- الاثنين مايو 31, 2010 12:20 pm
#27654
يقول خبراء العلاقات الدولية إن القوي ينجذب دائماً إلى خيارات أحادية، في حين يسعى الضعيف للاحتماء بالدبلوماسية متعددة الأطراف.
منذ نشأة الخليقة، لم يفتأ الأقوياء يبحثون ويتساءلون عن نوعية القوة التي تمكّنهم من بسط نفوذهم وهيمنتهم على المجتمعات الداخلية والخارجية. واختلف الجواب على السؤال بين المذاهب والعقائد والتصورات الفلسفية، والتقى بعضها على تمجيد القوة، وعلى أهلية القوي لحكم الضعيف، بل شرعية حكم المستكبرين للمستضعفين، ويجيب أصحاب هذه النزعة بين أقطاب اليوم على السؤال بأن القوة التي تمكّن القطب أو الأقطاب من حكم العالم هي القوة العسكرية وحدها، من خلال قوة السلاح المتطور، وعلى ذلك احتكرت الأقطاب امتلاك السلاح النووي، لأنه القوة التي لا تبقي على بشر أو حجر.
ويتجادل صانعو القرار والأكاديميون حول ما إذا كان وجود عالَم أكثر تعددية قطبية مفيداً أو مرغوباً فيه؛ ورغم ذلك، لم يحقق هذا الجدل سوى القليل في سبيل تأسيس توافق حول ما أخذ كلا الجانبين في تسيمته: (منهج فعّال متعدد الأطراف)؛ فقد تحدّثوا بشكل مشوّش عن الحاجة إلى بناء نظام عالمي متعدد الأطراف، ويتسم بالشراكة، وإلى تقوية كل الهياكل متعددة القطبية، مستخدمين ـــ بشكل مترافد غالباً ـــ مصطلحي (متعدد الأقطاب)، و (متعدد الأطراف)، ومن دون تعريف لأي منهما.
وتبرز من هذا الجدل مشكلات تتعلق بمسار دبلوماسية ما بعد الحرب الباردة، وصعوبة التوفيق بين السجل الراهن للأحداث منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، وفرضية أن تحولاً في ميزان القوة قاد إلى منهج أحادي الطرف، متزايد من جانب الولايات المتحدة.
والقطبية مفهوم يرتبط بتوزيع القوة الحقيقية في النظام الدولي، وإذا كان هناك شيء يمكن ذكره في هذا الإطار، فهو أن التاريخ يظهر أن القوة الأقوى هي في الغالب الأكثر ميلاً للمنهج متعدد الأطراف. وكان الباحثون في العلاقات الدولية مغرمين بمفهوم السيطرة، الذي من خلاله تقوم القوة الأقوى بتوجيه النظام متعدد الأطراف، بطريقة تخدم مصالحها الخاصة، وتوفّر نظاماً من القواعد باعتباره منعة دولية عامة.
وكانت بريطانيا في القرن التاسع عشر، وأمريكا في أواخر القرن العشرين قوتين مهيمنتين تقليديتين من هذا المنظور، وعلى النقيض، كان من غير الممكن تفسير الطابع أحادي الجانب الثابت للسياسة
عام 1969م، وقرار عدم الانضمام إلى وكالة الطاقة الذرية إبّان أزمة البترول عام 1973م.
أسلوب كبح القوة المهيمنة
يركِّز البعض على الأسلوب الذي تُشيّد به القوى المهيمنة (مثل: انجلترا فيما بعد عام 1815م، والقوى الغربية في عام 1919م، والولايات المتحدة فيما بعد عام 1995م) مؤسسات من شأنها أن تكبح قوتها الخاصة، ومن خلال الكبح والاستخدام الحكيم للمؤسسات الدولية، يمكن للولايات المتحدة أن تجعل من وضعها الخاص في النظام الدولي وضعاً دائماً ومستقراً، محبطة تكوين تحالفات معادية، أو بروز قوة مهيمنة جديدة.
وهنا يُثار السؤال: كيف يمكن للتقييد الذاتي من قِبل القوة القائدة أن يمنع القوى الطموحة في المرتبة الثانية والثالثة، وخصوصاً تلك التي ترى أنها في صعود متنام، من استخدام المؤسسات متعددة الأطراف لتحدِّي هيمنة القوة القائدة (بالأسلوب الذي استغلت به ألمانيا الاستعمارية ـــ على سبيل المثال ـــ التجارة الحرة لاقتطاع جزء من التفوّق البريطاني)؟
مستويات القوى في العلاقات الدولية
يقرّ بعض خبراء السياسة الدولية بوجود بعض عناصر التعددية القطبية في النظام الدولي، ويحاجون بأن العلاقات الدولية أضحت لعبة ذات ثلاثة مستويات، تشتمل على: القوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، وما يُسمَّى بــ (القوة الليّنة)، مع تمتّع الولايات المتحدة بالهيمنة أحادية القطبية على مستوى القوة العسكرية فقط. والسياسة الأمريكية يمكنها أن تسعى للحفاظ على الهيمنة العسكرية الأمريكية من خلال الاستخدام الحكيم للقوة الليّنة، والقوة المهيمنة لديها الخيار ـــ إذا كانت ذكيّة ـــ لتشكيل النظام الدولي بأسلوب يمكنه إعاقة نمو قوى منافسة.
المؤيدون والمعارضون للسياسة الأحادية
يؤيد بعض الأمريكيين اتباع سياسات أحادية الجانب، باعتبارها الوسيلة التي تحمي مصالح الولايات المتحدة، وتعمل من أجل تحقيق المنفعة الأكبر للإنسانية، وهم يرفضون قيود المنهج متعدد الأطراف الذي هدد ـــ من وجهة نظرهم ــــ بتحييد القوة الأمريكية في عهد إدارة (كلينتون)، ويرى هؤلاء أن الولايات المتحدة تمتلك قوة فريدة تجعل العالم أحادي القطبية، وتدفع في سبيل ما تراه ميلاً متزايداً لديها نحو منهج أحادي الجانب.
وفي الوقت نفسه، يرفض الواقعيون التقليديون رؤى المحافظين الجدد عن النظام العالمي أحادي القطبية، ويحاجّون بأن النظام الدولي هو في الأساس متعدد الأقطاب، ووفقاً لهم، فإن أي اختلال أحادي القطبية للتوازن لا يمكن إلاّ أن يكون مؤقتاً، حيث ستبرز حتماً مراكز القوة المنافسة، وتسعى لاستعادة التوازن مع القوة المهيمنة.
ويتقبل البعض التعددية القطبية، باعتبارها ظاهرة إيجابية، حيث يرون أن الوجود الفعلي لعالم متعدد الأقطاب هو الذي سيحول دون حدوث حالات فراغ جيوسياسي.
ويرى البعض كذلك وجود عناصر قوية للتعددية القطبية، أو على الأقل، للثنائية القطبية في النظام الدولي، مع كون الاتحاد الأوروبي المنافس الرئيس للولايات المتحدة، وفي حال التركيز على متغيري الاقتصاد والقانون أكثر من القوة العسكرية، فإنهم يرون أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة منخرطان في صراع على إدارة الحكم العالمي، مع وجود تهديد فعلي كبير بانتصار الاتحاد الأوروبي، وأن الولايات المتحدة يجب أن تركّز على العمل مع القوى الرئيسة الأخرى في مجلس الأمن ومجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى، وهو المنهج الذي سيوفّر على الولايات المتحدة الحاجة للاختيار بين منهج متعدد الأطراف، يخضع مصالحها لسلطة الدول الأصغر والأضعف، ومنهج أحادي الجانب متغطرس يضعها في صراع مع بقية العالم.
ولكل من تيارات التفكير في السياسة الخارجية مواطن قوة، كما أن لكل منها كذلك مشكلاته وتناقضاته. وإجمالاً، فهذه التيارات تعكس المعضلات التي واجهتها الولايات المتحدة وهي تحاول رسم سياسة خارجية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، وإحدى معضلات السياسة الخارجية الأمريكية تكمن في التساؤلات التالية: كيف يمكن للقوة القائدة أن تكون واثقة من ألاّ يتم استغلال التعاون التوافقي من قِبل المنافسين المحتملين لتأسيس نمط جديد من السيطرة؟ أو بالعكس، ما الذي سيضمن للقوى الصاعدة ألاّ تستغل القوة المسيطرة هذا التعاون التوافقي لتثبيت تلك القوى في وضع متدنٍ دائماً؟ وفي ظل غياب حل لتلك المعضلات، يصعب تصوّر كيف يمكن تفويض المسؤولية من قِبل الولايات المتحدة لأوروبا، أو لأي مركز قوة آخر.
التحوّل الأمريكي ليس مفاجأة
إن الربط بين المنهج الأمريكي أحادي الجانب، وبروز الأحادية القطبية منذ نهاية الحرب الباردة، يمثّل تحريفاً للسجل الفعلي للعلاقات الدولية خلال تلك المرحلة. ومن المحتمل بدرجة كبيرة ألاّ يقبل مؤرخو المستقبل الرؤية المبسطة القائلة إن الولايات المتحدة تحوّلت فجأة نحو المنهج أحادي الجانب في عام 1991م، أو حتى في عام 2001م ،جراء ما وجدت عليه نفسها من قوة نسبية جديدة.
ففي الواقع، تميّزت إدارتي (بوش الأب) و (كلينتون) بقدر كبير من النشاط متعدد الأطراف في الاقتصاد، وضبط التسلّح، ومنع الانتشار النووي، وبعض قضايا النظام العالمي الأخرى. وكان التحوّل نحو ما أصبح بقية العالم يعدّه منهجاً أحادي الجانب، والذي بدأ خلال ولاية (كلينتون) الثانية، وتسارع بشكل مثير بعد بدء ولاية (جورج دبليو بوش)، كان عملية أكثر تعقيداً بكثير، تضمنت على السواء رفضاً للسمات المميزة للمنهج الأمريكي متعدد الأطراف، وبروز مبادرات متعددة الأطراف منافسة.
ودخلت الولايات المتحدة حقبة ما بعد الحرب الباردة بعقلية متعددة الأطراف، وأعلن الرئيس الأسبق (بوش الأب) عن تأسيس نظام عالمي جديد، أفضى إلى ذلك التحالف المفوّض من قِبل الأمم المتحدة، الذي طرد (صدام حسين) من الكويت، وإلى إتمام مفاوضات (جولة أوروجواي)، التي تأسست بناء عليها منظمة التجارة العالمية، وكذلك إلى إكمال معاهدة (ستارت) مع سقوط النظام السوفيتي، وبدء المفاوضات التي قادت إلى معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية، وتأسيس منظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
وتابعت إدارة (كلينتون) ـــ بدرجة كبيرة ـــ التوجُّه ذاته، فأمّنت التصديق على اتفاقيات (جولة أوروجواي)، وأخذت بزمام المبادرة للتفاوض من أجل التوصّل إلى معاهدة حظر شامل للتجارب النووية، كما دعت إلى تأسيس المحكمة الجنائية الدولية في (يوغوسلافيا) السابقة، ووفّرت قدراً كبيراً من التمويل اللازم لها، وبعد تردد مبدئي، بدأت حملة توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) وإصلاحه.
وكما تنبّأ منظرو الاستقرار المستند إلى السيطرة كذلك، عكست سياسات (بوش الأب)، وإدارة (كلينتون) الأولى ميلاً لتطويع المنهج متعدد الأطراف لخدمة الأحادية القطبية، وكان لكثير من مبادرات الولايات المتحدة خلال تلك الفترة، سواء أكانت تمت صياغتها بشكل مقصود أم لا، طابعاً أحادي الجانب جليّاً، وفي الوقت الذي كان فيه من الصعب معارضة تلك المبادرات كلية، فإن هذا الطابع أثار قلق القوى الأخرى.
فعلى سبيل المثال، كان الاتحاد الأوروبي متشككاً مبدئياً في ضغط الولايات المتحدة لإقرار آلية إلزامية لتسوية النزاعات في إطار منظمة التجارة العالمية، الأمر الذي كان يعني إنهاء قدرة الاتحاد الأوروبي على مواصلة ممارسته المعتادة في استخدام القاعدة المعمول بها في المنظمة لاعتراض سبيل أي إثبات على أن (بروكسل) انتهكت قوانين التجارة الدولية. وكذلك، فقد تحمّست كل من فرنسا وبريطانيا ــ بصعوبة ــ لإنشاء المحاكمات الجنائية في (يوغوسلافيا) السابقة، لأن تلك المحاكمات التي كانت تحمل طابعاً أمريكياً، كان من المحتمل أن تحدث رد فعل سلبي لدى الاتجاهات المؤدية (للصرب) في كلا البلدين.
كما أن فرنسا والصين لم يكن بإمكانهما القبول بمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية حتى تستكملا جولة نهائية من التجارب، في حين أن الهند كانت ساخطة من الاقتراحات المبكّرة لإدارة (كلينتون) في هذا السياق، حيث كانت تلك الاقتراحات تفضي إلى معاهدة حظر شامل للتجارب النووية تسمح للقوى النووية بمستوى تجريبي منخفض، وبأسلوب يكون من شأنه الإقرار باللامساواة القائمة بين من يملكون أسلحة نووية ومن لا يملكون، وإضفاء طابع الديمومة على هذا الوضع.
وكانت الحكومات الأوروبية حذرة تجاه حثّ (كلينتون) لها على توسيع حلف الناتو وإصلاحه، الأمر الذي رأت فيه تلك الحكومات محاولة لتعزيز نفوذ الولايات المتحدة في القارة، وإبقاء الاتحاد الأوروبي في المؤخرة، في حين كانت تلك الحكومات ترى في توسيع هذا الاتجاه وتعميقه النشاط الرئيس الذي كان يجب أن تنهض به أوروبا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
مقاومة السيطرة الأمريكية
لم يكن مفاجئاً أن عدداً متزايداً من الفاعلين الدوليين بدأ تدريجياً ــ منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي ــ يكتسب مزيداً من القوة ــ خلال ولاية (كلينتون) الثانية ــ في مقاومة السيطرة الأمريكية، المستندة إلى منهجها متعدد الأطراف، وذلك من خلال اللجوء إلى انتهاج أنشطة مضادة لمبادرات الولايات المتحدة بما يفوق في الأغلب الأعم رفضها صراحة، الأمر الذي كان من شأنه في المحصلة النهائية حرمان (واشنطن) من حجتها القوية لاتباع المنهج متعدد الأطراف، وإجبارها في المقابل على تبني منهج دفاعي أحادي الجانب.
ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، تمتعت الولايات المتحدة الأمريكية بالسيادة المطلقة، غير المتنازع عليها على العالم بأسره؛ وبعبارة أخرى، فقد أصبحت القوة المهيمنة الوحيدة، أو كما يُقال عنها (القوة العظمى)، أو حتى (المفرطة)، كما يفضّل بعض المعلقين تمييزاً لها عن بقية الدول الأقل منها شأناً. وفيما يبدو، فقد بدأت أحداث العالم كله وشؤونه تدور بشكل أو آخر حول واشنطن، منذ إسدال الستار على عالم الثنائية القطبية.
وقد تحدّث الرئيس الأمريكي السابق (بوش) في شهر سبتمبر من عام 2002م، عما وصفه بــ (قوة أمريكا وتأثيرها الذي لا يُنازع)، متعهداً باستخدام تلك القوة، والتأثير في مواجهة الأنظمة السياسية الداعمة للإرهاب، إلى جانب نشر وتمديد قيم الحرية والتقدم إلى الشعوب والدول التي تفتقر إليها.
ومن فرط سرعة التغيرات، فإنه يتعذّر اليوم الادعاء بأن الولايات المتحدة لا تزال تنفرد بسيادتها وهيمنتها على العالم، أو أنها قادرة على فرض إرادتها عليه، رغم ميزانيتها الدفاعية الضخمة، البالغة نحو (500) مليار دولار، والحقيقة، أن ما نراه الآن هو صورة مارد أمريكي جبّار، يزداد عجزه يوماً إثر يوم عن فرض نفوذه القيادي، أو الاجتراء على الخوض في الكثير من التحديات التي تحيط به، وتأتيه من كل جانب.
كما تواجه الولايات المتحدة معارضة قوية من عدة دول من أمريكا اللاتينية، منها (فنزويلا، والبرازيل)، تتمرد جميعها وباستمرار على الهيمنة الأمريكية.
غير أن التحدّي الأكثر تربصاً بأمريكا إنما يأتيها من قوى أصغر نسبياً، تتمثل في مجموعات (المتمردين)، وبعض اللاعبين غير الحكوميين، ونحن في غنى عن التذكير بما تواجهه أمريكا في أفغانستان، فها هي قوات حركة (طالبان) تعيد تجميع وترتيب صفوفها، بما يمثّل تحدياً للقوة الأمريكية وغيرها، التي تسعى إلى تحقيق الاستقرار هناك.
كما بدا واضحاً عزم إيران على المضي قدماً في تخصيب اليورانيوم، متحدية بذلك التهديدات بضربها عسكرياً من قِبل كل من واشنطن وتل أبيب. وفي ترديد منها لبعض أصداء حقبة الحرب الباردة، تتكئ طهران اليوم على ظهر كل من الصين وروسيا، ضد أي عقوبات دولية، أو أي ضربة عسكرية ربما تُوجّه إليها. وعليه، يبدو أكثر وضوحاً يوماً تلو الآخر أن السبيل الوحيد لحل هذه الأزمة هو التفاوض المباشر بين واشنطن وطهران، بحيث تتوفّر ضمانات كافية لطهران بعدم تعرّضها لأي ضربة عسكرية، فضلاً عن الاعتراف بدورها وأهميتها الإقليمية.
القطب الأوروبي
يتبنى بعض الأمريكيين رؤية سلبية جداً للوضع الذي يدعيه الاتحاد الأوروبي لنفسه، باعتباره بطل النظام الجديد لإدارة الحكم العالمي، إذ يرون فيه تهديداً للسيادة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي آخذٌ في التطوّر ليصبح قوة كبرى مناظرة للولايات المتحدة، قوة ليست ضعيفة، إلاّ أنها لا تمثّل بالضرورة تهديداً للمصالح الأمريكية.
واتحاد أوروبي أكثر قوة هو الشريك الطبيعي لولايات متحدة أقل تعنتاً، وأكثر اعتدالاً، في بناء نظام تعاوني متعدد الأطراف، يستند إلى قواعد مع وجود توازن قوى فعّال يحفظ استقرار هذه القواعد.
ومن ناحية أخرى، لا يرى البعض سوى فرصة محدودة لأن تقوم أوروبا بتطوير القدرات اللازمة لكي تتصرف كقطب ذي مصداقية في سياق عالم متعدد الأقطاب، وذلك بعدما تركت قدراته العسكرية تضمر فيما وراء الحماية الأمريكية.
القطب الصيني ـ الروسي
قطب جديد أخذ يتشكّل هو القطب الصيني ــ الروسي، وهو يستجمع قواه ويُعدّ العدة لفرض هيمنته بوسيلة قوة مغايرة، هي القوة الاقتصادية، وهو مرشح ليعتلي عرش القطبية، بما تمتلكه الصين من قوة اقتصادية، قد تصبح بها القوة الأولى في عالم المصالح، ومن الآن فإن الصين تتوغل في أسواق العالم، مستغلة نظام العولمة، ومسوقة منتجاتها بأثمان بخسة، لا تقوى على منافستها أسعار الأسواق العالمية، ومن يملك أسواق العالم يمسك بروحه.
فعلى الصعيد الاقتصادي مثلاً، برزت الصين منافساً لا يرقى إليه الشك لأمريكا؛ فبفضل مزجها الفريد ما بين الرأسمالية الحرة والقيود السياسية الصارمة، وبفضل وفرة عمالتها الرخيصة عالية الإنتاج في الوقت ذاته، وبسبب انفتاح شهيتها للطاقة والمواد الخام، إضافة إلى ارتفاع مستوى تعليمها التقني، وسيطرتها على أسواق العالمية، تمكّنت الصين من تحويل نفسها إلى قوة اقتصادية مرموقة بين دول العالم، تتمتع بمعدل نمو سنوي يصل إلى نسبة (9?).
ثم هناك روسيا، التي تمكنت من استعادة قسط كبير من عافيتها الاقتصادية، مدفوعة في ذلك بعائدات النفط والغاز الطبيعي الكبيرة التي حققتها، وقد تمكنت بفضل تلك المزايا، من أن تجعل من نفسها مصدراً أساسياً للطاقة بالنسبة للقارة الأوروبية. أما في منطقة آسيا الوسطى، فها نحن نراها تعمل جاهدة من أجل تحييد النفوذ الأمريكي وردّه إلى حدوده التقليدية التي كان عليها من قبل، في حين يزداد تحديها للهيمنة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط، وذلك بحرصها على إقامة وتعزيز علاقات الصداقة الودية مع عدد من الدول والمنظمات التي تواجه الآن ضغوطاً متصاعدة عليها من قِبل واشنطن، مثلما هو حال إيران وسوريا، ثم حكومة (حماس) التي انضمت إلى القائمة مؤخراً، ولاتزال واشنطن تعتبرها (منظمة إرهابية).
الخلاصة
يبدو أن أقطاب العالم جادون ـــ كلٌ فيما يخصه ـــ لفرض سياسة هيمنتهم بقوة أو بأخرى، وستساعد تقنيات العولمة على التسريع ببروز قوة الأقطاب وتفاعلها وتأثيرها على المصير العالمي
منذ نشأة الخليقة، لم يفتأ الأقوياء يبحثون ويتساءلون عن نوعية القوة التي تمكّنهم من بسط نفوذهم وهيمنتهم على المجتمعات الداخلية والخارجية. واختلف الجواب على السؤال بين المذاهب والعقائد والتصورات الفلسفية، والتقى بعضها على تمجيد القوة، وعلى أهلية القوي لحكم الضعيف، بل شرعية حكم المستكبرين للمستضعفين، ويجيب أصحاب هذه النزعة بين أقطاب اليوم على السؤال بأن القوة التي تمكّن القطب أو الأقطاب من حكم العالم هي القوة العسكرية وحدها، من خلال قوة السلاح المتطور، وعلى ذلك احتكرت الأقطاب امتلاك السلاح النووي، لأنه القوة التي لا تبقي على بشر أو حجر.
ويتجادل صانعو القرار والأكاديميون حول ما إذا كان وجود عالَم أكثر تعددية قطبية مفيداً أو مرغوباً فيه؛ ورغم ذلك، لم يحقق هذا الجدل سوى القليل في سبيل تأسيس توافق حول ما أخذ كلا الجانبين في تسيمته: (منهج فعّال متعدد الأطراف)؛ فقد تحدّثوا بشكل مشوّش عن الحاجة إلى بناء نظام عالمي متعدد الأطراف، ويتسم بالشراكة، وإلى تقوية كل الهياكل متعددة القطبية، مستخدمين ـــ بشكل مترافد غالباً ـــ مصطلحي (متعدد الأقطاب)، و (متعدد الأطراف)، ومن دون تعريف لأي منهما.
وتبرز من هذا الجدل مشكلات تتعلق بمسار دبلوماسية ما بعد الحرب الباردة، وصعوبة التوفيق بين السجل الراهن للأحداث منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، وفرضية أن تحولاً في ميزان القوة قاد إلى منهج أحادي الطرف، متزايد من جانب الولايات المتحدة.
والقطبية مفهوم يرتبط بتوزيع القوة الحقيقية في النظام الدولي، وإذا كان هناك شيء يمكن ذكره في هذا الإطار، فهو أن التاريخ يظهر أن القوة الأقوى هي في الغالب الأكثر ميلاً للمنهج متعدد الأطراف. وكان الباحثون في العلاقات الدولية مغرمين بمفهوم السيطرة، الذي من خلاله تقوم القوة الأقوى بتوجيه النظام متعدد الأطراف، بطريقة تخدم مصالحها الخاصة، وتوفّر نظاماً من القواعد باعتباره منعة دولية عامة.
وكانت بريطانيا في القرن التاسع عشر، وأمريكا في أواخر القرن العشرين قوتين مهيمنتين تقليديتين من هذا المنظور، وعلى النقيض، كان من غير الممكن تفسير الطابع أحادي الجانب الثابت للسياسة
عام 1969م، وقرار عدم الانضمام إلى وكالة الطاقة الذرية إبّان أزمة البترول عام 1973م.
أسلوب كبح القوة المهيمنة
يركِّز البعض على الأسلوب الذي تُشيّد به القوى المهيمنة (مثل: انجلترا فيما بعد عام 1815م، والقوى الغربية في عام 1919م، والولايات المتحدة فيما بعد عام 1995م) مؤسسات من شأنها أن تكبح قوتها الخاصة، ومن خلال الكبح والاستخدام الحكيم للمؤسسات الدولية، يمكن للولايات المتحدة أن تجعل من وضعها الخاص في النظام الدولي وضعاً دائماً ومستقراً، محبطة تكوين تحالفات معادية، أو بروز قوة مهيمنة جديدة.
وهنا يُثار السؤال: كيف يمكن للتقييد الذاتي من قِبل القوة القائدة أن يمنع القوى الطموحة في المرتبة الثانية والثالثة، وخصوصاً تلك التي ترى أنها في صعود متنام، من استخدام المؤسسات متعددة الأطراف لتحدِّي هيمنة القوة القائدة (بالأسلوب الذي استغلت به ألمانيا الاستعمارية ـــ على سبيل المثال ـــ التجارة الحرة لاقتطاع جزء من التفوّق البريطاني)؟
مستويات القوى في العلاقات الدولية
يقرّ بعض خبراء السياسة الدولية بوجود بعض عناصر التعددية القطبية في النظام الدولي، ويحاجون بأن العلاقات الدولية أضحت لعبة ذات ثلاثة مستويات، تشتمل على: القوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، وما يُسمَّى بــ (القوة الليّنة)، مع تمتّع الولايات المتحدة بالهيمنة أحادية القطبية على مستوى القوة العسكرية فقط. والسياسة الأمريكية يمكنها أن تسعى للحفاظ على الهيمنة العسكرية الأمريكية من خلال الاستخدام الحكيم للقوة الليّنة، والقوة المهيمنة لديها الخيار ـــ إذا كانت ذكيّة ـــ لتشكيل النظام الدولي بأسلوب يمكنه إعاقة نمو قوى منافسة.
المؤيدون والمعارضون للسياسة الأحادية
يؤيد بعض الأمريكيين اتباع سياسات أحادية الجانب، باعتبارها الوسيلة التي تحمي مصالح الولايات المتحدة، وتعمل من أجل تحقيق المنفعة الأكبر للإنسانية، وهم يرفضون قيود المنهج متعدد الأطراف الذي هدد ـــ من وجهة نظرهم ــــ بتحييد القوة الأمريكية في عهد إدارة (كلينتون)، ويرى هؤلاء أن الولايات المتحدة تمتلك قوة فريدة تجعل العالم أحادي القطبية، وتدفع في سبيل ما تراه ميلاً متزايداً لديها نحو منهج أحادي الجانب.
وفي الوقت نفسه، يرفض الواقعيون التقليديون رؤى المحافظين الجدد عن النظام العالمي أحادي القطبية، ويحاجّون بأن النظام الدولي هو في الأساس متعدد الأقطاب، ووفقاً لهم، فإن أي اختلال أحادي القطبية للتوازن لا يمكن إلاّ أن يكون مؤقتاً، حيث ستبرز حتماً مراكز القوة المنافسة، وتسعى لاستعادة التوازن مع القوة المهيمنة.
ويتقبل البعض التعددية القطبية، باعتبارها ظاهرة إيجابية، حيث يرون أن الوجود الفعلي لعالم متعدد الأقطاب هو الذي سيحول دون حدوث حالات فراغ جيوسياسي.
ويرى البعض كذلك وجود عناصر قوية للتعددية القطبية، أو على الأقل، للثنائية القطبية في النظام الدولي، مع كون الاتحاد الأوروبي المنافس الرئيس للولايات المتحدة، وفي حال التركيز على متغيري الاقتصاد والقانون أكثر من القوة العسكرية، فإنهم يرون أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة منخرطان في صراع على إدارة الحكم العالمي، مع وجود تهديد فعلي كبير بانتصار الاتحاد الأوروبي، وأن الولايات المتحدة يجب أن تركّز على العمل مع القوى الرئيسة الأخرى في مجلس الأمن ومجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى، وهو المنهج الذي سيوفّر على الولايات المتحدة الحاجة للاختيار بين منهج متعدد الأطراف، يخضع مصالحها لسلطة الدول الأصغر والأضعف، ومنهج أحادي الجانب متغطرس يضعها في صراع مع بقية العالم.
ولكل من تيارات التفكير في السياسة الخارجية مواطن قوة، كما أن لكل منها كذلك مشكلاته وتناقضاته. وإجمالاً، فهذه التيارات تعكس المعضلات التي واجهتها الولايات المتحدة وهي تحاول رسم سياسة خارجية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، وإحدى معضلات السياسة الخارجية الأمريكية تكمن في التساؤلات التالية: كيف يمكن للقوة القائدة أن تكون واثقة من ألاّ يتم استغلال التعاون التوافقي من قِبل المنافسين المحتملين لتأسيس نمط جديد من السيطرة؟ أو بالعكس، ما الذي سيضمن للقوى الصاعدة ألاّ تستغل القوة المسيطرة هذا التعاون التوافقي لتثبيت تلك القوى في وضع متدنٍ دائماً؟ وفي ظل غياب حل لتلك المعضلات، يصعب تصوّر كيف يمكن تفويض المسؤولية من قِبل الولايات المتحدة لأوروبا، أو لأي مركز قوة آخر.
التحوّل الأمريكي ليس مفاجأة
إن الربط بين المنهج الأمريكي أحادي الجانب، وبروز الأحادية القطبية منذ نهاية الحرب الباردة، يمثّل تحريفاً للسجل الفعلي للعلاقات الدولية خلال تلك المرحلة. ومن المحتمل بدرجة كبيرة ألاّ يقبل مؤرخو المستقبل الرؤية المبسطة القائلة إن الولايات المتحدة تحوّلت فجأة نحو المنهج أحادي الجانب في عام 1991م، أو حتى في عام 2001م ،جراء ما وجدت عليه نفسها من قوة نسبية جديدة.
ففي الواقع، تميّزت إدارتي (بوش الأب) و (كلينتون) بقدر كبير من النشاط متعدد الأطراف في الاقتصاد، وضبط التسلّح، ومنع الانتشار النووي، وبعض قضايا النظام العالمي الأخرى. وكان التحوّل نحو ما أصبح بقية العالم يعدّه منهجاً أحادي الجانب، والذي بدأ خلال ولاية (كلينتون) الثانية، وتسارع بشكل مثير بعد بدء ولاية (جورج دبليو بوش)، كان عملية أكثر تعقيداً بكثير، تضمنت على السواء رفضاً للسمات المميزة للمنهج الأمريكي متعدد الأطراف، وبروز مبادرات متعددة الأطراف منافسة.
ودخلت الولايات المتحدة حقبة ما بعد الحرب الباردة بعقلية متعددة الأطراف، وأعلن الرئيس الأسبق (بوش الأب) عن تأسيس نظام عالمي جديد، أفضى إلى ذلك التحالف المفوّض من قِبل الأمم المتحدة، الذي طرد (صدام حسين) من الكويت، وإلى إتمام مفاوضات (جولة أوروجواي)، التي تأسست بناء عليها منظمة التجارة العالمية، وكذلك إلى إكمال معاهدة (ستارت) مع سقوط النظام السوفيتي، وبدء المفاوضات التي قادت إلى معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية، وتأسيس منظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
وتابعت إدارة (كلينتون) ـــ بدرجة كبيرة ـــ التوجُّه ذاته، فأمّنت التصديق على اتفاقيات (جولة أوروجواي)، وأخذت بزمام المبادرة للتفاوض من أجل التوصّل إلى معاهدة حظر شامل للتجارب النووية، كما دعت إلى تأسيس المحكمة الجنائية الدولية في (يوغوسلافيا) السابقة، ووفّرت قدراً كبيراً من التمويل اللازم لها، وبعد تردد مبدئي، بدأت حملة توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) وإصلاحه.
وكما تنبّأ منظرو الاستقرار المستند إلى السيطرة كذلك، عكست سياسات (بوش الأب)، وإدارة (كلينتون) الأولى ميلاً لتطويع المنهج متعدد الأطراف لخدمة الأحادية القطبية، وكان لكثير من مبادرات الولايات المتحدة خلال تلك الفترة، سواء أكانت تمت صياغتها بشكل مقصود أم لا، طابعاً أحادي الجانب جليّاً، وفي الوقت الذي كان فيه من الصعب معارضة تلك المبادرات كلية، فإن هذا الطابع أثار قلق القوى الأخرى.
فعلى سبيل المثال، كان الاتحاد الأوروبي متشككاً مبدئياً في ضغط الولايات المتحدة لإقرار آلية إلزامية لتسوية النزاعات في إطار منظمة التجارة العالمية، الأمر الذي كان يعني إنهاء قدرة الاتحاد الأوروبي على مواصلة ممارسته المعتادة في استخدام القاعدة المعمول بها في المنظمة لاعتراض سبيل أي إثبات على أن (بروكسل) انتهكت قوانين التجارة الدولية. وكذلك، فقد تحمّست كل من فرنسا وبريطانيا ــ بصعوبة ــ لإنشاء المحاكمات الجنائية في (يوغوسلافيا) السابقة، لأن تلك المحاكمات التي كانت تحمل طابعاً أمريكياً، كان من المحتمل أن تحدث رد فعل سلبي لدى الاتجاهات المؤدية (للصرب) في كلا البلدين.
كما أن فرنسا والصين لم يكن بإمكانهما القبول بمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية حتى تستكملا جولة نهائية من التجارب، في حين أن الهند كانت ساخطة من الاقتراحات المبكّرة لإدارة (كلينتون) في هذا السياق، حيث كانت تلك الاقتراحات تفضي إلى معاهدة حظر شامل للتجارب النووية تسمح للقوى النووية بمستوى تجريبي منخفض، وبأسلوب يكون من شأنه الإقرار باللامساواة القائمة بين من يملكون أسلحة نووية ومن لا يملكون، وإضفاء طابع الديمومة على هذا الوضع.
وكانت الحكومات الأوروبية حذرة تجاه حثّ (كلينتون) لها على توسيع حلف الناتو وإصلاحه، الأمر الذي رأت فيه تلك الحكومات محاولة لتعزيز نفوذ الولايات المتحدة في القارة، وإبقاء الاتحاد الأوروبي في المؤخرة، في حين كانت تلك الحكومات ترى في توسيع هذا الاتجاه وتعميقه النشاط الرئيس الذي كان يجب أن تنهض به أوروبا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
مقاومة السيطرة الأمريكية
لم يكن مفاجئاً أن عدداً متزايداً من الفاعلين الدوليين بدأ تدريجياً ــ منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي ــ يكتسب مزيداً من القوة ــ خلال ولاية (كلينتون) الثانية ــ في مقاومة السيطرة الأمريكية، المستندة إلى منهجها متعدد الأطراف، وذلك من خلال اللجوء إلى انتهاج أنشطة مضادة لمبادرات الولايات المتحدة بما يفوق في الأغلب الأعم رفضها صراحة، الأمر الذي كان من شأنه في المحصلة النهائية حرمان (واشنطن) من حجتها القوية لاتباع المنهج متعدد الأطراف، وإجبارها في المقابل على تبني منهج دفاعي أحادي الجانب.
ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، تمتعت الولايات المتحدة الأمريكية بالسيادة المطلقة، غير المتنازع عليها على العالم بأسره؛ وبعبارة أخرى، فقد أصبحت القوة المهيمنة الوحيدة، أو كما يُقال عنها (القوة العظمى)، أو حتى (المفرطة)، كما يفضّل بعض المعلقين تمييزاً لها عن بقية الدول الأقل منها شأناً. وفيما يبدو، فقد بدأت أحداث العالم كله وشؤونه تدور بشكل أو آخر حول واشنطن، منذ إسدال الستار على عالم الثنائية القطبية.
وقد تحدّث الرئيس الأمريكي السابق (بوش) في شهر سبتمبر من عام 2002م، عما وصفه بــ (قوة أمريكا وتأثيرها الذي لا يُنازع)، متعهداً باستخدام تلك القوة، والتأثير في مواجهة الأنظمة السياسية الداعمة للإرهاب، إلى جانب نشر وتمديد قيم الحرية والتقدم إلى الشعوب والدول التي تفتقر إليها.
ومن فرط سرعة التغيرات، فإنه يتعذّر اليوم الادعاء بأن الولايات المتحدة لا تزال تنفرد بسيادتها وهيمنتها على العالم، أو أنها قادرة على فرض إرادتها عليه، رغم ميزانيتها الدفاعية الضخمة، البالغة نحو (500) مليار دولار، والحقيقة، أن ما نراه الآن هو صورة مارد أمريكي جبّار، يزداد عجزه يوماً إثر يوم عن فرض نفوذه القيادي، أو الاجتراء على الخوض في الكثير من التحديات التي تحيط به، وتأتيه من كل جانب.
كما تواجه الولايات المتحدة معارضة قوية من عدة دول من أمريكا اللاتينية، منها (فنزويلا، والبرازيل)، تتمرد جميعها وباستمرار على الهيمنة الأمريكية.
غير أن التحدّي الأكثر تربصاً بأمريكا إنما يأتيها من قوى أصغر نسبياً، تتمثل في مجموعات (المتمردين)، وبعض اللاعبين غير الحكوميين، ونحن في غنى عن التذكير بما تواجهه أمريكا في أفغانستان، فها هي قوات حركة (طالبان) تعيد تجميع وترتيب صفوفها، بما يمثّل تحدياً للقوة الأمريكية وغيرها، التي تسعى إلى تحقيق الاستقرار هناك.
كما بدا واضحاً عزم إيران على المضي قدماً في تخصيب اليورانيوم، متحدية بذلك التهديدات بضربها عسكرياً من قِبل كل من واشنطن وتل أبيب. وفي ترديد منها لبعض أصداء حقبة الحرب الباردة، تتكئ طهران اليوم على ظهر كل من الصين وروسيا، ضد أي عقوبات دولية، أو أي ضربة عسكرية ربما تُوجّه إليها. وعليه، يبدو أكثر وضوحاً يوماً تلو الآخر أن السبيل الوحيد لحل هذه الأزمة هو التفاوض المباشر بين واشنطن وطهران، بحيث تتوفّر ضمانات كافية لطهران بعدم تعرّضها لأي ضربة عسكرية، فضلاً عن الاعتراف بدورها وأهميتها الإقليمية.
القطب الأوروبي
يتبنى بعض الأمريكيين رؤية سلبية جداً للوضع الذي يدعيه الاتحاد الأوروبي لنفسه، باعتباره بطل النظام الجديد لإدارة الحكم العالمي، إذ يرون فيه تهديداً للسيادة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي آخذٌ في التطوّر ليصبح قوة كبرى مناظرة للولايات المتحدة، قوة ليست ضعيفة، إلاّ أنها لا تمثّل بالضرورة تهديداً للمصالح الأمريكية.
واتحاد أوروبي أكثر قوة هو الشريك الطبيعي لولايات متحدة أقل تعنتاً، وأكثر اعتدالاً، في بناء نظام تعاوني متعدد الأطراف، يستند إلى قواعد مع وجود توازن قوى فعّال يحفظ استقرار هذه القواعد.
ومن ناحية أخرى، لا يرى البعض سوى فرصة محدودة لأن تقوم أوروبا بتطوير القدرات اللازمة لكي تتصرف كقطب ذي مصداقية في سياق عالم متعدد الأقطاب، وذلك بعدما تركت قدراته العسكرية تضمر فيما وراء الحماية الأمريكية.
القطب الصيني ـ الروسي
قطب جديد أخذ يتشكّل هو القطب الصيني ــ الروسي، وهو يستجمع قواه ويُعدّ العدة لفرض هيمنته بوسيلة قوة مغايرة، هي القوة الاقتصادية، وهو مرشح ليعتلي عرش القطبية، بما تمتلكه الصين من قوة اقتصادية، قد تصبح بها القوة الأولى في عالم المصالح، ومن الآن فإن الصين تتوغل في أسواق العالم، مستغلة نظام العولمة، ومسوقة منتجاتها بأثمان بخسة، لا تقوى على منافستها أسعار الأسواق العالمية، ومن يملك أسواق العالم يمسك بروحه.
فعلى الصعيد الاقتصادي مثلاً، برزت الصين منافساً لا يرقى إليه الشك لأمريكا؛ فبفضل مزجها الفريد ما بين الرأسمالية الحرة والقيود السياسية الصارمة، وبفضل وفرة عمالتها الرخيصة عالية الإنتاج في الوقت ذاته، وبسبب انفتاح شهيتها للطاقة والمواد الخام، إضافة إلى ارتفاع مستوى تعليمها التقني، وسيطرتها على أسواق العالمية، تمكّنت الصين من تحويل نفسها إلى قوة اقتصادية مرموقة بين دول العالم، تتمتع بمعدل نمو سنوي يصل إلى نسبة (9?).
ثم هناك روسيا، التي تمكنت من استعادة قسط كبير من عافيتها الاقتصادية، مدفوعة في ذلك بعائدات النفط والغاز الطبيعي الكبيرة التي حققتها، وقد تمكنت بفضل تلك المزايا، من أن تجعل من نفسها مصدراً أساسياً للطاقة بالنسبة للقارة الأوروبية. أما في منطقة آسيا الوسطى، فها نحن نراها تعمل جاهدة من أجل تحييد النفوذ الأمريكي وردّه إلى حدوده التقليدية التي كان عليها من قبل، في حين يزداد تحديها للهيمنة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط، وذلك بحرصها على إقامة وتعزيز علاقات الصداقة الودية مع عدد من الدول والمنظمات التي تواجه الآن ضغوطاً متصاعدة عليها من قِبل واشنطن، مثلما هو حال إيران وسوريا، ثم حكومة (حماس) التي انضمت إلى القائمة مؤخراً، ولاتزال واشنطن تعتبرها (منظمة إرهابية).
الخلاصة
يبدو أن أقطاب العالم جادون ـــ كلٌ فيما يخصه ـــ لفرض سياسة هيمنتهم بقوة أو بأخرى، وستساعد تقنيات العولمة على التسريع ببروز قوة الأقطاب وتفاعلها وتأثيرها على المصير العالمي