أمريكا وانفصال جنوب السودان
مرسل: الثلاثاء مايو 25, 2010 5:48 pm
أحمد عمرابي
قبل بضعة أيام أعلن المبعوث الرئاسي الأميركي إلى السودان أن الولايات المتحدة تتوقع انفصال جنوب السودان. ثم أردف قائلا: «نحن مستعدون لذلك».
من هذا المنظور لماذا يصر «سكوت غرايشن» على أن تجرى الانتخابات العامة السودانية بكافة مستوياتها في موعدها المقرر أبريل الجاري؟.
فالعملية الانتخابية القومية هي الخطوة الحاسمة التي تؤدي إلى إجراء الاستفتاء في جنوب السودان (في يناير 2011)، الذي تتوقع الولايات المتحدة أن يسفر عن فوز خيار الانفصال، والذي بدوره يؤدي إلى قيام دولة مستقلة جديدة في الجنوب.
الكثير من السودانيين وغير السودانيين استقبلوا تصريح غرايشن بغير قليل من الاندهاش. لكن دعم دعوة الانفصال ظل خطا أميركيا ثابتا منذ مفاوضات السلام التي جرت بين الحكومة السودانية و«الحركة الشعبية» الجنوبية بقيادة الزعيم الراحل جون قرنق قبل نحو سبع سنوات.
لقد انتهت العملية التفاوضية إلى توقيع اتفاق للسلام في ضاحية نيفاشا الكينية في عام 2003، وبدأت المرحلة التطبيقية في عام 2005. ومنذ الوهلة الأولى كان من الواضح أن واشنطن هي مهندس اتفاقية نيفاشا.
بداية القصة كانت قبل ذلك عند أواخر عهد الرئيس جورج بوش الابن، عندما قدم معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية ـ ومقره واشنطن ـ مشروعا إلى إدارة بوش يهدف إلى وضع نهاية للحرب في جنوب السودان وتقرير مستقبل الجنوب من خلال مفاوضات بين الجنوب كما تمثله الحركة الشعبية والشمال كما يمثله «نظام الإنقاذ».
وعلى الفور تبنى الرئيس بوش المشروع. وكخطوة تمهيدية لتحويل المشروع وأهدافه إلى خط سياسي رسمي للولايات المتحدة، قام بوش بتعيين أول مبعوث رئاسي أميركي إلى السودان: جون دانفورث.
ومن يطالع التقرير المفصل الذي تقدم به المبعوث دانفورث إلى الإدارة الأميركية يكتشف دون عناء أن المرتكزات الرئيسية لهذا التقرير هي تجسد تقريباً البنود الأساسية لوثيقة اتفاق نيفاشا. وأبرز هذه البنود النص على تمكين شعب جنوب السودان من ممارسة حق تقرير المصير عن طريق استفتاء عام يطرح خيارين:
إما استمرار الجنوب في النسيج الموحد للسودان، أو الانفصال الكامل. تقرير دانفورث نص أيضا على أن نقطة انطلاق العملية التفاوضية بين الحركة والحكومة ينبغي أن تكون مبدأ «دولتان ونظام واحد» شٌُّ َّ؟َُّّمٍَّ، َُم َُّّفُّم ولا يخفى أن معنى هذا النص هو بمثابة وضع حجر الأساس لجنوب مستقل في المستقبل.
غني عن القول إذن أن الولايات المتحدة قررت وضعاً للسودان ينتهي به إلى الانفصال الكامل بين الجنوب والشمال. وعلى هذا النحو وضعت بنود اتفاقية نيفاشا وجرى تطبيقها. وعلى مدى المرحلة الانتقالية التي بدأت عام 2005 أخذ السودانيون يرون ملامح الانفصال في الجنوب تتبلور وتتجسد على أرض الواقع:
حكومة حكم ذاتي لها جيش مستقل (قوات حركة قرنق نفسها) وبنك مركزي ومكاتب في عواصم إقليمية وعالمية، هي عملياً بعثات دبلوماسية.. بل ولها علم خاص..
علما بأنه وفقا للاتفاقية لا يخضع الجيش الجنوبي لسلطات رئيس الجمهورية في المركز باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، وإنما يخضع فقط لرئيس حكومة الجنوب.
تأسيسا على هذا كله يبقى سؤال كبير: لماذا تريد الولايات المتحدة قيام دولة مستقلة في جنوب السودان مما يجعلها تحبذ خيار الانفصال؟
لنستذكر أولا أن حركة التمرد الجنوبية في مختلف مراحلها منذ خمسينات القرن الماضي ظلت حركة معادية تماما للهويتين العربية الإسلامية في السودان، انطلاقا من أن أغلبية أهل الجنوب ليسوا عربا وليسوا مسلمين.
وحتى يومنا هذا تتبنى «الحركة الشعبية» كأحدث تنظيم للتمرد الجنوبي أجندة تدعو إلى فصم انتماء السودان إلى المحيط العربي والإسلامي، ليكون انتماؤه الإفريقي بديلاً، خاصة في المنظور الديني المسيحي.
من المؤكد إذن أنه لو قامت دولة مستقلة في جنوب السودان فإنها ستكون دولة إفريقية ذات طابع معادٍ للثقافة العربية والانتماء الإسلامي.
نستطيع أن نستنتج إذن أن تحبيذ الولايات المتحدة لتحول الجنوب السوداني إلى دولة مستقلة من خلال استفتاء عام يقوم على منظومة أجندة مرسومة سلفاً لجعل الدولة الجديدة قاعدة كبرى لمحاربة المد الإسلامي في عمق إفريقيا، وبخاصة الشرق الإفريقي (كينيا وأوغندا وتنزانيا).
ومما لا شك فيه أن الأجندة الأميركية تتطابق في هذا السياق مع الأجندة الإسرائيلية، خاصة إذا استدعينا إلى الأذهان ارتباط حركة التمرد الجنوبية في مراحلها المبكرة خلال عقد الستينات مع إسرائيل. فقد كانت تعتمد عسكريا على إسرائيل من حيث إمدادات الأسلحة وتدريب المقاتلين.
هذه هي الصورة المرتقبة على المستوى النظري. لكن الأمر قد يختلف لاحقا على المستوى العملي. ذلك انه من المؤكد أن تندلع فور إعلان قيام الدولة الجنوبية المستقلة حرب أهلية جنوبية - جنوبية ذات طابع قبلي داخل الدولة الوليدة، على غرار ما جرى بين التوتسي والهوتو في رواندا وبورندي.
خلال العام المنصرم اشتعلت الحرب القبلية في الجنوب بالفعل، حيث أدت إلى مقتل 2500 شخص. قيام الدولة الجنوبية المستقلة ليس موضع شك كبير. لكن الجنوب قد يتحول إلى صومال أخرى.
*نقلا عن "البيان" الإماراتية.
قبل بضعة أيام أعلن المبعوث الرئاسي الأميركي إلى السودان أن الولايات المتحدة تتوقع انفصال جنوب السودان. ثم أردف قائلا: «نحن مستعدون لذلك».
من هذا المنظور لماذا يصر «سكوت غرايشن» على أن تجرى الانتخابات العامة السودانية بكافة مستوياتها في موعدها المقرر أبريل الجاري؟.
فالعملية الانتخابية القومية هي الخطوة الحاسمة التي تؤدي إلى إجراء الاستفتاء في جنوب السودان (في يناير 2011)، الذي تتوقع الولايات المتحدة أن يسفر عن فوز خيار الانفصال، والذي بدوره يؤدي إلى قيام دولة مستقلة جديدة في الجنوب.
الكثير من السودانيين وغير السودانيين استقبلوا تصريح غرايشن بغير قليل من الاندهاش. لكن دعم دعوة الانفصال ظل خطا أميركيا ثابتا منذ مفاوضات السلام التي جرت بين الحكومة السودانية و«الحركة الشعبية» الجنوبية بقيادة الزعيم الراحل جون قرنق قبل نحو سبع سنوات.
لقد انتهت العملية التفاوضية إلى توقيع اتفاق للسلام في ضاحية نيفاشا الكينية في عام 2003، وبدأت المرحلة التطبيقية في عام 2005. ومنذ الوهلة الأولى كان من الواضح أن واشنطن هي مهندس اتفاقية نيفاشا.
بداية القصة كانت قبل ذلك عند أواخر عهد الرئيس جورج بوش الابن، عندما قدم معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية ـ ومقره واشنطن ـ مشروعا إلى إدارة بوش يهدف إلى وضع نهاية للحرب في جنوب السودان وتقرير مستقبل الجنوب من خلال مفاوضات بين الجنوب كما تمثله الحركة الشعبية والشمال كما يمثله «نظام الإنقاذ».
وعلى الفور تبنى الرئيس بوش المشروع. وكخطوة تمهيدية لتحويل المشروع وأهدافه إلى خط سياسي رسمي للولايات المتحدة، قام بوش بتعيين أول مبعوث رئاسي أميركي إلى السودان: جون دانفورث.
ومن يطالع التقرير المفصل الذي تقدم به المبعوث دانفورث إلى الإدارة الأميركية يكتشف دون عناء أن المرتكزات الرئيسية لهذا التقرير هي تجسد تقريباً البنود الأساسية لوثيقة اتفاق نيفاشا. وأبرز هذه البنود النص على تمكين شعب جنوب السودان من ممارسة حق تقرير المصير عن طريق استفتاء عام يطرح خيارين:
إما استمرار الجنوب في النسيج الموحد للسودان، أو الانفصال الكامل. تقرير دانفورث نص أيضا على أن نقطة انطلاق العملية التفاوضية بين الحركة والحكومة ينبغي أن تكون مبدأ «دولتان ونظام واحد» شٌُّ َّ؟َُّّمٍَّ، َُم َُّّفُّم ولا يخفى أن معنى هذا النص هو بمثابة وضع حجر الأساس لجنوب مستقل في المستقبل.
غني عن القول إذن أن الولايات المتحدة قررت وضعاً للسودان ينتهي به إلى الانفصال الكامل بين الجنوب والشمال. وعلى هذا النحو وضعت بنود اتفاقية نيفاشا وجرى تطبيقها. وعلى مدى المرحلة الانتقالية التي بدأت عام 2005 أخذ السودانيون يرون ملامح الانفصال في الجنوب تتبلور وتتجسد على أرض الواقع:
حكومة حكم ذاتي لها جيش مستقل (قوات حركة قرنق نفسها) وبنك مركزي ومكاتب في عواصم إقليمية وعالمية، هي عملياً بعثات دبلوماسية.. بل ولها علم خاص..
علما بأنه وفقا للاتفاقية لا يخضع الجيش الجنوبي لسلطات رئيس الجمهورية في المركز باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، وإنما يخضع فقط لرئيس حكومة الجنوب.
تأسيسا على هذا كله يبقى سؤال كبير: لماذا تريد الولايات المتحدة قيام دولة مستقلة في جنوب السودان مما يجعلها تحبذ خيار الانفصال؟
لنستذكر أولا أن حركة التمرد الجنوبية في مختلف مراحلها منذ خمسينات القرن الماضي ظلت حركة معادية تماما للهويتين العربية الإسلامية في السودان، انطلاقا من أن أغلبية أهل الجنوب ليسوا عربا وليسوا مسلمين.
وحتى يومنا هذا تتبنى «الحركة الشعبية» كأحدث تنظيم للتمرد الجنوبي أجندة تدعو إلى فصم انتماء السودان إلى المحيط العربي والإسلامي، ليكون انتماؤه الإفريقي بديلاً، خاصة في المنظور الديني المسيحي.
من المؤكد إذن أنه لو قامت دولة مستقلة في جنوب السودان فإنها ستكون دولة إفريقية ذات طابع معادٍ للثقافة العربية والانتماء الإسلامي.
نستطيع أن نستنتج إذن أن تحبيذ الولايات المتحدة لتحول الجنوب السوداني إلى دولة مستقلة من خلال استفتاء عام يقوم على منظومة أجندة مرسومة سلفاً لجعل الدولة الجديدة قاعدة كبرى لمحاربة المد الإسلامي في عمق إفريقيا، وبخاصة الشرق الإفريقي (كينيا وأوغندا وتنزانيا).
ومما لا شك فيه أن الأجندة الأميركية تتطابق في هذا السياق مع الأجندة الإسرائيلية، خاصة إذا استدعينا إلى الأذهان ارتباط حركة التمرد الجنوبية في مراحلها المبكرة خلال عقد الستينات مع إسرائيل. فقد كانت تعتمد عسكريا على إسرائيل من حيث إمدادات الأسلحة وتدريب المقاتلين.
هذه هي الصورة المرتقبة على المستوى النظري. لكن الأمر قد يختلف لاحقا على المستوى العملي. ذلك انه من المؤكد أن تندلع فور إعلان قيام الدولة الجنوبية المستقلة حرب أهلية جنوبية - جنوبية ذات طابع قبلي داخل الدولة الوليدة، على غرار ما جرى بين التوتسي والهوتو في رواندا وبورندي.
خلال العام المنصرم اشتعلت الحرب القبلية في الجنوب بالفعل، حيث أدت إلى مقتل 2500 شخص. قيام الدولة الجنوبية المستقلة ليس موضع شك كبير. لكن الجنوب قد يتحول إلى صومال أخرى.
*نقلا عن "البيان" الإماراتية.