أمريكا - الاتحاد السوفيت - الاسلام و آخرون
مرسل: الجمعة مايو 28, 2010 9:36 pm
قد يبدو كأنه اعلام على يد محضر يريد ابلاغ هذه الأطراف بأحد القرارات الأميرية أو أحد المواعيد القضائية.
الواقع أن وظيفة هذه الكلمات هى شىء مشابه لذلك بالفعل.
ان المصائب التى تعيش فيها البشرية منذ فترة ليست قصيرة لا يستطيع المراقب للأمور تلخيصها – ان جاز التلخيص – الا فى كلمة واحدة تشرح أسبابها و تحلل نتائجها ، و هى كلمة الجشع.
منذ ظهور علامات ضعف الاتحاد السوفيتى بعد تشيرنوبل عام 1986 ثم اعتراف جورباتشوف بفشل أجزاء كبيرة من التجربة الاشتراكية فى الاتحاد السوفيتى ثم اقدامه على السماح لأوروبا بالتوحد على انقاض ألمانيا الشرقية و كل المعسكر الاشتراكى ثم سماحه بحل الاتحاد السوفيتى نفسه الى عناصر أولية ضعيفة - منذ وقوع هذه الأحداث الضخمة و العالم يعانى بالفعل من مشكلة واحدة تفرعت عنها العديد جدا من المشاكل و هى تفشى الجشع.
سبب هذه الأفكار اليوم هو الذكرى السنوية لانهيار بنك ليمان فى أمريكا و الذى أشعل شرارة الأزمة التى يعيشها اليوم الجميع من جشعين و ضحايا.
كان العالم قبل تلك الزلازل منقسما بطريقة واضحة الى معسكرين و كانت كل من القوتين الأعظم تحاول جذب أكبر عدد ممكن من الدول الى فكرها السياسى و مذهبها الاقتصادى معا و ان لم يكن فالى أحدهما على الأقل. لم تكن الشيوعية فى أى وقت تمثل خطرا حقيقيا داهما على المراكز الحضرية فى العالم كله – الولايات المتحدة و أوروبا الغربية و اليابان. كذلك فان الشيوعية أو الاتحاد السوفيتى كان دائم التراجع فى اللحظة الأخيرة أمام المواجهة المباشرة مع الغرب الأغنى و الأكثر جاذبية.
لكن من يعيش منا فى الغرب بضعة أسابيع أو قل شهورا قليلة لابد و أنه قد لاحظ بسرعة شدة اهتمام أهل الغرب بكل ما تحمله كلمة الأمن من معان.
ان مفهوم الأمن السياسى – المتمثل فى المراقبات و التخوفات من المعارضة - لم يكن من الاهتمامات الأساسية بل و لا حتى الفرعية للدولة فى كل الغرب و ذلك بفعل الجو الديموقراطى الذى لا يحد من حرية النتخاب أى شخص أو أى حزب لا يخالف الدستور. أما مفهوم الأمن الغربى فهو متمثل جدا فى التخوف من الهجوم العسكرى من خارج الحدود أو الهجوم الاقتصادى المتمثل فى المقاطعات و اجراءات الحظر على أى سلعة – سواء شراءا أو بيعا – أو فى اجراءات الأمن المتبعة فى كل جانب من جوانب الحياة من أصغر لعبة أطفال الى أمن محطات القوى النووية.
ان الغرب الذى تزعمته أمريكا و الذى تقوم فكرته على الحفاظ على الروح البشرية بقدر الامكان و بذل أى ثمن فى سبيل تجنب حدوث وفيات أو حتى اصابات – قام بالنظر الى الاتحاد السوفيتى السابق نظرة أمنية بحتة و لم يعنى كثيرا بالنظر الاستراتيجى لحقيقة القوة السوفيتية و أبعاد امكانياتها. لقد نظر الغرب الى الاتحاد السوفيتى نفس النظرة التى نظرت بها الديموقراطيات الغربية الى ألمانيا النازية القوية المنيعة المتقدمة صناعيا المعبأة نفسيا و المسلحة الى درجة اضطرار أمريكا و الاتحاد السوفيتى الى التحالف حتى ينشآ معا القوة اللازمة لدحرها. لا ، لم يكن الاتحاد السوفيتى و لا حلف وارسو بهذه القوة.
يبدو أن كل السياسيين الغربيين الموجودين فى السلطة خلال أعوام الثمانينات لم يتنبهوا لمظاهر الضعف فى تكوين الاتحاد السوفيتى و الكامنة فى أسلوب انشائه منذ عشرينات القرن العشرين بحيث أنهم – و بالذات الأمريكيين أصحاب التجربة الضحلة فى مجال العلاقات الدولية – أصيبوا بحالة من السرور البالغ و أخذتهم مفاجأة النصر السهل على الاتحاد السوفيتى على غرة فنسوا أنه لم يكن أبدا بهذه القوة و لا كانت هزيمته تقارن بهزيمة ألمانيا النازية قبل ذلك بنصف قرن.
أصيب الغرب اذن بالهوس فى التملك و امتدت بصيرته الى أرجاء المعمورة بأسرها ترى فيها مجالا لعملها و حقلا لتجاربها و لعل الجملة المشهورة لمارجريت ثاتشر تنم عما جال بخواطر السياسيين الغربيين عشية انهيار الاتحاد السوفيتى القديم حيث قالت " ما أعظمها من رقعة ديموقراطية ممتدة من فلاديفوستوك عبر أوروبا و نيويورك و سان فرانسيسكو الى اليابان".
و هذا القول يلخص بالفعل النظرة الغربية المنتصرة فى معركة بدون حرب و لا دماء و لعل ذلك ما أوحى لريتشارد نيكسون بعناوين كتبه عن تلك الفترة مثل نصر بلا حرب أو ما بعد السلام أو غيرها و التى تتبنى نظرة صحيحة الى حد ما و لا يعيبها الا المبالغة فى دور الغرب و قيمه عموما و أمريكا على وجه الخصوص فى تشكيل العالم الجديد الذى سوف يبعث بعد التخلص من كل المعوقات بعد أن زال أهمها و هو الاتحاد السوفيتى. الا أن ........ تأت الرياح بما لا تشتهى السفن..
بدأت الأمور تأخذ مجرا آخر للأحداث . ظهر الاسلام كقوة سياسية تبحث عن دور لها تؤديه فى المجتمعات الاسلامية التى أسعد معظمها أن ينهزم الاتحاد السوفيتى الملحد أولا عديم الكفاءة ثانيا الفقير ثالثا. !!
لقد تحول الاسلام فى تلك اللحظات المصيرية من تاريخ العالم من حليف صامت للغرب الى ند صريح و مناوىء جاد لا يريد للغرب أن يظفر وحده بالغنيمة التى يرى أنه قد سهّل للغرب الحصول عليها.
و زاد الأمور تعقيدا أن معظم أنظمة الدول الاسلامية كانت قد شاخت و ضاع عنها بريقها و ضاعت بالتالى مع البريق – الذى هو أساس وجودها حيث أنها جميعا غير منتخبة – ضاعت شرعيتها و أصبح كل شخص يرى أن من حقه مزاحمة الغرب فى المطالبة بنصيبه فى النصر.
و هكذا تعقد الموقف طوال سنوات حكم بوش الأب و كلينتون الى أن وجد الغرب مخرجا للأزمة فى تحديد تعريف جديد هو الاسلاميين لكى يصف به هؤلاء دون أن يؤذى مشاعر كل المسلمين البالغ عددهم أكثر من مليار وقتها.
الاسلاميون اذن هم الخطر الجديد الذى يؤرق الغرب و لا يهدده لأنهم أضعف من أى تهديد و لكن ذلك لا يتعارض مع علاقات الصداقة و الود و الاحترام التى يكنها الغرب للاسلام كدين، أو هكذا بدت الأمور وقتها.
أعود لموضوعنا لأقول أن النصر السهل – بلا حرب كما سماه نيكسون – وضع أسسا جديدة داخل أمريكا للنظر الى الذات الأمريكية و المصالح الغربية عموما بحيث أصبحنا نسمع مصطلحات من طراز لا يوجد مستحيل و قوى السوق قادرة على حل كل المشاكل و العولمة فرصة للجميع و الاستغلال العلمى لكل الموارد المتاحة الخ..
فى ظل هيمنة أمريكية طوال التسعينات برز الى السطح النموذج الأمريكى لاستثمار الأموال القادمة من كل حدب و صوب الى الولايات المتحدة – كعبة العلم الاقتصادى و المنتصرة بجدارة بل و بدون حرب – فى ما أطلق عليه من الأسماء الرنانة ما لم يكن أصحابها نفسهم يفهمون منه شيئا مثل المشتقات و مضاربات الهدج الى آخره
Derivatives and hedge funds
و هذه الوسائل فى الاستثمار مبنية على افتراض بيع أوراق مالية بضمان أصول حقيقية الا أنه فى بعض الأحيان يمكن تضخيم قيمة الأصل المعقود عليه الضمان الى نسبة أعلى قليلا من السعر لعمل ربح سوف يتم تحصيله من ارتفاع متوقع فى قيمة الأصل فى المدى القصير قبل أن يطالب به أصحابه بالفعل.
نجحت البنوك الأمريكية المزودة بسلاح الجشع فى بيع تلك الأوراق الى كثير جدا من مصارف العالم الغربى بالذات و تم تسويق هذه الأوراق المالية بأسعار مبالغ فيها الى حد كبير جدا بلغ فى بعض الأحوال مئات المرات.
و لم ينقذ بعض الاقتصاديات الأوروبية الا القواعد الجامدة - ذات الأصل الألمانى - التى يسير على نهجها البنك الأوروبى المركزى والخاصة بالتحكم فى كمية النقد الموجودة فى السوق عن طريق التحكم فى سعر الفائدة و هو مبدأ أدخله الأوروبيون فى دستور البنك المركزى الأوروبى نقلا عن البنك الفدرالى الألمانى بحيث تكون من ضمن مهام البنك المركزى الأوروبى الجديد تحقيق الهدف الألمانى أيضا و هو التحكم فى مستوى التضخم و منع زيادته و هو بذلك يكون اختلافا جوهريا عن النموذج الأمريكى الذى لا تقع محاربة التضخم من ضمن مهماته لأن ألمانيا لديها خوف هوسى من التضخم منذ عشرينات القرن العشرين.
و ذلك يفسر لنا أيضا لماذا تأثرت انجلترا الدولة الأوروبية أكثر من غيرها من باقى دول منطقة اليورو ذلك أن رقابة بنك انجلترا و ان كانت أفضل من الرقابة الأمريكية الا أنها أقل حدة من رقابة البنك الأوروبى.
ان لب الموضوع الذى أردت طرحه هو الجشع الذى سيطر على عقلية المؤسسة الحاكمة فى الولايات المتحدة الأمريكية بفعل المكسب السهل للحرب الباردة و امتد ذلك الجشع ليشمل كثيرا من مراكز المجتمع الأمريكى ليس فقط فى السياسة – أنظر الى طريقة انتخاب جورج بوش عام 2000 - أو الاقتصاد – أنظر الى أزمات 1993 و 1997 و فقاعة الانترنت عام 2000 ثم أخيرا الأزمة الحالية و التى بلغ من حدتها أن نفس المدافعين عن آليات السوق أصبحوا صارخين متوسلين الى الدولة لتتدخل حماية للسوق من آلياته !!!
المشكلة الأدهى هى امتداد عدوى الجشع الى مناطق و ثقافات لم تكن تعرفه من قبل كالصين و أوروبا الشرقية و روسيا بالذات و أفريقيا ناهيك عن الشرق الأوسط الذى هو الوسط الطبيعى للجشع.
تبدى الجشع فى تلك المجتمعات - الغير نامية بالقدر الكافى - على صور متعددة من استقطاب ثنائى حاد فى المجتمعات الى أغنياء يملكون و فقراء لا يملكون مثل الصين و كثير من الدول الأفريقية و ظهرت مشاكل أطفال الشوارع فى المدن الكبرى بدون استثناء كما تبدت الثقافة الجشعة فى محاولات توريث ما لا يورث مثل سوريا و مصر و الجابون متخذين فى عائلة بوش أسوة لهم !!!
أصبح الجميع لا يرون الا العامل الاقتصادى فى كل أمر و لم يعد للعامل الاجتماعى دور يذكر لا فى الدول الغنية و لا فى الدول الفقيرة. أصبحت معظم الدول كائنات فقيرة مديونة مليئة بمواطنين أغنياء . و الواقع هو أن المنطقة الوحيدة تقريبا و التى لا تزال تقاوم هذا الاتجاه هى وسط أوروبا من ألمانيا الى النمسا شرقا و فرنسا غربا.
و فى وسط تلك الهزات العنيفة ظهرت فكرة جديدة هى المقاومة الفكرية لكل ذلك و لكن على أرضية اسلامية.
ان الرؤية الاسلامية الموجودة حاليا – على ضعفها و سذاجتها – تمثل التحدى الوحيد - و لو أنها محصورة فى توافه الأمور مثل الحجاب و اللحم الحلال – للموجة الفكرية القادمة من الغرب الذى فقد كثيرا من ضوابط تصرفاته بفعل الجشع.
يبدو لى أن الغرب من بعد اهمال طال لمدة 20 عاما بعد قيام ثورة ايران قد عاد و تنبه الى أهمية الاسلام كعمل من أعمال المقاومة للفكرة الاقتصادية الغربية و للأسف كانت هذه الافاقة مقرونة بصدمة الهجوم على البرجين فى نيويورك.
فى ظل سيادة الجشع الشديد الذى حول أفكار الحكام و المحكومين الى فكرة الحصول على أعلى ما يمكن من ربح بأقل ما يبذل من مجهود ا رتفعت قابلية المواطن الغربى لفكرة تحمل المخاطر فى سبيل تحقيق ثروة لا يضطر من يملكها الى اللجوء الى العمل مرة أخرى. و فى ظل وهم النصر الكبير على الاتحاد السوفيتى ركب بعض الساسة – خصوصا فى أمريكا – الشطط الفكرى الأخرق المنادى بالقدرة على تطويع و ترويض كل شىء حتى القواعد الحسابية البسيطة للربح و الخسارة.
هل كان من الممكن أن يكون للاسلام دور و لو أخلاقى يحاول كسر غلواء فكرة انتصار قوى السوق على كل ما عداها و التى ثبت فشلها خلال العام المنصرم؟
هناك دائما عدة حالات بصدد الوصول الى أحد الأهداف و هى حالات :
لا ارادة و لا مقدرة مقدرة بدون ارادة ارادة بدون مقدرة ارادة مقترنة بالمقدرة
واقع الحال يشير للأسف الى أنه فى ظل انعدام الشرعية الذى تعيش فيه معظم الدول الاسلامية فان الارادة تكاد تكون منعدمة.
أما المقدرة فهى محل نظر طويل.
هل من الممكن للمجتمعات الاسلامية أن تخرج بنظرة جديدة فى الأمور الاقتصادية لا تتصادم مع اقتصاديات السوق – حيث أن الاسلام لا يرى فى اقتصاد السوق أية مثالب – عدا الجشع و الربا- و أن تحاول الدفع بممارسات السوق الى طريق ما يطلق عليه فى الشرع نظرة ميسرة أو نظرة الى ميسرة؟
الواقع أننى لا أملك لهذا السؤال اجابة و لا أعتقد أن أحدا يستطيع أن يجزم بمعرفته بالاجابة.
قبل أحداث مركز التجارة العالمى الأولى عام 1993 كنت أستطيع أن أقول أن المجتمعات الاسلامية – بفعل انعدام الشرعية – لا تملك الارادة و لكنها قد تملك المقدرة. لقد أدى غزو الكويت عام 1990 الى انكشاف كامل لكافة النظم العربية و كثير جدا من النظم فى الدول الاسلامية أيضا بحيث أن التآكل فى الشرعية الذى تسبب عنه الغزو أنهى مصداقيتها فى كل مكان خارج حدودها الاقليمية. و من بعد كارثة سبتمبر 2001 فان المقدرة أيضا قد أضحت محل شك عميق لأن المجتمعات الاسلامية أصبح كل ما أو من يأتى منها أو عن طريقها مشبوها.
أضف الى ذلك أن أسواق المال قد توسعت جدا و لم تعد حكرا على العالم الغربى بل أن بورصة شنغهاى أصبحت أكثر أهمية من بورصة نيويورك و عليه فان ما قد يحتاجه العالم المالى لابد له أن يخاطب كل تلك الثقافات المتعددة التى أصبحت داخلة فى المسائل المالية و التى أصابتها بالفعل عدوى الجشع الشديد.
بالتأكيد فان الاسلام يحوى عناصر تصلح جدا لتكون أساسا لنوع أرقى من الممارسات. هذا نظريا. أما عمليا فالمشكلة أضحت فى المقدرة على ضرب المثل و اثبات وجهة النظر و هدا هو مربط الفرس.
ان هذا الكلام ليس جديدا فقد قيل فور انفجار الأزمة المالية و تدفق شلال من الحبر على جبل من الورق فى نظريات اقتصادية اسلامية و وسائل استثمار شبيهة بالوسائل الغربية و لكنها تتسم بالتوافق مع أحكام السنة و القرآن و لكن للأسف لم تخرج معظم الكتابات فى هذا الشأن عن الاطار العاطفى الذى يقول لسان حاله : ألم نقل لكم منذ البداية؟"
و هذا ليس اسهاما كافيا و لا هو تقديم لحل من الحلول لمشكلة أصبح الجميع يعرفون بوجودها.
بينما تبدى الاتجاه الثانى فى محاولات أكثر سذاجة من الاتجاه الأول يتمثل فى انشاء بعض مراكز الفتوى المالية و الاقتصادية خصوصا فى منطقة الخليج تعرض عليها الأمور لكى تبدى رأيها ان كان هذا الاستثمار مطابق للشريعة الاسلامية أم لا و ذلك بالطبع فى نظير رسوم تدفع لهذه المراكز الاستشارية !!! أى أن احتكار الحكم بالشرعية الاسلامية وقع فى يد مجموعة من الأفراد الذين يعتقدون أنهم وحدهم مالكو الختم الذى يبت فى أمر الاستثمار !!
المطلوب هو ليس شيئا من هذا القبيل بل ان المطلوب هو شىء عكس ذلك تماما.
المطلوب هو عمل مؤسسى منظم قائم على اتساع رقعة البحث الحقيقى الهادف الى ايجاد بديل فعلى بهيكل نظامى و قانونى ومحاسبى يقوم بفحص الممارسات بطريقة عمومية و مجردة تضع اسسا معروفة للعمل المصرفى و الاستثمارى تأخذ فى اعتبارها الشرع و الربح و الثقافات المختلفة للداخلين فى سوق الاستثمارات وهو عمل لا يتم فى عام أو عامين و انما لابد له من سنوات طويلة لكى توضع أسسه و تستوفى أركانه و يظل القائمون على انشائه فى حال انعقاد مستمر لتنقيحه و تحديثه باستمرار أى أنه مشروع طويل المدى بشكل كبير.
المطلوب هو اثبات أن الدين الاسلامى لا يتعارض مع الحرية الاقتصادية – لأنه بالفعل فى معظمه لا يتعارض معها – و لكن ليس بشعارات الصلاحية لكل العصور و الأماكن و ليس بالعودة العاطفية دائما الى الاشادة بعصور سحيقة كانت فيها الحياة تتسم بالبساطة و السذاجة و وضوح المقاصد.
ان عالم اليوم بكل تعقيداته و كافة تفريعاته بحاجة الى ضوابط استثمارية و قانونية تحد من الجشع و توقف البنوك و المقرضين عند اللزوم حتى لا يتكرر ما كان عندما تسببت مجموعة من مديرى المحافظ المالية تتراوح أعمارهم بين الثلاثين و الخامسة و الأربعين فى الانزلاق الى أزمة تسببت فى افقار كثير جدا من الشركات بل و افلاس دول بأكملها.
فى عام 2006 دفعت المصارف الأمريكية و من بينها طبعا ليمان مبلغ 34 مليار دولار حوافز لمثل هؤلاء المديرين عن العام المالى السابق ( المصدر مجلة الايكونوميست ) و هو مبلغ يجعل كل عامل فى هذه المصارف يحلم بأن يكون له فيه بعض من نصيب و بالتالى فقد الكثير منهم الاتجاه و انزلقوا جماعات الى تلك المخاطرات التى يعلم أى مبتدىء أنها لن تأت الا بالخسارة.
ان سبب انهيار بورصة نيويورك عام 1929 كان شيئا شبيها بذلك هو أن مشترى الأسهم لم يكن مطلوبا منهم سداد قيمة ما يطلبونه فورا و انما بالأجل بحساب أن الارتفاع المتحقق مستقبلا سوف يقوم بسداد الفاتورة و هو بالتأكيد ما لم يكن ليحدث لأن العملية الحسابية كانت خاطئة من الأساس.
( لاحظ أيضا حدوث ذلك فى أعقاب نصر عسكرى " كبير " لأمريكا على ألمانيا فى الحرب الأولى و كان لأمريكا أيضا نصرا سهلا لأنها دخلت الحرب عام 1917 أى بعد قيام الحرب بثلاث سنوات و قبل النهاية بسنة واحدة و كان سبب الهزيمة ليس مجهودا أمريكيا و لكن نقص الذخيرة للجيش الألمانى على الجبهة فاستسلمت ألمانيا فجأة).
ان القاعدة الصحيحة دائما هى أن سعر السهم فى السوق هو مقياس لقوة الشركة على الاستمرار و التطور و النمو و بالتالى فهو دالة فى كفاءة الشركة و كذلك فى الثقة العامة بالأحوال السياسية فأيام الحروب هى أيام سيئة فى البورصة و أيام الحلم فى السلام و الهدوء هى أيام رخاء أيضا على البورصة.
و بما أن النمو محدود بعنصر الزمن و فرص الاستمرار فى السوق هى أيضا محدودة بعناصر الجو العام و سعر الفائدة السائد و الطلب على المنتجات و تحديث السلع باستمرار فان ارتفاعا متواصلا هو وهم فى رؤوس المتعاملين و هو الدرس الذى لابد للبشرية على ما يبدو أن تتعلمه كل حقبة لسهولة نسيانه.
و ما يسرى على الأوراق المالية يسرى بالطبع و من باب أولى على العقارات التى بسببها وقعت واقعة 2008 حيث تعامى مديرو البنوك و شركات التأمين عن تلك الحقيقة البسيطة و سحبوا معهم الى القاع مدخرات ملايين الناس و صناديق المعاشات و أرصدة البنوك حتى الغير أمريكية منها بحيث تحولت هذه الأموال الى تراب فى خلال ساعات و نتج عن ذلك ما نراه اليوم من أزمة مستحكمة.
ان دور الدولة القومية كان و سوف يظل محوريا فى وضع الضوابط على الائتمان و على ضمانات ما يطرح فى الأسواق من أوراق مالية و لعل هذا ما أنقذ مصر مثلا من التردى و الوقوع فى مخالب الافلاس حيث أن السياسة المصرية الائتمانية للبنك المركزى هى أيضا من السياسات المتحفظة التى لم تنزلق الى هاوية الربح السريع و خصوصا أن الدولة فى مصر لا تستطيع أن تضخ المليارات الكثيرة جدا كما فعلت الدول المتقدمة.
أما على جانب البنوك فان الحوافز الغير طبيعية التى كانت تصرف لمديرى المحافظ المالية لابد من وضع ضوابط لها بحيث ترتبط بالنجاح الاقتصادى للعملية و ليس فقط النجاح الرقمى على الورق.
لقد احتاجت البنوك الغربية النصف الثانى كله من عام 2007 و كل عام 2008 و معظم عام 2009 لكى تحصى خسائرها فى تلك العمليات المشبوهة نظرا لشدة تعقيد التداخلات بين الأوراق و المحافظ العابرة للحدود بين الدول و الثقافات أى الأزمة أقدم من انهيار بنك ليمان بأكثر من عام لأنها بدأت فى الربع الثانى من عام 2007 و مع ذلك فان الجشع منع هؤلاء المديرين من رؤية الحقيقة بل و استمروا فى خداع العملاء و الزملاء على السواء.
تبقى بعد ذلك مشكلة تربوية هى مشكلة اخراج فكرة الثراء السريع و الربح الخاطف من وجدان المتعاملين لأنها لا تؤدى الا الى الجشع و قبول بمخاطر هى فى حقيقتها ليست مخاطر انما مهالك.
و هذه الأعمدة الثلاثة – المصارف و الدولة و المشكلة التربوية الثقافية – هى ما يمكن أن نطلق عليه توصيف العمل ان أراد المسلمون أن يكون لهم ضلع فى اعادة تشكيل سوق المال و الاستثمار.
فالأزمة سبّبها انهيار الاتحاد السوفيتى و الفاعل فيها أمريكى و الضحايا هم الآخرون و المنقذ قد يكون – ان استطاع الى ذلك سبيلا – الاسلام.
فهل من مجيب ؟
الواقع أن وظيفة هذه الكلمات هى شىء مشابه لذلك بالفعل.
ان المصائب التى تعيش فيها البشرية منذ فترة ليست قصيرة لا يستطيع المراقب للأمور تلخيصها – ان جاز التلخيص – الا فى كلمة واحدة تشرح أسبابها و تحلل نتائجها ، و هى كلمة الجشع.
منذ ظهور علامات ضعف الاتحاد السوفيتى بعد تشيرنوبل عام 1986 ثم اعتراف جورباتشوف بفشل أجزاء كبيرة من التجربة الاشتراكية فى الاتحاد السوفيتى ثم اقدامه على السماح لأوروبا بالتوحد على انقاض ألمانيا الشرقية و كل المعسكر الاشتراكى ثم سماحه بحل الاتحاد السوفيتى نفسه الى عناصر أولية ضعيفة - منذ وقوع هذه الأحداث الضخمة و العالم يعانى بالفعل من مشكلة واحدة تفرعت عنها العديد جدا من المشاكل و هى تفشى الجشع.
سبب هذه الأفكار اليوم هو الذكرى السنوية لانهيار بنك ليمان فى أمريكا و الذى أشعل شرارة الأزمة التى يعيشها اليوم الجميع من جشعين و ضحايا.
كان العالم قبل تلك الزلازل منقسما بطريقة واضحة الى معسكرين و كانت كل من القوتين الأعظم تحاول جذب أكبر عدد ممكن من الدول الى فكرها السياسى و مذهبها الاقتصادى معا و ان لم يكن فالى أحدهما على الأقل. لم تكن الشيوعية فى أى وقت تمثل خطرا حقيقيا داهما على المراكز الحضرية فى العالم كله – الولايات المتحدة و أوروبا الغربية و اليابان. كذلك فان الشيوعية أو الاتحاد السوفيتى كان دائم التراجع فى اللحظة الأخيرة أمام المواجهة المباشرة مع الغرب الأغنى و الأكثر جاذبية.
لكن من يعيش منا فى الغرب بضعة أسابيع أو قل شهورا قليلة لابد و أنه قد لاحظ بسرعة شدة اهتمام أهل الغرب بكل ما تحمله كلمة الأمن من معان.
ان مفهوم الأمن السياسى – المتمثل فى المراقبات و التخوفات من المعارضة - لم يكن من الاهتمامات الأساسية بل و لا حتى الفرعية للدولة فى كل الغرب و ذلك بفعل الجو الديموقراطى الذى لا يحد من حرية النتخاب أى شخص أو أى حزب لا يخالف الدستور. أما مفهوم الأمن الغربى فهو متمثل جدا فى التخوف من الهجوم العسكرى من خارج الحدود أو الهجوم الاقتصادى المتمثل فى المقاطعات و اجراءات الحظر على أى سلعة – سواء شراءا أو بيعا – أو فى اجراءات الأمن المتبعة فى كل جانب من جوانب الحياة من أصغر لعبة أطفال الى أمن محطات القوى النووية.
ان الغرب الذى تزعمته أمريكا و الذى تقوم فكرته على الحفاظ على الروح البشرية بقدر الامكان و بذل أى ثمن فى سبيل تجنب حدوث وفيات أو حتى اصابات – قام بالنظر الى الاتحاد السوفيتى السابق نظرة أمنية بحتة و لم يعنى كثيرا بالنظر الاستراتيجى لحقيقة القوة السوفيتية و أبعاد امكانياتها. لقد نظر الغرب الى الاتحاد السوفيتى نفس النظرة التى نظرت بها الديموقراطيات الغربية الى ألمانيا النازية القوية المنيعة المتقدمة صناعيا المعبأة نفسيا و المسلحة الى درجة اضطرار أمريكا و الاتحاد السوفيتى الى التحالف حتى ينشآ معا القوة اللازمة لدحرها. لا ، لم يكن الاتحاد السوفيتى و لا حلف وارسو بهذه القوة.
يبدو أن كل السياسيين الغربيين الموجودين فى السلطة خلال أعوام الثمانينات لم يتنبهوا لمظاهر الضعف فى تكوين الاتحاد السوفيتى و الكامنة فى أسلوب انشائه منذ عشرينات القرن العشرين بحيث أنهم – و بالذات الأمريكيين أصحاب التجربة الضحلة فى مجال العلاقات الدولية – أصيبوا بحالة من السرور البالغ و أخذتهم مفاجأة النصر السهل على الاتحاد السوفيتى على غرة فنسوا أنه لم يكن أبدا بهذه القوة و لا كانت هزيمته تقارن بهزيمة ألمانيا النازية قبل ذلك بنصف قرن.
أصيب الغرب اذن بالهوس فى التملك و امتدت بصيرته الى أرجاء المعمورة بأسرها ترى فيها مجالا لعملها و حقلا لتجاربها و لعل الجملة المشهورة لمارجريت ثاتشر تنم عما جال بخواطر السياسيين الغربيين عشية انهيار الاتحاد السوفيتى القديم حيث قالت " ما أعظمها من رقعة ديموقراطية ممتدة من فلاديفوستوك عبر أوروبا و نيويورك و سان فرانسيسكو الى اليابان".
و هذا القول يلخص بالفعل النظرة الغربية المنتصرة فى معركة بدون حرب و لا دماء و لعل ذلك ما أوحى لريتشارد نيكسون بعناوين كتبه عن تلك الفترة مثل نصر بلا حرب أو ما بعد السلام أو غيرها و التى تتبنى نظرة صحيحة الى حد ما و لا يعيبها الا المبالغة فى دور الغرب و قيمه عموما و أمريكا على وجه الخصوص فى تشكيل العالم الجديد الذى سوف يبعث بعد التخلص من كل المعوقات بعد أن زال أهمها و هو الاتحاد السوفيتى. الا أن ........ تأت الرياح بما لا تشتهى السفن..
بدأت الأمور تأخذ مجرا آخر للأحداث . ظهر الاسلام كقوة سياسية تبحث عن دور لها تؤديه فى المجتمعات الاسلامية التى أسعد معظمها أن ينهزم الاتحاد السوفيتى الملحد أولا عديم الكفاءة ثانيا الفقير ثالثا. !!
لقد تحول الاسلام فى تلك اللحظات المصيرية من تاريخ العالم من حليف صامت للغرب الى ند صريح و مناوىء جاد لا يريد للغرب أن يظفر وحده بالغنيمة التى يرى أنه قد سهّل للغرب الحصول عليها.
و زاد الأمور تعقيدا أن معظم أنظمة الدول الاسلامية كانت قد شاخت و ضاع عنها بريقها و ضاعت بالتالى مع البريق – الذى هو أساس وجودها حيث أنها جميعا غير منتخبة – ضاعت شرعيتها و أصبح كل شخص يرى أن من حقه مزاحمة الغرب فى المطالبة بنصيبه فى النصر.
و هكذا تعقد الموقف طوال سنوات حكم بوش الأب و كلينتون الى أن وجد الغرب مخرجا للأزمة فى تحديد تعريف جديد هو الاسلاميين لكى يصف به هؤلاء دون أن يؤذى مشاعر كل المسلمين البالغ عددهم أكثر من مليار وقتها.
الاسلاميون اذن هم الخطر الجديد الذى يؤرق الغرب و لا يهدده لأنهم أضعف من أى تهديد و لكن ذلك لا يتعارض مع علاقات الصداقة و الود و الاحترام التى يكنها الغرب للاسلام كدين، أو هكذا بدت الأمور وقتها.
أعود لموضوعنا لأقول أن النصر السهل – بلا حرب كما سماه نيكسون – وضع أسسا جديدة داخل أمريكا للنظر الى الذات الأمريكية و المصالح الغربية عموما بحيث أصبحنا نسمع مصطلحات من طراز لا يوجد مستحيل و قوى السوق قادرة على حل كل المشاكل و العولمة فرصة للجميع و الاستغلال العلمى لكل الموارد المتاحة الخ..
فى ظل هيمنة أمريكية طوال التسعينات برز الى السطح النموذج الأمريكى لاستثمار الأموال القادمة من كل حدب و صوب الى الولايات المتحدة – كعبة العلم الاقتصادى و المنتصرة بجدارة بل و بدون حرب – فى ما أطلق عليه من الأسماء الرنانة ما لم يكن أصحابها نفسهم يفهمون منه شيئا مثل المشتقات و مضاربات الهدج الى آخره
Derivatives and hedge funds
و هذه الوسائل فى الاستثمار مبنية على افتراض بيع أوراق مالية بضمان أصول حقيقية الا أنه فى بعض الأحيان يمكن تضخيم قيمة الأصل المعقود عليه الضمان الى نسبة أعلى قليلا من السعر لعمل ربح سوف يتم تحصيله من ارتفاع متوقع فى قيمة الأصل فى المدى القصير قبل أن يطالب به أصحابه بالفعل.
نجحت البنوك الأمريكية المزودة بسلاح الجشع فى بيع تلك الأوراق الى كثير جدا من مصارف العالم الغربى بالذات و تم تسويق هذه الأوراق المالية بأسعار مبالغ فيها الى حد كبير جدا بلغ فى بعض الأحوال مئات المرات.
و لم ينقذ بعض الاقتصاديات الأوروبية الا القواعد الجامدة - ذات الأصل الألمانى - التى يسير على نهجها البنك الأوروبى المركزى والخاصة بالتحكم فى كمية النقد الموجودة فى السوق عن طريق التحكم فى سعر الفائدة و هو مبدأ أدخله الأوروبيون فى دستور البنك المركزى الأوروبى نقلا عن البنك الفدرالى الألمانى بحيث تكون من ضمن مهام البنك المركزى الأوروبى الجديد تحقيق الهدف الألمانى أيضا و هو التحكم فى مستوى التضخم و منع زيادته و هو بذلك يكون اختلافا جوهريا عن النموذج الأمريكى الذى لا تقع محاربة التضخم من ضمن مهماته لأن ألمانيا لديها خوف هوسى من التضخم منذ عشرينات القرن العشرين.
و ذلك يفسر لنا أيضا لماذا تأثرت انجلترا الدولة الأوروبية أكثر من غيرها من باقى دول منطقة اليورو ذلك أن رقابة بنك انجلترا و ان كانت أفضل من الرقابة الأمريكية الا أنها أقل حدة من رقابة البنك الأوروبى.
ان لب الموضوع الذى أردت طرحه هو الجشع الذى سيطر على عقلية المؤسسة الحاكمة فى الولايات المتحدة الأمريكية بفعل المكسب السهل للحرب الباردة و امتد ذلك الجشع ليشمل كثيرا من مراكز المجتمع الأمريكى ليس فقط فى السياسة – أنظر الى طريقة انتخاب جورج بوش عام 2000 - أو الاقتصاد – أنظر الى أزمات 1993 و 1997 و فقاعة الانترنت عام 2000 ثم أخيرا الأزمة الحالية و التى بلغ من حدتها أن نفس المدافعين عن آليات السوق أصبحوا صارخين متوسلين الى الدولة لتتدخل حماية للسوق من آلياته !!!
المشكلة الأدهى هى امتداد عدوى الجشع الى مناطق و ثقافات لم تكن تعرفه من قبل كالصين و أوروبا الشرقية و روسيا بالذات و أفريقيا ناهيك عن الشرق الأوسط الذى هو الوسط الطبيعى للجشع.
تبدى الجشع فى تلك المجتمعات - الغير نامية بالقدر الكافى - على صور متعددة من استقطاب ثنائى حاد فى المجتمعات الى أغنياء يملكون و فقراء لا يملكون مثل الصين و كثير من الدول الأفريقية و ظهرت مشاكل أطفال الشوارع فى المدن الكبرى بدون استثناء كما تبدت الثقافة الجشعة فى محاولات توريث ما لا يورث مثل سوريا و مصر و الجابون متخذين فى عائلة بوش أسوة لهم !!!
أصبح الجميع لا يرون الا العامل الاقتصادى فى كل أمر و لم يعد للعامل الاجتماعى دور يذكر لا فى الدول الغنية و لا فى الدول الفقيرة. أصبحت معظم الدول كائنات فقيرة مديونة مليئة بمواطنين أغنياء . و الواقع هو أن المنطقة الوحيدة تقريبا و التى لا تزال تقاوم هذا الاتجاه هى وسط أوروبا من ألمانيا الى النمسا شرقا و فرنسا غربا.
و فى وسط تلك الهزات العنيفة ظهرت فكرة جديدة هى المقاومة الفكرية لكل ذلك و لكن على أرضية اسلامية.
ان الرؤية الاسلامية الموجودة حاليا – على ضعفها و سذاجتها – تمثل التحدى الوحيد - و لو أنها محصورة فى توافه الأمور مثل الحجاب و اللحم الحلال – للموجة الفكرية القادمة من الغرب الذى فقد كثيرا من ضوابط تصرفاته بفعل الجشع.
يبدو لى أن الغرب من بعد اهمال طال لمدة 20 عاما بعد قيام ثورة ايران قد عاد و تنبه الى أهمية الاسلام كعمل من أعمال المقاومة للفكرة الاقتصادية الغربية و للأسف كانت هذه الافاقة مقرونة بصدمة الهجوم على البرجين فى نيويورك.
فى ظل سيادة الجشع الشديد الذى حول أفكار الحكام و المحكومين الى فكرة الحصول على أعلى ما يمكن من ربح بأقل ما يبذل من مجهود ا رتفعت قابلية المواطن الغربى لفكرة تحمل المخاطر فى سبيل تحقيق ثروة لا يضطر من يملكها الى اللجوء الى العمل مرة أخرى. و فى ظل وهم النصر الكبير على الاتحاد السوفيتى ركب بعض الساسة – خصوصا فى أمريكا – الشطط الفكرى الأخرق المنادى بالقدرة على تطويع و ترويض كل شىء حتى القواعد الحسابية البسيطة للربح و الخسارة.
هل كان من الممكن أن يكون للاسلام دور و لو أخلاقى يحاول كسر غلواء فكرة انتصار قوى السوق على كل ما عداها و التى ثبت فشلها خلال العام المنصرم؟
هناك دائما عدة حالات بصدد الوصول الى أحد الأهداف و هى حالات :
لا ارادة و لا مقدرة مقدرة بدون ارادة ارادة بدون مقدرة ارادة مقترنة بالمقدرة
واقع الحال يشير للأسف الى أنه فى ظل انعدام الشرعية الذى تعيش فيه معظم الدول الاسلامية فان الارادة تكاد تكون منعدمة.
أما المقدرة فهى محل نظر طويل.
هل من الممكن للمجتمعات الاسلامية أن تخرج بنظرة جديدة فى الأمور الاقتصادية لا تتصادم مع اقتصاديات السوق – حيث أن الاسلام لا يرى فى اقتصاد السوق أية مثالب – عدا الجشع و الربا- و أن تحاول الدفع بممارسات السوق الى طريق ما يطلق عليه فى الشرع نظرة ميسرة أو نظرة الى ميسرة؟
الواقع أننى لا أملك لهذا السؤال اجابة و لا أعتقد أن أحدا يستطيع أن يجزم بمعرفته بالاجابة.
قبل أحداث مركز التجارة العالمى الأولى عام 1993 كنت أستطيع أن أقول أن المجتمعات الاسلامية – بفعل انعدام الشرعية – لا تملك الارادة و لكنها قد تملك المقدرة. لقد أدى غزو الكويت عام 1990 الى انكشاف كامل لكافة النظم العربية و كثير جدا من النظم فى الدول الاسلامية أيضا بحيث أن التآكل فى الشرعية الذى تسبب عنه الغزو أنهى مصداقيتها فى كل مكان خارج حدودها الاقليمية. و من بعد كارثة سبتمبر 2001 فان المقدرة أيضا قد أضحت محل شك عميق لأن المجتمعات الاسلامية أصبح كل ما أو من يأتى منها أو عن طريقها مشبوها.
أضف الى ذلك أن أسواق المال قد توسعت جدا و لم تعد حكرا على العالم الغربى بل أن بورصة شنغهاى أصبحت أكثر أهمية من بورصة نيويورك و عليه فان ما قد يحتاجه العالم المالى لابد له أن يخاطب كل تلك الثقافات المتعددة التى أصبحت داخلة فى المسائل المالية و التى أصابتها بالفعل عدوى الجشع الشديد.
بالتأكيد فان الاسلام يحوى عناصر تصلح جدا لتكون أساسا لنوع أرقى من الممارسات. هذا نظريا. أما عمليا فالمشكلة أضحت فى المقدرة على ضرب المثل و اثبات وجهة النظر و هدا هو مربط الفرس.
ان هذا الكلام ليس جديدا فقد قيل فور انفجار الأزمة المالية و تدفق شلال من الحبر على جبل من الورق فى نظريات اقتصادية اسلامية و وسائل استثمار شبيهة بالوسائل الغربية و لكنها تتسم بالتوافق مع أحكام السنة و القرآن و لكن للأسف لم تخرج معظم الكتابات فى هذا الشأن عن الاطار العاطفى الذى يقول لسان حاله : ألم نقل لكم منذ البداية؟"
و هذا ليس اسهاما كافيا و لا هو تقديم لحل من الحلول لمشكلة أصبح الجميع يعرفون بوجودها.
بينما تبدى الاتجاه الثانى فى محاولات أكثر سذاجة من الاتجاه الأول يتمثل فى انشاء بعض مراكز الفتوى المالية و الاقتصادية خصوصا فى منطقة الخليج تعرض عليها الأمور لكى تبدى رأيها ان كان هذا الاستثمار مطابق للشريعة الاسلامية أم لا و ذلك بالطبع فى نظير رسوم تدفع لهذه المراكز الاستشارية !!! أى أن احتكار الحكم بالشرعية الاسلامية وقع فى يد مجموعة من الأفراد الذين يعتقدون أنهم وحدهم مالكو الختم الذى يبت فى أمر الاستثمار !!
المطلوب هو ليس شيئا من هذا القبيل بل ان المطلوب هو شىء عكس ذلك تماما.
المطلوب هو عمل مؤسسى منظم قائم على اتساع رقعة البحث الحقيقى الهادف الى ايجاد بديل فعلى بهيكل نظامى و قانونى ومحاسبى يقوم بفحص الممارسات بطريقة عمومية و مجردة تضع اسسا معروفة للعمل المصرفى و الاستثمارى تأخذ فى اعتبارها الشرع و الربح و الثقافات المختلفة للداخلين فى سوق الاستثمارات وهو عمل لا يتم فى عام أو عامين و انما لابد له من سنوات طويلة لكى توضع أسسه و تستوفى أركانه و يظل القائمون على انشائه فى حال انعقاد مستمر لتنقيحه و تحديثه باستمرار أى أنه مشروع طويل المدى بشكل كبير.
المطلوب هو اثبات أن الدين الاسلامى لا يتعارض مع الحرية الاقتصادية – لأنه بالفعل فى معظمه لا يتعارض معها – و لكن ليس بشعارات الصلاحية لكل العصور و الأماكن و ليس بالعودة العاطفية دائما الى الاشادة بعصور سحيقة كانت فيها الحياة تتسم بالبساطة و السذاجة و وضوح المقاصد.
ان عالم اليوم بكل تعقيداته و كافة تفريعاته بحاجة الى ضوابط استثمارية و قانونية تحد من الجشع و توقف البنوك و المقرضين عند اللزوم حتى لا يتكرر ما كان عندما تسببت مجموعة من مديرى المحافظ المالية تتراوح أعمارهم بين الثلاثين و الخامسة و الأربعين فى الانزلاق الى أزمة تسببت فى افقار كثير جدا من الشركات بل و افلاس دول بأكملها.
فى عام 2006 دفعت المصارف الأمريكية و من بينها طبعا ليمان مبلغ 34 مليار دولار حوافز لمثل هؤلاء المديرين عن العام المالى السابق ( المصدر مجلة الايكونوميست ) و هو مبلغ يجعل كل عامل فى هذه المصارف يحلم بأن يكون له فيه بعض من نصيب و بالتالى فقد الكثير منهم الاتجاه و انزلقوا جماعات الى تلك المخاطرات التى يعلم أى مبتدىء أنها لن تأت الا بالخسارة.
ان سبب انهيار بورصة نيويورك عام 1929 كان شيئا شبيها بذلك هو أن مشترى الأسهم لم يكن مطلوبا منهم سداد قيمة ما يطلبونه فورا و انما بالأجل بحساب أن الارتفاع المتحقق مستقبلا سوف يقوم بسداد الفاتورة و هو بالتأكيد ما لم يكن ليحدث لأن العملية الحسابية كانت خاطئة من الأساس.
( لاحظ أيضا حدوث ذلك فى أعقاب نصر عسكرى " كبير " لأمريكا على ألمانيا فى الحرب الأولى و كان لأمريكا أيضا نصرا سهلا لأنها دخلت الحرب عام 1917 أى بعد قيام الحرب بثلاث سنوات و قبل النهاية بسنة واحدة و كان سبب الهزيمة ليس مجهودا أمريكيا و لكن نقص الذخيرة للجيش الألمانى على الجبهة فاستسلمت ألمانيا فجأة).
ان القاعدة الصحيحة دائما هى أن سعر السهم فى السوق هو مقياس لقوة الشركة على الاستمرار و التطور و النمو و بالتالى فهو دالة فى كفاءة الشركة و كذلك فى الثقة العامة بالأحوال السياسية فأيام الحروب هى أيام سيئة فى البورصة و أيام الحلم فى السلام و الهدوء هى أيام رخاء أيضا على البورصة.
و بما أن النمو محدود بعنصر الزمن و فرص الاستمرار فى السوق هى أيضا محدودة بعناصر الجو العام و سعر الفائدة السائد و الطلب على المنتجات و تحديث السلع باستمرار فان ارتفاعا متواصلا هو وهم فى رؤوس المتعاملين و هو الدرس الذى لابد للبشرية على ما يبدو أن تتعلمه كل حقبة لسهولة نسيانه.
و ما يسرى على الأوراق المالية يسرى بالطبع و من باب أولى على العقارات التى بسببها وقعت واقعة 2008 حيث تعامى مديرو البنوك و شركات التأمين عن تلك الحقيقة البسيطة و سحبوا معهم الى القاع مدخرات ملايين الناس و صناديق المعاشات و أرصدة البنوك حتى الغير أمريكية منها بحيث تحولت هذه الأموال الى تراب فى خلال ساعات و نتج عن ذلك ما نراه اليوم من أزمة مستحكمة.
ان دور الدولة القومية كان و سوف يظل محوريا فى وضع الضوابط على الائتمان و على ضمانات ما يطرح فى الأسواق من أوراق مالية و لعل هذا ما أنقذ مصر مثلا من التردى و الوقوع فى مخالب الافلاس حيث أن السياسة المصرية الائتمانية للبنك المركزى هى أيضا من السياسات المتحفظة التى لم تنزلق الى هاوية الربح السريع و خصوصا أن الدولة فى مصر لا تستطيع أن تضخ المليارات الكثيرة جدا كما فعلت الدول المتقدمة.
أما على جانب البنوك فان الحوافز الغير طبيعية التى كانت تصرف لمديرى المحافظ المالية لابد من وضع ضوابط لها بحيث ترتبط بالنجاح الاقتصادى للعملية و ليس فقط النجاح الرقمى على الورق.
لقد احتاجت البنوك الغربية النصف الثانى كله من عام 2007 و كل عام 2008 و معظم عام 2009 لكى تحصى خسائرها فى تلك العمليات المشبوهة نظرا لشدة تعقيد التداخلات بين الأوراق و المحافظ العابرة للحدود بين الدول و الثقافات أى الأزمة أقدم من انهيار بنك ليمان بأكثر من عام لأنها بدأت فى الربع الثانى من عام 2007 و مع ذلك فان الجشع منع هؤلاء المديرين من رؤية الحقيقة بل و استمروا فى خداع العملاء و الزملاء على السواء.
تبقى بعد ذلك مشكلة تربوية هى مشكلة اخراج فكرة الثراء السريع و الربح الخاطف من وجدان المتعاملين لأنها لا تؤدى الا الى الجشع و قبول بمخاطر هى فى حقيقتها ليست مخاطر انما مهالك.
و هذه الأعمدة الثلاثة – المصارف و الدولة و المشكلة التربوية الثقافية – هى ما يمكن أن نطلق عليه توصيف العمل ان أراد المسلمون أن يكون لهم ضلع فى اعادة تشكيل سوق المال و الاستثمار.
فالأزمة سبّبها انهيار الاتحاد السوفيتى و الفاعل فيها أمريكى و الضحايا هم الآخرون و المنقذ قد يكون – ان استطاع الى ذلك سبيلا – الاسلام.
فهل من مجيب ؟