادات من الصلاة والصوم والحج.2) كشف حقيقة الجوانب السلبية للحضارة الغربية، والتوعية بتنائج هذه الجوانب الفكرية والعملية، والإلحاح على تعرية صورها الحقيقية ممثَّلة في الحوادث الواقعية، وفي تصريحات الساسة والمفكِّرين لا بقصد إثارة الكراهية ضد الغرب، وإنما إثارة الكراهية ضد المبادئ الشريرة في الثقافة الغربية.وأبلغ أثراً من كل هذا أن يهتمَّ المربُّون بهذه النواحي، ويضمنوا مناهج الدراسة عناصر كافية للوفاء بهذا الفرض، ليس في مادة التاريخ والجغرافيا فحسب، بل في غيرهما من مواد الدراسة، ولا سيما دروس الدين.ولا بد بعد ذلك وقبله من إنعاش روح الأمل لدى المسلم، وتذكيره بأن من مقتضى دينه الإيمان الذي لا يتزعزع بأن السلام ممكن على الأرض، وأنها سوف تملأ عدلاً كما ملئت جوراً، وأن نور الله - الذي تريد قوى الشر أو الإشراك أن يطفؤوه بأفواههم - لا بدَّ أن يتم: (( وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) (سورة الروم: 6).
ثانياً: بالنسبة لغير المسلمين:إذا كانت الحقيقة الواقعة كما يرى جاك ماريتان (( إن الغرب فقد الإيمان بالإنسان ))، فلا بدَّ لتهيئة العالم الغربي لقبول تغير منهجه السياسي اللاأخلاقي، أن يعاد إليه الإيمان بالإنسان كمطلب أولى للتغيير.ويتشابه الفيلسوفان الكاثوليكي واللاديني في الحكم بإمكانية التغيير، وطريقه.فبينما يؤكد ماريتان الكاثوليكي على ضرورة إنعاش الإيمان والأمل لدى الإنسان ويرى (( أنه في أسعد فترات التاريخ كان الشر يعمل في خفية لتحقيق أهدافه، وكذلك فإنه في أحلك العصور ظلمة يظل الخير على أهبة دائمة يعمل باستمرار لتحقيق انتصارات غير متوقعة وغير ظاهرة ))، ويرى (( التطور التاريخي … لا يتحقق في يوم واحد، فلا بدَّ من عامل الزمن ليتمكن العقل من السيطرة على الوسائل المادية المروعة التي وضعتها في أيدينا الثورة الصناعية التكنولوجية، ولا بدَّ من عامل الزمن لإنضاج الثورة الخلقية والروحية وبعثها من أعماق الخبرة البشرية )).يرى رسل اللاديني (( أننا يجب أن نتعلم أن ننظر إلى الجنس البشري كأسرة واحدة ))، و (( إن التغيير العقلي المنشود شاقٌّ جداًّ، ولا يتمُّ في يوم واحد، على أنه إن أدرك المربون إلحاح هذا الهدف وعملوا له، وإذا أمكن بجهودهم أن ينشأ الصغار كمواطنين عالميين لا كأفراد في عالم من المتقاتلين الذين يعيشون على السلب والاستعباد، فإنه يمكن حينئذ أن نأمل في إنقاذ الجنس البشري من الهلاك العالمي الشامل الذي يهدِّدنا به السعي في سبيل تحقيق أفكار بائدة )).
إنه لمنطقي جدا الاعتقاد بأنه في عصر ثورة المعلومات والاتصالات تكون المسؤولية الأولى للعمل من أجل الخلاص من براثن الخطر المحدق بالفناء تقع على المفكرين وعلى المربين.ومن أجل هذا الهدف جرؤ قلم متواضع على كتابة هذه الورقة.