منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#27279
يطرح عدد من المفكرين الغربيين، خاصة الأمريكيين منهم، فكرة صراع الحضارات أو صدامها باعتبارها حتميةً، وهم هنا يقعون فيما وقعت فيه نظرية الحتمية التاريخية، التي تهافتت وأصبحت من مخلفات التاريخ الفكري للبشرية في القرنين التاسع عشر والعشرين. ويأتي صامويل هنتنغتون في مقدمة هؤلاء المفكرين، حيث أصدر في عام 1996 م كتابه الشهير "صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي"، وفرانسيس فوكوياما الذي أصدر كتابه الشهير أيضاً "نهاية التاريخ".
والقول بحتمية صراع الحضارات أو صدامها، يُجَافي سنة التاريخ ويتعارض مع طبيعة الحضارة، فالحضارة لا طابع عرقي لها، وهي لا ترتبط بجنس من الأجناس، ولا تنتمي إلى شعب من الشعوب، على الرغم من أن الحضارة قد تنسب إلى أمة من الأمم، أو إلى منطقة جغرافية من مناطق العالم على سبيل التعريف ليس إلاَّ، بخلاف الثقافة التي هي رمزٌ للهوية، وعنوانٌ على الذاتية، وتعبيرٌ عن الخصوصيات التي تتميز بها أمة من الأمم، أو يتفرّدُ بها شعبٌ من الشعوب.
والحضارة هي وعاءٌ لثقافات متنوعة تعدّدت أصولها ومشاربها ومصادرها، فامتزجت وتلاقحت، فشكّلت خصائص الحضارة التي تعبّر عن الروح الإنسانية في إشراقاتها وتجلياتها، وتعكس المبادئ العامة التي هي القاسم المشترك بين الروافد والمصادر والمشارب جميعاً.
ولكلّ حضارة مبادئ عامةٌ تقوم عليها، تنبع من عقيدة دينية، أو من فلسفة وضعية، حتى وإن تعدّدت العقائد والفلسفات، فإنَّ الخصائص المميزة للحضارة، تُستمدّ من أقوى العقائد رسوخاً وأشدّها تمكّناً في القلوب والعقول ومن أكثرها تأثيراً في الحياة العامة، بحيث تصطبغ الحضارة بصبغة هذه العقيدة، وتنسب إليها، فتكون النسبة صحيحةً، لصحة المبادئ التي تستند إليها، ومثال ذلك الحضارةُ الإسلامية.
والحضارات الكبرى التي عرفها تاريخ البشرية تَتَفَاوَتُ فيما بينها في موقفها من المادية والروحية، فمنها ما يغلب عليه الجانب المادي، ومنها ما يغلب عليه الجانب الروحي، ومنها ما يسوده التوازنُ بينهما. فهي إذن، سلسلة متعاقبة من الحضارات التي تخلي كلُّ واحدة منها المجالَ لما سوف يتلوها من حضارة أخرى، مما جعل كثيراً من الباحثين في مجال دراسة الحضارات يذهبون إلى القول بوجود التماثُل والتطابُق بين الكثير من هذه الحضارات(6). والتماثل والتطابق لا يدعان مجالاً للصراع.
ولذلك، فإن الحضارات لا تتصارع، وإنما تَتَدَافَعُ وتَتَلاقَحُ ويكمل بعضها بعضاً، وتَتَعَاقَبُ وتَتَواصَلُ، لأنها خلاصة الفكر البشري والإبداع الإنساني وحركة التاريخ التي هي، في المفهوم الإسلامي، سنة اللَّه في الكون. فالصراع بين الحضارات، ليس وارداً، لأن دورات التاريخ تطَّرِدُ وفق المشيئة الإلهية، ولأن التاريخ هو من صنائع الله، والإنسان الذي يؤثر في مسار التاريخ ويصوغه ويُبدع فيه، هو من أكرم خلق اللَّه.
والتدافع الحضاري مفهومٌ قرآنيٌّ، وهو جامعٌ للمعاني والدلالات التي تؤكد بطلان نظرية صراع الحضارات من الأساس. يقول اللَّه تعالى :{ ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}(7)، ويقول عزَّ من قائل: { ولو لا دفع اللَّه الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم اللَّه كثيراً}(8). ويأمر اللَّه عباده بالدفع بالتي هي أحسن في جميع الأحوال، في قوله تعالى :{ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليًّ حميم}(9)، ويقول عز وجلّ : { ادفع بالتي هي أحسن السيئةَ نحن أعلم بما يصفون} (10).
ودفع اللَّه الناس بعضهم ببعض يُلغي الصراع ويبطل زعمه، لأن هذا (الدفع) هو الذي يمنع فساد الأرض ويحول دونه. وينبغي أن نتنبَّه في هذا السياق إلى الفرق الدقيق بين (فساد الأرض) و(الفساد في الأرض)، فالمعنى الأول الوارد في الآية القرآنية الواحدة والخمسين بعد المائتين من سورة البقرة، ينصرف إلى فساد الأرض باختلال النظام الذي وضعه الخالق سبحانه لحياة البشر فوقها، الذي إذا اختل واضطرب، فسدت الأرض. وهذا مظهرٌ من مظاهر الصراع، وهو الوضع الذي ينتج عن احتدام الصراع بين الحضارات والثقافات. أما المعنى الثاني وهو (الفساد في الأرض) فهو ينصرف إلى الفساد الذي ينتج عن أفعال البشر، وهو من طبائع الأشياء.
والحياة الإنسانية قائمة على أساس (دفع اللَّه الناس بعضهم ببعض)، فهذا هو القانون الأزلي للبشر فوق الأرض، وهو سنة الله ولن تجد لسنة تبديلاً. وبذلك تتهاوى مزاعم الصراع، وتسقط افتراضاته، وتتهافت حتمياته.
وعلى هذا الأساس، فإن مصير الحضارات لم يكن عبر التاريخ كلِّه، صراعاً وصداماً، ولكنه، من حيث الجوهر والعمق كان تدافعاً، وكان دائماً وبصورة مطّردة، يسير في الاتجاه الصاعد إلى ازدهار الحياة بتراكم العطاء الحضاري في مختلف مجالاته، وإلى الرقيّ بالإنسان الذي استخلفه في الأرض لعمارتها، بينما الصراع يتّجه نحو الإفساد في الأرض.
ونخلص من هذا إلى أن صراع الحضارات ليس حتميةً من حتميات التاريخ، كما تقول النظرية الماركسية، وكما يدعي المنظّرون المعاصرون الذين يرسمون معالم سياسة الهيمنة والغطرسة والقوة لقهر إرادات شعوب العالم.