By اسماعيل البراك 8 - الجمعة يونيو 04, 2010 2:24 pm
- الجمعة يونيو 04, 2010 2:24 pm
#27682
لعلاقات الدولية في الحضارة المعاصرة(المصلحة الوطنية والقوة)
1-المصلحة الوطنية :-
(( المصلحة الوطنية هي "المفتاح الأساسي" في السياسة الخارجية، ويرتد هذا المفهوم في جوهره إلى مجموع القيم الوطنية، تلك القيم النابعة من الأمة والدولة في نفس الوقت، غير أن هذا المفهوم لا يخلو من غموض … وإذا كان من الصعب بيان المقصود بالمصلحة الوطنية بفكرة مجردة، فإن من المستحيل أن نجد إجماعاً على ما تعنيه في قضية معينة. إن الجدل المتكرر حول السياسة الخارجية يتركز حول التفسيرات المختلفة لمتطلبات المصلحة الوطنية … ليس من الضروري أن نعرف المصلحة القومية تعريفاً ضيقاً يستبعد الاعتبارات الخلقية والدينية وما على شاكلتها، وإنما تقتضي فاعلية هذه المصلحة الوطنية استيعاب هذه الاعتبارات كجزء منها … تحكم تصرفات الساسة جميعاً مصالحهم الوطنية المختلفة، غير أنَّ هذا لا يعني أنه ليس بوسعهم البتة الاتفاق على شيء ما، بل على العكس كثيراً ما يتفقون، وإن كان هذا الاتفاق ينطلق أيضاً من مصالحهم الوطنية، فإذا وافق سياسي على تقديم تنازلات فإنه لا يفعل ذلك إلا إذا اقتنع أن عمله سيعطي دولته بعض المزايا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة … إن فكرة المصلحة الوطنية مبنية على وجود قيم في الجماعة الوطنية، هذه القيم التي يمكن أن نعتبرها من نتاج ثقافتها ومعبراً عن روح تجانسها … غير أنَّ العلاقة بين هذه القيم وبين الأهداف السياسية المحددة تتطلب شرحاً أكبر، إن القيم تنتمي إلى مجال "ما يجب أن يكون"، وليس من الضروري أن تترجم إلى أهداف سياسية محددة … إن النظم القيمية يعوزها اليقين عامة، بل إنها أحياناً تتضمن قيما متضاربة، الأمر الذي يثير مشكلة: أي من هذه القيم الواجب التطبيق في الحالات المفروضة؟ … وقد تتعقَّد الأمور أكثر من ذلك، وقد يستهدف الساسة التضليل من وراء تصرفاتهم، بل إنه طبقاً لنظرية فرويد لا يعرفون بالضبط حقيقة الدوافع التي تُسيرهم، وأخيراً فإن الثقافات المختلفة لا تعطي الأهمية لنفس القيم … ولقد كان الإنسان يسعى طوال تاريخ الفكر السياسي إلى تصوير قيمة عليا تتخذ معياراً عاماًّ لتصرفاته، وللأسف فإن مجرَّد وجود نظريات متناقضة في هذا الموضوع يعني الشكَّ في إمكانية أن تكون أي منها صحيحة كل الصحَّة. ومعيار المصلحة الوطنية - رغم شعبيته - شديد الغموض … وعندما تصطدم قيمتان أو أكثر فيما بينها فإن الأهمية النسبية لأي منهما يجب أن تقدر وترسى … وهذا التصنيف للقيم ليس سهلاً، لأن التركيز على أهميتها يتراوح من حالة إلى أخرى، وكثيراً ما تحكمه العواطف … لا تبلغ القيم ذروة مدلولها السياسي إلا في الممارسة، أي عندما يحاول رجل الدولة أن يطابقها بالصورة الذهنية التجريدية الغامضة التي لديه عن البيئة … وهمزة الوصل الأساسية بين البيئة ورجل الدولة هي المعلومات … وبرغم أنه بإمكان كبار المسؤولين أن يطلعوا اطلاعاً تاما على المعلومات المتوافرة لحكوماتهم، إلا أنَّهم لا يستطيعون بأي حال من الأحوال هضم كل هذه المعلومات، وعندما تحمل المعلومات إليهم فإنها تكون في العادة قد تكثفت وانفصلت عن الواقع إلى درجة تسمح بإساءة تفسيرها تماماً. ولكي يختار المرء ما يمكن الاعتماد عليه من بين خضم المعلومات والأحداث يجب أن يكون لديه معيارٌ لذلك الاختيار لتحديد أهميتها … وعملية تفسير الحقائق والوقائع ليست معقولة تماماً. ولكنها غالباً ما تتأثر بالعواطف وبنزعة البشر في أن يطمسوا ما لا يسرهم وبالتفكير المفرط في التمني … وهكذا يتضح أن ما نعرفه عن بيئتنا بعيد عن الواقع إلى درجة أننا بدلاً من أن نتكلَّم عن المعرفة يجب أن نستخدم كلمة "الصورة الذهنية" … وبمجرد أن يكوِّن السياسي صورة ذهنية عن موضوع أو عن دولة أخرى فإن هذه الصورة الذهنية تصبح بمثابة جهاز لتنظيم المزيد من المعلومات ومصفاةً تمر من خلالها هذه المعلومات، ولهذا فالصورة الذهنية لا المعلومات هي التي تحكم السلوك السياسي )) (ص 52).لا بدَّ أن يستنتج القارئ من الشرح السابق صعوبة تعيين المصلحة الوطنية الحقيقية، وأنه ليس من الضروري أن تكون محكومة بمعايير موضوعية، كما يستنتج قابليتها للمرونة والتكيف في يد صانع القرار. وسيكون في إمكانه نتيجة لذلك أن يقيِّم مدى أهلية المصلحة الوطنية لأن تكون أساساً قوياًّ للعلاقات الدولية.
2- القوة :-
(( إن مشكلة القوة تدخل جميع أنواع العلاقات الدولية، في الحروب والمنافسات تدخل القوة بمعناها العسكري، وفي التعاون يدخل التهديد بالقوة لقمع أحد الأطراف. يدور عالم السياسة كله حول ممارسة القوة والبحث عنها، غير أن القوة في السياسة الدولية أوضح بكثير وأقلُّ قيوداً من القوة في السياسة الداخلية. ولهذا فكثيراً ما تسمى السياسة الدولية بسياسة القوة … ولقد أدى الدور الهام الذي تلعبه القوة في العلاقات الدولية إلى نشوء مدرسة فكرية تفسر العلاقات الدولية على ضوء مفهوم القوة … [ ولكن ] بالرغم من أن القوة تلعب دوراً هاماًّ في السياسة الدولية، فإنها في الأساس وسيلة لتحقيق قيم وطنية، والسياسة الدولية لا تحددها القوة التي تملكها الدولة فحسب، وإنما تحددها بدرجة أكبر القيم التي تعتنقها هذه الدول، ومفهوم المصلحة الوطنية التي تحكم سلوك الدول لا يقف عند اعتبارات القوة وحدها )) (ص 93-94).على أنا إذا استعدنا الشرح السابق عن المصلحة الوطنية، فربما يصح الافتراض بأن القوة تحكم تعيين المصلحة القومية أكثر مما تحكم المصلحة الوطنية القوة. (( من الصعب أن تقيم القوة تقييماً مجرَّداً، فبإمكان القوة أن تكون في خدمة أهداف سيئة وأهداف خيرة على السواء. ومن المستحيل قطعاً إزالة القوة. والمشكلة التي تواجهنا ليست في كيفية إزالة القوة، ولكن في كيفية السيطرة عليها وإبقائها ضمن القنوات المشروعة )) (ص 94).وعند الحديث عن عناصر القوة ينبغي أن نلاحظ (( أن قوة الدولة يمكن أن تجزأ إلى عدد من عوامل متميزة، ويميز أكثر الكتاب بين خمس مجموعات في هذا الصدد: الديموجرافية والجغرافية والاقتصادية والتنظيمية والسيكولوجية الاجتماعية والاستراتيجية الدولية )) (ص 101).يبحث جوزيف فرانكل موضوع الدعاية والإعلام ضمن حديثه عن أدوات وتقنيات التعامل بين الدول.نظراً لتعاظم تأثير الدعاية والإعلان في هذا الوقت، وأنه أصبح قوةً خطيرةً مؤثِّرةً رأيت الحديث عنه ضمن الحديث عن القوة.(( تعني الدعاية عموماً أيَّ محاولة للتأثير على عقول وعواطف وتصرفات جماعة معينة تحقيقاً لهدف عام معين … والدعاية نشاط أناني لا تحكمه إلا اعتبارات المصلحة الوطنية للقائم بالدعاية. ولهذا فهو نشاط لا تقبله الدول الأخرى، ولا تحتوي الدعاية على أية محاولة للوصول إلى حل وسط بين المصالح الوطنية المتنافية، بل ينحصر هدفها في تحقيق امتيازات وطنية للقائم بالدعاية. ولهذا فإن الدعاية كما تعمل اليوم لا تخدم بالنظر إلى النظام الدولي سوى أغراض سلبية … ولقد باءت كل المحاولات الدولية التي بذلت للتخفيف من غلواء الدعاية - إن لم يكن السيطرة عليها - حتى الآن بالفشل )) (ص 123). (( والمشكلة الأولى في كل النشاطات الدعائية هي كيفية إيصال الدعاية إلى الأشخاص الموجهة إليهم، وهذه إلى حد بعيد مشكلة تكنولوجية، ويتوقَّف حلها على وجود موارد وخبرة كافية، وهناك عندما تتمكن الدعاية من الوصول إلى جمهورها مشاكل نفسية صعبة شبيهة بتلك التي تواجه الإعلان التجاري، كيف يمكن الحصول على اهتمام الناس؟ وكيف يمكن الوصول إلى رد الفعل المطلوب؟ وهذه الأسئلة هي التي تحدِّد طريقة العرض، ومن الوسائل السهلة في الدعاية تقديم الأخبار والمعلومات بأكبر قدرٍ من الدقة والموضوعية وترك القارئ أو المستمع يكوِّن الاستنتاجات التي يريدها … ومن الصعب بطبيعة الحال تحقيق الموضوعية الكاملة، وحتى في أكثر الإذاعات حرصًا على الحقائق والتجرُّد لا بدَّ أن تكون هناك عملية اختيار بين مختلف الأخبار على أساس تفضيل الأنباء التي تفيد الدولة صاحبة الإذاعة )) (ص 125-126).على أن الغالب أن يستخدم بدل الموضوعية التظاهر بالموضوعية. (( أما التقنية المعاكسة فهي تقنية "الكذبة الكبرى"، وقد استعمل هتلر هذه التقنية متبعاً الفكرة التي عرضها في كتابه "كفاحي"، وهي أن الكذبة إذا كانت كذبة كبرى وردِّدت ترديداً كافياً فسوف يصدِّقها الجماهير تصديقاً جزئياًّ على الأقل. إذ أن أكثر الناس يفتقرون إلى سعة الأفق اللازمة لإدراك أن ترديد تصريحاتٍ ما لا يعني صحَّتها، وفرض رقابة على مصادر الإعلام الأخرى أمر ضروري لنجاح هذه التقنية )) (ص 126).على أنَّ تقنية "الكذبة الكبرى" ليس اكتشافها ولا تطبيقها بفعالية امتيازاً لهتلر، فالواقع أن ممارسة هذه التقنية أمرٌ شائع سواء في الدول الدكتاتورية أو الديمقراطية. (( ويجب أن يكون الشكل الذي تقدَّم به الأنباء جذَّاباً … والجمهور في العادة لا يهتمُّ بالاستماع إلى التحليلات الطويلة حول صواب أو خطأ قضية ما، ولكنه يستجيب بسرعة للشعارات البسيطة حتى ولو لم يكن لها ارتباط وثيق بالقضية، ما دامت هذه الشعارات تشمل عبارات ذات محتوى عاطفي كالسلام والعدوان )) (ص 126). (( ويزداد تأثير الدعاية زيادة كبيرة عن طريق التكرار والثبات عبر مدةٍ طويلةٍ من الزمن، كما يزداد بإزالة المصادر الأخرى للمعلومات أو التشويش عليها )) (ص 127).إن الدعاية تستند إلى عاملَيْن: عامل إيجابي، وعامل سلبي. العامل الإيجابي يتمثَّل في التقنية الفعالة في خطابها للمتلقي، والعامل السلبي يتمثَّل في القابلية الذهنية (الإسفنجية) للامتصاص لدى المتلقي واستعداده لتصديق المعلومات. وللإيضاح يمكن ذكر مثلين حديثين من تداعيات حادث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية.فبالنسبة للعامل الإيجابي: في اليوم الأول للحادث شحنت ذهنية المتلقي بالإيحاءات بأن مسلمين - ولا غيرهم - وراء تدبير وتنفيذ العملية المرعبة. وفي اليوم التالي غطيت شاشات التلفاز في الولايات المتحدة الأمريكية بصور الأخوين بخاري الطيارين السعوديين مع التأكيد بأنهما قادا طائرتين من طائرات الهجوم على مركز التجارة العالمي، ومبنى البنتاجون، ثم تبع ذلك الأخبار عن توصل الأجهزة الأمنية للتعرف على هويات تسعة عشر شخصاً المشاركين في تنفيذ العملية، وملأت صورهم وأسماؤهم الصحف، وشاشات التلفاز، وحوائط المطارات، مع طلب المعلومات ممن يعرف أي شيء عن أيٍّ منهم، وأكَّد الإعلام توصل الأجهزة الأمنية لمعرفة جنسيات أحد عشر شخصاً من هؤلاء بأنهم سعوديون.ليس من اهتمام الكاتب ولا في نطاق قدرته أن يفترض هدفاً أو أهدافاً محدَّدة لهذه الإجراءات الدعائية، ولكن لو افترض أن من أهدافها وضع ضغط نفسي على المملكة العربية السعودية لينشأ لديها شعور بالذنب وتكون مستعدة للتكفير، ولو افترض أن من أهدافها تقوية ثقة المواطن الأمريكي بأجهزته الأمنية، وبحكمة القرارات التي سوف تتخذها حكومته للتعامل مع الحادث. فإن هذه الأهداف تحققت، فقد قفزت شعبية الحكومة بصورة عجيبة، وظهر اتحاد الشعب وإجماعه على الوقوف وراء الحكومة في أي قرار أو إجراء تتَّخذه مهما كان هذا القرار أو الإجراء ذا طبيعة تسمح باختلاف الرأي العام عليه، فيما قبل 11 سبتمبر.ولم يضعف من هذا التأثير أن ينكشف بعد ذلك أن أحد الأخوين بخاري توفي قبل سنة، وأن الآخر لا يزال حياًّ يرزق، كما لم يؤثر في ذلك انكشاف أن ثمانية على الأقل من الأحد عشر سعودياًّ الذين اكتشفت الأجهزة الأمنية هوياتهم بأنهم ضمن الانتحاريين لا يزالون أحياء يتمتعون بحياتهم خارج الولايات المتحدة الأمريكية.على أنَّ الأمر الذي يحمل أكثر من دلالة أن الإعلام الأمريكي وغير الأمريكي - على خلاف العادة بالاهتمام باقتناص الخبر المثير، وليس أكثر إثارة من ظهور المنتحرين أحياء - لم يهتمَّ بهذه المعلومات الحقيقية المثيرة، بل تم تجاهلها إلى حدٍّ كبير.وبالنسبة للعامل السلبي: فكمثال أذكر تجربة شخصية لي عندما كنت أتابع الأخبار عن الحادث الإرهابي المفزع يوم 11 سبتمبر. فقد تواترت منذ اليوم الأول مجموعة من الأخبار تصف الدرجة العالية من التقنية التي تم بها تخطيط وتنفيذ العملية، إذ كما قال السيناتور بات روبرتز: بذل جهد كبير في التخطيط ولم تغفل التفصيلات الدقيقة كالاعتبارات المناخية، واستعملت تكتيكات عالية التقنية sophisticated tactics في التنفيذ. وكما وصف ملحق مجلة التايم September IIII 2001: إن كل الطائرات المهاجمة نفذت بعنايةٍ تعديلات المسار بما في ذلك المناورة المدهشة جدا للرحلة رقم 77، حيث اتخذ الطيار الانتحاري مساراً منخفضاً ثم حرف الطائرة 270 درجة قبل صدم الجدار الغربي لمبنى البنتاجون. وكشفت الأخبار أن نائب الرئيس الأمريكي أخبر الرئيس أثناء تحليقه في الجو أن الـ lam enforcement and security agencies مقتنعون بأن طائرة الرئيس مستهدفة. وتأيد ذلك عند ما ذكر فيما بعد أن مساعدي الرئيس ذكروا كتفسير لتأخر وصول الرئيس إلى البيت الأبيض أنه كانت هناك أدلة معتمدة على استهداف طائرة الرئيس من قبل مدبري الخطة الإرهابية، وكان الأمر من الجدية بحيث إن الرئيس ونائبه أصرا على وجوب اتجاه طائرة الرئيس إلى قاعدة عسكرية آمنة بأسرع وقت ممكن، وإلى درجة أن محرري التقارير على ظهر الطائرة أمروا بعدم استعمال تلفوناتهم النقالة، بل بعدم إبقائها مفتوحةً حذراً من أن يستدل بالإشارات على موقع الطائرة.ثم تواترت مجموعةٌ أخرى من الأخبار والصور وآراء الخبراء الأمنيين والسياسيين التي تؤكِّد أن وراء تدبير الخطة وتمويلها رجلاً يقيم على بعد سبعة آلاف ميل.وقد تلقيت هاتين المجموعتين من المعلومات كما تلقاها غيري دون أن ألاحظ ضعف الانسجام بينهما، حتى سمعت تعليقاً لأحد المحلِّلين يلاحظ فيه أن القول بأن رجلاً محدود القدرات، تخضع - لمدَّة طويلة - نشاطاتُهُ واتصالاتُهُ لمراقبة ومتابعة أقوى الأجهزة الذكية: الأمريكية والإسرائيلية والهندية والروسية، وربما أجهزة أخرى يستطيع تدبير خطة إرهابية على درجة من الإحكام والتقنية العالمية بحيث تستطيع أن تهدِّد بجدية طائرة الرئيس الأمريكي أثناء تحليقها في الجو، يعني أن هذا السوبرمان لا بد أنه يملك قدرات ميتافيزيكية، حتى يبلغ هذا المستوى من الخطورة.
1-المصلحة الوطنية :-
(( المصلحة الوطنية هي "المفتاح الأساسي" في السياسة الخارجية، ويرتد هذا المفهوم في جوهره إلى مجموع القيم الوطنية، تلك القيم النابعة من الأمة والدولة في نفس الوقت، غير أن هذا المفهوم لا يخلو من غموض … وإذا كان من الصعب بيان المقصود بالمصلحة الوطنية بفكرة مجردة، فإن من المستحيل أن نجد إجماعاً على ما تعنيه في قضية معينة. إن الجدل المتكرر حول السياسة الخارجية يتركز حول التفسيرات المختلفة لمتطلبات المصلحة الوطنية … ليس من الضروري أن نعرف المصلحة القومية تعريفاً ضيقاً يستبعد الاعتبارات الخلقية والدينية وما على شاكلتها، وإنما تقتضي فاعلية هذه المصلحة الوطنية استيعاب هذه الاعتبارات كجزء منها … تحكم تصرفات الساسة جميعاً مصالحهم الوطنية المختلفة، غير أنَّ هذا لا يعني أنه ليس بوسعهم البتة الاتفاق على شيء ما، بل على العكس كثيراً ما يتفقون، وإن كان هذا الاتفاق ينطلق أيضاً من مصالحهم الوطنية، فإذا وافق سياسي على تقديم تنازلات فإنه لا يفعل ذلك إلا إذا اقتنع أن عمله سيعطي دولته بعض المزايا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة … إن فكرة المصلحة الوطنية مبنية على وجود قيم في الجماعة الوطنية، هذه القيم التي يمكن أن نعتبرها من نتاج ثقافتها ومعبراً عن روح تجانسها … غير أنَّ العلاقة بين هذه القيم وبين الأهداف السياسية المحددة تتطلب شرحاً أكبر، إن القيم تنتمي إلى مجال "ما يجب أن يكون"، وليس من الضروري أن تترجم إلى أهداف سياسية محددة … إن النظم القيمية يعوزها اليقين عامة، بل إنها أحياناً تتضمن قيما متضاربة، الأمر الذي يثير مشكلة: أي من هذه القيم الواجب التطبيق في الحالات المفروضة؟ … وقد تتعقَّد الأمور أكثر من ذلك، وقد يستهدف الساسة التضليل من وراء تصرفاتهم، بل إنه طبقاً لنظرية فرويد لا يعرفون بالضبط حقيقة الدوافع التي تُسيرهم، وأخيراً فإن الثقافات المختلفة لا تعطي الأهمية لنفس القيم … ولقد كان الإنسان يسعى طوال تاريخ الفكر السياسي إلى تصوير قيمة عليا تتخذ معياراً عاماًّ لتصرفاته، وللأسف فإن مجرَّد وجود نظريات متناقضة في هذا الموضوع يعني الشكَّ في إمكانية أن تكون أي منها صحيحة كل الصحَّة. ومعيار المصلحة الوطنية - رغم شعبيته - شديد الغموض … وعندما تصطدم قيمتان أو أكثر فيما بينها فإن الأهمية النسبية لأي منهما يجب أن تقدر وترسى … وهذا التصنيف للقيم ليس سهلاً، لأن التركيز على أهميتها يتراوح من حالة إلى أخرى، وكثيراً ما تحكمه العواطف … لا تبلغ القيم ذروة مدلولها السياسي إلا في الممارسة، أي عندما يحاول رجل الدولة أن يطابقها بالصورة الذهنية التجريدية الغامضة التي لديه عن البيئة … وهمزة الوصل الأساسية بين البيئة ورجل الدولة هي المعلومات … وبرغم أنه بإمكان كبار المسؤولين أن يطلعوا اطلاعاً تاما على المعلومات المتوافرة لحكوماتهم، إلا أنَّهم لا يستطيعون بأي حال من الأحوال هضم كل هذه المعلومات، وعندما تحمل المعلومات إليهم فإنها تكون في العادة قد تكثفت وانفصلت عن الواقع إلى درجة تسمح بإساءة تفسيرها تماماً. ولكي يختار المرء ما يمكن الاعتماد عليه من بين خضم المعلومات والأحداث يجب أن يكون لديه معيارٌ لذلك الاختيار لتحديد أهميتها … وعملية تفسير الحقائق والوقائع ليست معقولة تماماً. ولكنها غالباً ما تتأثر بالعواطف وبنزعة البشر في أن يطمسوا ما لا يسرهم وبالتفكير المفرط في التمني … وهكذا يتضح أن ما نعرفه عن بيئتنا بعيد عن الواقع إلى درجة أننا بدلاً من أن نتكلَّم عن المعرفة يجب أن نستخدم كلمة "الصورة الذهنية" … وبمجرد أن يكوِّن السياسي صورة ذهنية عن موضوع أو عن دولة أخرى فإن هذه الصورة الذهنية تصبح بمثابة جهاز لتنظيم المزيد من المعلومات ومصفاةً تمر من خلالها هذه المعلومات، ولهذا فالصورة الذهنية لا المعلومات هي التي تحكم السلوك السياسي )) (ص 52).لا بدَّ أن يستنتج القارئ من الشرح السابق صعوبة تعيين المصلحة الوطنية الحقيقية، وأنه ليس من الضروري أن تكون محكومة بمعايير موضوعية، كما يستنتج قابليتها للمرونة والتكيف في يد صانع القرار. وسيكون في إمكانه نتيجة لذلك أن يقيِّم مدى أهلية المصلحة الوطنية لأن تكون أساساً قوياًّ للعلاقات الدولية.
2- القوة :-
(( إن مشكلة القوة تدخل جميع أنواع العلاقات الدولية، في الحروب والمنافسات تدخل القوة بمعناها العسكري، وفي التعاون يدخل التهديد بالقوة لقمع أحد الأطراف. يدور عالم السياسة كله حول ممارسة القوة والبحث عنها، غير أن القوة في السياسة الدولية أوضح بكثير وأقلُّ قيوداً من القوة في السياسة الداخلية. ولهذا فكثيراً ما تسمى السياسة الدولية بسياسة القوة … ولقد أدى الدور الهام الذي تلعبه القوة في العلاقات الدولية إلى نشوء مدرسة فكرية تفسر العلاقات الدولية على ضوء مفهوم القوة … [ ولكن ] بالرغم من أن القوة تلعب دوراً هاماًّ في السياسة الدولية، فإنها في الأساس وسيلة لتحقيق قيم وطنية، والسياسة الدولية لا تحددها القوة التي تملكها الدولة فحسب، وإنما تحددها بدرجة أكبر القيم التي تعتنقها هذه الدول، ومفهوم المصلحة الوطنية التي تحكم سلوك الدول لا يقف عند اعتبارات القوة وحدها )) (ص 93-94).على أنا إذا استعدنا الشرح السابق عن المصلحة الوطنية، فربما يصح الافتراض بأن القوة تحكم تعيين المصلحة القومية أكثر مما تحكم المصلحة الوطنية القوة. (( من الصعب أن تقيم القوة تقييماً مجرَّداً، فبإمكان القوة أن تكون في خدمة أهداف سيئة وأهداف خيرة على السواء. ومن المستحيل قطعاً إزالة القوة. والمشكلة التي تواجهنا ليست في كيفية إزالة القوة، ولكن في كيفية السيطرة عليها وإبقائها ضمن القنوات المشروعة )) (ص 94).وعند الحديث عن عناصر القوة ينبغي أن نلاحظ (( أن قوة الدولة يمكن أن تجزأ إلى عدد من عوامل متميزة، ويميز أكثر الكتاب بين خمس مجموعات في هذا الصدد: الديموجرافية والجغرافية والاقتصادية والتنظيمية والسيكولوجية الاجتماعية والاستراتيجية الدولية )) (ص 101).يبحث جوزيف فرانكل موضوع الدعاية والإعلام ضمن حديثه عن أدوات وتقنيات التعامل بين الدول.نظراً لتعاظم تأثير الدعاية والإعلان في هذا الوقت، وأنه أصبح قوةً خطيرةً مؤثِّرةً رأيت الحديث عنه ضمن الحديث عن القوة.(( تعني الدعاية عموماً أيَّ محاولة للتأثير على عقول وعواطف وتصرفات جماعة معينة تحقيقاً لهدف عام معين … والدعاية نشاط أناني لا تحكمه إلا اعتبارات المصلحة الوطنية للقائم بالدعاية. ولهذا فهو نشاط لا تقبله الدول الأخرى، ولا تحتوي الدعاية على أية محاولة للوصول إلى حل وسط بين المصالح الوطنية المتنافية، بل ينحصر هدفها في تحقيق امتيازات وطنية للقائم بالدعاية. ولهذا فإن الدعاية كما تعمل اليوم لا تخدم بالنظر إلى النظام الدولي سوى أغراض سلبية … ولقد باءت كل المحاولات الدولية التي بذلت للتخفيف من غلواء الدعاية - إن لم يكن السيطرة عليها - حتى الآن بالفشل )) (ص 123). (( والمشكلة الأولى في كل النشاطات الدعائية هي كيفية إيصال الدعاية إلى الأشخاص الموجهة إليهم، وهذه إلى حد بعيد مشكلة تكنولوجية، ويتوقَّف حلها على وجود موارد وخبرة كافية، وهناك عندما تتمكن الدعاية من الوصول إلى جمهورها مشاكل نفسية صعبة شبيهة بتلك التي تواجه الإعلان التجاري، كيف يمكن الحصول على اهتمام الناس؟ وكيف يمكن الوصول إلى رد الفعل المطلوب؟ وهذه الأسئلة هي التي تحدِّد طريقة العرض، ومن الوسائل السهلة في الدعاية تقديم الأخبار والمعلومات بأكبر قدرٍ من الدقة والموضوعية وترك القارئ أو المستمع يكوِّن الاستنتاجات التي يريدها … ومن الصعب بطبيعة الحال تحقيق الموضوعية الكاملة، وحتى في أكثر الإذاعات حرصًا على الحقائق والتجرُّد لا بدَّ أن تكون هناك عملية اختيار بين مختلف الأخبار على أساس تفضيل الأنباء التي تفيد الدولة صاحبة الإذاعة )) (ص 125-126).على أن الغالب أن يستخدم بدل الموضوعية التظاهر بالموضوعية. (( أما التقنية المعاكسة فهي تقنية "الكذبة الكبرى"، وقد استعمل هتلر هذه التقنية متبعاً الفكرة التي عرضها في كتابه "كفاحي"، وهي أن الكذبة إذا كانت كذبة كبرى وردِّدت ترديداً كافياً فسوف يصدِّقها الجماهير تصديقاً جزئياًّ على الأقل. إذ أن أكثر الناس يفتقرون إلى سعة الأفق اللازمة لإدراك أن ترديد تصريحاتٍ ما لا يعني صحَّتها، وفرض رقابة على مصادر الإعلام الأخرى أمر ضروري لنجاح هذه التقنية )) (ص 126).على أنَّ تقنية "الكذبة الكبرى" ليس اكتشافها ولا تطبيقها بفعالية امتيازاً لهتلر، فالواقع أن ممارسة هذه التقنية أمرٌ شائع سواء في الدول الدكتاتورية أو الديمقراطية. (( ويجب أن يكون الشكل الذي تقدَّم به الأنباء جذَّاباً … والجمهور في العادة لا يهتمُّ بالاستماع إلى التحليلات الطويلة حول صواب أو خطأ قضية ما، ولكنه يستجيب بسرعة للشعارات البسيطة حتى ولو لم يكن لها ارتباط وثيق بالقضية، ما دامت هذه الشعارات تشمل عبارات ذات محتوى عاطفي كالسلام والعدوان )) (ص 126). (( ويزداد تأثير الدعاية زيادة كبيرة عن طريق التكرار والثبات عبر مدةٍ طويلةٍ من الزمن، كما يزداد بإزالة المصادر الأخرى للمعلومات أو التشويش عليها )) (ص 127).إن الدعاية تستند إلى عاملَيْن: عامل إيجابي، وعامل سلبي. العامل الإيجابي يتمثَّل في التقنية الفعالة في خطابها للمتلقي، والعامل السلبي يتمثَّل في القابلية الذهنية (الإسفنجية) للامتصاص لدى المتلقي واستعداده لتصديق المعلومات. وللإيضاح يمكن ذكر مثلين حديثين من تداعيات حادث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية.فبالنسبة للعامل الإيجابي: في اليوم الأول للحادث شحنت ذهنية المتلقي بالإيحاءات بأن مسلمين - ولا غيرهم - وراء تدبير وتنفيذ العملية المرعبة. وفي اليوم التالي غطيت شاشات التلفاز في الولايات المتحدة الأمريكية بصور الأخوين بخاري الطيارين السعوديين مع التأكيد بأنهما قادا طائرتين من طائرات الهجوم على مركز التجارة العالمي، ومبنى البنتاجون، ثم تبع ذلك الأخبار عن توصل الأجهزة الأمنية للتعرف على هويات تسعة عشر شخصاً المشاركين في تنفيذ العملية، وملأت صورهم وأسماؤهم الصحف، وشاشات التلفاز، وحوائط المطارات، مع طلب المعلومات ممن يعرف أي شيء عن أيٍّ منهم، وأكَّد الإعلام توصل الأجهزة الأمنية لمعرفة جنسيات أحد عشر شخصاً من هؤلاء بأنهم سعوديون.ليس من اهتمام الكاتب ولا في نطاق قدرته أن يفترض هدفاً أو أهدافاً محدَّدة لهذه الإجراءات الدعائية، ولكن لو افترض أن من أهدافها وضع ضغط نفسي على المملكة العربية السعودية لينشأ لديها شعور بالذنب وتكون مستعدة للتكفير، ولو افترض أن من أهدافها تقوية ثقة المواطن الأمريكي بأجهزته الأمنية، وبحكمة القرارات التي سوف تتخذها حكومته للتعامل مع الحادث. فإن هذه الأهداف تحققت، فقد قفزت شعبية الحكومة بصورة عجيبة، وظهر اتحاد الشعب وإجماعه على الوقوف وراء الحكومة في أي قرار أو إجراء تتَّخذه مهما كان هذا القرار أو الإجراء ذا طبيعة تسمح باختلاف الرأي العام عليه، فيما قبل 11 سبتمبر.ولم يضعف من هذا التأثير أن ينكشف بعد ذلك أن أحد الأخوين بخاري توفي قبل سنة، وأن الآخر لا يزال حياًّ يرزق، كما لم يؤثر في ذلك انكشاف أن ثمانية على الأقل من الأحد عشر سعودياًّ الذين اكتشفت الأجهزة الأمنية هوياتهم بأنهم ضمن الانتحاريين لا يزالون أحياء يتمتعون بحياتهم خارج الولايات المتحدة الأمريكية.على أنَّ الأمر الذي يحمل أكثر من دلالة أن الإعلام الأمريكي وغير الأمريكي - على خلاف العادة بالاهتمام باقتناص الخبر المثير، وليس أكثر إثارة من ظهور المنتحرين أحياء - لم يهتمَّ بهذه المعلومات الحقيقية المثيرة، بل تم تجاهلها إلى حدٍّ كبير.وبالنسبة للعامل السلبي: فكمثال أذكر تجربة شخصية لي عندما كنت أتابع الأخبار عن الحادث الإرهابي المفزع يوم 11 سبتمبر. فقد تواترت منذ اليوم الأول مجموعة من الأخبار تصف الدرجة العالية من التقنية التي تم بها تخطيط وتنفيذ العملية، إذ كما قال السيناتور بات روبرتز: بذل جهد كبير في التخطيط ولم تغفل التفصيلات الدقيقة كالاعتبارات المناخية، واستعملت تكتيكات عالية التقنية sophisticated tactics في التنفيذ. وكما وصف ملحق مجلة التايم September IIII 2001: إن كل الطائرات المهاجمة نفذت بعنايةٍ تعديلات المسار بما في ذلك المناورة المدهشة جدا للرحلة رقم 77، حيث اتخذ الطيار الانتحاري مساراً منخفضاً ثم حرف الطائرة 270 درجة قبل صدم الجدار الغربي لمبنى البنتاجون. وكشفت الأخبار أن نائب الرئيس الأمريكي أخبر الرئيس أثناء تحليقه في الجو أن الـ lam enforcement and security agencies مقتنعون بأن طائرة الرئيس مستهدفة. وتأيد ذلك عند ما ذكر فيما بعد أن مساعدي الرئيس ذكروا كتفسير لتأخر وصول الرئيس إلى البيت الأبيض أنه كانت هناك أدلة معتمدة على استهداف طائرة الرئيس من قبل مدبري الخطة الإرهابية، وكان الأمر من الجدية بحيث إن الرئيس ونائبه أصرا على وجوب اتجاه طائرة الرئيس إلى قاعدة عسكرية آمنة بأسرع وقت ممكن، وإلى درجة أن محرري التقارير على ظهر الطائرة أمروا بعدم استعمال تلفوناتهم النقالة، بل بعدم إبقائها مفتوحةً حذراً من أن يستدل بالإشارات على موقع الطائرة.ثم تواترت مجموعةٌ أخرى من الأخبار والصور وآراء الخبراء الأمنيين والسياسيين التي تؤكِّد أن وراء تدبير الخطة وتمويلها رجلاً يقيم على بعد سبعة آلاف ميل.وقد تلقيت هاتين المجموعتين من المعلومات كما تلقاها غيري دون أن ألاحظ ضعف الانسجام بينهما، حتى سمعت تعليقاً لأحد المحلِّلين يلاحظ فيه أن القول بأن رجلاً محدود القدرات، تخضع - لمدَّة طويلة - نشاطاتُهُ واتصالاتُهُ لمراقبة ومتابعة أقوى الأجهزة الذكية: الأمريكية والإسرائيلية والهندية والروسية، وربما أجهزة أخرى يستطيع تدبير خطة إرهابية على درجة من الإحكام والتقنية العالمية بحيث تستطيع أن تهدِّد بجدية طائرة الرئيس الأمريكي أثناء تحليقها في الجو، يعني أن هذا السوبرمان لا بد أنه يملك قدرات ميتافيزيكية، حتى يبلغ هذا المستوى من الخطورة.