- الاثنين مايو 31, 2010 12:13 pm
#27653
السؤال الكبير الذي أطَـل برأسه بعد النّـصر العسكري الروسي الكبير في جورجيا، كان: هل هذه نهاية النظام العالمي أحادي القُـطبية الذي تزعّـمته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة؟
السؤال مهِـمّ بالطبع، ليس فقط لأن الخطوة النوعية الروسية فرمَـلت إلى حدٍّ كبير الإندفاعة الأمريكية في المُـثلث الإستراتيجي، القوقاز - قزوين - آسيا الوسطى، وربما أيضاً في أوروبا الشرقية، بل أيضاً لأنه يأتي بعد أن أوضحت حرب العراق حُـدود القوّة العسكرية الأمريكية أو على الأقل حدود قُـدرتها على فرض هيمَـنتها بالقوّة المجرّدة.
كِـلا الحربين، في القوقاز الجنوبي والعراق، أثبتتا أن الولايات المتحدة غير قادرة وحدها على الحِـفاظ على أمن النظام العالمي، وأن كل محاولات المحافظين الجُـدد الأمريكيين للإثبات بأن قانون "التمدّد الإستراتيجي الزائد"، الذي كان السبب الرئيسي لزوال الإمبراطوريات في التاريخ، لا ينطبِـق على أمريكا، باءت بالفشل.
هذه التطوّرات أدّت بالتدريج إلى تبلوُر إجماع أو على الأقل شِـبه إجماع، بأن رحلة القطبية الأحادية الأمريكية وصلت إلى خواتيمها، لكن ما لم يحُـز على إجماع، هو شكل النظام العالمي البديل الذي سيحُـل مكان القُـطبية الأحادية.
هنا يمكن رصد ثلاثة اجتهادات:
الأول، يرى أن التطورات الأخيرة، وعلى الرغم من أنها كشفت حدود دور الزعامة الأمريكية، إلا أنها لن تغيّـر في هذه المرحلة على الأقل من طبيعة النظام العالمي.
والثاني، يرى أن التغيير سيكون حتمِـياً بحكم صعود الصين وبقية السّـرب الآسيوي إلى قُـمرة القيادة العالمية.
والثالث، لا يرى لا هذا ولا ذاك، بل يتوقّـع بروز "لا قطبية فوضوية"، مكان القطبية الأحادية. أي الاجتهادات الأقرب إلى الحقيقة؟ سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك، فلنحاول مقاربة كل اجتهاد على حدة.
"الإمبريالية الجماعية"
الاجتهاد الأول يرى أن صفحة الحربين العالميتين، الثانية والباردة (1945-1995) طُـويت. وفى المرحلة الحالية، يتم تنفيذ المشروع الإمبراطوري الجماعي للثالوث (الولايات المتحدة ـ أوروبا ـ اليابان)، الذي يلغي استقلال بلدان الجنوب من جهة، ويقلًـص بشدّة بنفوذ شركاء واشنطن في هذا الثالوث من جهة أخرى.
المرحلة الحالية تتّـسم في العُـمق بتنفيذ مشروع أمريكي شمالي للهيمَـنة على الصعيد العالمي. ويحتلّ هذا المشروع وحده اليوم، المسرح بأكمله، فلا توجد خطّـة مضادّة له، كما كان الحال في فترة الثنائية القطبية (1945-1990).
فالمشروع الأوروبي دخل في مرحلة التلاشي، وبلدان الجنوب (مجموعة الـ 57، ودول عدم الانحياز)، التي كانت تطمَـح أثناء فترة باندونغ (1955-1975) لأن تواجِـه الغرب في جبهة مشتركة، تخلّـت عن مشروعها. والصين نفسها، التي تُـعد فارساً وحيداً، ليس لها أي طموح، سوى حماية مشروعها القومي (وهو نفسه ملتبِـس من جهة أخرى) ولا تطرح نفسها (إلى حد الآن) شريكاً في صياغة العالم.
"الإمبريالية الجماعية" للثالوث (التعبير من اختراع المفكّـر سمير أمين)، هو نتاج تطوّر واقعي للنظام الإنتاجي للمراكز الرأسمالية، التي لم تنتج رأس مال "عابر للقوميات"، بل أنتجت تضامُـناً بين احتكارات الأقليات القومية لمراكز النظام، والذي يعبّـرون عن همّـهم في أن "يديروا معاً" ولفائدتهم، العالم بأسره.
لكن، إذا ما كان "الاقتصاد" يقرّب بين الثالوث، فإن السياسة تفرّق بين أممِـهم، واحتمال اندلاع الصراعات الاجتماعية يمكِـنه حينئِـذ أن يُـطيح بالدّور الذي تؤدّيه الدولة في الاقتصار على خِـدمة رأس المال الكبير، وخصوصاً في أوروبا. وفي إطار هذه الفرضية، ربّـما نرى نشأة تعدُّدية مراكز من جديد، تمنح أوروبا هامشاً من الاستقلال.
لكن يبقى أن تنفيذ "المشروع الأوروبي"، كما هو الآن، لا يمضي في هذا الاتجاه الضروري لردّ واشنطن إلى العقل. ففي حقيقة الأمر، هذا المشروع ليس إلا "الشطر الأوروبي من المشروع الأمريكي". وعلى سبيل المثال، الدستور الأوروبي هو مشروع أوروبا التي تستقر على اختيارها المزدوج الليبرالي الجديد والأطلسي.
إن روسيا والصين والهند، هم الخصوم الإستراتيجيون لمشروع واشنطن، لكن يبدو أن قادة هذه الدول يعتقِـدون أن بإمكانهم المُـناورة بدون الاصطدام بأمريكا، لا بل هم يسعون للاستفادة من صداقة الولايات المتحدة في الصراعات النّـاشِـبة بين بعضهم البعض.
"الجبهة المشتركة ضدّ الإرهاب" التي يبدو أنهم يندرجون تحتِـها، تخلط الأوراق، ولعبة واشنطن المزدوجة هنا هي: مساندة الشيشان وسكان التبت (كما تساند بعض الحركات الإسلامية في الجزائر ومصر وغيرها) من جهة، والتلويح براية "الإرهاب الإسلامي" لجذب موسكو ودلهي وبكين إليها من جهة اخرى، هذه اللّـعبة المزدوجة، تعمل بكفاءة حتى اليوم على الأقل.
والحصيلة؟ إنها واضحة بالنِّـسبة لهذا الاجتهاد: الهيمنة الأمريكية ستستمِـر طالما لم يتمّ التحالف أو على الأقل التّـقارب بين العمالقة الأوروبيين والآسيويين (أوروبا، روسيا، الصين، الهند)، وطالما لم يجذب هذا التحالف إليه باقي دول آسيا وإفريقيا إليه ليعزل أمريكا.
الثنائية الجديدة
الاجتهاد الثاني يتلمِـس بروز نظام تعدّدي قُـطبي جديد، يستند إلى محور أمريكي- صيني.
نعوم تشومسكي، المفكِّـر اليساري الأمريكي البارز، أحد أبرز المتنبّـئين بهذا التطوّر، وهو ألمح مِـراراً إلى أن النظام العالمي الجديد سينمو على ضِـفاف المحيط الهادي وسيقذف بأوروبا، التي قادت الحضارة الغربية على مدى القرون الخمسة الماضية، إلى أعماق المحيط الأطلسي.
على المدى البعيد، يبدو هذا التّحليل دقيقاً، لكن في العقود القليلة المُـقبلة ستبقى أوروبا أحد المحاور الرئيسية في النظام العالمي، وستشكّـل مع أمريكا والصين ثُـلاثياً إستراتيجياً يُـحدِّد العديد من سِـمات النظام العالمي.
فكما أن أمريكا تمتلِـك تفوّقاً عسكرياً لا يضارع وكما أن الصّين ستكون خلال عشر سنوات قوّة كبرى اقتصادية وعسكرية من الدّرجة الأولى، كذلك ستبقى أوروبا عِـملاقاً اقتصاديا لا غِـنى عنه لإدارة شؤون العالم وتزييت محرّكه بأموالها واستثماراتها.
الأجدى أن يُـقال، بالتالي، أن هذه القِـوى القارِيّـة الثلاث، ستمتلِـك بشكل مُـتزايد الكُـتلة الرئيسية للقوة الاقتصادية والعالمية، إضافة إلى سيطَـرتها على بُـؤرة النفوذ السياسي والاستراتيجي.
وإذا ما وضعنا في الاعتبار الوزن الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي المُـشترك لهؤلاء اللاعبين الثلاثة على المسرح العالمي اليوم، سنُـدرك لماذا يتعيّـن على أصحاب القرار والمحلّـلين إبداء اهتمام أكبر بالتّـفاعلات بين أطراف هذا المثلث الاستراتيجي.
لكن كيف؟ يوضح الباحث الأمريكي ديفيد شامبوخ، أنه مع انغماس الصين أكثر في النظام العالمي، ينتظر أن تتفاعل أوروبا وأمريكا بشكل متزايد معها حِـيال تحدّيات كبرى، مثل الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل وغيرها من العقبات التي ستواجه النظام العالمي الجديد.
ومع ذلك، يبدو واضحاً أن مصالح الأطراف الثلاثة ستفترِق في مجالات أخرى. فالخلافات مثلاً حول رفع حظر الأسلحة الأوروبي عن الصين، يكشف المنظور المتبايِـن، الذي تطل منه أوروبا وأمريكا على مسألة صعود بكين، هذا لا يعني أنه ليست هناك قواسم مشتركة بين الطرفين حيال كيفية التعاطي مع هذه الأخيرة، لكن من المُـهم في الوقت ذاته إدراك الاختلافات. فلو كان لأوروبا أية مصالِـح إستراتيجية مهمّـة في شرق آسيا أو كانت مُـلتزمة بضمان أمن تايوان، فإنها ستكون على الأرجح أقل اندفاعا لرفع الحظر.
لدى أوروبا وأمريكا من جانب آخر، رغبة مُـشتركة في تحسين وضعية الصّين على الطاولة الدولية وتوسيع مسؤوليتها في النظام العالمي. كِـلاهما يريد الصِّين دولة أمر واقع لا دولة ثورية مُـراجعة، وهما مُـقتنعان بأن إدماج الصِّين أكثر في المؤسسات الدولية قد يُـساعد على ضمان هذه النتيجة عبر تعويد الصين اجتماعيا على معايير السلوك الدولي.
وهكذا، رحّـبت أوروبا وأمريكا بالانغماس الصيني المتزايد والبنّـاء في النظام الدولي، لا بل الواقع أن هذه الفَـرَضية قادَت السياسات الأوروبية والأمريكية نحو الصِّـين، على الأقل منذ حِـقبة الثمانينات.
ويعيد الباحث شامبوخ إلى الأذهان أنه في عام 1968، جادل الرئيس نيكسون بأن الصين، التي تعيش في عزلة دولية، تشكـّل عامل الاستقرار للأسرة الدولية، وهذا ما دفعه إلى الانفتاح عليها في 1972. والرئيسان جيمي كارتر ورونالد ريغن شاطرا نيكسون هذه الفكرة. ولعل الرئيس جورج بوش الأب، كان من أكثر المتحمّـسين للانفتاح على الصين، لكن إحداث تيان آن مين عام 1989 منعَـته من تحقيق رؤيته.
وإدارة كلينتون تبنّـت هذه الإستراتيجية في ولايتها الثانية، واختتمت بنجاح مفاوضات انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وحتى إدارة بوش الحالية، التي لم يُـعرف عنها حماستها للمؤسسات الدولية، جادلت دوماً أن الصِّين في حاجة للعمل بشكل بنّـاء من داخل هذه الكيانات.
أوروبا أيضاً آمنت بحكمة ضمّ الصين إلى النظام المؤسساتي العالمي، وربما أكثر من الولايات المتحدة، وهذا نابع من قناعة الأوروبيين بأن الدّول الكبرى يجب أن يكون لها مُـوازن أو مُـعادل، وبأن العالم متعدّد الأقطاب، أكثر استقرارا من النظام أحادي القطبية أو من النظام الفوضوي، وبأن الدّول يجِـب أن تلتزم بالقانون الدّولي المحدّد لقواعد السلوك، وبأن السيادة لها حدودها، وهي يمكن أن تكون سيادة مشتركة.
المثلث الجديد
المثلث الإستراتيجي الأمريكي – الأوروبي - الصيني إذن، سيحكُـم العالم على الأقل خلال العقود الثلاثة المقبلة. لكن كيف؟ ربما نكون هنا على موعد مع نظام عالمي غير مسبوق، لا يشبِـه بشيء المثلث الإستراتيجي السوفييتي - الأوروبي- الأمريكي القديم خلال الحرب الباردة، ولا كل أشكال التحالفات بين الدول الكبرى التي أقامها مترنيخ في القرن التاسع عشر.
المثلث الجديد لن يكون (حتى إشعار آخر)، لا تحالفاً ولا تصادُماً، لا وِفاقاً كاملاً ولا حرباً أهلية كاملة، إنه سيتذبذب في كل فترة بين كلّ هذه الثنائيات المتناقضة، تبعاً لطبيعة القضايا والمصالح التي ستواجهه. وهكذا، يمكن في حين أن تتفق أمريكا وأوروبا ضد الصِّين حِـيال إيران، كما يُـمكن في حين آخر أن تتّـفق الصين وأوروبا ضدّ أمريكا في مسائل التسلّـح أو التعدّدية القطبية أو الصِّـراع على الموارد الطبيعية في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا الوُسطى.
الخبراء الأمريكيون والأوروبيون، يلخِّـصون طبيعة الاختلافات بين النظام العالمي الجديد والقديم، على النحو التالي:
الاختلاف الأول، أن أطراف هذا المثلث أكثر سُـيولة وأقلّ جموداً من المثلث القديم. فأي عمل يقوم به طرف من أطراف المثلث لن يثير بالضرورة ردّ فعل معارض من الطّـرفين الآخرين، كما أنه لا يوجد تحالف إستراتيجي بين طرفين ضدّ الطرف الثالث. وعلى عكس المثلث القديم، الذي لم يكن فيه للصِّين والولايات المتحدة اتصالات مع المجتمع السوفييتي، المثلث الجديد تفاعُـلي إلى حدِّ بعيد.
بكلمات أوضح: هذا ليس مثلث يستنِـد إلى الحصيلة صِـفر لتحالُـف طرفين ضدّ الطرف الثالث، بل هو مثلّـث يقوم على حصيلة إيجابية تشمَـل بعض المصالِـح المشتركة بين الأطراف الثلاثة.
الاختلاف الثاني، أن هَـمّ الأمن القومي لا يُـهيمن على هذا المثلث، كما كان الأمر إبّـان الحرب الباردة. وبرغم أنه (الهم) يلعب دوراً مُـهمّـاً في العلاقات الصينية - الأمريكية، خاصة في إطار تايوان، إلا أن روابط واشنطن وبكين عميقة بشكل استثنائين وتعمل على مُـستويات عدّة تتضمّـن علاقات مهمّـة بين المجتمعين. والأمن القومي، ليس البتّـة سِـمة من سِـمات العلاقات الأوروبية - الصينية التي تستنِـد إلى التجارة والتفاعل الثقافي المتزايد.
الاختلاف الثالث، يكمُـن في التباينات المهمّـة بين الأطراف الثلاث. فللولايات المتحدة وأوروبا بالتأكيد، خلافاتهما حول العراق، وسلسلة الاتفاقات الدولية ودور الأمم المتحدة في العالم، وحظر الأسلحة على الصين، وأوروبا والصين، تتنازعان حول التجارة وحقوق الإنسان وانتشار الأسلحة وحرية المجتمع المدني، وكل هذه العوامل تُـسفر عن سيولة وتحوّلات عميقة في تركيبة المثلث الجديد، حيث تتقاطع المصالح مرّة وتتباين مرة أخرى.
لهذه الأسباب وغيرها، يمتلِـك المثلث الجديد والصين ديناميات مُـختلفة عن تلك التي هيمَـنت على الشؤون العالمية منذ بدء الانفتاح الأمريكي على الصين عام 1971. وبرغم أن التوترات قائمة، إلا أنه لا يتوقع أن تتطوّر إلى تنافسات، كتلك التي ميّـزت علاقات المثلث القديم، خاصة وأن أضلاع المثلث متّـفقة على القضية الأهم: تدبير مسألة اندماج الصين في النظام العالمي بطريقة سَـلِـسة وسلمية. وكما هو معروف تاريخياً، القِـوى الصاعدة، بما في ذلك أوروبا وأمريكا، عمدت غالباً إلى زعزعة النِّـظام العالمي بشكل خطير.
وسيتعين الآن على أطراف المثلث الإستراتيجي الجديد أن تضمن بأن التاريخ لن يُـكرّر نفسه، لكن، هل تنجح؟
الصين واثقة من رغبة أوروبا في إدماجها على قَـدم المُـساواة في النظام العالمي، لكنها تكِـنّ شكوكاً عَـميقة بأن الولايات المتحدة لا تفهَـم سوى معنى واحداً لهذا الإدماج: الرّضوخ الصيني لكل إملاءات الزعامة الأمريكية في آسيا والعالم.
حتى الآن، بكين لا تزال تكبح جِـماح غضبها من هذا الجموح الأمريكي، لأنها تضع الأولوية لتطوّرها الاقتصادي، لكنها بعد حين، قد تجد أن مصالحها الاقتصادية نفسها ستتطلّـب منها رفع أولوية المعارضة السياسية والإستراتيجية لواشنطن.
وإذا ما حدث ذلك، لن يبقى المثلث مثلثاً، إنه سينقلب إلى ثنائيات أو رباعيات أو حتى خماسيات في عالم جديد متعدّد الأقطاب، كذلك الذي تنبّـأ به نعوم تشومسكي.
"اللاقطبية"
نأتي الآن إلى الاجتهاد الثالث، ثمة إجماع الآن بين المحللين، على أن الحيوية الجديدة التي تُـبديها القِـوى الدولية والإقليمية في هذه المرحلة، لم تكُـن لتحدُث، لولا وجود فراغ في السياسة الخارجية الأمريكية، مكـّنها من حرية الحركة.
وثمة إجماع آخر على أن سبب الغِـياب الأمريكي مزدوج: حرب العراق، التي فرملت المشروع الطموح للمحافظين الجُـدد في إعادة رسم خرائط العالم، ودخول الإدارة الأمريكية في حال الشّـلل المعتادة خلال كل سنة انتخابية رئاسية.
لكن ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، وهو مركز الأبحاث الذي يُـعتبر الصانع الأهم لكل من الرؤساء والسياسات الخارجية الأمريكية، له تفسير إضافي: حرية حركة القوى الإقليمية نبعت من تقييد حركة أمريكا بسبب نهاية عهد القطبية الأحادية وبداية عهد ما يسمّـيه "اللاقطبية العالمية"
يقول: "القرن الماضي بدأ متعدّد الأقطاب، ولكن بعد حربين عالميتين وعدد من النزاعات، أصبح ثنائي القطبية. ومع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، دخل النظام العالمي مرحلة الأحادية القطبية (الأمريكية)، أما الآن، فالنفوذ العالمي موزّع ومشتّـت، الأمر الذي يشكِّـل بداية المرحلة اللاقطبية".
وما سمات هذه اللاقطبية؟ إنها ثلاث:
·الأولى، فقدان الدولة - الأمة لاحتكارها للسلطة ولتفوّقها كحجر الزاوية في النظام العالمي، بفعل التحدّيات التي تواجِـهها على الصُّـعد كافة، من الأعلى، عن طريق المنظمات المحلية والدولية، ومن الأسفل، بواسطة الميليشيات والمنظمات غير الحكومية والشركات.
· الثانية، بروز عدد مُـتزايد من اللاعبين المؤثِّـرين، إقليميا ودولياً، مثل الصّين والهند واليابان وروسيا والإتحاد الأوروبي والبرازيل وجنوب إفريقيا، ووراءهم مباشرة قِـوى إقليمية من الدرجة الثانية، كتركيا وإيران وباكستان وإسرائيل والأرجنتين.. الخ.
· الثالثة، العولمة التي زادت من حجم وسُـرعة وأهمية التدفقات العابرة للحدود، من البريد الإلكتروني إلى غازات الدفيئة والفيروسات، مروراً بالأسلحة. العولمة تدفع إلى اللاقطبية عبر مدخلين: تنفيذ العديد من التبادلات عن طريق جِـهات غير حكومية وخارج سيطرة الحكومات، وتعاظم قدرات هذه الجهات، كالشركات المصدّرة للنفط والشبكات الإرهابية والأنظمة المتطرفة.
كل هذه العوامل مجتمعة تقُـود إلى طاحونة اللاقطبية. وهذه الطاحونة تقود بدورها إلى الفوضى العالمية الراهنة.
سلطة جديدة
نأتي الآن إلى سؤالنا الأول: مَـن هذه الاجتهادات الأقرب إلى الحقيقة؟ كفّـة المنطق تمِـيل بقوة لصالح نظرية هاس في "اللاقطبية"، وهذا لسبب مُـقنع: السلطة العالمية الحقيقية في عصر العولمة، تبدو في كل مكان ولا مكان في آن، إنها أشبه بشبح "متشّرد" لا منزل واحد له "يسكنه" أو هو كتَـيار كهربائي تَـعرَف بوجوده فقط حين يلسعك، وهذا ما يجعل السلطة العالمية الراهنة شديدة الشبه بــ "الحقيقة الافتراضية" التي خلقتها ثورة المعلومات في عوالم العقول الإلكترونية، والتي جسّـدتها أيَّـما تجسيد راوية "ماتريكس" الشهيرة، التي تحولت لاحقاً الى فيلم سينمائي شهير.
بالطبع، لهذه السلطة رأس وجسم وقاعِـدة، لها قوانينها وقواعد عملِـها ومؤسساتها. فأمريكا هي رأس هذه السّـلطة بلا منازع، إنها الإمبراطورية الجديدة التي تحكم روما الجديدة. أما الجسم والقاعدة، فهما على التوالي: الشبكات والمؤسسات العملاقة، التي تنتجها الشركات متعددة الجنسيات، ثم "كل" شعوب العالم.
والكُـل هنا تعني الكُـل: أي شعوب العالم الأول كما الثاني كما الثالث والرابع، بعد أن أسقطت "نهاية التاريخ" وبداية عصر إمبراطورية العولمة، التمايزات الخارجية بين الدول ونقلتها إلى داخل كل دولة.
وهكذا، بات بالإمكان الحديث عن عالم ثان أو ثالث في الداخل الأمريكي والأوروبي والياباني (حيث 20% ينتجون ويحكمون و80% يفقرون ويهمّـشون، كما أشار مؤلفو "فخ العولمة" الألمان)، كما بات بالمستطاع العثور على عالم أول داخل الدّول الفقيرة، حيث النخب فاحشة الغِـنى مندمجة بالسوق العالمي كليا بشتى تجلِـياته، الثقافية والاقتصادية والترفيهية.
أكثر من ذلك: تستند السلطة العالمية الجديدة إلى أقانيم ثلاثة تنبع منها هيئات ثلاث: القنبلة (أي القوة العسكرية الهائلة) والمال (السوق العالمية) والأثير (تكنولوجيا المعلومات والاتصالات)، أما الهيئات الثلاث، فهي الإمبراطورية أو الملكية (أمريكا) والارستقراطية (الشركات العملاقة) والديمقراطية (ثورة الاتصالات).
حسنا، إذا ما كانت السلطة العالمية مجسّـدة على هذا النحو الواضح، فلماذا إذن القول بأن طبيعة هذه السلطة غامضة أو عصية على التحديد؟ للأسباب الآتية:
أولاً، لأنها سلطة من نوع جديد في التاريخ. فلا هي استعمار ولا هي إمبريالية، لا هي روما القديمة ولا إسطنبول أو تبريز الوسيطة، ولا لندن المحدثة ولا بالتأكيد جمهورية أفلاطون المثالية أو مدينة الفارابي الفاضلة، إنها سلطة نابعة من ثورة جديدة تنتقل فيها البورجوازية من حدود المرحلة القومية إلى لا حدود المرحلة العالمية. فكما أن بروز البورجوازية في العصور الحديثة في أوروبا أدّى إلى تدمير البُـنى الإقطاعية ما قبل الحديثة، والى تبلور السلطة الرأسمالية الجديدة عبر الدولة، سيؤدّي تعولم البورجوازية الرّاهن إلى تحطيم (أو على الأقل تهميش) كل بُـنى النظام القديم، الذي إستند منذ معاهدة وستفاليا عام 1648 إلى مفهوم الدول - الأمم ذات السيادة المطلقة.
ثانياً، مايكل هاردت وانطونيو نيغري (مؤلفا "الإمبراطورية") على حق. فالسلطة الجديدة لن يكون لها مركز ولن تتحدّد بمكان ولن تكون محدودة بزمان. أما الحديث عن أن هذه الإمبراطورية أمريكية أو بأنها إمبريالية أمريكية معّدلة (كما يرى سمير أمين)، فإنه منطق يغفل الحقيقة بأن ثورة العولمة الجديدة ستأكل أول ما تأكل أولادها: الدول القومية الأوروبية عبر السوق المشتركة والاتحاد الأوروبي، ولاحقاً الدولة – الأمة الأمريكية.
ثالثاً وأخيراً، الشكل القانوني – السيادي للسلطة العالمية الجديدة، لن يرتدي حلّـته النهائية، إلا بعد مخاضات عسيرة (والأرجح بعد حروب عسيرة أيضاً). وعلى الرغم من أن الغموض ما يزال يكتنِـف هذا الشكل، إلا أنه يمكن التأكيد من الآن بأنه لن ينطلِـق حتما من الهيئات الدولية القديمة، وعلى رأسها الأمم المتحدة التي تجّسد في الواقع النظام القديم القائم على سيادة الدول – الأمم.
السلطة الجديدة ستتطلّـب، ليس أمَـما متّحدة جديدة، بل حكومة عالمية جديدة، تسعى إلى التعبير عن "شعب عالمي" جديد (إقرأ سوق عالمي جديد). ومع مثل هذا النظام، قد يكون تعبير "اللاقطبية" لوصف عالم ما بعد القطبية الأحادية، هو الأكثر دقّـة والأكثر احتمالا أيضاً.
السؤال مهِـمّ بالطبع، ليس فقط لأن الخطوة النوعية الروسية فرمَـلت إلى حدٍّ كبير الإندفاعة الأمريكية في المُـثلث الإستراتيجي، القوقاز - قزوين - آسيا الوسطى، وربما أيضاً في أوروبا الشرقية، بل أيضاً لأنه يأتي بعد أن أوضحت حرب العراق حُـدود القوّة العسكرية الأمريكية أو على الأقل حدود قُـدرتها على فرض هيمَـنتها بالقوّة المجرّدة.
كِـلا الحربين، في القوقاز الجنوبي والعراق، أثبتتا أن الولايات المتحدة غير قادرة وحدها على الحِـفاظ على أمن النظام العالمي، وأن كل محاولات المحافظين الجُـدد الأمريكيين للإثبات بأن قانون "التمدّد الإستراتيجي الزائد"، الذي كان السبب الرئيسي لزوال الإمبراطوريات في التاريخ، لا ينطبِـق على أمريكا، باءت بالفشل.
هذه التطوّرات أدّت بالتدريج إلى تبلوُر إجماع أو على الأقل شِـبه إجماع، بأن رحلة القطبية الأحادية الأمريكية وصلت إلى خواتيمها، لكن ما لم يحُـز على إجماع، هو شكل النظام العالمي البديل الذي سيحُـل مكان القُـطبية الأحادية.
هنا يمكن رصد ثلاثة اجتهادات:
الأول، يرى أن التطورات الأخيرة، وعلى الرغم من أنها كشفت حدود دور الزعامة الأمريكية، إلا أنها لن تغيّـر في هذه المرحلة على الأقل من طبيعة النظام العالمي.
والثاني، يرى أن التغيير سيكون حتمِـياً بحكم صعود الصين وبقية السّـرب الآسيوي إلى قُـمرة القيادة العالمية.
والثالث، لا يرى لا هذا ولا ذاك، بل يتوقّـع بروز "لا قطبية فوضوية"، مكان القطبية الأحادية. أي الاجتهادات الأقرب إلى الحقيقة؟ سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك، فلنحاول مقاربة كل اجتهاد على حدة.
"الإمبريالية الجماعية"
الاجتهاد الأول يرى أن صفحة الحربين العالميتين، الثانية والباردة (1945-1995) طُـويت. وفى المرحلة الحالية، يتم تنفيذ المشروع الإمبراطوري الجماعي للثالوث (الولايات المتحدة ـ أوروبا ـ اليابان)، الذي يلغي استقلال بلدان الجنوب من جهة، ويقلًـص بشدّة بنفوذ شركاء واشنطن في هذا الثالوث من جهة أخرى.
المرحلة الحالية تتّـسم في العُـمق بتنفيذ مشروع أمريكي شمالي للهيمَـنة على الصعيد العالمي. ويحتلّ هذا المشروع وحده اليوم، المسرح بأكمله، فلا توجد خطّـة مضادّة له، كما كان الحال في فترة الثنائية القطبية (1945-1990).
فالمشروع الأوروبي دخل في مرحلة التلاشي، وبلدان الجنوب (مجموعة الـ 57، ودول عدم الانحياز)، التي كانت تطمَـح أثناء فترة باندونغ (1955-1975) لأن تواجِـه الغرب في جبهة مشتركة، تخلّـت عن مشروعها. والصين نفسها، التي تُـعد فارساً وحيداً، ليس لها أي طموح، سوى حماية مشروعها القومي (وهو نفسه ملتبِـس من جهة أخرى) ولا تطرح نفسها (إلى حد الآن) شريكاً في صياغة العالم.
"الإمبريالية الجماعية" للثالوث (التعبير من اختراع المفكّـر سمير أمين)، هو نتاج تطوّر واقعي للنظام الإنتاجي للمراكز الرأسمالية، التي لم تنتج رأس مال "عابر للقوميات"، بل أنتجت تضامُـناً بين احتكارات الأقليات القومية لمراكز النظام، والذي يعبّـرون عن همّـهم في أن "يديروا معاً" ولفائدتهم، العالم بأسره.
لكن، إذا ما كان "الاقتصاد" يقرّب بين الثالوث، فإن السياسة تفرّق بين أممِـهم، واحتمال اندلاع الصراعات الاجتماعية يمكِـنه حينئِـذ أن يُـطيح بالدّور الذي تؤدّيه الدولة في الاقتصار على خِـدمة رأس المال الكبير، وخصوصاً في أوروبا. وفي إطار هذه الفرضية، ربّـما نرى نشأة تعدُّدية مراكز من جديد، تمنح أوروبا هامشاً من الاستقلال.
لكن يبقى أن تنفيذ "المشروع الأوروبي"، كما هو الآن، لا يمضي في هذا الاتجاه الضروري لردّ واشنطن إلى العقل. ففي حقيقة الأمر، هذا المشروع ليس إلا "الشطر الأوروبي من المشروع الأمريكي". وعلى سبيل المثال، الدستور الأوروبي هو مشروع أوروبا التي تستقر على اختيارها المزدوج الليبرالي الجديد والأطلسي.
إن روسيا والصين والهند، هم الخصوم الإستراتيجيون لمشروع واشنطن، لكن يبدو أن قادة هذه الدول يعتقِـدون أن بإمكانهم المُـناورة بدون الاصطدام بأمريكا، لا بل هم يسعون للاستفادة من صداقة الولايات المتحدة في الصراعات النّـاشِـبة بين بعضهم البعض.
"الجبهة المشتركة ضدّ الإرهاب" التي يبدو أنهم يندرجون تحتِـها، تخلط الأوراق، ولعبة واشنطن المزدوجة هنا هي: مساندة الشيشان وسكان التبت (كما تساند بعض الحركات الإسلامية في الجزائر ومصر وغيرها) من جهة، والتلويح براية "الإرهاب الإسلامي" لجذب موسكو ودلهي وبكين إليها من جهة اخرى، هذه اللّـعبة المزدوجة، تعمل بكفاءة حتى اليوم على الأقل.
والحصيلة؟ إنها واضحة بالنِّـسبة لهذا الاجتهاد: الهيمنة الأمريكية ستستمِـر طالما لم يتمّ التحالف أو على الأقل التّـقارب بين العمالقة الأوروبيين والآسيويين (أوروبا، روسيا، الصين، الهند)، وطالما لم يجذب هذا التحالف إليه باقي دول آسيا وإفريقيا إليه ليعزل أمريكا.
الثنائية الجديدة
الاجتهاد الثاني يتلمِـس بروز نظام تعدّدي قُـطبي جديد، يستند إلى محور أمريكي- صيني.
نعوم تشومسكي، المفكِّـر اليساري الأمريكي البارز، أحد أبرز المتنبّـئين بهذا التطوّر، وهو ألمح مِـراراً إلى أن النظام العالمي الجديد سينمو على ضِـفاف المحيط الهادي وسيقذف بأوروبا، التي قادت الحضارة الغربية على مدى القرون الخمسة الماضية، إلى أعماق المحيط الأطلسي.
على المدى البعيد، يبدو هذا التّحليل دقيقاً، لكن في العقود القليلة المُـقبلة ستبقى أوروبا أحد المحاور الرئيسية في النظام العالمي، وستشكّـل مع أمريكا والصين ثُـلاثياً إستراتيجياً يُـحدِّد العديد من سِـمات النظام العالمي.
فكما أن أمريكا تمتلِـك تفوّقاً عسكرياً لا يضارع وكما أن الصّين ستكون خلال عشر سنوات قوّة كبرى اقتصادية وعسكرية من الدّرجة الأولى، كذلك ستبقى أوروبا عِـملاقاً اقتصاديا لا غِـنى عنه لإدارة شؤون العالم وتزييت محرّكه بأموالها واستثماراتها.
الأجدى أن يُـقال، بالتالي، أن هذه القِـوى القارِيّـة الثلاث، ستمتلِـك بشكل مُـتزايد الكُـتلة الرئيسية للقوة الاقتصادية والعالمية، إضافة إلى سيطَـرتها على بُـؤرة النفوذ السياسي والاستراتيجي.
وإذا ما وضعنا في الاعتبار الوزن الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي المُـشترك لهؤلاء اللاعبين الثلاثة على المسرح العالمي اليوم، سنُـدرك لماذا يتعيّـن على أصحاب القرار والمحلّـلين إبداء اهتمام أكبر بالتّـفاعلات بين أطراف هذا المثلث الاستراتيجي.
لكن كيف؟ يوضح الباحث الأمريكي ديفيد شامبوخ، أنه مع انغماس الصين أكثر في النظام العالمي، ينتظر أن تتفاعل أوروبا وأمريكا بشكل متزايد معها حِـيال تحدّيات كبرى، مثل الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل وغيرها من العقبات التي ستواجه النظام العالمي الجديد.
ومع ذلك، يبدو واضحاً أن مصالح الأطراف الثلاثة ستفترِق في مجالات أخرى. فالخلافات مثلاً حول رفع حظر الأسلحة الأوروبي عن الصين، يكشف المنظور المتبايِـن، الذي تطل منه أوروبا وأمريكا على مسألة صعود بكين، هذا لا يعني أنه ليست هناك قواسم مشتركة بين الطرفين حيال كيفية التعاطي مع هذه الأخيرة، لكن من المُـهم في الوقت ذاته إدراك الاختلافات. فلو كان لأوروبا أية مصالِـح إستراتيجية مهمّـة في شرق آسيا أو كانت مُـلتزمة بضمان أمن تايوان، فإنها ستكون على الأرجح أقل اندفاعا لرفع الحظر.
لدى أوروبا وأمريكا من جانب آخر، رغبة مُـشتركة في تحسين وضعية الصّين على الطاولة الدولية وتوسيع مسؤوليتها في النظام العالمي. كِـلاهما يريد الصِّين دولة أمر واقع لا دولة ثورية مُـراجعة، وهما مُـقتنعان بأن إدماج الصِّين أكثر في المؤسسات الدولية قد يُـساعد على ضمان هذه النتيجة عبر تعويد الصين اجتماعيا على معايير السلوك الدولي.
وهكذا، رحّـبت أوروبا وأمريكا بالانغماس الصيني المتزايد والبنّـاء في النظام الدولي، لا بل الواقع أن هذه الفَـرَضية قادَت السياسات الأوروبية والأمريكية نحو الصِّـين، على الأقل منذ حِـقبة الثمانينات.
ويعيد الباحث شامبوخ إلى الأذهان أنه في عام 1968، جادل الرئيس نيكسون بأن الصين، التي تعيش في عزلة دولية، تشكـّل عامل الاستقرار للأسرة الدولية، وهذا ما دفعه إلى الانفتاح عليها في 1972. والرئيسان جيمي كارتر ورونالد ريغن شاطرا نيكسون هذه الفكرة. ولعل الرئيس جورج بوش الأب، كان من أكثر المتحمّـسين للانفتاح على الصين، لكن إحداث تيان آن مين عام 1989 منعَـته من تحقيق رؤيته.
وإدارة كلينتون تبنّـت هذه الإستراتيجية في ولايتها الثانية، واختتمت بنجاح مفاوضات انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وحتى إدارة بوش الحالية، التي لم يُـعرف عنها حماستها للمؤسسات الدولية، جادلت دوماً أن الصِّين في حاجة للعمل بشكل بنّـاء من داخل هذه الكيانات.
أوروبا أيضاً آمنت بحكمة ضمّ الصين إلى النظام المؤسساتي العالمي، وربما أكثر من الولايات المتحدة، وهذا نابع من قناعة الأوروبيين بأن الدّول الكبرى يجب أن يكون لها مُـوازن أو مُـعادل، وبأن العالم متعدّد الأقطاب، أكثر استقرارا من النظام أحادي القطبية أو من النظام الفوضوي، وبأن الدّول يجِـب أن تلتزم بالقانون الدّولي المحدّد لقواعد السلوك، وبأن السيادة لها حدودها، وهي يمكن أن تكون سيادة مشتركة.
المثلث الجديد
المثلث الإستراتيجي الأمريكي – الأوروبي - الصيني إذن، سيحكُـم العالم على الأقل خلال العقود الثلاثة المقبلة. لكن كيف؟ ربما نكون هنا على موعد مع نظام عالمي غير مسبوق، لا يشبِـه بشيء المثلث الإستراتيجي السوفييتي - الأوروبي- الأمريكي القديم خلال الحرب الباردة، ولا كل أشكال التحالفات بين الدول الكبرى التي أقامها مترنيخ في القرن التاسع عشر.
المثلث الجديد لن يكون (حتى إشعار آخر)، لا تحالفاً ولا تصادُماً، لا وِفاقاً كاملاً ولا حرباً أهلية كاملة، إنه سيتذبذب في كل فترة بين كلّ هذه الثنائيات المتناقضة، تبعاً لطبيعة القضايا والمصالح التي ستواجهه. وهكذا، يمكن في حين أن تتفق أمريكا وأوروبا ضد الصِّين حِـيال إيران، كما يُـمكن في حين آخر أن تتّـفق الصين وأوروبا ضدّ أمريكا في مسائل التسلّـح أو التعدّدية القطبية أو الصِّـراع على الموارد الطبيعية في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا الوُسطى.
الخبراء الأمريكيون والأوروبيون، يلخِّـصون طبيعة الاختلافات بين النظام العالمي الجديد والقديم، على النحو التالي:
الاختلاف الأول، أن أطراف هذا المثلث أكثر سُـيولة وأقلّ جموداً من المثلث القديم. فأي عمل يقوم به طرف من أطراف المثلث لن يثير بالضرورة ردّ فعل معارض من الطّـرفين الآخرين، كما أنه لا يوجد تحالف إستراتيجي بين طرفين ضدّ الطرف الثالث. وعلى عكس المثلث القديم، الذي لم يكن فيه للصِّين والولايات المتحدة اتصالات مع المجتمع السوفييتي، المثلث الجديد تفاعُـلي إلى حدِّ بعيد.
بكلمات أوضح: هذا ليس مثلث يستنِـد إلى الحصيلة صِـفر لتحالُـف طرفين ضدّ الطرف الثالث، بل هو مثلّـث يقوم على حصيلة إيجابية تشمَـل بعض المصالِـح المشتركة بين الأطراف الثلاثة.
الاختلاف الثاني، أن هَـمّ الأمن القومي لا يُـهيمن على هذا المثلث، كما كان الأمر إبّـان الحرب الباردة. وبرغم أنه (الهم) يلعب دوراً مُـهمّـاً في العلاقات الصينية - الأمريكية، خاصة في إطار تايوان، إلا أن روابط واشنطن وبكين عميقة بشكل استثنائين وتعمل على مُـستويات عدّة تتضمّـن علاقات مهمّـة بين المجتمعين. والأمن القومي، ليس البتّـة سِـمة من سِـمات العلاقات الأوروبية - الصينية التي تستنِـد إلى التجارة والتفاعل الثقافي المتزايد.
الاختلاف الثالث، يكمُـن في التباينات المهمّـة بين الأطراف الثلاث. فللولايات المتحدة وأوروبا بالتأكيد، خلافاتهما حول العراق، وسلسلة الاتفاقات الدولية ودور الأمم المتحدة في العالم، وحظر الأسلحة على الصين، وأوروبا والصين، تتنازعان حول التجارة وحقوق الإنسان وانتشار الأسلحة وحرية المجتمع المدني، وكل هذه العوامل تُـسفر عن سيولة وتحوّلات عميقة في تركيبة المثلث الجديد، حيث تتقاطع المصالح مرّة وتتباين مرة أخرى.
لهذه الأسباب وغيرها، يمتلِـك المثلث الجديد والصين ديناميات مُـختلفة عن تلك التي هيمَـنت على الشؤون العالمية منذ بدء الانفتاح الأمريكي على الصين عام 1971. وبرغم أن التوترات قائمة، إلا أنه لا يتوقع أن تتطوّر إلى تنافسات، كتلك التي ميّـزت علاقات المثلث القديم، خاصة وأن أضلاع المثلث متّـفقة على القضية الأهم: تدبير مسألة اندماج الصين في النظام العالمي بطريقة سَـلِـسة وسلمية. وكما هو معروف تاريخياً، القِـوى الصاعدة، بما في ذلك أوروبا وأمريكا، عمدت غالباً إلى زعزعة النِّـظام العالمي بشكل خطير.
وسيتعين الآن على أطراف المثلث الإستراتيجي الجديد أن تضمن بأن التاريخ لن يُـكرّر نفسه، لكن، هل تنجح؟
الصين واثقة من رغبة أوروبا في إدماجها على قَـدم المُـساواة في النظام العالمي، لكنها تكِـنّ شكوكاً عَـميقة بأن الولايات المتحدة لا تفهَـم سوى معنى واحداً لهذا الإدماج: الرّضوخ الصيني لكل إملاءات الزعامة الأمريكية في آسيا والعالم.
حتى الآن، بكين لا تزال تكبح جِـماح غضبها من هذا الجموح الأمريكي، لأنها تضع الأولوية لتطوّرها الاقتصادي، لكنها بعد حين، قد تجد أن مصالحها الاقتصادية نفسها ستتطلّـب منها رفع أولوية المعارضة السياسية والإستراتيجية لواشنطن.
وإذا ما حدث ذلك، لن يبقى المثلث مثلثاً، إنه سينقلب إلى ثنائيات أو رباعيات أو حتى خماسيات في عالم جديد متعدّد الأقطاب، كذلك الذي تنبّـأ به نعوم تشومسكي.
"اللاقطبية"
نأتي الآن إلى الاجتهاد الثالث، ثمة إجماع الآن بين المحللين، على أن الحيوية الجديدة التي تُـبديها القِـوى الدولية والإقليمية في هذه المرحلة، لم تكُـن لتحدُث، لولا وجود فراغ في السياسة الخارجية الأمريكية، مكـّنها من حرية الحركة.
وثمة إجماع آخر على أن سبب الغِـياب الأمريكي مزدوج: حرب العراق، التي فرملت المشروع الطموح للمحافظين الجُـدد في إعادة رسم خرائط العالم، ودخول الإدارة الأمريكية في حال الشّـلل المعتادة خلال كل سنة انتخابية رئاسية.
لكن ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، وهو مركز الأبحاث الذي يُـعتبر الصانع الأهم لكل من الرؤساء والسياسات الخارجية الأمريكية، له تفسير إضافي: حرية حركة القوى الإقليمية نبعت من تقييد حركة أمريكا بسبب نهاية عهد القطبية الأحادية وبداية عهد ما يسمّـيه "اللاقطبية العالمية"
يقول: "القرن الماضي بدأ متعدّد الأقطاب، ولكن بعد حربين عالميتين وعدد من النزاعات، أصبح ثنائي القطبية. ومع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، دخل النظام العالمي مرحلة الأحادية القطبية (الأمريكية)، أما الآن، فالنفوذ العالمي موزّع ومشتّـت، الأمر الذي يشكِّـل بداية المرحلة اللاقطبية".
وما سمات هذه اللاقطبية؟ إنها ثلاث:
·الأولى، فقدان الدولة - الأمة لاحتكارها للسلطة ولتفوّقها كحجر الزاوية في النظام العالمي، بفعل التحدّيات التي تواجِـهها على الصُّـعد كافة، من الأعلى، عن طريق المنظمات المحلية والدولية، ومن الأسفل، بواسطة الميليشيات والمنظمات غير الحكومية والشركات.
· الثانية، بروز عدد مُـتزايد من اللاعبين المؤثِّـرين، إقليميا ودولياً، مثل الصّين والهند واليابان وروسيا والإتحاد الأوروبي والبرازيل وجنوب إفريقيا، ووراءهم مباشرة قِـوى إقليمية من الدرجة الثانية، كتركيا وإيران وباكستان وإسرائيل والأرجنتين.. الخ.
· الثالثة، العولمة التي زادت من حجم وسُـرعة وأهمية التدفقات العابرة للحدود، من البريد الإلكتروني إلى غازات الدفيئة والفيروسات، مروراً بالأسلحة. العولمة تدفع إلى اللاقطبية عبر مدخلين: تنفيذ العديد من التبادلات عن طريق جِـهات غير حكومية وخارج سيطرة الحكومات، وتعاظم قدرات هذه الجهات، كالشركات المصدّرة للنفط والشبكات الإرهابية والأنظمة المتطرفة.
كل هذه العوامل مجتمعة تقُـود إلى طاحونة اللاقطبية. وهذه الطاحونة تقود بدورها إلى الفوضى العالمية الراهنة.
سلطة جديدة
نأتي الآن إلى سؤالنا الأول: مَـن هذه الاجتهادات الأقرب إلى الحقيقة؟ كفّـة المنطق تمِـيل بقوة لصالح نظرية هاس في "اللاقطبية"، وهذا لسبب مُـقنع: السلطة العالمية الحقيقية في عصر العولمة، تبدو في كل مكان ولا مكان في آن، إنها أشبه بشبح "متشّرد" لا منزل واحد له "يسكنه" أو هو كتَـيار كهربائي تَـعرَف بوجوده فقط حين يلسعك، وهذا ما يجعل السلطة العالمية الراهنة شديدة الشبه بــ "الحقيقة الافتراضية" التي خلقتها ثورة المعلومات في عوالم العقول الإلكترونية، والتي جسّـدتها أيَّـما تجسيد راوية "ماتريكس" الشهيرة، التي تحولت لاحقاً الى فيلم سينمائي شهير.
بالطبع، لهذه السلطة رأس وجسم وقاعِـدة، لها قوانينها وقواعد عملِـها ومؤسساتها. فأمريكا هي رأس هذه السّـلطة بلا منازع، إنها الإمبراطورية الجديدة التي تحكم روما الجديدة. أما الجسم والقاعدة، فهما على التوالي: الشبكات والمؤسسات العملاقة، التي تنتجها الشركات متعددة الجنسيات، ثم "كل" شعوب العالم.
والكُـل هنا تعني الكُـل: أي شعوب العالم الأول كما الثاني كما الثالث والرابع، بعد أن أسقطت "نهاية التاريخ" وبداية عصر إمبراطورية العولمة، التمايزات الخارجية بين الدول ونقلتها إلى داخل كل دولة.
وهكذا، بات بالإمكان الحديث عن عالم ثان أو ثالث في الداخل الأمريكي والأوروبي والياباني (حيث 20% ينتجون ويحكمون و80% يفقرون ويهمّـشون، كما أشار مؤلفو "فخ العولمة" الألمان)، كما بات بالمستطاع العثور على عالم أول داخل الدّول الفقيرة، حيث النخب فاحشة الغِـنى مندمجة بالسوق العالمي كليا بشتى تجلِـياته، الثقافية والاقتصادية والترفيهية.
أكثر من ذلك: تستند السلطة العالمية الجديدة إلى أقانيم ثلاثة تنبع منها هيئات ثلاث: القنبلة (أي القوة العسكرية الهائلة) والمال (السوق العالمية) والأثير (تكنولوجيا المعلومات والاتصالات)، أما الهيئات الثلاث، فهي الإمبراطورية أو الملكية (أمريكا) والارستقراطية (الشركات العملاقة) والديمقراطية (ثورة الاتصالات).
حسنا، إذا ما كانت السلطة العالمية مجسّـدة على هذا النحو الواضح، فلماذا إذن القول بأن طبيعة هذه السلطة غامضة أو عصية على التحديد؟ للأسباب الآتية:
أولاً، لأنها سلطة من نوع جديد في التاريخ. فلا هي استعمار ولا هي إمبريالية، لا هي روما القديمة ولا إسطنبول أو تبريز الوسيطة، ولا لندن المحدثة ولا بالتأكيد جمهورية أفلاطون المثالية أو مدينة الفارابي الفاضلة، إنها سلطة نابعة من ثورة جديدة تنتقل فيها البورجوازية من حدود المرحلة القومية إلى لا حدود المرحلة العالمية. فكما أن بروز البورجوازية في العصور الحديثة في أوروبا أدّى إلى تدمير البُـنى الإقطاعية ما قبل الحديثة، والى تبلور السلطة الرأسمالية الجديدة عبر الدولة، سيؤدّي تعولم البورجوازية الرّاهن إلى تحطيم (أو على الأقل تهميش) كل بُـنى النظام القديم، الذي إستند منذ معاهدة وستفاليا عام 1648 إلى مفهوم الدول - الأمم ذات السيادة المطلقة.
ثانياً، مايكل هاردت وانطونيو نيغري (مؤلفا "الإمبراطورية") على حق. فالسلطة الجديدة لن يكون لها مركز ولن تتحدّد بمكان ولن تكون محدودة بزمان. أما الحديث عن أن هذه الإمبراطورية أمريكية أو بأنها إمبريالية أمريكية معّدلة (كما يرى سمير أمين)، فإنه منطق يغفل الحقيقة بأن ثورة العولمة الجديدة ستأكل أول ما تأكل أولادها: الدول القومية الأوروبية عبر السوق المشتركة والاتحاد الأوروبي، ولاحقاً الدولة – الأمة الأمريكية.
ثالثاً وأخيراً، الشكل القانوني – السيادي للسلطة العالمية الجديدة، لن يرتدي حلّـته النهائية، إلا بعد مخاضات عسيرة (والأرجح بعد حروب عسيرة أيضاً). وعلى الرغم من أن الغموض ما يزال يكتنِـف هذا الشكل، إلا أنه يمكن التأكيد من الآن بأنه لن ينطلِـق حتما من الهيئات الدولية القديمة، وعلى رأسها الأمم المتحدة التي تجّسد في الواقع النظام القديم القائم على سيادة الدول – الأمم.
السلطة الجديدة ستتطلّـب، ليس أمَـما متّحدة جديدة، بل حكومة عالمية جديدة، تسعى إلى التعبير عن "شعب عالمي" جديد (إقرأ سوق عالمي جديد). ومع مثل هذا النظام، قد يكون تعبير "اللاقطبية" لوصف عالم ما بعد القطبية الأحادية، هو الأكثر دقّـة والأكثر احتمالا أيضاً.