- الأحد مايو 30, 2010 6:09 pm
#27597
بسم الله الرحمن الرحيم
اتجاهات تحليل السياسة الدولية الأصول الفلسفية لعلاقات السياسة العالمية
باستثناء المشكلات الدولية الكبرى فإن أحداث العلاقات الدولية لا تحظى باهتمام واسع من الناس ، ويرجع السبب في ذلك إلى تشعب تلك القضايا واختلاطها وصعوبة رصد العوامل التي تحركها ، كما يلعب ضعف إحساس الناس بآثار العلاقات الدولية على حياتهم الخاصة دوراً آخر في إضعاف اهتمامهم بتلك القضايا. إن تأثير المشاكل الدولية على أوضاع الناس العاديين تأثير كبير وأساسي إلى حد بعيد ، ولكن ضعف إحساس الناس به يتأتى من أنه يحدث في الغالب بطريق غير مباشر ، والغريب أن بعض كبار السياسيين العالميين يشاركون الناس العاديين في ضعف الإحساس بأثر الأحداث الدولية . ولعل من أبلغ ما حفظه لنا التاريخ الحديث دلالة على ذلك هو اتجاه القادة الأوروبيين إلى تجاهل الخطر النازي في البداية ، بل حتى عندما كانت الحرب العالمية الثانية على وشك الانفجار وكان هتلر يهدد باجتياح الدول تباعاً ، وعندها صرح رئيس الوزراء البريطاني آنها تشمبرلين بأن اجتياح هتلر لتشيكوسلوفاكيا إذا ما وقع فإنه لن يؤثر على الأوضاع الداخلية لبريطانيا ، ولذلك فقد رفض أن تقدم بلاده أي عون للتشيك في دفاعهم عن بلادهم ضد الألمان ، مما سهل على هتلر مهمته في توسيع مجاله الحيوي ، وتهديد الأمن الدولي برمته ، ووضع العالم على شفير الحرب التي قضت على أرواح سبعين مليون من البشر. وبالطبع فليست كل آثار السياسة الدولية على السياسات الداخلية للدول بمثل هذا الواقع المروع ، فهذا هو المثال الأكثر سطوعاً لا المثال العادي. ولكنا سقناه لنؤكد أنه حتى قادة الدول العظمى ينحون نوعاً ما ، إلى تجاهل آثار العلاقات الدولية .تفاعل مسلمي الأمس مع العلاقات الدولية: ومسلمو الأمس كانوا رغم انحصارهم في إطار مكاني بعيد عن الأثر المباشر لواقع التفاعلات الدولية، إلا أن القرآن أكد لنا أنهم كانوا شديدي الاهتمام بآثار تلك التفاعلات ، وما روته لنا سورة الروم عن قلق المسلمين من انتصار الفرس المجوس على الروم الكتابيين هو مثال لذلك ، وما روته كتب السيرة عن تسابق رجال الدولة النبوية الثلاثة الأوائل لتفقد سور المدينة هو مثال آخر . فقد حكت تلك الكتب أن سيدنا عمرعندما سمع ذات ليل جلبة عنيفة قادمة أصداؤها من عند أبواب المدينة ، تقلد سلاحه ، وخف مسرعاً يتفقد الأمر ، خوفاً من أن يكون الروم قد وصلوا إلى أبواب المدينة ، ليخنقوا دولة الإسلام الناشئة ، وفي طريقه إلى هناك وجد سيدنا أبا بكر الصديق وقد سبقه مستكشفاً جلية الأمر، وعندما اقترب الرجلان من أبواب المدينة ألفيا سيدنا رسول الله (ص) قادماً من هناك ، وقد سبقهما لاستجلاء الحدث .. وهكذا كان إحساس الجميع مرهفاً بالخطر القادم من خارج الحدود ! وهكذا فإن المسلم لا يمكن أن يعيش معزولاً عما حوله من أحداث، ولا عما بعد عنه من أحداث . وفي هذا المقال نود أن نعين القارئ العادي غير المتخصص على تكوين منهجية خاصة لفهم العلاقات الدولية ، وذلك من خلال الاستعراض المقارن لأفكار المدارس الثلاث المسيطرة على أساليب تحليل العلاقات الدولية ، وإضافة ملامح المدرسة الرابعة التي هي الآن في حال مخاض لما يسفر عن وجه واضح .تحليلات التيار الواقعـــي: إن أكثر المحللين السياسيين سواء كانوا علماء سياسة ، أو سياسيين سابقين ، أو خبراء إعلاميين ، فإنهم قد خرجوا من عباءة المدرسة الواقعية (Realist approach) وحتى نعرف اتجاهات تفكير هؤلاء ، فلابد من أن نستبطن مسلماتهم الفكرية السياسية ، التي تشكل الأرضية الفلسفية التي ينطلقون منها ، وهي أكثر التيارات معرفة عامة بهذه الفلسفة ، ولكن المعرفة الغامضة لا تكفي لمعرفة الأبعاد العقلية التي تؤطر تفكير هؤلاء المحللين . ولإيضاح ما نرمي إلى إيضاحه فلنبدأ بهذه المدرسة ، فهي الأقدم والأرسخ ، وعلى أساس مبادراتها وتفسيراتها نهضت المدارس الأخرى : مدرسة (العالمية) و (التبعية) و (الأصولية)، ويعتقد كثير من خبراء السياسة أن نظريات هذه المدارس الثلاث مهما بلغت أصالتها فما هي إلا ردود فعل لاطروحات المدرسة الواقعية .كيف هرب الغزال السمين؟ لقد ورث التيار الواقعي نزعة الشك العميق لدى الفيلسوفين الإنجليزي توماس هوبز، والفرنسي جان جاك روسو . وفي اعتقاد هذين الفيلسوفين فإن حالة عدم الثقة التي تسود المستوى الدولي هي حالة طبيعية دائمة لا يمكن أن تتغير لأنها مشتقة من طبيعة الإنسان المفطور على العدوان . وهكذا فلابد أن تؤسس تصرفات الدول في علاقاتها الخارجية على هذا الأساس . فلا أحد يثق في الآخر ، ومن ثم فلابد أن يأخذ احتياطاته بالكامل تحسباً من أي خطر أو هجوم يجترحه في حقه الآخرون ، سواء كانوا أصدقاء أم أعداء ، ولا تكمن الثقة حتى في إمكانية وفاء الآخرين ممن تدخل الدولة معهم في أحلاف أو مواثيق مكتوبة . والمثال الكلاسيكي الذي يورده هؤلاء هو مثال الصيادين الذين اتفقوا فيما بينهم على صيد غزال سمين ، كان قمينا بأن يقدم وجبة عشاء سخية تكفيهم جميعاً ، فاحتوشوا الغزال وكمن كل منهم في مرصد أو منفذ ينتظر أن يفلت منه الغزال ، بينما تفرغ البعض لمناوشته من الداخل ، غير أن أحدهم خان العهد فترك ثغرة لما رأى أرنباً صغيراً ، رأى أنه يكفي لعشائه منفرداً ، فانشغل بصيد الأرنب تاركاً مرصده لينفذ منه الغزال ويهرب ، وضاعت بذلك الوجبة الجماعية لقاء الطمع الفردي لصائد الغزال ! هذا هو مثال النظام الدولي الذي يمكنه نظرياً أن يحقق الأمن والرخاء للجميع ، طالما التزم الجميع بمقتضياته ، ولكن الواقع شيء آخر تنعدم فيه إمكانية تأسيس مثل ذلك النظام ، وتكثر فيه احتمالات بروز أمثال صائد الأرنب ممن يفكرون على مستوى المصالح الشخصية ، ويهملون أمر المصالح الجماعية الدولية. ولذا اقتضى الأمر أن تفكر كل دولة حسب مصلحتها الخاصة ومصالحها الآنية ، على وجه الخصوص ، ضاربة عرض الحائط بمصالح الآخرين أو بمصالح النظام الدولي بعيدة المدى . هذه الأفكار الغليظة قلما يصرح بها المحللون الواقعيون، وذلك بسبب بشاعتها المميتة ، وإفراطها في التشاؤم ، ولكن إيمانهم بها هو إيمان قطعي لا يتخلله الشك ، وهي تستبطن كتاباتهم جميعاً ، وبقليل من التدريب يستطيع القارئ أن يستبصر أطيافها وملامحها في معظم ما يقرأ من تحليلات السياسة الدولية التي ينتجها الاصلاء أو المقلدون في هذا الحقل . الدولة هي المؤثر الأوحد: وانسجاماً مع هذه المقدمة الفلسفية فإن وحدة التحليل عند هذه المدرسة هي الدولة القومية لا غير ، فهم لا يعترفون بأي دور في السياسة العالمية لسوي الدول القومية ، فما يسمى بالمنظمات الدولية ، والقانون الدولي ، والشركات عابرة القارات ، والحركات الثورية، ما هي سوى واجهات وهمية لأثر الدول القومية التي تسعى إلى تحقيق مصالحها وزيادة قواها العسكرية والدبلوماسية التي تضغط بها على الدول الأخرى لتكيف سلوك تلك الدول بما يتفق لا مع الصالح الدولي ولا المقتضيات الأخلاقية ، وإنما بما يتفق مع مصالح الدولة الأقوى . ويعتقد المحللون الواقعيون أن ذلك هو الوضع الطبيعي المشتق من طبيعة الإنسان الأمارة بالطمع والبخل وحب الاستعلاء، ويحذرون أي دولة لا تنفق جهدها في اكتساب القوة ، لأنها إنما تخلي بذلك مواقعها للدولة الأقوى، وتصبح بالتالي سبباً مباشراً في اندلاع الحرب . فاختلال موازين القوة إنما هو الداعي الرئيس الذي يجرئ دولة ما ، لإعلان الحرب . هذا بينما يؤدي اعتدال ذلك الميزان إلى حالة ردع متبادل بين الخصوم ويسبب استقراراً مشوباً بالحذر في الوضع الدولي .مشكلات الحرب والسلام: واستنتاجاً من ذلك فإن أهم المشكلات الدولية عند هؤلاء المحللين الواقعيين، هي مشكلات الحرب والسلام . إن االسلام مطلوب دائماً ولكنه مطلب عزيز لأن حالة الحرب هي الوضع الطبيعي ! وبدلاً من شجب الحرب وتبيان أضرارها بالجنس البشري ، وبدلاً من صرف الجهد في الدعوة إلى السلام يجب التركيز على دراسة ظاهرة الحرب دراسة موضوعية، تهدف إلى الخروج بقوانين عامة عن قضايا القوة النسبية والتحالفات الدولية والاحتواء ، والأداء الدبلوماسي وأسباب اندلاع الحروب ومحاولة التنبؤ بلحظ اندلاع الحرب وبما يعقبها من تسويات وأوضاع . وإنما عدت الحرب أهم المشكلات لأنها ظلت قدر الإنسان التاريخي كما ظلت مصدراً لأهم التغيرات والتحولات الثورية في جوانب الوضع السياسي الدولي ، فكم من دولة زالت أو وهنت قواها بسبب الحرب ، وكم من دولة نهضت كنتاج للحرب ، وكم من حدود سياسية تم تعديلها بسبب الحرب ، وكم من حكومات قد سقطت بسبب الحرب ، وحتى ميزان القوى الدولي فيمكن تغييره بسبب الحرب التي قد تنتج عنها دولة عظمى واحدة سائدة ، أو عدة دول تتوزع فيما بينها القوة الدولية أو قوتان عظميان تتنازعان النفوذ . وفي غضون ذلك كله يتهمش ما يسمى بالقانون الدولي ، وتتجرد العلاقات الدولية من كل مضمون أخلاقي أو اعتبار قيمي ، لأن الحرب والسعي إلى اكتساب القوة لا يعرفان أياً من هذه الاعتبارات ، فالأخلاق عملة فاسدة في هذا المجال ، أو بتعبير كيسنجر- وهو أعظم مراجع التيار الواقعي في الوقت الراهن- فالأخلاق لا حساب لها هنا على الإطلاق!! ومن قديم قدم المؤرخ توسيديس وصفه الشامل للحرب الاثينية -الاسبارطية بحسابات باردة، ومن دون أن يذرف دمعة واحدة على مآسي الحرب التي استعرضها وعلى الضحايا الذين أحصاهم ، وكان تبريره هو نفس التبرير الطريف التليد ، والذي مؤداه أن الحرب وكل ما تنطوي عليه من مآس إنما هو شأن طبيعي لا يستغرب ، وأكثر من ذلك فعند مطالع عصر النهضة الأوروبية جاء الفلاسفة غلاظ القلوب شأن مكيافلي و هوبز و هيجل ليبجلوا مفاهيم القوة والغزو والحرب وليؤكدوها في أذهان الساسة . حتى أن هيجل كان يعتبر الحرب بمثابة الدافع الأساسي لتطهير وصقل الجنس البشري وإنتاج الإنسان الأعلى . هذه المفاهيم حول إشكالات الواقع الدولي ما زالت هي نفس المفاهيم التي توجه مفكري التيار التحليلي الواقعي سواء المتشددين منهم والمتشائمين أمثال هنري كيسنجر وزبيغنيو برزنسكي من القائلين بحتمية استمرار الصراع الدولي بين الدول الراضية عن الواقع الدولي الراهن ، والعاملة على تمديد أجله ما استطاعت ، وبين الدول الثائرة عليه والتي تنتهز الفرص لتقويضه من الأساس . أو من مفكري التيار الواقعي المعتدلين من أمثال جورج كينان وسايروس فانس من المؤمنين بجدوى سياسة الاحتواء والمناورات الدبلوماسية التقدم العلمي ليس كفيلاً بتحقيق السلم الدولــي وفي مواجهة طروحات التيار الواقعي نشأ الاتجاه الوسطي التصالحي الذي يسمي نفسه بالتيار العالمي (global) وهي تسمية تشير إلى صلب فلسفته القائمة بعدم حتمية الصراع على المستوى الدولي ، وبأن مناخ العلاقات الدولية هو أقرب إلى حالة الاعتماد المشترك ، منه إلى حال الفوضى والحرب . فهناك نوع من النظام الدولي آخذ في الاتساع والتكامل وهو في طريقه إلى أن يفرض نفسه كنوع من العرف والقانون الدولي المقبول طواعية من كل الدول. ويلاحظ مفكرو هذا من أمثال جوزيف ناي وروبرت كوهين تناقص تركيز الدول على قضايا الحرب والسلام ، واتجاهها إلى التركيز على قضايا التطور التكنولوجي والاقتصادي ، وهي قضايا تقود بطبيعتها إلى خلق وتعزيز مناخ من التفاهم والتعاون بين الدول وإلى تخفيض درجة الاستقطاب والاستعداء بينها . وبالطبع فإن المحللين العالميين لا يمضون في ذلك الشوط إلى درجة الزعم بأن ملامح الفوضى والحرب : هي في طريقها إلى الاختفاء نهائياً . كل ما هناك أنهم لا يعطونها الأهمية العظمى في التحليل .ومعظم كتابات هؤلاء العالميين تتمحور حول تحليل دور المؤسسات الدولية ، وهم يتجاوزون شأن الدول القومية ، معتقدين أن تلك المؤسسات تستطيع أن تقود العالم نحو آفاق الاعتدال . ولذلك فهم يدعون إلى مزيد من مأسسة السياسة الدولية ، وإلى تقوية تلك المؤسسات وإعطائها استقلالية خاصة حتى تستطيع أن تشكل بتشابكها النامي نسيج النظام الدولي الحقيقي . وقد كان هؤلاء العالميون هم أشد المحللين شجباً لوثيقة البنتاغون الشهيرة التي دعت إلى تجاوز الأمم المتحدة ، ونظم الأمن الجماعي ، وسائر المنظمات الدولية ، تحقيقاً للهيمنة الأمريكية المباشرة على العالم . وفي محيط اهتمامات المحللين العالميين تتناثر قضايا كثيرة يرونها أشد إلحاحاً من قضايا الحرب مثل قضايا التوازن البيئي وحقوق الإنسان والمجاعات ، وتناقص موارد الطاقة ..إلخ ، فهذه وأمثالها تشكل قضاياهم المركزية ، وذلك على عكس تحليلات التيار الواقعي التي تناقش هذه القضايا على هامش قضايا الحرب وتعدها من نوافل القول . محللو رفض التبعيـــة: ويمثل تيار رفض التبعية اتجاها آخر في مواجهة التيار الواقعي وهو أكثر راديكالية من التيار العالمي. وعلى عكس ما يظن الكثيرون من أن تيار رفض التبعية قد قام على أساس الاستهداء بالتراث الماركسي ، فإن بعض منطلقاته ترتطم رأساً بمقولات التراث الماركسي .فكل من ماركس وانجلز أبديا تفاؤلهما بظاهرة اكتساح الرأسمالية للعلاقات الدولية باعتباره علامة تعجل بنضج الرأسمالية ومن ثم تبشر بانهيارها الوشيك كما اعتقد أن الأقطار المتخلفة يمكن أن تجني فوائد بنيوية ضخمة من جراء نزوح الرأسمالية إليها . وعلى نقيض ذلك التفكير يذهب منظرو مدرسة رفض التبعية وعلى رأسهم بول باران وقونديز فرانك وسمير أمين وولرستين إلى أن تعامل الدول الغنية مع الفقيرة لا يمكن أن يكون إلا من قبيل مباريات حاصل الصفر بمعنى أن غنم (أ) هو غرم (ب) وأن المركز لا يتطور إلا بتخلف الأطراف .ويعتقد محللو هذا التيار أن النظام الدولي قد تم تشييده سلفاً وأن مباريات السياسة الدولية إنما تدار على أساس ذلك النظام أي على أساس الاستغلال وأنماط الاستنزاف الذي تقوم به قيادات ذلك النظام . وعند تصميم النظام الدولي روعي أن يؤدي أولى متطلباته المتلخصة في ضمان نجاح الوظائف الاقتصادية التي يقوم بها المركز . هذا بينما لم تعط أي ضمانات تذكر للاطراف التي انحصر دورها في توفير المواد الخام التي تتدهور أسعارها آناً بعد آن واستيراد الموارد المصنعة التي تتصاعد أسعارها باستمرار . وهكذا فبينما يرى المحللون الواقعيون أن طبيعة النظام الدولي عادلة ومتسقة مع الواقع العلمي فإن المحللين الراديكاليين يرونها طبيعة استغلال وتأكيداً للتبعية الاقتصادية . ومن هنا تنطلق كافة تحليلاتهم لمشاكل النظام الدولي .ووحدة التحليل كما يتضح من الشرح السابق ليست هي الدولة القومية، ولا المنظمات العالمية ، وإنما النظام الرأسمالي العالمي ككل ، فهو الكتلة التي تفرخ السياسة الدولية وتؤثر في معظم قراراتها ، ويعتقد منظرو هذا التيار إنه لا أمل في أي جهد قومي منفرد لاختراق هذا النظام الدولي ، ولا يرون سبيلاً لتقدم العالم الثالث واستقلال قراراته السياسية إلا بالاتحاد في وجه النظام الدولي . ولذلك دعا الأستاذ الجزائري العظيم مالك بن نبي، رحمه الله، والذي يمكن اعتباره ببعض التجاوز من دعاة هذا التيار إلى تكوين تكتلات ومحاور تنظم بعض تجمعات العالم الثالث ، مثل محور طنجة - جاكرتا الذي رأى أنه يمكن أن يحرر العالم الإسلامي من قبضة السياسة الدولية ومقتضياتها . تحليلات التيار الأصولـــي: وبينما يرى رجال هذا التيار الراديكالي أن أساس المعضل السياسي الدولي هو ذو طابع اقتصادي ، فإن تياراً جديداً يتشكل في دوائر تحليل السياسة الدولية يرى أن ذلك المعضل نشأ لأسباب تتصل بعالم الروح والأديان. وأفكار التيار الأصولي تجد سندها المتين في كتابات بعض الفلاسفة السياسيين الأمريكيين المبرزين من تيار لي ستراوس ، وإيريك فوغلين الذين، وإن لم يكن اعتبارهم أصوليين بالمعنى الحرفي للكلمة، إلا أنهم كانت لهم الجرأة الكافية لتثبيت المعاني الفلسفية لعلم السياسة في وجه هجمات العلوم السلوكية. وإضافة إلى ذلك كانت لهم قوة عارضة وركيزة استيعابية عالية، مكنتهم من إعادة الاعتبار الأدبي للمفاهيم الأخلاقية والإنجيلية، والزج بها إلى مضمار المفاهيم والممارسات السياسية، حتى لم يعد مستغرباً على الإطلاق اندماج الدين مع السياسة في سياق الدعوة إلى تدين الحضارة الغربية . نهاية الزمن أضحت وشيكة: وإسهام الأصوليين الرئيس في قيام السياسة الدولية هو استصحابهم لمجموعة مفاهيم قدرية لا تحتمل النقاش أهمها مفهوم نهاية الزمن الذي كان قد نحته من قديم الزمان الثيولوجي الكبير أوغسطين ثم سطا عليه هيجل وقام بإفراغه من مضامينه الدينية وشحنه بمضامين علمانية ذات طابع قومي. وواصل المهمة نفسها ليبراليون آخرون آخرهم فوكاياما في حديثه نهاية التاريخ عقب سقوط الاتحاد السوفيتي ، ثم عاد وراجع أطروحته قبل وقت قليل وأخرج نفسه من زمرة المحافظين الجدد الذين ورثوا تلك الدعوة ووضعوها على محكات التنفيذ . وحسب تقدير الأصوليين فإن التاريخ يسرع الخطى نحو نهاياته بطريقة قدرية لا تحكمه فيها عوامل سياسية ولا اقتصادية وإنما تجره عوامل قدرية نحو الفصل الخاتم . فصل الصراع الدامي والمعارك المهلكة التي ستتمخض عن جيل الخلاص الذي يمسح أوضار الشرك والعلمانية ويجلب عهد السلام الأبدي .وهكذا فإن بيئة النظام الدولي ستظل بيئة الصراع الدائم والشر المستفحل . ولاثمة أمل للسلام قبل انتهاء المعركة العظمى التي يسمونها أحياناً بـ الهولوكوست النووي وأحياناً باسمها التاريخي هرمجدون وهي المعركة التي ورد عنها خبر واحد فقط في الكتب المقدسة ، يقولون بأنها تقع في آخر الزمان في أرض إسرائيل ويسيل الدم فيها لمسافة 200 ميل من القدس ، وتتحطم على أثرها كل مدن الأرض بالسلاح النووي ! وهذه الأقاصيص التي تبدو من قبيل البشارات اللاهوتية ، يروج لها الآن ساسة كبار في الغرب ، وقد قام عدد من الرؤساء الأمريكيين منذ عهد كارتر لهؤلاء المحللين السياسيين ليوجهوا مجلس الأمن القومي الأمريكي والبنتاغون . وقد دعي أقطاب ذلك التيار مراراً لتقديم تحليلاتهم لكبار صناع قرار السياسة الخارجية الأمريكية . المجتمع الديني لا القومي ولا الرأسمالي: ووحدة التحليل السياسي عند هؤلاء هي المجتمع الديني العابر للقوميات ، والدولة القومية لا تشكل وحدة تحليل إلا إذا كانت تمثل مجتمعاً دينياً بعينه كإسرائيل ، ولا يشير الأصوليون إلى النظام الرأسمالي إلا بقدر تمثيله للمجتمع الديني النصراني .واللافت للنظر أن مفهومين من مفاهيم التيار الأصولي التقطهما الدكتور صمويل هنتنجتون في حديثه صراع الحضارات وهما مفهوما نهاية الزمن وحسبان الحضارة وحدة التحليل المثلى . والمعروف عن هنتنجتون أنه سليل أسرة عريقة من طائفة البيوريتان الأصولية وأحد أجداده كان من ضمن الآباء المؤسسين للدولة الأمريكية ، وفي كل مفصل من تاريخ أمريكا كان ينهض فرد من أفراد أسرة هنتنجتون بتلك النكهة الدينية التطهرية المفتعلة، فهل يا ترى أراد هنتنجتون وهو بعد التقاعد أن يسترجع ذلك النفس البيوريتاني القديم ؟ نعم. وقد دل على ذلك بكتابه الأخير (من نحب؟) الذي فاضت منه الأفكار الدينية حتى غضت على الفكر العلماني الذي كان يصدر عنه! وعموماً فإن ظهور النكهة الدينية طفح بشكل واضح على كتاب التيار الواقعي من أمثال بيريزنسكي و رتشارد نيكسون ولكن لا يمكن اعتبار هذين ، ولا هنتنجتون من ضمن التيار الأصولي فالتيار الأصولي يرفض في حسم واضح مسلمات التيار الواقعي، ويرفض سياسته القائمة على الاحتواء، ويطالب بالاقتحام، لاسيما في هذا الزمن الأحادي، الذي يعدونه آخر فرصة لنشر الديانة النصرانية على ربوع العالم أجمع ، واتخاذها أداة لخلاص الناس من شرور الحرب والإشكالات الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
اتجاهات تحليل السياسة الدولية الأصول الفلسفية لعلاقات السياسة العالمية
باستثناء المشكلات الدولية الكبرى فإن أحداث العلاقات الدولية لا تحظى باهتمام واسع من الناس ، ويرجع السبب في ذلك إلى تشعب تلك القضايا واختلاطها وصعوبة رصد العوامل التي تحركها ، كما يلعب ضعف إحساس الناس بآثار العلاقات الدولية على حياتهم الخاصة دوراً آخر في إضعاف اهتمامهم بتلك القضايا. إن تأثير المشاكل الدولية على أوضاع الناس العاديين تأثير كبير وأساسي إلى حد بعيد ، ولكن ضعف إحساس الناس به يتأتى من أنه يحدث في الغالب بطريق غير مباشر ، والغريب أن بعض كبار السياسيين العالميين يشاركون الناس العاديين في ضعف الإحساس بأثر الأحداث الدولية . ولعل من أبلغ ما حفظه لنا التاريخ الحديث دلالة على ذلك هو اتجاه القادة الأوروبيين إلى تجاهل الخطر النازي في البداية ، بل حتى عندما كانت الحرب العالمية الثانية على وشك الانفجار وكان هتلر يهدد باجتياح الدول تباعاً ، وعندها صرح رئيس الوزراء البريطاني آنها تشمبرلين بأن اجتياح هتلر لتشيكوسلوفاكيا إذا ما وقع فإنه لن يؤثر على الأوضاع الداخلية لبريطانيا ، ولذلك فقد رفض أن تقدم بلاده أي عون للتشيك في دفاعهم عن بلادهم ضد الألمان ، مما سهل على هتلر مهمته في توسيع مجاله الحيوي ، وتهديد الأمن الدولي برمته ، ووضع العالم على شفير الحرب التي قضت على أرواح سبعين مليون من البشر. وبالطبع فليست كل آثار السياسة الدولية على السياسات الداخلية للدول بمثل هذا الواقع المروع ، فهذا هو المثال الأكثر سطوعاً لا المثال العادي. ولكنا سقناه لنؤكد أنه حتى قادة الدول العظمى ينحون نوعاً ما ، إلى تجاهل آثار العلاقات الدولية .تفاعل مسلمي الأمس مع العلاقات الدولية: ومسلمو الأمس كانوا رغم انحصارهم في إطار مكاني بعيد عن الأثر المباشر لواقع التفاعلات الدولية، إلا أن القرآن أكد لنا أنهم كانوا شديدي الاهتمام بآثار تلك التفاعلات ، وما روته لنا سورة الروم عن قلق المسلمين من انتصار الفرس المجوس على الروم الكتابيين هو مثال لذلك ، وما روته كتب السيرة عن تسابق رجال الدولة النبوية الثلاثة الأوائل لتفقد سور المدينة هو مثال آخر . فقد حكت تلك الكتب أن سيدنا عمرعندما سمع ذات ليل جلبة عنيفة قادمة أصداؤها من عند أبواب المدينة ، تقلد سلاحه ، وخف مسرعاً يتفقد الأمر ، خوفاً من أن يكون الروم قد وصلوا إلى أبواب المدينة ، ليخنقوا دولة الإسلام الناشئة ، وفي طريقه إلى هناك وجد سيدنا أبا بكر الصديق وقد سبقه مستكشفاً جلية الأمر، وعندما اقترب الرجلان من أبواب المدينة ألفيا سيدنا رسول الله (ص) قادماً من هناك ، وقد سبقهما لاستجلاء الحدث .. وهكذا كان إحساس الجميع مرهفاً بالخطر القادم من خارج الحدود ! وهكذا فإن المسلم لا يمكن أن يعيش معزولاً عما حوله من أحداث، ولا عما بعد عنه من أحداث . وفي هذا المقال نود أن نعين القارئ العادي غير المتخصص على تكوين منهجية خاصة لفهم العلاقات الدولية ، وذلك من خلال الاستعراض المقارن لأفكار المدارس الثلاث المسيطرة على أساليب تحليل العلاقات الدولية ، وإضافة ملامح المدرسة الرابعة التي هي الآن في حال مخاض لما يسفر عن وجه واضح .تحليلات التيار الواقعـــي: إن أكثر المحللين السياسيين سواء كانوا علماء سياسة ، أو سياسيين سابقين ، أو خبراء إعلاميين ، فإنهم قد خرجوا من عباءة المدرسة الواقعية (Realist approach) وحتى نعرف اتجاهات تفكير هؤلاء ، فلابد من أن نستبطن مسلماتهم الفكرية السياسية ، التي تشكل الأرضية الفلسفية التي ينطلقون منها ، وهي أكثر التيارات معرفة عامة بهذه الفلسفة ، ولكن المعرفة الغامضة لا تكفي لمعرفة الأبعاد العقلية التي تؤطر تفكير هؤلاء المحللين . ولإيضاح ما نرمي إلى إيضاحه فلنبدأ بهذه المدرسة ، فهي الأقدم والأرسخ ، وعلى أساس مبادراتها وتفسيراتها نهضت المدارس الأخرى : مدرسة (العالمية) و (التبعية) و (الأصولية)، ويعتقد كثير من خبراء السياسة أن نظريات هذه المدارس الثلاث مهما بلغت أصالتها فما هي إلا ردود فعل لاطروحات المدرسة الواقعية .كيف هرب الغزال السمين؟ لقد ورث التيار الواقعي نزعة الشك العميق لدى الفيلسوفين الإنجليزي توماس هوبز، والفرنسي جان جاك روسو . وفي اعتقاد هذين الفيلسوفين فإن حالة عدم الثقة التي تسود المستوى الدولي هي حالة طبيعية دائمة لا يمكن أن تتغير لأنها مشتقة من طبيعة الإنسان المفطور على العدوان . وهكذا فلابد أن تؤسس تصرفات الدول في علاقاتها الخارجية على هذا الأساس . فلا أحد يثق في الآخر ، ومن ثم فلابد أن يأخذ احتياطاته بالكامل تحسباً من أي خطر أو هجوم يجترحه في حقه الآخرون ، سواء كانوا أصدقاء أم أعداء ، ولا تكمن الثقة حتى في إمكانية وفاء الآخرين ممن تدخل الدولة معهم في أحلاف أو مواثيق مكتوبة . والمثال الكلاسيكي الذي يورده هؤلاء هو مثال الصيادين الذين اتفقوا فيما بينهم على صيد غزال سمين ، كان قمينا بأن يقدم وجبة عشاء سخية تكفيهم جميعاً ، فاحتوشوا الغزال وكمن كل منهم في مرصد أو منفذ ينتظر أن يفلت منه الغزال ، بينما تفرغ البعض لمناوشته من الداخل ، غير أن أحدهم خان العهد فترك ثغرة لما رأى أرنباً صغيراً ، رأى أنه يكفي لعشائه منفرداً ، فانشغل بصيد الأرنب تاركاً مرصده لينفذ منه الغزال ويهرب ، وضاعت بذلك الوجبة الجماعية لقاء الطمع الفردي لصائد الغزال ! هذا هو مثال النظام الدولي الذي يمكنه نظرياً أن يحقق الأمن والرخاء للجميع ، طالما التزم الجميع بمقتضياته ، ولكن الواقع شيء آخر تنعدم فيه إمكانية تأسيس مثل ذلك النظام ، وتكثر فيه احتمالات بروز أمثال صائد الأرنب ممن يفكرون على مستوى المصالح الشخصية ، ويهملون أمر المصالح الجماعية الدولية. ولذا اقتضى الأمر أن تفكر كل دولة حسب مصلحتها الخاصة ومصالحها الآنية ، على وجه الخصوص ، ضاربة عرض الحائط بمصالح الآخرين أو بمصالح النظام الدولي بعيدة المدى . هذه الأفكار الغليظة قلما يصرح بها المحللون الواقعيون، وذلك بسبب بشاعتها المميتة ، وإفراطها في التشاؤم ، ولكن إيمانهم بها هو إيمان قطعي لا يتخلله الشك ، وهي تستبطن كتاباتهم جميعاً ، وبقليل من التدريب يستطيع القارئ أن يستبصر أطيافها وملامحها في معظم ما يقرأ من تحليلات السياسة الدولية التي ينتجها الاصلاء أو المقلدون في هذا الحقل . الدولة هي المؤثر الأوحد: وانسجاماً مع هذه المقدمة الفلسفية فإن وحدة التحليل عند هذه المدرسة هي الدولة القومية لا غير ، فهم لا يعترفون بأي دور في السياسة العالمية لسوي الدول القومية ، فما يسمى بالمنظمات الدولية ، والقانون الدولي ، والشركات عابرة القارات ، والحركات الثورية، ما هي سوى واجهات وهمية لأثر الدول القومية التي تسعى إلى تحقيق مصالحها وزيادة قواها العسكرية والدبلوماسية التي تضغط بها على الدول الأخرى لتكيف سلوك تلك الدول بما يتفق لا مع الصالح الدولي ولا المقتضيات الأخلاقية ، وإنما بما يتفق مع مصالح الدولة الأقوى . ويعتقد المحللون الواقعيون أن ذلك هو الوضع الطبيعي المشتق من طبيعة الإنسان الأمارة بالطمع والبخل وحب الاستعلاء، ويحذرون أي دولة لا تنفق جهدها في اكتساب القوة ، لأنها إنما تخلي بذلك مواقعها للدولة الأقوى، وتصبح بالتالي سبباً مباشراً في اندلاع الحرب . فاختلال موازين القوة إنما هو الداعي الرئيس الذي يجرئ دولة ما ، لإعلان الحرب . هذا بينما يؤدي اعتدال ذلك الميزان إلى حالة ردع متبادل بين الخصوم ويسبب استقراراً مشوباً بالحذر في الوضع الدولي .مشكلات الحرب والسلام: واستنتاجاً من ذلك فإن أهم المشكلات الدولية عند هؤلاء المحللين الواقعيين، هي مشكلات الحرب والسلام . إن االسلام مطلوب دائماً ولكنه مطلب عزيز لأن حالة الحرب هي الوضع الطبيعي ! وبدلاً من شجب الحرب وتبيان أضرارها بالجنس البشري ، وبدلاً من صرف الجهد في الدعوة إلى السلام يجب التركيز على دراسة ظاهرة الحرب دراسة موضوعية، تهدف إلى الخروج بقوانين عامة عن قضايا القوة النسبية والتحالفات الدولية والاحتواء ، والأداء الدبلوماسي وأسباب اندلاع الحروب ومحاولة التنبؤ بلحظ اندلاع الحرب وبما يعقبها من تسويات وأوضاع . وإنما عدت الحرب أهم المشكلات لأنها ظلت قدر الإنسان التاريخي كما ظلت مصدراً لأهم التغيرات والتحولات الثورية في جوانب الوضع السياسي الدولي ، فكم من دولة زالت أو وهنت قواها بسبب الحرب ، وكم من دولة نهضت كنتاج للحرب ، وكم من حدود سياسية تم تعديلها بسبب الحرب ، وكم من حكومات قد سقطت بسبب الحرب ، وحتى ميزان القوى الدولي فيمكن تغييره بسبب الحرب التي قد تنتج عنها دولة عظمى واحدة سائدة ، أو عدة دول تتوزع فيما بينها القوة الدولية أو قوتان عظميان تتنازعان النفوذ . وفي غضون ذلك كله يتهمش ما يسمى بالقانون الدولي ، وتتجرد العلاقات الدولية من كل مضمون أخلاقي أو اعتبار قيمي ، لأن الحرب والسعي إلى اكتساب القوة لا يعرفان أياً من هذه الاعتبارات ، فالأخلاق عملة فاسدة في هذا المجال ، أو بتعبير كيسنجر- وهو أعظم مراجع التيار الواقعي في الوقت الراهن- فالأخلاق لا حساب لها هنا على الإطلاق!! ومن قديم قدم المؤرخ توسيديس وصفه الشامل للحرب الاثينية -الاسبارطية بحسابات باردة، ومن دون أن يذرف دمعة واحدة على مآسي الحرب التي استعرضها وعلى الضحايا الذين أحصاهم ، وكان تبريره هو نفس التبرير الطريف التليد ، والذي مؤداه أن الحرب وكل ما تنطوي عليه من مآس إنما هو شأن طبيعي لا يستغرب ، وأكثر من ذلك فعند مطالع عصر النهضة الأوروبية جاء الفلاسفة غلاظ القلوب شأن مكيافلي و هوبز و هيجل ليبجلوا مفاهيم القوة والغزو والحرب وليؤكدوها في أذهان الساسة . حتى أن هيجل كان يعتبر الحرب بمثابة الدافع الأساسي لتطهير وصقل الجنس البشري وإنتاج الإنسان الأعلى . هذه المفاهيم حول إشكالات الواقع الدولي ما زالت هي نفس المفاهيم التي توجه مفكري التيار التحليلي الواقعي سواء المتشددين منهم والمتشائمين أمثال هنري كيسنجر وزبيغنيو برزنسكي من القائلين بحتمية استمرار الصراع الدولي بين الدول الراضية عن الواقع الدولي الراهن ، والعاملة على تمديد أجله ما استطاعت ، وبين الدول الثائرة عليه والتي تنتهز الفرص لتقويضه من الأساس . أو من مفكري التيار الواقعي المعتدلين من أمثال جورج كينان وسايروس فانس من المؤمنين بجدوى سياسة الاحتواء والمناورات الدبلوماسية التقدم العلمي ليس كفيلاً بتحقيق السلم الدولــي وفي مواجهة طروحات التيار الواقعي نشأ الاتجاه الوسطي التصالحي الذي يسمي نفسه بالتيار العالمي (global) وهي تسمية تشير إلى صلب فلسفته القائمة بعدم حتمية الصراع على المستوى الدولي ، وبأن مناخ العلاقات الدولية هو أقرب إلى حالة الاعتماد المشترك ، منه إلى حال الفوضى والحرب . فهناك نوع من النظام الدولي آخذ في الاتساع والتكامل وهو في طريقه إلى أن يفرض نفسه كنوع من العرف والقانون الدولي المقبول طواعية من كل الدول. ويلاحظ مفكرو هذا من أمثال جوزيف ناي وروبرت كوهين تناقص تركيز الدول على قضايا الحرب والسلام ، واتجاهها إلى التركيز على قضايا التطور التكنولوجي والاقتصادي ، وهي قضايا تقود بطبيعتها إلى خلق وتعزيز مناخ من التفاهم والتعاون بين الدول وإلى تخفيض درجة الاستقطاب والاستعداء بينها . وبالطبع فإن المحللين العالميين لا يمضون في ذلك الشوط إلى درجة الزعم بأن ملامح الفوضى والحرب : هي في طريقها إلى الاختفاء نهائياً . كل ما هناك أنهم لا يعطونها الأهمية العظمى في التحليل .ومعظم كتابات هؤلاء العالميين تتمحور حول تحليل دور المؤسسات الدولية ، وهم يتجاوزون شأن الدول القومية ، معتقدين أن تلك المؤسسات تستطيع أن تقود العالم نحو آفاق الاعتدال . ولذلك فهم يدعون إلى مزيد من مأسسة السياسة الدولية ، وإلى تقوية تلك المؤسسات وإعطائها استقلالية خاصة حتى تستطيع أن تشكل بتشابكها النامي نسيج النظام الدولي الحقيقي . وقد كان هؤلاء العالميون هم أشد المحللين شجباً لوثيقة البنتاغون الشهيرة التي دعت إلى تجاوز الأمم المتحدة ، ونظم الأمن الجماعي ، وسائر المنظمات الدولية ، تحقيقاً للهيمنة الأمريكية المباشرة على العالم . وفي محيط اهتمامات المحللين العالميين تتناثر قضايا كثيرة يرونها أشد إلحاحاً من قضايا الحرب مثل قضايا التوازن البيئي وحقوق الإنسان والمجاعات ، وتناقص موارد الطاقة ..إلخ ، فهذه وأمثالها تشكل قضاياهم المركزية ، وذلك على عكس تحليلات التيار الواقعي التي تناقش هذه القضايا على هامش قضايا الحرب وتعدها من نوافل القول . محللو رفض التبعيـــة: ويمثل تيار رفض التبعية اتجاها آخر في مواجهة التيار الواقعي وهو أكثر راديكالية من التيار العالمي. وعلى عكس ما يظن الكثيرون من أن تيار رفض التبعية قد قام على أساس الاستهداء بالتراث الماركسي ، فإن بعض منطلقاته ترتطم رأساً بمقولات التراث الماركسي .فكل من ماركس وانجلز أبديا تفاؤلهما بظاهرة اكتساح الرأسمالية للعلاقات الدولية باعتباره علامة تعجل بنضج الرأسمالية ومن ثم تبشر بانهيارها الوشيك كما اعتقد أن الأقطار المتخلفة يمكن أن تجني فوائد بنيوية ضخمة من جراء نزوح الرأسمالية إليها . وعلى نقيض ذلك التفكير يذهب منظرو مدرسة رفض التبعية وعلى رأسهم بول باران وقونديز فرانك وسمير أمين وولرستين إلى أن تعامل الدول الغنية مع الفقيرة لا يمكن أن يكون إلا من قبيل مباريات حاصل الصفر بمعنى أن غنم (أ) هو غرم (ب) وأن المركز لا يتطور إلا بتخلف الأطراف .ويعتقد محللو هذا التيار أن النظام الدولي قد تم تشييده سلفاً وأن مباريات السياسة الدولية إنما تدار على أساس ذلك النظام أي على أساس الاستغلال وأنماط الاستنزاف الذي تقوم به قيادات ذلك النظام . وعند تصميم النظام الدولي روعي أن يؤدي أولى متطلباته المتلخصة في ضمان نجاح الوظائف الاقتصادية التي يقوم بها المركز . هذا بينما لم تعط أي ضمانات تذكر للاطراف التي انحصر دورها في توفير المواد الخام التي تتدهور أسعارها آناً بعد آن واستيراد الموارد المصنعة التي تتصاعد أسعارها باستمرار . وهكذا فبينما يرى المحللون الواقعيون أن طبيعة النظام الدولي عادلة ومتسقة مع الواقع العلمي فإن المحللين الراديكاليين يرونها طبيعة استغلال وتأكيداً للتبعية الاقتصادية . ومن هنا تنطلق كافة تحليلاتهم لمشاكل النظام الدولي .ووحدة التحليل كما يتضح من الشرح السابق ليست هي الدولة القومية، ولا المنظمات العالمية ، وإنما النظام الرأسمالي العالمي ككل ، فهو الكتلة التي تفرخ السياسة الدولية وتؤثر في معظم قراراتها ، ويعتقد منظرو هذا التيار إنه لا أمل في أي جهد قومي منفرد لاختراق هذا النظام الدولي ، ولا يرون سبيلاً لتقدم العالم الثالث واستقلال قراراته السياسية إلا بالاتحاد في وجه النظام الدولي . ولذلك دعا الأستاذ الجزائري العظيم مالك بن نبي، رحمه الله، والذي يمكن اعتباره ببعض التجاوز من دعاة هذا التيار إلى تكوين تكتلات ومحاور تنظم بعض تجمعات العالم الثالث ، مثل محور طنجة - جاكرتا الذي رأى أنه يمكن أن يحرر العالم الإسلامي من قبضة السياسة الدولية ومقتضياتها . تحليلات التيار الأصولـــي: وبينما يرى رجال هذا التيار الراديكالي أن أساس المعضل السياسي الدولي هو ذو طابع اقتصادي ، فإن تياراً جديداً يتشكل في دوائر تحليل السياسة الدولية يرى أن ذلك المعضل نشأ لأسباب تتصل بعالم الروح والأديان. وأفكار التيار الأصولي تجد سندها المتين في كتابات بعض الفلاسفة السياسيين الأمريكيين المبرزين من تيار لي ستراوس ، وإيريك فوغلين الذين، وإن لم يكن اعتبارهم أصوليين بالمعنى الحرفي للكلمة، إلا أنهم كانت لهم الجرأة الكافية لتثبيت المعاني الفلسفية لعلم السياسة في وجه هجمات العلوم السلوكية. وإضافة إلى ذلك كانت لهم قوة عارضة وركيزة استيعابية عالية، مكنتهم من إعادة الاعتبار الأدبي للمفاهيم الأخلاقية والإنجيلية، والزج بها إلى مضمار المفاهيم والممارسات السياسية، حتى لم يعد مستغرباً على الإطلاق اندماج الدين مع السياسة في سياق الدعوة إلى تدين الحضارة الغربية . نهاية الزمن أضحت وشيكة: وإسهام الأصوليين الرئيس في قيام السياسة الدولية هو استصحابهم لمجموعة مفاهيم قدرية لا تحتمل النقاش أهمها مفهوم نهاية الزمن الذي كان قد نحته من قديم الزمان الثيولوجي الكبير أوغسطين ثم سطا عليه هيجل وقام بإفراغه من مضامينه الدينية وشحنه بمضامين علمانية ذات طابع قومي. وواصل المهمة نفسها ليبراليون آخرون آخرهم فوكاياما في حديثه نهاية التاريخ عقب سقوط الاتحاد السوفيتي ، ثم عاد وراجع أطروحته قبل وقت قليل وأخرج نفسه من زمرة المحافظين الجدد الذين ورثوا تلك الدعوة ووضعوها على محكات التنفيذ . وحسب تقدير الأصوليين فإن التاريخ يسرع الخطى نحو نهاياته بطريقة قدرية لا تحكمه فيها عوامل سياسية ولا اقتصادية وإنما تجره عوامل قدرية نحو الفصل الخاتم . فصل الصراع الدامي والمعارك المهلكة التي ستتمخض عن جيل الخلاص الذي يمسح أوضار الشرك والعلمانية ويجلب عهد السلام الأبدي .وهكذا فإن بيئة النظام الدولي ستظل بيئة الصراع الدائم والشر المستفحل . ولاثمة أمل للسلام قبل انتهاء المعركة العظمى التي يسمونها أحياناً بـ الهولوكوست النووي وأحياناً باسمها التاريخي هرمجدون وهي المعركة التي ورد عنها خبر واحد فقط في الكتب المقدسة ، يقولون بأنها تقع في آخر الزمان في أرض إسرائيل ويسيل الدم فيها لمسافة 200 ميل من القدس ، وتتحطم على أثرها كل مدن الأرض بالسلاح النووي ! وهذه الأقاصيص التي تبدو من قبيل البشارات اللاهوتية ، يروج لها الآن ساسة كبار في الغرب ، وقد قام عدد من الرؤساء الأمريكيين منذ عهد كارتر لهؤلاء المحللين السياسيين ليوجهوا مجلس الأمن القومي الأمريكي والبنتاغون . وقد دعي أقطاب ذلك التيار مراراً لتقديم تحليلاتهم لكبار صناع قرار السياسة الخارجية الأمريكية . المجتمع الديني لا القومي ولا الرأسمالي: ووحدة التحليل السياسي عند هؤلاء هي المجتمع الديني العابر للقوميات ، والدولة القومية لا تشكل وحدة تحليل إلا إذا كانت تمثل مجتمعاً دينياً بعينه كإسرائيل ، ولا يشير الأصوليون إلى النظام الرأسمالي إلا بقدر تمثيله للمجتمع الديني النصراني .واللافت للنظر أن مفهومين من مفاهيم التيار الأصولي التقطهما الدكتور صمويل هنتنجتون في حديثه صراع الحضارات وهما مفهوما نهاية الزمن وحسبان الحضارة وحدة التحليل المثلى . والمعروف عن هنتنجتون أنه سليل أسرة عريقة من طائفة البيوريتان الأصولية وأحد أجداده كان من ضمن الآباء المؤسسين للدولة الأمريكية ، وفي كل مفصل من تاريخ أمريكا كان ينهض فرد من أفراد أسرة هنتنجتون بتلك النكهة الدينية التطهرية المفتعلة، فهل يا ترى أراد هنتنجتون وهو بعد التقاعد أن يسترجع ذلك النفس البيوريتاني القديم ؟ نعم. وقد دل على ذلك بكتابه الأخير (من نحب؟) الذي فاضت منه الأفكار الدينية حتى غضت على الفكر العلماني الذي كان يصدر عنه! وعموماً فإن ظهور النكهة الدينية طفح بشكل واضح على كتاب التيار الواقعي من أمثال بيريزنسكي و رتشارد نيكسون ولكن لا يمكن اعتبار هذين ، ولا هنتنجتون من ضمن التيار الأصولي فالتيار الأصولي يرفض في حسم واضح مسلمات التيار الواقعي، ويرفض سياسته القائمة على الاحتواء، ويطالب بالاقتحام، لاسيما في هذا الزمن الأحادي، الذي يعدونه آخر فرصة لنشر الديانة النصرانية على ربوع العالم أجمع ، واتخاذها أداة لخلاص الناس من شرور الحرب والإشكالات الدولي