كوبا .. كانت ضحية للرأسمالية وباتيستا ثم كاسترو الذي أعادها
تبدو كوبا، التي تحتفل هذا العام بمرور مائة عام على استقلالها، كما لو انها تجسيد حي لقرية «ماكاندو» الكاريبية العجائبية في رائعة غابرييل غارسيا ماركيز «مائة عام من العزلة». فتاريخها سلسلة من الفواجع والخيبات والنكسات والالام والاحلام المكسورة والامال المخيبة. ولعل كوبا واحدة من اكثر بلدان العالم الثالث التي تضررت من النظامين، الرأسمالي في البداية، ثم الشيوعي في ما بعد. فكلا النظامين لم يجلب لشعبها غير البؤس والشقاء والعذاب. ويكفينا ان نستعرض البعض من المراحل الاساسية لهذه الجزيرة الجميلة «الجد قريبة من الولايات المتحدة الامريكية والجد بعيدة عن الله» على حد تعبير المكسيكي بورتيفيرودياز، لكي نقف على هذه الحقيقة المرة..
كان ذلك في العشرين من مايو (ايار) 1902 عندما قررت الولايات المتحدة الامريكية وضع حد لهيمنتها العسكرية على كوبا التي استمرت ثلاثة اعوام. وبفضل الاصلاحات التي قام بها الرئيس توماس ايسترادا تمكنت البلاد من تضميد جراح حرب التحرير، محققة نموا اقتصاديا ممتازا استمر حتى العشرينات من القرن الماضي. في الفترة ذاتها، ظهرت نخبة مثقفة ساهمت مساهمة جادة وفعالة في تطوير البلاد، وايضا في وضع الاسس الصلبة لمجتمع مدني حقيقي.
بين العشرينات والخمسينات، عرفت كوبا متاعب اقتصادية، وهزات سياسية عنيفة احيانا، مثل الانقلاب العسكري الفاشل الذي حدث عام 1933، غير ان ذلك لم يؤثر كثيرا في توازنها الاقتصادي والسياسي. لكن في عام 1952 اختل هذا التوازن اختلالا خطيرا بسبب الانقلاب الذي دبره عسكريون بقيادة الجنرال باتيستا، الذي سارع حال تسلمه السلطة الى التخلص من الدستور الذي كانت تتمتع به كوبا حتى ذلك الحين، ملغيا الاحزاب وحرية التعبير، مكمما الصحافة آمرا الجيش والشرطة بملاحقة كل المعارضين لنظامه بمختلف انواعهم واصنافهم. في ذلك الوقت كان فيديل كاسترو، الذي ينتمي الى عائلة بورجوازية مرفهة، شابا في الخامسة والعشرين من عمره. وكان مشهورا في جامعة هافانا بشجاعته واتقانه لفن الخطابة، وايضا بقدرته الفائقة على التصدي لخصومه. وكان يحيط نفسه بانصار اطلق عليهم اسم «عصابة اصحاب المسدسات»، اذ ان البعض منهم كانوا يحملون هذا السلاح خلال التظاهرات والتجمعات الطلابية لترهيب خصومهم. وقد عارض الشاب فيديل كاسترو انقلاب الجنرال باتيستا بشدة قائلا: «ذات مرة كانت هناك جمهورية لها دستورها وقوانينها وحرياتها ورئيسها وبرلمانها ومحاكمها. بامكان الجميع ان يجتمعوا وان يؤسسوا جمعيات خاصة، وان يكتبوا او يتكلموا بكل حرية. ولم تكن الحكومة ترضي الشعب كثيرا. غير ان الشعب كان يطمح الى التغيير، وكان بمقدوره ان يحقق ذلك وكان هناك رأي عام له وزنه وكلمته المأخوذة بعين الاعتبار، وكل المسائل التي لها علاقة بالمصلحة المشتركة كانت تناقش بكل صراحة وبكل حرية. وكانت هناك احزاب وبرامج سياسية في الراديو وفي التلفزيون، وكان الشعب يتقد حماسا. غير ان الجنرال باتيستا الغى كل هذا، وأدخل البلاد في داموس مظلم». ولم ينتظر فيديل كاسترو طويلا. فبعد مضي عامين على الانقلاب، قام وانصاره بالهجوم على الثكنات العسكرية بهدف الاطاحة بالنظام. غير ان تلك العملية الشجاعة منيت بفشل ذريع والقي القبض على مدبريها ليمضوا بضعة اعوام في السجن. وبطبيعة الحال، كان فيديل كاسترو بينهم.
اغرق الجنرال باتيستا البلاد في الفساد وملأ الجزيرة الجميلة بكازينوهات القمار وبالفنادق الفخمة لتصبح جنة للاثرياء والمشاهير، في حين كانت الاغلبية الساحقة من الكوبيين تعيش حالة مريعة من الفقر والبؤس. وكانت السجون تعج بالمعارضين السياسيين في مختلف التجمعات والميول. ولان الولايات المتحدة الامريكية كانت تعيش في ذلك الوقت حالة فزع ازاء المد الشيوعي المدعوم من قبل خصمها اللدود الذي كان يسمى آنذاك بـ«الاتحاد السوفياتي»، فانها قدمت دعما عسكريا وسياسيا مهما لنظام الجنرال باتيستا باعتباره «درعا» ضد الشيوعية الزاحفة غاضة الطرف عن الاوضاع التي كانت تزداد تدهورا يوما بعد يوم في الجزيرة الواقعة عند عتبة بابها الكبير. ومنشغلا بذلك، شرع فيديل كاسترو، الذي اختار حياة المنفى في المكسيك عقب خروجه من السجن، في اعداد خطته للاطاحة بنظام الجنرال باتيستا الفاسد. وكان اغلب انصاره من الثوريين المحترفين بينهم شاب وسيم يدعى تشي غيفارا ينتمي هو ايضا الى عائلة بورجوازية من الارجنتين. وبعد تخرجه من كلية الطب ببوينس آيرس، جاب بلدان اميركا اللاتينية بهدف التعرف عن كثب على اوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ايضا. ولان ما شاهده من اوضاع مأساوية لمختلف شعوب المنطقة روعه وحز في نفسه كثيرا، فانه قرر ان يتخلى عن مهنته كطبيب ليصبح ثوريا محترفا له طموح واحد: الثورة «المسلحة ضد البورجوازية والامبريالية ليس فقط في امريكا اللاتينية وحدها، وانما في بقاع اخرى من العالم تعاني من نفس الامراض.
نفذ فيديل كاسترو ورفاقه اول هجوم مسلح على نظام باتيستا اواخر عام 1958. وخلال اشهر قليلة تمكنوا من الاطاحة به، وهذا ما افزع المسؤولين الامريكيين الذين كانوا يعتقدون انهم قادرون على سحق اية محاولة ترمي لزرع الشيوعية على عتبة ابوابهم الحصينة. ومفسرا الهزيمة السريعة التي مني به نظام الجنرال باتيستا يقول المؤرخ البريطاني ايريك. ج هوبسبافن (Eric J. Hobsbawn) «لقد انتصر فيديل بسرعة لان نظام باتيستا كان هشاً، وكانت تنقصه المساندة الفعلية والحقيقية. حتى اولئك الذين كانوا يدعمونه طمعا تخلوا عنه في النهاية. ثم ان الجنرال باتيستا كان فاسداً وكسولا بشكل فظيع. وقد انهار نظامه حالما توحدت القوى السياسية، من البورجوازية الديمقراطية الى الشيوعيين ضده، وتيقن اعوانه من جنود ومخابرات وجلادين من ان ساعة رحيله قد دقت (...). لذا يمكن القول ان اغلبية الكوبيين عاشوا انتصار القوات المتمردة بقيادة فيديل كاسترو كلحظة تحرير». وبالرغم من ان فيديل كاسترو ورفاقه كانوا يصفون انفسهم بـ«الثوريين» فانهم لم يكونوا ينتمون الى اي تيار شيوعي بالمعنى الحقيقي والدقيق للكلمة.
وكانت طروحاتهم وافكارهم تستمد جذورها من التراث الثوري القديم لامريكا اللاتينية مجسدا في محررها سيمون بوليفار وفي آخرين من امثال الكوبي خوزيه مارتي. غير ان الاحداث التي جدت عقب انتصارهم في عام 1959، دفعت بهم بسرعة باتجاه الشيوعية. وبين عشية وضحاها بدأوا يطبقون تعاليمها بجد وحماس. فلما توضح لها ذلك، شرعت الولايات المتحدة الامريكية تهيئ نفسها للانقضاض على النظام الثوري الجديد. وفي عام 1961 نفذت خطة عسكرية بمساعدة المنفيين الكوبيين المعادين لفيديل كاسترو ورفاقه غير ان الخطة منيت بفشل ذريع في «خليج الخنازير»، الذي اصبح منذ ذلك الحين عزيزا على الشيوعيين والثوريين في جميع انحاء العالم. اما ما كان يسمى في ذلك الوقت بـ «الاتحاد السوفياتي» فقد وجد الفرصة سانحة لاثبات قوته على الصعيد العالمي، خصوصا امام غريمته الكبرى الولايات المتحدة الامريكية. لذا سارع بالوقوف الى جانب نظام فيديل كاسترو ودعمه اقتصاديا وسياسيا. فكان القرار الامريكي امام هذه التهديدات الخطيرة هو فرض حصار اقتصادي على كوبا.
ومثل كل الثوريين الذين صعدوا الى السلطة ملوحين للجماهير بالوعود الجميلة، بدأ كاسترو يظهر شيئا فشيئا وجهه القبيح ليتحول مع مرور الزمن الى طاغية مستبد لا يختلف في شيء عن ذلك الذي اطاح به بالامس، اي الجنرال باتيستا. وهكذا امتلأت السجون بالمعارضين، وكممت الافواه، واصبح الكتاب والفنانون خاضعين لسلطة الرقابة، ولم يعد للصحافة دور غير الدعاية للنظام، وتمجيد خصال زعيمه فيديل كاسترو. ومع تدهور الاوضاع، اصبح الكوبيون يلقون انفسهم في البحر بالآلاف آملين في الوصول الى جارتهم الكبيرة الولايات المتحدة الامريكية. ورغم كل هذه الكوارث التي حلت بالشعب الكوبي خلال الاربعة عقود الاخيرة، فان فيديل كاسترو ظلّ مصرا على ان الاشتراكية هي الطريق الوحيد لتطوير البلاد والنهوض باقتصادها. وحين تشتد الازمات، لا يجد وسيلة لمواجهتها غير الخطب الرنانة التي تستمر ساعات طويلة، ويجبر اغلب الكوبيين على متابعتها والا فانهم يصبحون عرضة للشك والارتياب بخصوص «وطينتهم» و«نقاوتهم الايديولوجية».
وبعد انهيار الكتلة الشيوعية بقيادة ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين اواخر الثمانينات ومطلع التسعينات تكهن كثيرون بان ايام النظام الشيوعي في كوبا باتت معدودة، خصوصا ان الاوضاع الاقتصادية اصبحت لا تطاق. ولكن ها هي الايام والسنوات تمر ولا شيء في الافق يدل على اقتراب ساعة الخلاص. والآن، يعيش الشعب الكوبي اسوأ فترة في حياته في ظل النظام الشيوعي. فقد اصبح الناس ينتقلون على الدراجات بسبب النقص الفادح في البنزين. وفي لياليهم يستعينون بالشموع لان الكهرباء تنقطع مرات عديدة في الاسبوع الواحد. وارتفعت مبيعات مادة «الليندان» بشكل مهول، ذلك ان القمل اصبح يعشش في الرؤوس بأعداد وفيرة. اما فيديل كاسترو فيبدو غير معني بكل هذه الكوارث والفواجع ورافضا النظر الى الواقع المخيف لبلاده، هو لا يزال يمجد ثورته التي باتت شبيهة بجثة تتعفن تحت شمس كوبا اللاهبة. ومثل كل الحكام المستبدين، هو يريد ان يحكم شعبه حتى وهو ميت، لذا اجبر البرلمان هذا العام على التصويت على بند ينص على عدم ادخال اي تغيير مستقبلي بالنسبة للدستور الاشتراكي الذي فرضه على بلاده عند صعوده الى السلطة قبل ازيد من اربعين عاما، وقد كتبت صحيفة «غراما» الناطقة باسم الحزب الشيوعي تقول إن 99.5% من الكوبيين يرغبون في ما طلبه «الزعيم» من البرلمان. اما المعارضة الكوبية فقد اعتبرت هذا القرار «خبرا مفرحا» لان فيديل كاسترو حسب رأيها لم يفعل شيئا اخر غير اجبار الرئيس المقبل على تغيير الدستور الكوبي جملة وتفصيلا.. وقد صرح احد قادتها قائلا: «اعتقد ان فيديل كاسترو ارتكب افظع خطأ في مسيرته السياسية ذلك انه بفرضه على البرلمان التصويت على عدم تغيير الدستور الاشتراكي مستقبلا فتح الباب واسعا امام الحكومة، التي ستتولى بعده شؤون البلاد لكي تلغي كل الاجراءات التعسفية التي فرضت على الشعب الكوبي على مدى ما يزيد على الاربعين عاما».