- الجمعة مايو 28, 2010 5:00 pm
#27297
طعنت إسرائيل والولايات المتحدة وتبعتها بعض الدول الأوروبية بصلاحية محكمة العدل الدولية في البت في قضية السور الفاصل معتبرة القضية سياسية وليست قانونية. في الواقع، تنص الفقرة 96 من ميثاق الأمم المتحدة بأن الجمعية العامة ومجلس الأمن، بالإضافة إلى المؤسسات الأخرى التي تخولها الجمعية العامة بهذا الحق، يمكنها أن تطلب رأياً استشارياً من المحكمة في أي مسألة قانونية بينما تنص الفقرة 65 من قانون محكمة العدل الدولية بأنه يمكن للمحكمة تقديم رأي استشاري في أي مسألة قانونية؛ بكلمات أخرى، إن كانت قضية السور الفاصل هي قضية سياسية، فليس للمحكمة الحق بتقديم الرأي الاستشاري. هذا يعني بأنه على المحكمة –قبل البت في محتوى الطلب- أن تقرر: أولاً، إذا كانت القضية قانونية (بما أن تقديمها تم من قبل الجمعية العامة المخولة بذلك فإن المحكمة تفترض مبدئياً وجود صلاحية لها، لكنه من الممكن أن تقوم المحكمة، بعد أن تلقت النصوص المكتوبة من الدول والمؤسسات المعنية، وسمعت المرافعات أن تقرر عكس ذلك تماماً)؛ ثانياً، إن قضت بأن القضية هي قانونية أيضاً (ليس بالضرورة أن تكون القضية قانونية بحتة لأنه من الصعب الفصل بشكل كامل بين ما هو قانوني وما هو سياسي خصوصاً في النظام الدولي الحالي) على المحكمة أن تحدد العناصر القانونية في الطلب وتجيب عليها فقط إذ أن ليس لها الحق –ولا المصلحة- في الدخول في قضايا سياسية عالقة بين الدول؛ ثالثاً، ستأخذ المحكمة بمحمل الجد معارضة إسرائيل والولايات المتحدة وتحفظات بعض الدول الأوروبية أيضاً إذ أن ذلك قد يؤثر على هيبتها بكونها الجهاز القضائي الأعلى في نظام الأمم المتحدة؛ رابعاً، يبقى المجال مفتوحاً للمحكمة برفض تقديم رأيٍِ استشاري بحسب الفقرات التي ذكرناها سابقاً وإن كانت القضية قانونية للأسباب التي سنتطرق إليها لاحقاً.
عملياً، أصدرت محكمة العدل الدولية 24 رأياً استشارياً ولم ترفض حتى الآن البت في أي قضية بسبب كونها سياسية بحتة؛ في الوقت نفسه لم تمارس المحكمة إلى الآن حقها في رفض تقديم رأيٍ استشاري حتى أن بعض فقهاء القانون يعتبر أن ممارسة المحكمة قد ألغت حقاً يضمنه ميثاق الأمم المتحدة والقانون الأساسي للمحكمة. المرة الوحيدة التي رفضت المحكمة فيه تقديم الرأي الاستشاري سنة 1996، لم يكن بسبب أن القضية سياسية أو لأن المحكمة مارست حقها بعدم البت في تلك القضية، بل كان بسبب "غياب الصلاحية" إذ أن طلب مؤسسة الصحة الدولية (حول قانونية استعمال الأسلحة النووية في النزاعات المسلحة) لم يكن ضمن نشاطاتها؛ والدليل على ذلك هو أن نفس الطلب قد تم البت فيه عندما تم تقديمه من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة. تكفي مقارنة سريعة مع المحكمة الدائمة للقانون للعدل الدولي كي نكتشف أن هنالك ثلاث نقاط مختلفة وجديدة من حيث: أولاً، صاحب الحق في طلب الرأي الاستشاري؛ ثانياً، محتوى الطلب الاستشاري؛ إمكانية أو ضرورة البت في القضية؛ كالتالي:
المحكمة الدائمة للعدل الدولي
محكمة العدل الدولية
تأسست
1922 – 1946
1946 وريثة المحكمة الدائمة للعدل الدولي
الموقع
لاهاي في هولندا – قصر السلام
لاهاي في هولندا – قصر السلام
الوظيفة
الجهاز القضائي لعصبة الأمم
الجهاز القضائي للأمم المتحدة (وريثة عصبة الأمم)
المادةالتي تخص الرأي الاستشاري
المادة 14 من ميثاق عصبة الأمم و65 من القانون الأساسي للمحكمة
المادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة والمادة 65 من القانون الأساسي للمحكمة (بالإضافة إلى المادة 102 من قواعد المحكمة)
المخول بطلب الرأي الاستشاري
الهيئة العامة ومجلس عصبة الأمم فقط
الجمعية العامة ومجلس الأمن + الأجهزة والمؤسسات المتخصصة بتخويل من الجمعية العامة وضمن نشاطاتها
موضوع الطلب
أي قضية
قضية قانونية
قرار المحكمة
يجب أن تقدم المحكمة رأياً استشارياً
يمكن للمحكمة أن تقدم رأياً استشارياً
الرأي الاستشاري ليس ملزماً
يبدو بديهياً أن يكون الرأي "الاستشاري" غير ملزم للدول المعنية إذ أن القاعدة العامة في القانون الدولي تنص على ضرورة موافقة الدول المعنية على أن تقوم محكمة ما بالبت في النزاعات المتعلقة بها؛ وعندها فقط يكون قرار المحكمة ملزماً لها؛ بمعنى آخر، ليس في نية المحكمة (ولا الدول الأعضاء في الأمم المتحدة) أن تقوم المحكمة باستبدال الدول في حل نزاعاتها. كما أن الرأي الاستشاري غير ملزم للجهاز الذي طلبه وهذا منطقي إذ أن غير ذلك يعني بالضرورة الالتفاف على ميثاق الأمم المتحدة ورغبة الدول التي تبنته؛ في الوقت نفسه، لا يوجد ما يمنع أن يقوم الجهاز المعني في قانونه الأساسي أو بعض الدول بإلزام نفسها مسبقاً بقرارات محكمة العدل الدولية التي تخصها.
طبيعة الرأي الاستشاري الغير ملزمة هذه لا تعني أن ليس لذلك الرأي قيمة؛ في الواقع، أخذت الجمعية العامة والأجهزة الأخرى الرأي الاستشاري دائماً بمحمل الجد واتخذته إطاراً لعملها. لكن، حتى وإن فرضنا نظرياً أن الجهاز الذي قدم الطلب رفض الرأي الاستشاري واختار حلولاً أخرى فإنه لن يستطيع أن يخالف المحكمة فيما وجدته وتوصلت إليه من حيث أن محكمة العدل الدولية هي الجهاز القضائي الوحيد المخول في ذلك؛ هذا يعني أن الرأي الاستشاري ليس ملزماً بحد ذاته لكن له وزن كبير جداً من حيث أنه قرار موثق في القانون الدولي يمكن الاعتماد عليه؛ بكلمات أخرى، ليس الرأي الاستشاري رأياً ملزماً قانونياً إلا أنه ملزماً أخلاقياً. في نظام عصبة الأمم كان اللجوء إلى المحكمة الدائمة للعدل الدولي طريقة يطلب فيها المجلس الدعم من المحكمة إلا أن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية في نظام الأمم المتحدة أصبح طريقة لممارسة ضغوطات على أقلية في الجمعية العامة.
بما أن الرأي الاستشاري موجه إلى جهاز الأمم المتحدة صاحب الطلب والأجهزة الأخرى، وبما أنه غير ملزم بحد ذاته، فإن موافقة الدول المعنية غير ضرورية؛ في الواقع، يمكن للرأي الاستشاري أن يتعلق بقضية مجردة ولكن لا شيء يمنع من أن يكون محتوى طلب الرأي أيضاً قضية واقعية ومتعلقة ببعض الدول، وحتى وإن كانت القضية عالقة بين دولتين أو أكثر شرط أن تكون القضية قانونية؛ وبالتالي فإن رفض صلاحية المحكمة يعني رفض الدولة لدور المحكمة القضائي الملزم، وهو دور لم ولن تنوي المحكمة أن تلبسه عند بت الرأي الاستشاري. إن معارضة إسرائيل والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وإن اختلفت الدوافع (الطعن في قانونية قضية السور، عدم ملائمة طلب الرأي الاستشاري لنتائجه السياسية الكبيرة) لا يؤثر مبدئياً على صلاحية المحكمة؛ بل أكثر من ذلك، على المحكمة أن تُصدر رأياً استشارياً دون اعتبار للدوافع السياسية وراء قرار طلب الرأي، ولا حتى نسبة التصويت: المهم هو أن يتم تبني الطلب من قبل الجهاز المخول ضمن الأكثرية المطلوبة. لقد قدمت إسرائيل نصاً مكتوباً تعترض فيه على صلاحية المحكمة ضمن الوقت المحدد لذلك ولكنها رفضت المشاركة في المرافعات الشفهية؛ إن عدم مشاركة الدولة وتعاونها لا يؤثر على صلاحية المحكمة؛ المهم هو أن يكون بمقدور المحكمة تقصي الحقائق الضرورة بطريقة يكون فيها الرأي الاستشاري مبنياً على أساسات متينة؛ هذا يفسر إمكانية المحكمة أن تقرر عدم القيام بمرافعات شفهية إن كان ما تم تقديمه كتابة كافياً لتحقيق هدفها.
ما هو "القانوني" وما هو "السياسي"؟
توصلنا إذن بأن الرأي الاستشاري الذي تصدره محكمة العدل الدولية –مع أهميته- ليس ملزماً قانونياً للدول المعنية ولا حتى للجهاز الذي قدم الطلب؛ ورأينا أن موافقة الدول المعنية وتعاونها –مع أهميتها- لا تؤثر على صلاحية محكمة العدل الدولية. لكن هنالك شرط أساسي وهو أن تكون القضية "قانونية"؛ غير ذلك يعني بأن المحكمة ملزمة، بحسب ميثاق الأمم المتحدة وقانونها الأساسي. في الوقت نفسه، نلاحظ أن ظاهرة الطعن في قانونية القضية المعروضة أمام المحكمة ليست حديثة بل رافق هذا الهاجس عمل المحكمة منذ أيامها الأولى وهذا طبيعي خصوصاً عندما تكون القضية مرتبطة بمسألة عالقة بين الدول -إذ أنه ليس بالضرورة أن تكون القضية مجردة وإن يتم عادة صياغة الطلب بطريقة قانونية مجردة- وذلك لأن العلاقات بين الدول مرتبطة بمصالح مختلفة، قد تعطي للقضية –وإن كانت قانونية أصلاً- طابعاً سياسياً أيضاً.
بحسب المحكمة، أي قضية يمكن صياغتها قانونياً وتخلق مشاكل بحسب القانون الدولي، يمكن الإجابة عليها قانونياً، وبالتالي تكون القضية قانونية؛ إن تقليد المحكمة هذا تم تثبيته في الفتاوى الاستشارية الحديثة أيضاً؛ فقد أقرت المحكمة بأن قضية التهديد أو استعمال الأسلحة النووية ليست سياسية بحتة إذ أن المطلوب هو البت في قانونيتها على ضوء قواعد ومبادئ القانون الدولي. هذا يعني بأن المحكمة تقوم بدراسة تلك القواعد والمبادئ وتطبيقها على تلك القضية وبالتالي يتم الإجابة على تلك القضية بحسب القانون الدولي؛ وأضافت المحكمة بأن كون القضية لها خلفية سياسية (وهذا طبيعي في العلاقات الدولية) لا يعني بالضرورة بأنها غير قانونية. بكلمات أخرى، قامت المحكمة بتقديم رأي استشاري في كل مرة يمكن تقديم الطلب قانونياً ويمكن الإجابة إليه بحسب القانون الدولي؛ بينما تقوم المحكمة باعتبار القضية سياسية عندما لا يوجد أي أساس قانوني لها.
في الرأي الاستشاري بخصوص العضوية في الأمم المتحدة في 28/5/1948 نقرأ: "لقد تم الجدال مطولاً حول كون القضية قانونية أو سياسية؛ لقد رأت المحكمة بأنه من غير الممكن أن تُعتبر القضية سياسية إذ أن الطلب الذي تم صياغته بشكل مجرد يدعوها للقيام بمهمة قضائية وهي أن تقوم بتفسير ما تنص عليه المعاهدة. إن المحكمة غير معنية بالدوافع التي كانت وراء الطلب ولا ترتبط بالآراء المختلفة الموجودة في مجلس الأمن". وقد تم الاستشهاد بتلك الفقرة في الرأي الاستشاري المتعلق بصلاحية الجمعية العامة لقبول عضوية دولة في الأمم المتحدة في 3/5/1950 وأضافت بأن هذا يعني بأنه "لا يوجد ما يمنع المحكمة من تقديم الرأي الاستشاري للجمعية العامة". ونقرأ في الرأي الاستشاري بخصوص قضية الصحراء الغربية في 16/10/1975 بأنه "قد تم صياغة الطلبين قانونياً بخصوص مشاكل تثيرها في القانون الدولي. هنالك مبدئياً قضايا قانونية وإن تحتوي أيضاً على مسائل مرتبطة بوقائع تاريخية... وبالتالي تكون للمحكمة الصلاحية بالبت في ذلك الطلب"؛ وفي الرأي الاستشاري الذي قدمته المحكمة في 20/12/1980 بخصوص تفسير الاتفاق بين منظمة الصحة العالمية ومصر لسنة 1951 نقرأ: "إن كان محتوى الطلب الذي تم تقديمه للمحكمة يدخل ضمن ممارستها الطبيعية لسلطاتها القضائية، فإنها لن تنظر إلى الدوافع من وراء الطلب"؛ وفي الرأي الاستشاري التي قدمته المحكمة في 15/12/1989 بخصوص حصانة الأمم المتحدة نقرأ: "إن القضية قانونية عندما تتعلق بتفسير معاهدة دولية ولتحديد مجالات تطبيقها". علينا أن ننتظر إذن من محكمة العدل الدولية أن تقوم –كما فعلت دوماً- بتحديد الأسباب التي دفعتها لاعتبار تلك القضية "قانونية"، في الفقرات الأولى من الرأي الاستشاري الذي ستصدره–هذا طبعاً إن افترضنا أنها قررت البت في تلك القضية.
الرأي الاستشاري بين مؤيد ومعارض
قدمت 49 دولة نصاً مكتوباً قبل التاريخ الذي حددته محكمة العدل الدولية وقد عبرت عن مواقف مختلفة بالنسبة لقانونية طلب الرأي الاستشاري، لكن يمكن تلخيصها كالتالي:
أولاً، القضية قانونية ومن المناسب أن تبت بها المحكمة: هذا هو موقف فلسطين والدول العربية طبعاً بالإضافة بعض الدول الأخرى مثل جنوب أفريقيا وسويسرا؛ الأمثلة التي اخترتها هنا غير عشوائي إذ أن جنوب أفريقيا ولدت بعد انتهاء النظام العنصري وكان لمحكمة العدل العليا والرأي الاستشاري الذي أصدرته دوراً هاماً في ذلك وبالتالي فإن رأيها له دلالات كثيرة هنا؛ في الوقت نفسه من الأهمية بمكان أن نعتبر رأي الحكومة السويسرية لكونها أولاً، "حامية" اتفاق جنيف؛ ثانياً، لكونها تشارك في أعمال المحكمة لأول مرة كعضو في الأمم المتحدة؛ ثالثاً لأنها امتنعت أولاً عن التصويت ولكنها "غيرت موقفها" نسبياً إذ أنها اعتبرت السور الفاصل مخالف للقانون الدولي ودعت المحكمة للبت في تلك القضية التي تعتبرها قانونية؛ نقرأ في الفقرة 11 من النص الذي قدمته الحكومة السويسرية أن "القضية التي تم تقديمها إلى المحكمة تم وضعها بطريقة قانونية وتثير مشكلة قانون دولي، وهي النتائج "القانونية" للسور الذي تبنيه إسرائيل. أن يكون لها مردودات سياسية لا يسلب القضية صفتها القانونية. أن ترتبط القضية بوقائع لا يعني أنها ليست قضية قانونية بحسب المادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة". وبالتالي فإن سويسرا تؤكد بأن المحكمة لها الصلاحية بتبني الرأي الاستشاري (ملاحظة هامة: لقد حصرت سويسرا اعتباراتها باتفاقية جنيف الرابعة والاتفاقيات التي تعنى بحماية حقوق الإنسان ولكننا لن نخوض هذا الموضوع هنا).
ثانياً، القضية سياسية أو قانونيتها "غير أكيدة" ومن غير الملائم أن تقدم المحكمة رأياً استشارياً: لقد استعانت إسرائيل بأشهر فقهاء القانون الذين كانوا على وعي بصعوبة الطعن في "قانونية قضية السور الفاصل"؛ في الفقرة (2. 5) من النص التي تقدمت به إسرائيل إلى المحكمة نقرأ: "إن القضية التي تم تحويلها إلى محكمة العدل الدولية ليست "قضية قانونية" بحسب المادة 96 (1) من ميثاق الأمم المتحدة والمادة 65 من القانون الأساسي للمحكمة؛ إن اعتراض إسرائيل، على الأقل بما يخص صلاحيات المحكمة، ليس مبنياً على اعتبار القضية "سياسية"... بل لكونها غير أكيدة وغير محددة وبالتالي لا يمكن للمحكمة أن تبت بها"؛ إن الموقف الإسرائيلي متناقض: من ناحية تطعن بصلاحية المحكمة على أساس أن القضية ليست "قانونية" ولكنه لا تعتبرها "سياسية" بل تبرر اعتراضها بأن القضية عامة جداً وغير محددة وليس من حق المحكمة تفسير طلب الجمعية العامة بل الإجابة عليه. لكن بحسب تقليد المحكمة، من واجب المحكمة تقديم رأيٍ استشاري على "القانوني" في الطلب، وبالتالي، فإن المحكمة فقط يمكنها أن تقدر ما هي العناصر القانونية في الطلب والإجابة عليها.
ثالثاً، من غير المناسب أن تبت المحكمة رأياً استشارياً: لقد اعتبرت بعض الدول الأوروبية أنه من غير الملائم أن تقوم المحكمة بتقديم الرأي الاستشاري –ولكنها لم تشكك في "قانونية الطلب" وبالتالي لم تطعن صلاحية محكمة العدل الدولية- وسنذكر هنا بعضاً من هذه المواقف الرسمية التي وردت في النصوص التي وردت للمحكمة. تعتقد روسيا بأن المحادثات هي الطريق الوحيد لحل النزاع العربي الإسرائيلي وأضافت بأن "أي قرار للمحكمة، سواء قدمت الرأي الاستشاري أم امتنعت عن ذلك لا يجب أن يؤثر سلبياً على محادثات السلام وعلى خطة الدولتين"؛ أما استراليا فكتبت أن تقديم المحكمة للرأي الاستشاري في هذه القضية له تأثير سلبي على تطبيق خريطة الطريق وبالتالي "فإنه من غير الملائم أن تقدم المحكمة الرأي الاستشاري المطلوب"؛ أما إيطاليا فقد أكدت بأن هنالك الكثير من النقاط المؤيدة لأن ترفض المحكمة تقديم الرأي الاستشاري في هذه القضية؛ أما ايرلندا (باسم الاتحاد الأوروبي) فإنها بررت اعتقادها بأن تقديم الرأي الاستشاري غير ملائم بكونه "لا يساعد الأطراف للعودة من جديد إلى الحوار السياسي؛ كذلك أسبانيا التي ذكرت أن "تقديم الرأي الاستشاري من قبل محكمة العدل الدولية غير مناسب".
هل ومتى يمكن للمحكمة رفض تقديم الرأي الاستشاري
بعد أن تناولنا بتعمق صلاحيات محكمة العدل الدولية من جهة وعملها القضائي والفقه القانوني بعد 58 سنة من عمل المحكمة و24 رأي استشاري من جهة أخرى، توصلنا إلى كون قضية السور الفاصل قانونية. أن تكون كذلك يعني بأن محكمة العدل الدولية تملك الصلاحية لتبني الرأي الاستشاري لكن هذا لا يعني بالضرورة بأن المحكمة ستبت في تلك القضية وإن كان هذا هو الوضع الطبيعي إذ أن المحكمة هو الجهاز القضائي للأمم المتحدة وبالتالي تساهم من خلال الرأي الاستشاري في عمل تلك المؤسسة الدولية؛ بحسب نص ميثاق الأمم المتحدة والقانون الأساسي للمحكمة بالإضافة إلى تقليد المحكمة القضائي وتفسير فقهاء القانون هنالك أسباب "خطيرة" قد تدعو إلى أن تتبنى المحكمة قراراً بعدم تقديم الرأي الاستشاري المطلوب. تحديد طبيعة هذه الأسباب الخطيرة ليست مهمة سهلة ولكننا نريد هنا أن نؤكد فوراً بأنه لا يمكن اعتبار التصويت على القرار أو الخلفية السياسية للقضية أو مواقف القوى العظمى "أسباب خطيرة" بحسب تفسير المحكمة لهذا المصطلح (الخلط ممكن جداً، تكفي قراءة سطحية للنص الذي قدمته الحكومة الإيطالية مثلاً) ولكنها تبقى مؤشرات متفاوتة الأهمية يمكن أن تأخذها المحكمة بعين الاعتبار. بالإضافة إلى ذلك، يعتقد بعض فقهاء القانون بأنه على المحكمة أن تتأكد، قبل البت في القضية، من عدم وجود أسباب خطيرة تمنعها من البت في تلك القضية. إننا نعتقد بأنه على المحكمة التأكد من "قانونية" القضية فقط وهذا طبيعي ومنطقي لأن على ذلك تعتمد صلاحية المحكمة ولكنها ليست ملزمة –مبدئياً- بأن تبحث عن مبررات أخرى إذ أن الطبيعي هو أن تقوم المحكمة بتقديم الرأي الاستشاري (مع وعينا طبعاً بأن الإجراءات القانونية تختلف هنا لكونها تتعلق برأي استشاري)؛ بكلمات أخرى: لا يوجد ما يمنع المحكمة من تقديم الرأي الاستشاري إلا إذا تم إثبات عكس ذلك؛ هذه التفصيلة ضرورية جداً، وهي شبيهة (mutatis mutandis) بمبادئ القانون الجنائي الأساسية "المجرم بريء حتى تثبت إدانته" أو "على من يطعن بالشيء أن يقدم الإثبات".
بحسب النص الذي قدمته سويسرا يمكن أن نعتبر ثلاث حالات: أولاً: أن يكون الرأي الاستشاري استبدالاً للدول في حل نزاعها وبالتالي مخالف للمبدأ القائم على ضرورة موافقة الدول المعنية؛ ثانياً، عدم وجود مصادر معلومات كافية لتقديم الرأي الاستشاري؛ ثالثاً، أن يكون الرأي الاستشاري غير ملائم سياسياً. وهي لا تنطبق بحسب الموقف السويسري على قضية السور الفاصل للأسباب التالية: أولاً، القضية مرتبطة بقانون يسري على الجميع وبالتالي فهي غير محصورة بالدول المعنية فقط؛ ثانياً، لأن هنالك معلومات كافية مثل تقرير الأمين العام والمؤسسات الأخرى للأمم المتحدة؛ ثالثاً، لأنه على المحكمة تحديد إن كان الرأي الاستشاري ملائماً وبالتالي تقديم الرأي الاستشاري المبني على القانون. وبالتالي فإن سويسرا "تعتقد بأنه لا توجد أسباب خطيرة تدعو إلى رفض تقديم الرأي الاستشاري" (الفقرة 25). بحسب تقليد المحكمة وتفسير فقهاء القانون، يبدو واضحاً أن تلك الأسباب التي تدفع القضاة برفض تقديم الطلب ترتبط بكون ذلك قد يؤدي إلى التقليل من اعتبار المحكمة والثقة بها كالجهاز القضائي للأمم المتحدة وبالتالي لتجنب أن ترتبط بمصالح مجموعة معينة على حساب مجموعة أخرى. بكلمات أخرى، للمحكمة التقدير بملائمة أو عدم ملائمة تقديم الرأي الاستشاري بطريقة يؤدي به هدفه وليس أهداف أخرى.
خاتمة
إذا تمعنا في التعليقات الصحفية حول الموضوع نلاحظ أن هنالك خلط بين الدوافع للتأييد أو الرفض أو الامتناع عن التصويت على القرار دإط 10/14 القاضي بطلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية (بالترتيب 90 -8 -74) وبين محتوى الطلب نفسه. ففي الحالة الأولى تغلبت المصالح السياسية لكن هذا لا يؤثر على محتوى الطلب نفسه وهو قانوني، إذ أن القضية الأساسية هنا هي أن المحكمة ستنظر –بحسب نص الطلب- في قضية السور الفاصل على ضوء: أولاً، قواعد ومبادئ القانون الدولي (ومنها جنيف الرابعة)؛ ثانياً، قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة؛ إن مهمة القضاة ليست سهلة إذ أن هنالك كمٌّ هائل من القوانين والقرارات ولكنها مع ذلك محددة بنصوص تلك القوانين والقرارات وستكتفي بقراءتها على ضوء واقع السور الذي تبنيه إسرائيل في الأراضي المحتلة. هنالك اختلافات بين قانون إسرائيل الداخلي والقانون الدولي على قضايا أساسية (كالوضع القانوني للأراضي الفلسطينية وتطبيق جنيف الرابعة عليها مثلاً) لكن من المؤكد بأن القضاة سيحكمون بحسب قواعد ومبادئ القانون الدولي وليس بحسب قانون إسرائيل الداخلي؛ بالتالي فإنهم سيعتبرون الأراضي الفلسطينية أراضٍ محتلة وليست متنازع عليها كما تدعي إسرائيل، وستعتبر اتفاقية جنيف الرابعة سارية على الأراضي الفلسطينية de iure أيضاً وليس de facto كما تعتبر إسرائيل.
أن يتم إثبات أن القضية قانونية لا يعني أننا قد ربحناها: إن معركة الرأي الاستشاري لم تُحسم بعد، ويمكننا أن ننتظر المفاجئات (ملاحظة: من المتوقع أن يتم تقديم الرأي الاستشاري في بداية نيسان!). لا شك أن لذلك القرار أهمية خاصة ليس فقط للفلسطينيين، بل –كما أدلى مسئول سويسري رفيع المستوى- لكل العالم لأن المحكمة ستقدم رأياً استشارياً حول تطبيق القانون الدولي (وخصوصاً الإنساني) في الأراضي الواقعة تحت الاحتلال، وهي بالتالي تشكل سابقة تاريخية يمكن تطبيقها على الوضع الحالي في العراق وفي مناطق أخرى في العالم (في الواقع هذا هو تخوف الولايات المتحدة وبريطانيا بشكل خاص).
لكن فلنفرض أن المحكمة قامت بتبني الرأي الاستشاري ولنفرض أن الرأي الاستشاري جاء بالطريقة التي نبتغيها فإن ذلك لا يعني بالضرورة بأن إسرائيل ستتوقف عن بناء السور إذ أن المشكلة الحقيقية تبقى كيفية إلزام إسرائيل –وكل الدول المحتلة- بتطبيق القانون الإنساني ضمن النظام الدولي الحالي؟ هذا يعني بأن الرأي الاستشاري سيكون البداية –وليس الخاتمة كما قد يعتقد البعض- لمسيرة طويلة تحتاج منا -ومن كل من يحترم حقوق الإنسان ويعتني بتطبيقها- إلى رصّ الصفوف داخلياً وخارجياً والعمل بطريقة منسقة كي "نستغل" ذلك الرأي الاستشاري للضغط على إسرائيل عالمياً ومحلياً ليس فقط لوقف بناء السر الفاصل بل أيضاً لإنهاء الاحتلال على الأراضي الفلسطينية؛ هذا يحتاج إلى تفكير وعمل جدي وسريع وإلا سيكون الرأي الاستشاري واحدة من سلسلة من الفرص الضائعة في تاريخنا الفلسطيني، وللأسف
عملياً، أصدرت محكمة العدل الدولية 24 رأياً استشارياً ولم ترفض حتى الآن البت في أي قضية بسبب كونها سياسية بحتة؛ في الوقت نفسه لم تمارس المحكمة إلى الآن حقها في رفض تقديم رأيٍ استشاري حتى أن بعض فقهاء القانون يعتبر أن ممارسة المحكمة قد ألغت حقاً يضمنه ميثاق الأمم المتحدة والقانون الأساسي للمحكمة. المرة الوحيدة التي رفضت المحكمة فيه تقديم الرأي الاستشاري سنة 1996، لم يكن بسبب أن القضية سياسية أو لأن المحكمة مارست حقها بعدم البت في تلك القضية، بل كان بسبب "غياب الصلاحية" إذ أن طلب مؤسسة الصحة الدولية (حول قانونية استعمال الأسلحة النووية في النزاعات المسلحة) لم يكن ضمن نشاطاتها؛ والدليل على ذلك هو أن نفس الطلب قد تم البت فيه عندما تم تقديمه من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة. تكفي مقارنة سريعة مع المحكمة الدائمة للقانون للعدل الدولي كي نكتشف أن هنالك ثلاث نقاط مختلفة وجديدة من حيث: أولاً، صاحب الحق في طلب الرأي الاستشاري؛ ثانياً، محتوى الطلب الاستشاري؛ إمكانية أو ضرورة البت في القضية؛ كالتالي:
المحكمة الدائمة للعدل الدولي
محكمة العدل الدولية
تأسست
1922 – 1946
1946 وريثة المحكمة الدائمة للعدل الدولي
الموقع
لاهاي في هولندا – قصر السلام
لاهاي في هولندا – قصر السلام
الوظيفة
الجهاز القضائي لعصبة الأمم
الجهاز القضائي للأمم المتحدة (وريثة عصبة الأمم)
المادةالتي تخص الرأي الاستشاري
المادة 14 من ميثاق عصبة الأمم و65 من القانون الأساسي للمحكمة
المادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة والمادة 65 من القانون الأساسي للمحكمة (بالإضافة إلى المادة 102 من قواعد المحكمة)
المخول بطلب الرأي الاستشاري
الهيئة العامة ومجلس عصبة الأمم فقط
الجمعية العامة ومجلس الأمن + الأجهزة والمؤسسات المتخصصة بتخويل من الجمعية العامة وضمن نشاطاتها
موضوع الطلب
أي قضية
قضية قانونية
قرار المحكمة
يجب أن تقدم المحكمة رأياً استشارياً
يمكن للمحكمة أن تقدم رأياً استشارياً
الرأي الاستشاري ليس ملزماً
يبدو بديهياً أن يكون الرأي "الاستشاري" غير ملزم للدول المعنية إذ أن القاعدة العامة في القانون الدولي تنص على ضرورة موافقة الدول المعنية على أن تقوم محكمة ما بالبت في النزاعات المتعلقة بها؛ وعندها فقط يكون قرار المحكمة ملزماً لها؛ بمعنى آخر، ليس في نية المحكمة (ولا الدول الأعضاء في الأمم المتحدة) أن تقوم المحكمة باستبدال الدول في حل نزاعاتها. كما أن الرأي الاستشاري غير ملزم للجهاز الذي طلبه وهذا منطقي إذ أن غير ذلك يعني بالضرورة الالتفاف على ميثاق الأمم المتحدة ورغبة الدول التي تبنته؛ في الوقت نفسه، لا يوجد ما يمنع أن يقوم الجهاز المعني في قانونه الأساسي أو بعض الدول بإلزام نفسها مسبقاً بقرارات محكمة العدل الدولية التي تخصها.
طبيعة الرأي الاستشاري الغير ملزمة هذه لا تعني أن ليس لذلك الرأي قيمة؛ في الواقع، أخذت الجمعية العامة والأجهزة الأخرى الرأي الاستشاري دائماً بمحمل الجد واتخذته إطاراً لعملها. لكن، حتى وإن فرضنا نظرياً أن الجهاز الذي قدم الطلب رفض الرأي الاستشاري واختار حلولاً أخرى فإنه لن يستطيع أن يخالف المحكمة فيما وجدته وتوصلت إليه من حيث أن محكمة العدل الدولية هي الجهاز القضائي الوحيد المخول في ذلك؛ هذا يعني أن الرأي الاستشاري ليس ملزماً بحد ذاته لكن له وزن كبير جداً من حيث أنه قرار موثق في القانون الدولي يمكن الاعتماد عليه؛ بكلمات أخرى، ليس الرأي الاستشاري رأياً ملزماً قانونياً إلا أنه ملزماً أخلاقياً. في نظام عصبة الأمم كان اللجوء إلى المحكمة الدائمة للعدل الدولي طريقة يطلب فيها المجلس الدعم من المحكمة إلا أن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية في نظام الأمم المتحدة أصبح طريقة لممارسة ضغوطات على أقلية في الجمعية العامة.
بما أن الرأي الاستشاري موجه إلى جهاز الأمم المتحدة صاحب الطلب والأجهزة الأخرى، وبما أنه غير ملزم بحد ذاته، فإن موافقة الدول المعنية غير ضرورية؛ في الواقع، يمكن للرأي الاستشاري أن يتعلق بقضية مجردة ولكن لا شيء يمنع من أن يكون محتوى طلب الرأي أيضاً قضية واقعية ومتعلقة ببعض الدول، وحتى وإن كانت القضية عالقة بين دولتين أو أكثر شرط أن تكون القضية قانونية؛ وبالتالي فإن رفض صلاحية المحكمة يعني رفض الدولة لدور المحكمة القضائي الملزم، وهو دور لم ولن تنوي المحكمة أن تلبسه عند بت الرأي الاستشاري. إن معارضة إسرائيل والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وإن اختلفت الدوافع (الطعن في قانونية قضية السور، عدم ملائمة طلب الرأي الاستشاري لنتائجه السياسية الكبيرة) لا يؤثر مبدئياً على صلاحية المحكمة؛ بل أكثر من ذلك، على المحكمة أن تُصدر رأياً استشارياً دون اعتبار للدوافع السياسية وراء قرار طلب الرأي، ولا حتى نسبة التصويت: المهم هو أن يتم تبني الطلب من قبل الجهاز المخول ضمن الأكثرية المطلوبة. لقد قدمت إسرائيل نصاً مكتوباً تعترض فيه على صلاحية المحكمة ضمن الوقت المحدد لذلك ولكنها رفضت المشاركة في المرافعات الشفهية؛ إن عدم مشاركة الدولة وتعاونها لا يؤثر على صلاحية المحكمة؛ المهم هو أن يكون بمقدور المحكمة تقصي الحقائق الضرورة بطريقة يكون فيها الرأي الاستشاري مبنياً على أساسات متينة؛ هذا يفسر إمكانية المحكمة أن تقرر عدم القيام بمرافعات شفهية إن كان ما تم تقديمه كتابة كافياً لتحقيق هدفها.
ما هو "القانوني" وما هو "السياسي"؟
توصلنا إذن بأن الرأي الاستشاري الذي تصدره محكمة العدل الدولية –مع أهميته- ليس ملزماً قانونياً للدول المعنية ولا حتى للجهاز الذي قدم الطلب؛ ورأينا أن موافقة الدول المعنية وتعاونها –مع أهميتها- لا تؤثر على صلاحية محكمة العدل الدولية. لكن هنالك شرط أساسي وهو أن تكون القضية "قانونية"؛ غير ذلك يعني بأن المحكمة ملزمة، بحسب ميثاق الأمم المتحدة وقانونها الأساسي. في الوقت نفسه، نلاحظ أن ظاهرة الطعن في قانونية القضية المعروضة أمام المحكمة ليست حديثة بل رافق هذا الهاجس عمل المحكمة منذ أيامها الأولى وهذا طبيعي خصوصاً عندما تكون القضية مرتبطة بمسألة عالقة بين الدول -إذ أنه ليس بالضرورة أن تكون القضية مجردة وإن يتم عادة صياغة الطلب بطريقة قانونية مجردة- وذلك لأن العلاقات بين الدول مرتبطة بمصالح مختلفة، قد تعطي للقضية –وإن كانت قانونية أصلاً- طابعاً سياسياً أيضاً.
بحسب المحكمة، أي قضية يمكن صياغتها قانونياً وتخلق مشاكل بحسب القانون الدولي، يمكن الإجابة عليها قانونياً، وبالتالي تكون القضية قانونية؛ إن تقليد المحكمة هذا تم تثبيته في الفتاوى الاستشارية الحديثة أيضاً؛ فقد أقرت المحكمة بأن قضية التهديد أو استعمال الأسلحة النووية ليست سياسية بحتة إذ أن المطلوب هو البت في قانونيتها على ضوء قواعد ومبادئ القانون الدولي. هذا يعني بأن المحكمة تقوم بدراسة تلك القواعد والمبادئ وتطبيقها على تلك القضية وبالتالي يتم الإجابة على تلك القضية بحسب القانون الدولي؛ وأضافت المحكمة بأن كون القضية لها خلفية سياسية (وهذا طبيعي في العلاقات الدولية) لا يعني بالضرورة بأنها غير قانونية. بكلمات أخرى، قامت المحكمة بتقديم رأي استشاري في كل مرة يمكن تقديم الطلب قانونياً ويمكن الإجابة إليه بحسب القانون الدولي؛ بينما تقوم المحكمة باعتبار القضية سياسية عندما لا يوجد أي أساس قانوني لها.
في الرأي الاستشاري بخصوص العضوية في الأمم المتحدة في 28/5/1948 نقرأ: "لقد تم الجدال مطولاً حول كون القضية قانونية أو سياسية؛ لقد رأت المحكمة بأنه من غير الممكن أن تُعتبر القضية سياسية إذ أن الطلب الذي تم صياغته بشكل مجرد يدعوها للقيام بمهمة قضائية وهي أن تقوم بتفسير ما تنص عليه المعاهدة. إن المحكمة غير معنية بالدوافع التي كانت وراء الطلب ولا ترتبط بالآراء المختلفة الموجودة في مجلس الأمن". وقد تم الاستشهاد بتلك الفقرة في الرأي الاستشاري المتعلق بصلاحية الجمعية العامة لقبول عضوية دولة في الأمم المتحدة في 3/5/1950 وأضافت بأن هذا يعني بأنه "لا يوجد ما يمنع المحكمة من تقديم الرأي الاستشاري للجمعية العامة". ونقرأ في الرأي الاستشاري بخصوص قضية الصحراء الغربية في 16/10/1975 بأنه "قد تم صياغة الطلبين قانونياً بخصوص مشاكل تثيرها في القانون الدولي. هنالك مبدئياً قضايا قانونية وإن تحتوي أيضاً على مسائل مرتبطة بوقائع تاريخية... وبالتالي تكون للمحكمة الصلاحية بالبت في ذلك الطلب"؛ وفي الرأي الاستشاري الذي قدمته المحكمة في 20/12/1980 بخصوص تفسير الاتفاق بين منظمة الصحة العالمية ومصر لسنة 1951 نقرأ: "إن كان محتوى الطلب الذي تم تقديمه للمحكمة يدخل ضمن ممارستها الطبيعية لسلطاتها القضائية، فإنها لن تنظر إلى الدوافع من وراء الطلب"؛ وفي الرأي الاستشاري التي قدمته المحكمة في 15/12/1989 بخصوص حصانة الأمم المتحدة نقرأ: "إن القضية قانونية عندما تتعلق بتفسير معاهدة دولية ولتحديد مجالات تطبيقها". علينا أن ننتظر إذن من محكمة العدل الدولية أن تقوم –كما فعلت دوماً- بتحديد الأسباب التي دفعتها لاعتبار تلك القضية "قانونية"، في الفقرات الأولى من الرأي الاستشاري الذي ستصدره–هذا طبعاً إن افترضنا أنها قررت البت في تلك القضية.
الرأي الاستشاري بين مؤيد ومعارض
قدمت 49 دولة نصاً مكتوباً قبل التاريخ الذي حددته محكمة العدل الدولية وقد عبرت عن مواقف مختلفة بالنسبة لقانونية طلب الرأي الاستشاري، لكن يمكن تلخيصها كالتالي:
أولاً، القضية قانونية ومن المناسب أن تبت بها المحكمة: هذا هو موقف فلسطين والدول العربية طبعاً بالإضافة بعض الدول الأخرى مثل جنوب أفريقيا وسويسرا؛ الأمثلة التي اخترتها هنا غير عشوائي إذ أن جنوب أفريقيا ولدت بعد انتهاء النظام العنصري وكان لمحكمة العدل العليا والرأي الاستشاري الذي أصدرته دوراً هاماً في ذلك وبالتالي فإن رأيها له دلالات كثيرة هنا؛ في الوقت نفسه من الأهمية بمكان أن نعتبر رأي الحكومة السويسرية لكونها أولاً، "حامية" اتفاق جنيف؛ ثانياً، لكونها تشارك في أعمال المحكمة لأول مرة كعضو في الأمم المتحدة؛ ثالثاً لأنها امتنعت أولاً عن التصويت ولكنها "غيرت موقفها" نسبياً إذ أنها اعتبرت السور الفاصل مخالف للقانون الدولي ودعت المحكمة للبت في تلك القضية التي تعتبرها قانونية؛ نقرأ في الفقرة 11 من النص الذي قدمته الحكومة السويسرية أن "القضية التي تم تقديمها إلى المحكمة تم وضعها بطريقة قانونية وتثير مشكلة قانون دولي، وهي النتائج "القانونية" للسور الذي تبنيه إسرائيل. أن يكون لها مردودات سياسية لا يسلب القضية صفتها القانونية. أن ترتبط القضية بوقائع لا يعني أنها ليست قضية قانونية بحسب المادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة". وبالتالي فإن سويسرا تؤكد بأن المحكمة لها الصلاحية بتبني الرأي الاستشاري (ملاحظة هامة: لقد حصرت سويسرا اعتباراتها باتفاقية جنيف الرابعة والاتفاقيات التي تعنى بحماية حقوق الإنسان ولكننا لن نخوض هذا الموضوع هنا).
ثانياً، القضية سياسية أو قانونيتها "غير أكيدة" ومن غير الملائم أن تقدم المحكمة رأياً استشارياً: لقد استعانت إسرائيل بأشهر فقهاء القانون الذين كانوا على وعي بصعوبة الطعن في "قانونية قضية السور الفاصل"؛ في الفقرة (2. 5) من النص التي تقدمت به إسرائيل إلى المحكمة نقرأ: "إن القضية التي تم تحويلها إلى محكمة العدل الدولية ليست "قضية قانونية" بحسب المادة 96 (1) من ميثاق الأمم المتحدة والمادة 65 من القانون الأساسي للمحكمة؛ إن اعتراض إسرائيل، على الأقل بما يخص صلاحيات المحكمة، ليس مبنياً على اعتبار القضية "سياسية"... بل لكونها غير أكيدة وغير محددة وبالتالي لا يمكن للمحكمة أن تبت بها"؛ إن الموقف الإسرائيلي متناقض: من ناحية تطعن بصلاحية المحكمة على أساس أن القضية ليست "قانونية" ولكنه لا تعتبرها "سياسية" بل تبرر اعتراضها بأن القضية عامة جداً وغير محددة وليس من حق المحكمة تفسير طلب الجمعية العامة بل الإجابة عليه. لكن بحسب تقليد المحكمة، من واجب المحكمة تقديم رأيٍ استشاري على "القانوني" في الطلب، وبالتالي، فإن المحكمة فقط يمكنها أن تقدر ما هي العناصر القانونية في الطلب والإجابة عليها.
ثالثاً، من غير المناسب أن تبت المحكمة رأياً استشارياً: لقد اعتبرت بعض الدول الأوروبية أنه من غير الملائم أن تقوم المحكمة بتقديم الرأي الاستشاري –ولكنها لم تشكك في "قانونية الطلب" وبالتالي لم تطعن صلاحية محكمة العدل الدولية- وسنذكر هنا بعضاً من هذه المواقف الرسمية التي وردت في النصوص التي وردت للمحكمة. تعتقد روسيا بأن المحادثات هي الطريق الوحيد لحل النزاع العربي الإسرائيلي وأضافت بأن "أي قرار للمحكمة، سواء قدمت الرأي الاستشاري أم امتنعت عن ذلك لا يجب أن يؤثر سلبياً على محادثات السلام وعلى خطة الدولتين"؛ أما استراليا فكتبت أن تقديم المحكمة للرأي الاستشاري في هذه القضية له تأثير سلبي على تطبيق خريطة الطريق وبالتالي "فإنه من غير الملائم أن تقدم المحكمة الرأي الاستشاري المطلوب"؛ أما إيطاليا فقد أكدت بأن هنالك الكثير من النقاط المؤيدة لأن ترفض المحكمة تقديم الرأي الاستشاري في هذه القضية؛ أما ايرلندا (باسم الاتحاد الأوروبي) فإنها بررت اعتقادها بأن تقديم الرأي الاستشاري غير ملائم بكونه "لا يساعد الأطراف للعودة من جديد إلى الحوار السياسي؛ كذلك أسبانيا التي ذكرت أن "تقديم الرأي الاستشاري من قبل محكمة العدل الدولية غير مناسب".
هل ومتى يمكن للمحكمة رفض تقديم الرأي الاستشاري
بعد أن تناولنا بتعمق صلاحيات محكمة العدل الدولية من جهة وعملها القضائي والفقه القانوني بعد 58 سنة من عمل المحكمة و24 رأي استشاري من جهة أخرى، توصلنا إلى كون قضية السور الفاصل قانونية. أن تكون كذلك يعني بأن محكمة العدل الدولية تملك الصلاحية لتبني الرأي الاستشاري لكن هذا لا يعني بالضرورة بأن المحكمة ستبت في تلك القضية وإن كان هذا هو الوضع الطبيعي إذ أن المحكمة هو الجهاز القضائي للأمم المتحدة وبالتالي تساهم من خلال الرأي الاستشاري في عمل تلك المؤسسة الدولية؛ بحسب نص ميثاق الأمم المتحدة والقانون الأساسي للمحكمة بالإضافة إلى تقليد المحكمة القضائي وتفسير فقهاء القانون هنالك أسباب "خطيرة" قد تدعو إلى أن تتبنى المحكمة قراراً بعدم تقديم الرأي الاستشاري المطلوب. تحديد طبيعة هذه الأسباب الخطيرة ليست مهمة سهلة ولكننا نريد هنا أن نؤكد فوراً بأنه لا يمكن اعتبار التصويت على القرار أو الخلفية السياسية للقضية أو مواقف القوى العظمى "أسباب خطيرة" بحسب تفسير المحكمة لهذا المصطلح (الخلط ممكن جداً، تكفي قراءة سطحية للنص الذي قدمته الحكومة الإيطالية مثلاً) ولكنها تبقى مؤشرات متفاوتة الأهمية يمكن أن تأخذها المحكمة بعين الاعتبار. بالإضافة إلى ذلك، يعتقد بعض فقهاء القانون بأنه على المحكمة أن تتأكد، قبل البت في القضية، من عدم وجود أسباب خطيرة تمنعها من البت في تلك القضية. إننا نعتقد بأنه على المحكمة التأكد من "قانونية" القضية فقط وهذا طبيعي ومنطقي لأن على ذلك تعتمد صلاحية المحكمة ولكنها ليست ملزمة –مبدئياً- بأن تبحث عن مبررات أخرى إذ أن الطبيعي هو أن تقوم المحكمة بتقديم الرأي الاستشاري (مع وعينا طبعاً بأن الإجراءات القانونية تختلف هنا لكونها تتعلق برأي استشاري)؛ بكلمات أخرى: لا يوجد ما يمنع المحكمة من تقديم الرأي الاستشاري إلا إذا تم إثبات عكس ذلك؛ هذه التفصيلة ضرورية جداً، وهي شبيهة (mutatis mutandis) بمبادئ القانون الجنائي الأساسية "المجرم بريء حتى تثبت إدانته" أو "على من يطعن بالشيء أن يقدم الإثبات".
بحسب النص الذي قدمته سويسرا يمكن أن نعتبر ثلاث حالات: أولاً: أن يكون الرأي الاستشاري استبدالاً للدول في حل نزاعها وبالتالي مخالف للمبدأ القائم على ضرورة موافقة الدول المعنية؛ ثانياً، عدم وجود مصادر معلومات كافية لتقديم الرأي الاستشاري؛ ثالثاً، أن يكون الرأي الاستشاري غير ملائم سياسياً. وهي لا تنطبق بحسب الموقف السويسري على قضية السور الفاصل للأسباب التالية: أولاً، القضية مرتبطة بقانون يسري على الجميع وبالتالي فهي غير محصورة بالدول المعنية فقط؛ ثانياً، لأن هنالك معلومات كافية مثل تقرير الأمين العام والمؤسسات الأخرى للأمم المتحدة؛ ثالثاً، لأنه على المحكمة تحديد إن كان الرأي الاستشاري ملائماً وبالتالي تقديم الرأي الاستشاري المبني على القانون. وبالتالي فإن سويسرا "تعتقد بأنه لا توجد أسباب خطيرة تدعو إلى رفض تقديم الرأي الاستشاري" (الفقرة 25). بحسب تقليد المحكمة وتفسير فقهاء القانون، يبدو واضحاً أن تلك الأسباب التي تدفع القضاة برفض تقديم الطلب ترتبط بكون ذلك قد يؤدي إلى التقليل من اعتبار المحكمة والثقة بها كالجهاز القضائي للأمم المتحدة وبالتالي لتجنب أن ترتبط بمصالح مجموعة معينة على حساب مجموعة أخرى. بكلمات أخرى، للمحكمة التقدير بملائمة أو عدم ملائمة تقديم الرأي الاستشاري بطريقة يؤدي به هدفه وليس أهداف أخرى.
خاتمة
إذا تمعنا في التعليقات الصحفية حول الموضوع نلاحظ أن هنالك خلط بين الدوافع للتأييد أو الرفض أو الامتناع عن التصويت على القرار دإط 10/14 القاضي بطلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية (بالترتيب 90 -8 -74) وبين محتوى الطلب نفسه. ففي الحالة الأولى تغلبت المصالح السياسية لكن هذا لا يؤثر على محتوى الطلب نفسه وهو قانوني، إذ أن القضية الأساسية هنا هي أن المحكمة ستنظر –بحسب نص الطلب- في قضية السور الفاصل على ضوء: أولاً، قواعد ومبادئ القانون الدولي (ومنها جنيف الرابعة)؛ ثانياً، قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة؛ إن مهمة القضاة ليست سهلة إذ أن هنالك كمٌّ هائل من القوانين والقرارات ولكنها مع ذلك محددة بنصوص تلك القوانين والقرارات وستكتفي بقراءتها على ضوء واقع السور الذي تبنيه إسرائيل في الأراضي المحتلة. هنالك اختلافات بين قانون إسرائيل الداخلي والقانون الدولي على قضايا أساسية (كالوضع القانوني للأراضي الفلسطينية وتطبيق جنيف الرابعة عليها مثلاً) لكن من المؤكد بأن القضاة سيحكمون بحسب قواعد ومبادئ القانون الدولي وليس بحسب قانون إسرائيل الداخلي؛ بالتالي فإنهم سيعتبرون الأراضي الفلسطينية أراضٍ محتلة وليست متنازع عليها كما تدعي إسرائيل، وستعتبر اتفاقية جنيف الرابعة سارية على الأراضي الفلسطينية de iure أيضاً وليس de facto كما تعتبر إسرائيل.
أن يتم إثبات أن القضية قانونية لا يعني أننا قد ربحناها: إن معركة الرأي الاستشاري لم تُحسم بعد، ويمكننا أن ننتظر المفاجئات (ملاحظة: من المتوقع أن يتم تقديم الرأي الاستشاري في بداية نيسان!). لا شك أن لذلك القرار أهمية خاصة ليس فقط للفلسطينيين، بل –كما أدلى مسئول سويسري رفيع المستوى- لكل العالم لأن المحكمة ستقدم رأياً استشارياً حول تطبيق القانون الدولي (وخصوصاً الإنساني) في الأراضي الواقعة تحت الاحتلال، وهي بالتالي تشكل سابقة تاريخية يمكن تطبيقها على الوضع الحالي في العراق وفي مناطق أخرى في العالم (في الواقع هذا هو تخوف الولايات المتحدة وبريطانيا بشكل خاص).
لكن فلنفرض أن المحكمة قامت بتبني الرأي الاستشاري ولنفرض أن الرأي الاستشاري جاء بالطريقة التي نبتغيها فإن ذلك لا يعني بالضرورة بأن إسرائيل ستتوقف عن بناء السور إذ أن المشكلة الحقيقية تبقى كيفية إلزام إسرائيل –وكل الدول المحتلة- بتطبيق القانون الإنساني ضمن النظام الدولي الحالي؟ هذا يعني بأن الرأي الاستشاري سيكون البداية –وليس الخاتمة كما قد يعتقد البعض- لمسيرة طويلة تحتاج منا -ومن كل من يحترم حقوق الإنسان ويعتني بتطبيقها- إلى رصّ الصفوف داخلياً وخارجياً والعمل بطريقة منسقة كي "نستغل" ذلك الرأي الاستشاري للضغط على إسرائيل عالمياً ومحلياً ليس فقط لوقف بناء السر الفاصل بل أيضاً لإنهاء الاحتلال على الأراضي الفلسطينية؛ هذا يحتاج إلى تفكير وعمل جدي وسريع وإلا سيكون الرأي الاستشاري واحدة من سلسلة من الفرص الضائعة في تاريخنا الفلسطيني، وللأسف