منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

By سناء الأحمد
#29406
التصنيف السياسي الفلسفي لدى المسلمين
من كتاب " فقه الأحكام السلطانية – محاولة نقدية للتأصيل والتطوير"

بدأ تدوين الفقه السياسي متأخرا جدا عن تدوين كثير من العلوم ، كالحديث والتاريخ والتفسير والفقه والأدب . وامتدت فترة التمهيد له مدة طويلة ، من أواخر الخلافة الراشدة إلى عصر المأمون العباسي . كما ساهم في تكوين بنيته الفكرية كل العناصر الثقافية المحلية والوافدة جاهلية وإسلاما .
ونظرا لكون الأمة العربية كانت قبل البعثة وصدر الإسلام ، شفوية الثقافة ، فقد ظل التفكير السياسي لديها شفويا تتداوله الألسن شعرا وحكمة وأخبارا . ولم تكن الحاجة ماسة إلى تدوينه في فجر الإسلام مثلما كانت بالنسبة للعلوم المتصلة اتصالا واضحا مباشرا بالعقيدة والعبادة . لذلك تأخر التدوين السياسي إلى أوائل القرن الهجري الثاني ، حيث ظهر ضمن مصنفات أدبية وأخبارية على هيئة مواعظ ونصائح وأساطير مقتبسة من تجارب الإنسان وتقاليد الأمم . ومن ثم انتقل إلى مرحلة ثانية هي مرحلة المصنفات المستقلة الخاصة به ؛ ولكن على غير يد الفقهاء ومن مرجعية غير إسلامية . فقد ظهر أول المصنفات فيه ترديدا للفلسفة الإشراقية ، هندية وصينية وبابلية وآشورية وفـارسية ويونانية . وكان ذلك على يد الفـارابي (260 - 339 هـ / 874 - 950 م ) ، المتأثر بالآراء السياسية لأفلاطون وأرسطو ؛ حيث تناول الفلسفة السياسية في عدة مؤلفات منها : " رسالة تحصيل السعادة " ، " السياسة المدنية " ، "رسالة السياسة " ، " الفصول المدنية " ، " آراء أهل المدينة الفاضلة " .
وفي منتصف القرن الهجري الرابع ـ العاشر الميلادي ( 373 هـ / 983 م ) ، ظهرت الكتابات السياسية لجماعة " إخوان الصفا وخلان الوفا " ، متأثرة بنفس المؤثرات . وكانت السياسة لديها تمثل علما مستقلا بذاته ، له خمسة أقسام : السياسة النبوية ، والسياسة الملوكية ، والسياسة العامية ، والسياسة الخاصية ، والسياسة الذاتية
وفي بداية القرن الهجري الخامس ـ الحادي عشر الميلادي ـ ، ظهرت المرحلة الثالثة بأول الكتابات السياسية المستقلة عن الفكر الفلسفي ، المتأثرة بالفقه والشريعة، على يد الماوردي ( 364 - 450 هـ / 975 – 1058 م ) ومن نهج نهجه ونحا نحوه .
ولقد سار الفقهاء والمتكلمون في هذه المرحلة ، على نهج تشريعي لما ينبغي وما يجب وما يجوز وما لا يجوز في نظام الخلافة وتدبير أمر الدولة . واستوفت أبحاثهم نظم الملك والوزارة والإدارة والقضاء ، والحسبة والأموال وتنظيم الجيوش والعلاقات مع داري الحرب والمهادنة . كما بذلوا جهودا جبارة من أجل تبرير تصرفات الملوك وإضفاء الشرعية عليها ، وإرشادهم إلى ما يحفظ عروشهم ويحببهم إلى الرعية .
ثم تدهور التصنيف في هذه المرحلة إلى مستوى من الإسفاف والمداهنة الخانعة ، بأسلوب متودد يحاول حفظ ماء وجه الفقهاء ، ولا يزعج الحكام أو يضايقهم ، من خلال الإعراض عن ذكر الأحكام الشرعية الخاصة بتصرفات الخليفة ، والاقتصار على تقديم النصائح ذات الطابع الأخلاقي والتعليمي التي من شأنها أن تحفظ العروش أطول مدة ممكنة ، والتذكير بوصايا من تراث الأمم ، ومأثورات الطرائف والأساطير ومختارات الشعر والنثر والحكم والأمثال ، وآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية ما صح منها وما لم يصح ، مثلما هو حال كتاب " سير الملوك " لنظام الملك ( 408 - 485 هـ / 1018 – 1092 م ) ، و"سلوان المطاع في عدوان الأتباع " لمحمد بن ظفر الصقلي المكي ( 497 - 565هـ / 1104 - 1169 م ) ، و"النهج المسلوك " لابن نصر الشيزري (ت 589 هـ ) .
ثم بعد ذلك ظل التصنيف السياسي لدى المسلمين متأرجحا بين هذه المراحل ، لا يغادرها ولا يتطور لما هو خير منها ، إلى عصر النهضة الحديثة التي حاول استنهاض الهمم فيها كل من الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده ومن جاء بعدهم . ولكن محاولاتهم ظلت حبيسة ازدواجية عقيمة ، تتخذ مرجعية في فقه الماوردي من جهة ، وتحاول تطويرا بالديموقراطية الغربية من جهة أخرى ؛ لذلك لم تثمر تأصيلا حقيقيا لنظام حكم إسلامي متميز في الكتاب والسنة .
ولئن كان من الصواب البدء بدراسة التصنيف الفلسفي نظرا لأسبقية ظهوره ؛ فإن بعضا من الإسلاميين قد لا يوافق على إقحام الآراء السياسية لفلاسفة المسلمين الأوائل في هذه الدراسة ، لأسباب عقدية تتعلق بتصورهم الإيماني ، أو مبررات أصولية لها علاقة بطرق استنباطهم التي لا تمت إلى منهجية الاستنباط الشرعي بصلة، أو مسوغات فقهية خاصة بمرجعيتهم غير الإسلامية استنادا واستدلالا .
إلا أن ذلك لا ينفي وجوب التزام الموضوعية في دراسة نظم الحكم عند المسلمين بكل اتجاهاتهم ، وكشف مختلف المؤثرات والعوامل التي ساهمت في تكوين فكرهم السياسي ؛ كي تتضح رؤيتنا لمسار الدولة الإسلامية نظرا وتطبيقا على مدار التاريخ ، ولأوضاعنا المعاصرة بكل مساربها ومتاهاتها ، ونقائصها ونواقضها ، وذبذباتها المتأرجحة بين عوامل الداخل والخارج ، الأصيل والدخيل ، سلبا وإيجابا .
ولنتبين مدى قرب الفكر السياسي الحديث لدى المسلمين أو ابتعاده من التشريع الإسلامي في الكتاب والسنة ، ونستبين أوجه الانحراف وسبل التقويم ، إذ التعلم باكتشاف الخطأ أبلغ في النفس وأشد تأثيرا .
ولا ريب أن منهجنا الذي نلتزم به ونسير على هديه ، مرتكز على قاعدة أساسية متينة ، هي أن النظام السياسي الإسلامي ما كان منبثقا من مرجعية الكتاب والسنة ، عقيدة وأصولا وفروعا . وما عدا ذلك يُحتمل أن يكون متأثرا بالإسلام أو ملتقيا به في بعض جزئياته أو كلياته ؛ إلا أنه لا يمثل النظام السياسي الإسلامي الحق تمثيلا صادقا. ذلك لأن بوصلة التوجه إلى أي هدف هي التصور الإيماني السليم الواضح . وكل غبش يشاغب على هذا التصور ينعكس سلبا على التصرفات ، عقلية كانت أو سلوكية .
وهذا يفرض علينا ألا نغفل ملاحظة اهتزاز عقيدة هؤلاء الفلاسفة ، واضطراب مرجعيتهم الفكرية ؛ وإن التقت في بعض جزئياتها بالعقيدة الإسلامية ، التقاءً عفويا بسبب انتمائهم إلى المجتمع الإسلامي وثقافته ، أو التقاء إراديا بقصد التمويه على انحرافهم الديني باعتناقهم آراء وثنية لفلاسفة من الفرس والهند واليونان ، في نظرتهم إلى عالمي الغيب والشهود ، وبدعوتهم إلى نظم للحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية منبثقة عنها .
ولعلنا لا نحيد عن الصواب إن ركزنا في بحثنا هذا على المرجعية الفكرية والفلسفية والدينية التي اتخذها هؤلاء الفلاسفة مستندا ومتكأ . ثم على تصورهم السياسي المنبثق من عقيدتهم وموقفهم الإيماني ؛ وأعرضنا مطلقا عما رُموا به من قبل العامة والخاصة ، من انتماء باطني أو صابئي أو أصول يهودية ، مما لا يُدفع عنهم بشغب سوفسطائي يثيره أنصار لهم ، لأهواء مشتركة أو جذور متقاربة أو نزعات طاغية . علما بأن فكرهم السياسي لم يتبلور قط إلى مستوى صياغة نظام للحكم متكامل ، بمنهجه ونظمه للإدارة والمال والتدبير العام ؛ وإنما كان مبثوثا في كتبهم الفلسفية التي التزموا فيها بالنهج الأفلاطوني شكلا ومضمونا ، فوردت أفكارهم ضمن رسائل حول قضايا الغيب والشهود ، والمادة والروح والطبيعة وما وراءها ، والاجتماع البشري والسعادة والشقاوة ؛ مثلما هو حال رسائل إخوان الصفا والفارابي ، وما صنفه ابن سينا في القضاء والقدر والفيض الإلهي والمبدأ والمعاد والأخلاق والحكمة .
أما التصنيف السياسي المباشر فقد ظهرت أولى بواكيره على شكل رسائل مستقلة تبحث موضوع " السياسة " بمفهومها الذي هو حسن التدبير والحكمة في التسيير ، وكان من أول مؤلفيها تحت عنوان " رسالة في السياسة " كل من الفارابي وأبو القاسم المغربي وابن سينا .
ولئن اختلفت بعض مضامين هذه الرسائل التي تطابقت عناوينها فإنها اتفقت كلها في ثلاث هن :
1 ـ أن السياسة حاجة ملحة لكل البشر رفيعهم ووضيعهم ، ولكن الملوك ثم أعوانهم أشد حاجة إليها .
2 ـ لم يعتمدوا في تصانيفهم على الكتاب والسنة مرجعا أو استشهادا .
3 ـ كانت منطلقاتهم الفكرية والفلسفية معتمدة اعتمادا مطلقا على الفكر اليوناني .
ثم بعد ذلك أخذت تظهر مصنفات فلسفية موجهة للملوك فقط ، ترشدهم إلى ما ينبغي عمله وإقامته في سياستهم ، مثل كتاب " سلوك المالك في تدبير الممالك " لابن أبي الربيع .
الفصل الثاني
المرجعية الفكرية لدى فلاسفة المسلمين
يذهب البعض إلى أن الفلسفة اليونانية عند أفلاطون وسقراط وأرسطوطاليس وغيرهم هي الأساس الذي بُني عليه تفكير فلاسفة المفكرين المسلمين الأوائل . إلا أن في هذه الدعوى تجاوزا كبيرا للحقيقة ؛ لأن الفلسفة اليونانية نفسها ليست إلا امتدادا وخلاصة للأوهام الميتافيزيقية التي كانت منبتا لأديان القارة الآسيوية ؛ وذلك ما نُقل إلى الثقافة العربية في صدر دولة بني العباس وكان مرجعا لأول حركة فلسفية في الإسلام .
إن الإنسان عندما نسي المنهج الرباني الذي أنزل مع آدم عليه السلام ، وفقد الصلة بالله ، وارتكس في حمأة الجاهلية والبدائية ، ملأت الهواجس والأوهام قلبه وعقله واستبد به الخوف من الظواهر الطبيعية برقا ورعدا وخسفا وزلازل وعواصف ، وأخذ به الرعب والرهبة من الموت والمصير والمجهول كل مأخذ ، فأقبل على نفسه ينسج لها استجلابا للطمأنينة ، خيالات وتصورات وأساطير وخرافات ، عما لا يفهمه وما يرجوه أو ما يرهبه ويخافه . فتراكم بذلك لدى البشرية على مر السنين ، تراث ضخم من المعتقدات الضالة المضطربة ، التي اتخذت فيما بعد مادة للتفكير والاستقراء ، والبحث عن الذات أصلا ومآلا، وعن الكون والطبيعة ماضيا واستقبالا . ثم تحول هذا التراث إلى قاعدة للفكر الديني الوضعي المفضي إلى عبادة الأوثان والطواطم والنجوم والكواكب ، واتخاذها آلهة وأربابا .
ثم بعد ذلك اتُخذت هذه المعتقدات الدينية منطلقا ومادة للتفكير الفلسفي الآسيوي الذي نُقل إلى اليونان وتطور فيه . وظل مجردا من أهم أداتين للفهم هما : المعرفة المادية الصحيحة لحقائق الطبيعة بسبب التخلف العلمي آنئذ ، والمعرفة الغيبية اليقينية التي لا مصدر لها إلا الوحي .
ولعل الأسطورة التي رواها أفلاطون عن منشأ الفكر السياسي في محاورة "بروتاجوراس" ، تقدم لنا خير مثال على ما نذهب إليه من أن الفكر البشري عامة والسياسي خاصة منبثق من الخرافة والأساطير والأوهام .
لقد زعم أفلاطون أن الآلهة عندما شكلوا المخلوقات الفانية ، أخذوا يوزعون عليها صفاتها الخاصة بها والمحتاجة إليها ، فكان من المخلوقات ما سلحوها بوسائل الدفاع ، ومنها ما تركوها عزلاء وزودوها بأساليب للمحافظة على البقاء . ولكنهم اكتشفوا في نهاية الأمر أنهم وزعوا جميع الصفات والقدرات على الحيوانات، ونسوا الإنسان الذي تُرك عاري الجسم لا يملك مأوى ولا أسلحة للدفاع . فعمد "برومثيوس" إلى سرقة الفنون الآلية والنار مع طريقة استخدامهما ـ وهما خاصتان بالآلهة ـ ، من معبد أثينا ، وسلمهما للإنسان . وكان ذلك سبب حصوله على قسط من الصفات الإلهية التي علمته الحكمة .
على هذه الأسس نشأ الفكر الفلسفي وتطور ، مادة بحثه خيالات البشر وأساطير الخرافة وأوهام سدنة الأوثان وعبادها ؛ مفتقدا أهم وسائل الاستقراء والدراسة والفهم عاجزا عن تحقيق هدفه في كشف حقيقة الكون وطرق السعادة .
إن هذه المعتقدات هي المنشأ الأول والمبدأ الأساس لكل فلسفات البشر الوضعية في ما قبل اليونان:
ـ في بلاد ما بين النهرين ، آشور وبابل ومعتقداتهما الخاصة بعبادة الشمس والنور، وأبناء الطبقة الحاكمة الذين هم " أبناء الشمس " .
ـ وفي الصين حيث الكونفوشيوسية ، وعقيدة إحياء وميض الأنوار في الإنسان عن طريق المعرفة ، والإنسان الكامل الذي هو الملك أو النبي أو القائد ، الذي يجمع في ذاته سائر القوى المادية والروحانية ، وعلى قدر كماله تكون سعادة عصره ، وهو بمثابة الإمام عند الباطنية أو القطب عند الصوفية .
ـ وفي الهند لدى البراهمة ، وعقيدة اتصال النفس بالمبدأ الروحاني " براهمان " ، الذي يحل في جميع مظاهر الوجود . وعقيدة شرائع " مينو " التي تقسم الناس إلى أربع طبقات :
طبقة البراهمة ، رجال الدين والنخبة السياسية ، الذين خلقوا حسب زعمهم من رأس الإله، وهم أعلى الناس وخلاصة الجنس البشري .
وطبقة الجند ، حماة البلاد الذين خلقوا من منكبي "براهما " ويديه ، ويحق لهم بعد البراهمة قراءة الكتب المقدسة .
وطبقة التجار والزراع المكلفة بالإنتاج والنشاط الاقتصادي والفلاحي ، وخلقوا من ركبتي " براهما " .
وطبقة الخدم والأسرى المخلوقين من قدمي " براهما " ، وليس لهم إلا خدمة الطبقات التي فوقهم .
ـ وفي بلاد فارس حيث ظهرت الهرمسية والزرادشتية والصابئة والكلدانيون عبدة النجوم، ممن يؤمن بفناء الجسد وخلود النفس في النعيم أو الشقاء ، وبالقائد البشري الكامل الذي يعرف حقيقة الوجود .
ـ وفي الفكر المصري الفرعوني ومدرسة الإسكندرية التي التقت فيها تيارات أوروبا وآسيا وإفريقيا ، ونشأت بها طقوس نظمت مفهوم الألوهية وعلاقتها بالبشر، ووضعت قواعد الثواب والعقاب ، وأنشأت عقيدة ثنائية التركيب البشري وخلود النفس ، وأبوة الشمس والنجوم لبعض النخب السياسية .
هذه المعتقدات الهلامية والتصورات الضالة هي التي ورثها اليونان وظهرت فيما كان لديهم من علوم وفنون وآداب وفلسفة .
ظهرت لدى الفيتاغوريين عقيدة تؤمن بثنائية التركيب البشري ، وضرورة تطهير النفس بالعلوم الطبيعية والعملية كالموسيقى والرياضيات وما وراء الطبيعة ، كي تتمكن من الصعود إلى عالم الأفلاك، حيث سعادتها الأبدية واتحادها بواجب الوجود .
ولدى الأفلوطينيين في عقيدة الآلهة المتعددة من النجوم والكواكب التي ترى وتسمع وتدبر الكون، وعقيدة المعرفة الحدسية التي يختص بها قادة الشعوب أنبياء وملوكا وفلاسفة ، والمعرفة العقلية الجدلية التي هي الطريق العادي لاكتساب العلوم.
على هدي هذه المعتقدات الدينية المتفلسفة والتصورات المضطربة الوثنية ، سار الفكر السياسي وعلى أركانها تأسس :
من مفاهيم الدولة والعدل والحياة السعيدة لدى البابليين والفراعنة والصينيين والهنود، إلى ما طوره من نفس المفاهيم كل من اليونان والرومان ، إلى ما نقل إلى اللغة العربية في القرنين الهجريين ، الثالث والرابع ؛ وعمل فلاسفة المسلمين على إعادة صياغته في صباغ إسلامي لم يستطع أن يخفي أصله الوثني .
ومن أفكار كونفوشيوس في" التعليم الأكبر" و"عقيدة الوسط"و" الأغاني" حول فساد الحكم ، ومهام الحكومة وواجبها في توفير حاجات الناس أمنا وطعاما ، وشروط الكفاءة في الحاكم وممارساته السياسية والتدبيرية ؛ إلى تصورات الحكماء السبعة في أثينا لنظام الدولة وتشريعاتها الخاصة بقواعد الإدارة وأساليب تحقيق السعادة؛ إلى نظريات فيتاغورس في العدالة والمساواة ، وما يرى الأبيقوريون من وجوب الخضوع للدولة ولو كانت استبدادية ما دامت تحقق الأمن والنظام ، وما ذهب إليه أفلاطون في مدينته الفاضلة التي اتخذت مظهرا خياليا قوامه اعتبار السلطة عملا معجزا لا يستطيع القيام به إلا أفراد ملهمون ، لهم على بني جنسهم تميز خاص يصلهم بالعقل الفعال ويجعلهم قادرين على تحقيق السعادة لشعوبهم .
إلى ما تطور إليه الفكر السياسي الأرسطي باستحداثه فكرة الدولة الدستورية ، التي تبنى علاقات شعبها بالحاكم على أساس الحرية والمساواة والمواطنة المشتركة بين أحرار ؛ مما جعل الدولة مجرد اتحاد أفراد في مجتمع واحد تحت حاكمية القانون الذي حل محل الملك أو الفيلسوف أو النبي . وما سار عليه الفكر السياسي الروماني الذي ميّز بين الدولة والفرد ، وجعل لكل منهما حقوقا وواجبات ، وبلور فكرة سيادة الدولة ونظرية العقد الحكومي ، ونظرية القانون الطبيعي التي وضعها " شيشرون " على أساس أن للكون خالقا واحدا ، وأن للدولة قانونا واحدا يجب أن يطبق على الجميع . إلى ما عربه المسلمون في دار الحكمة التي أسسها المأمون العباسي ، وجعلوه أساسا لفكرهم السياسي والفلسفي .
إلا أن مما يثير الاستغراب أن العرب لم يقتبسوا من هذا التراث السياسي الذي عكفوا على تعريبه، إلا ما تعلق منه بالاتجاه الاستبدادي ؛ وهو الفكر الأفلاطوني الخاص بالقائد الملهم ، المتصل بالعقل الفعال المحتكر للمعرفة ، القادر وحده على إسعاد الشعب . أما النظرية الأرسطية الخاصة بفكرة الدستور ، الذي يضمن العدالة والمساواة والمواطنة الحرة المشتركة ، ويلغي حاكمية الفرد لصالح حاكمية القانون ، وما ورد في الفكر الروماني عن نظرية العقد الحكومي وسيادة القانون وحقوق الدولة والفرد وواجباتهما ، فإن النقل العربي قد أهمله وأغفله ، ولم نجد له أثرا في فكرهم وتراثهم . ولعل ذلك راجع إلى أسباب سياسية متعلقة بكون حركة التعريب والترجمة ، تمت على يد المؤسسة الرسمية الحاكمة وبإشرافها . وكانت هذه المؤسسة ذات نمط في الحكم فردي استبدادي ، لا يوافق على نقل التراث الأرسطي والروماني أو نشره والتبشير به .
هذه خلاصة المرجعية الفكرية والسياسية التي نُقلت إلى اللغة العربية ، وصادفت ظروفا بيئية مناسبة للغراس فنمت وأثمرت .
ولقد التقى العرب المسلمون قبل هذه الفترة بهذه المعتقدات الدينية والفلسفية عدة مرات فاستعلوا عليها ولم تؤثر فيهم .
التقوا بها وهم رسل للنبوة الخاتمة بدعوة الحق لدى ملوك الفرس والروم والقبط، يملأ قلوبهم نور العقيدة واستعلاء الإيمان ، والحرص الصادق الأمين على إخراج الناس من عبادة العباد إلى رحابة عبادة رب العباد ، فاحتقروا تلك المعتقدات وترفعوا حتى عن اعتبارها فكرا أو فلسفة أو مجرد عقل سوي .
ثم التقوا بها بعد أن استعصى أهلها على الرشد ، مجاهدين وغزاة وفاتحين ، فحطموا الأوثان ونشروا رسالة التوحيد والإيمان .
والتقوا بها مرة أخرى حين وقع الانقلاب على الخلافة الراشدة ، وتحول أمر المسلمين إلى الاستبداد ، وفر الصادقون من الأمة مضطهدين ومهاجرين شرقا وغربا؛ فنشروا دين الحق وقوضوا أركان الشرك والكفر .
ثم لما كان عهد بني العباس ذو النـزعة الأعجمية فرسا وتركا ، وانفرط عقد الوحدة العقدية بتمزق الأمة مللا ونحلا ومذاهب ، وضعف الالتزام بالدين بين الحاكمين والمحكومين ، وتمكن العسف والاضطهاد والاستبداد من رقاب العباد ؛ أُرسلت عاصفة المترجمات الفلسفية اليونانية والسريانية والقبطية والفارسية ، فتلقفتها النخبة المقربة من أصحاب النفوذ ، وأصبحت الرطانة بمصطلحات اليونان والإغريق ميزة الصفوة وبدعة ذوي المقامات .
وإذ أخذ الفقهاء والعلماء الصادقون يضجون من موجة الانحراف هذه ، ويوضحون خطرها على الأمة وعظا وكتابة وحوارا وجدلا ، أُثيرت للتغطية والتمويه وصرف الأنظار ، معركة كلامية حول ما دُعي علاقة بين العقل والنقل ، تقديما وتأخيرا ، حاكما ومحكوما . وبذلك أسبغت على الصراع بين الإسلام وبين الوثنيات الفلسفية صفة الجدل العلمي الرصين ، على رغم ما في ذلك من خلط وتلبيس وتدليس . ذلك أن هذه التيارات التي زعمت أنها تحكم العقل في النص ليس لها ما يؤيد دعواها ؛ لأن العقل السليم المجرد السوي ، المتحرر من الخرافة والأوهام، المدجج بالمعارف المادية الصحيحة والتصورات الغيبية اليقينية ذات المصدر الرباني ، ليس له إلا أن يسخر من هذه الفلسفات ذات الجذور الخرافية الأسطورية .
إن هذه التيارات التي تزعم تحكيم العقل في النص ، لم تحكم في واقع الأمر إلا عقلا وثنيا مضللا ، لأقوام عبدوا الأصنام والكواكب والنجوم والأشباح ، واتخذوا لعباداتهم هذه أرضية من أوهام سموها فلسفة . وإذْ صارت هذه التصورات الفاسدة هي المتحكمة في النص فلا بد من الضلال .
الفصل الثالث
التصـور السيـاســــي لنظــــــــام الحكـم
لــــدى فلاسفة المسلمين

التصور الإيماني والموقف من قضايا الغيب والألوهية والربوبية هو أساس الأفكار والتصرفات لدى الإنسان ؛ لذلك فالنظرية السياسية لفلاسفة المسلمين منبثقة من تصورهم لهذه القضايا وموقفهم منها . ولئن كان التوحيد الإسلامي الحق ينبني على ثلاث قواعد هي : توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماء والصفات ؛ فإن نظرية هؤلاء الفلاسفة لا تنبني على أي قاعدة من هذه القواعد . فهم يسمون الله تعالى " واجب الوجود " ، ويتصورون علاقته بالكون والخلق على غير حقيقتها؛ ولا أصل في الإسلام لهذا الإسم ولا لهذا التصور . وعقيدتهم التي انبثق منها فكرهم السياسي هي ما ابتدعه فلاسفة اليونان وأطلقوا عليه مصطلح "الفيض" .
فما هي هذه العقيدة ؟ وما جذورها ؟ وكيف انبثق منها تصورهم السياسي ؟
ينبغي أولا أن نبين أن مصطلح "الفيض " هذا ، لا يخفي خلفه أي معنى معقد أو فكرة راقية أو تصور مثير ؛ فالفيض لغة من "فاض" ، ويدل على جريان شيء سائل بسهولة ويسر ، ومنه : فاض الإناء بعد أن امتلأ ، وفاض الدمع من العين إذا خرج ، وفاضت الروح من الجسد : إذا غادرته ، وفاض السر من صدر المرء : إذا عجز عن كتمه ، فباح به .
والفيض عند الفلاسفة يعنون به أن الله تعالى ـ واجب الوجود كما يسمونه ـ لا يخلق الموجودات ، ولكنها تفيض عنه وتنبثق منه بدون إرادته ، أي تصدر منه وتتولد عنه بطريق الفيض بدون وعي منه أو إرادة . وهذا الفيض أو الصدور أو الخروج ، في عقيدتهم ، دائم وضروري وواجب . وكما تخرج الشجرة الثمرة ليس لها إلا ذلك والدجاجة البيض ليس لها إلا ذلك ، كذلك يصدر الوجود عن الله ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ .
تُنسب هذه العقيدة إلى أفلوطين (205 - 270 م ) ؛ ولكنها في أصلها مزيج وتلفيق لهلوسات أفلوطين وفيلون والمعتقدات الوثنية والمجوسية . وعندهم أن الموجود الأول ـ الذي يعنون به الله تعالى ـ واحد ، ولذلك لا يفيض عنه إلا واحد هو العقل الكلي ، أو العقل الأول ، أو العقل الفعال ، تختلف التسميات والمقصود واحد . ومن هذا العقل الكلي تفيض النفس الكلية ، وعن النفس الكلية تفيض الأشياء المادية . وكلما فاض شيء من شيء تعلق الفائض بمصدره وامتلأ منه نورا . فالعقل تعلق بالموجود الأول وتلقى منه النور ، والنفس تعلقت بالعقل وتلقت منه النور ، والموجودات المادية كذلك تعلقت بالنفس . والإنسان الذي يتلقى الفلسفة ، يتحول إلى عقل متصل بالموجود الأول ، يتلقى منه النور والحقيقة ، ولذلك له حق التحكم فيمن سواه من البشر ؛ لأنه هو الوحيد الذي يستطيع أن يبلغهم إلى السعادة ، وهو الملْهَمُ القادر ، نبيا كان أو فيلسوفا أو ملكا .
ولئن كانت هذه المعتقدات قد ظهرت لدى الكندي بصورة خافتة ، بأن جعل الحركة مفعولة لله، ولكنها تخضع مباشرة للفلك الأقصى الحيّ العاقل المميز الفاعل، الذي هو أول فائض عن واجب الوجود ومنفعل به ، وهو نائبه في تحريك الكون وتسييره ؛ فإن هذه التصورات الضالة قد ظهرت بعد ذلك بصورة صارخة لدى الفارابي وابن سينا ومن سار على نهجهما .
يرى الفارابي أن العقل الأول صدر عن الله فيضا واجبا لا دخل للإرادة والوعي فيه ؛ ومن هذا العقل الأول صدر عقل ثان وفلك أعلى ، واستمر الفيض والصدور على هذه الوتيرة ، من كل عقل عقلٌ وفلك إلى تتمة عشرة عقول ، آخرها العقل الفعال الذي فاضت عنه النفس ، ومن النفس فاضت المادة بعناصرها الأربعة ، النار والهواء والماء والتراب . فبالفيض في نظره صدرت الموجودات تباعا عن واجب الوجود حتما ولزوما ، دون تعقل منه أو إرادة ، إلى أن ظهر الإنسان . وكل فائض يتلقى النور والسعادة بالتعلق بمصدره والشوق إليه . كذلك الإنسان سعادته القصوى أن يشتاق إلى مصدره الأول " الموجود الأول " ، ويتلقى منه النور ويتحد به . وطريقه إلى ذلك السعي إلى الكمال وتحصيل الخيرات والفضائل ؛ وهذا سبيل السعادة التي لا يمكن الوصول إليها إلا بالفضائل النظرية والفضائل الفكرية والفضائل الخلقية والصناعات العملية .
وبما أن كل موجود ـ في عقيدتهم ـ تكوَّن ليبلغ كماله الأقصى الذي له أن يبلغه بحسب رتبته في الوجود ، فإن سعادة الإنسان القصوى هي الاتحاد بالموجود الأول . إلا أن هذه الرتبة ليست لأي إنسان ، فالفضائل العظمى نظرية كانت أو فكرية أو خلقية أو عملية تُجعل فيمن أُعِدَّ لها بطبيعته . ومَنْ أُعد لها بالطبع ، وبأعلى الدرجات هو القادر على إيجادها في الأمم والمدن . والملوك تبعا لذلك ليسوا ملوكا بالإرادة فحسب ؛ ولكنهم ملوك بالطبيعة أيضا لأنهم خُلقوا ملوكا . ولا ينقص من قدرهم أنهم يصلون إلى الحكم أو لا يصلون . والملك أو الفيلسوف أو النبي أو الإمام عند الفارابي هو الوحيد القادر على تأديب الأمم وتعليمها ، مثلما هو حال رب المنـزل في تأديبه أهل بيته ، أو القيِّم على الصبيان والأحداث .
والنبي واضع النواميس والملك والفيلسوف والإمام والرئيس الأول عندالـفارابي بمعنى واحد يدل على الاقتدار والتسلط المطلق على من تحت يده . واقتداره ليس بقوة خارجة عنه فقط ، بل بما يكون في ذاته من عظم المقدرة . كل هذه الألفاظ تعني الشخص الذي اجتمعت فيه صفات القدرة المطلقة لصلته بالعقل الفعال ، سواء انتفع به غيره أم لم ينتفع ؛ إذ ليس عدم الانتفاع به من قِبل ذاته ، ولكن من جهة مَنْ لا يصغي إليه . وسواء وُجد مَن يقبل منه أو لم يوجد فهو دائما الفيلسوف والنبي والملك والرئيس الأول والإمام . وكما أن الطبيب طبيب بمهنته وقدرته على علاج المرضى وجد مرضى أم لم يجد ، وجد آلة يستعملها في فعله أم لم يجد ، كان ذا يسار أو فقر ، إذ ليس يزيل طبه ألا يكون له شيء من ذلك . كذلك لا يزيل إمامة الإمام والفيلسوف والملك والنبي ألا تكون له آلات يستعملها في أفعاله ، ولا ناس يستخدمهم في بلوغ هدفه .
وأهل المدينة الفاضلة الذين يؤدبهم الملك طبقتان خاصة وعامة ، والخاصة هم الذين لهم رئاسة ما ، مدنية أو صناعية ، يرصدون بها لرئاسة ما مدنية . ولا يقتصرون في معلوماتهم على ما يوجبه بادي الرأي المشترك . أما العامة فمن ليس hلهم رئاسة ما ، مدنية أو صناعية ، يرشحون بها لرئاسة ما مدنية ؛ ويقتصرون في علمهم على ما يوجبه بادي الرأي المشترك .
هكذا وظف الفارابي الفلسفة اليونانية سياسيا ليبشر بفكرة الإمام الغائب المنتظر، أو الإمـام الموجود الذي لا يستمع له الناس ولا يقبلون منه ، أو الإمـام المتمكن المستبد الذي يفعل ما يشاء وله العصمة من الخطأ ، لأنه على اتصال بالموجود الأول.
وما ذهب إليه ابن سينا يكاد يكون نفس ما لدى الفارابي ، ولا غرابة في ذلك فمرجع الرجلين واحد ، هو كتاب " أتولوجيا " المقتبس من " تاسوعات" أفلوطين التي جمعها الإسكندر الأفروديسي. وذلك لأن عقيدة الفيض عند ابن سينا تستند إلى ثلاثة مبادئ هي :
1 - القول بأن الوجود ينقسم إلى واجب بذاته هو الله تعالى ، وإلى ممكن ، أي واجب بغيره هو العالم .
2 - الزعم بأن الواحد من حيث هو واحد لا يصدر عنه إلا واحد ، والله واحد فيجب ألا يصدر عنه إلا واحد ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ .
3 - الزعم بأن تعقل الموجود الأول هو علة للوجود على ما يعقله ؛ فإذا عقل شيئا وُجد ذلك الشيء على الصورة التي عقله بها .
ثم سار ابن سينا بعد ذلك على نهج رواد الفلسفة الإشراقية ، بالتشريع والتنظير لنظم الاستبداد السياسي في شخص الرئيس الأول ، الذي هو الفيلسوف والنبي والملك والإمام الذي يحتكر المعرفة ، ويفعل في شعبه ما يشاء ، ويختص بالاتصال بالله تعالى . ثم تدثرت هذه المعتقدات لديه من أجل تقريبها إلى العامة ، بفكرة الإمام المعصوم أو الغائب المنتظر .
نفس المسار العقدي والفكري تقريبا سارت عليه جماعة "إخوان الصفا وخلان الوفا" ؛ ومحور فكرهم السياسي أن العقل خليفة الله الباطن ورئيس الفضلاء . والإمام عندهم هو وحده المتصل بالفلك الأقصى أو العقل الفعال أو واجب الوجود، وهو صورة الصور وخليفة الله الظاهر في الأرض، والمتحكم في الجن والإنس والحيوان والنبات والمعادن والخيرات ، وهو المعصوم من الخطأ ، كلامه وحي وأعماله سنة ، وله أن يفسر النصوص قرءاناً وسنةً ؛ فيخصص عامها ويقيد مطلقها ويؤول معانيها وينسخ بعض أحكامها ، ويضيف إلى شريعتها . كما أن من معتقداتهم الباطنية التي لا يبوحون بها لغيرهم أن الإمام بمنزلة العقل الفعال أو الموجود الأول ، في حالة عدم وجود الناطق الذي هو النبي ، لأنه يحل محله في رتبته . وفي حالة وجود النبي يحمل الإمام عندهم مرتبة النفس الزكية ؛ وهو لديهم في عالم الدين والصنعة النبوية الرئيس الروحي الأعلى ، ووجوده ضروري في كل زمان ، ليكون حجة الله في أرضه والضامن لعباده التسرمد والخلود .
هكذا نشأت في صدر الدولة العباسية فكرة الحكم المطلق لدى فلاسفة المسلمين كافة ؛ ولئن كان الحكم الفردي المطلق قائما قبل ذلك منذ سقوط الخلافة الراشدة؛ فإنهم قد سبقوا إلى تبريره فكريا وفلسفيا والتشريع له عقديا ودينيا . وكانوا يستطيعون أن يلتزموا الموضوعية والتوازن فلا يكتفوا بعرض آراء مدرسة الاستبداد الأفلاطوني ، بل يعرضون بجانبها آراء المدرستين الأرسطية الدستورية والرومانية القانونية . ولو فعلوا لكسروا على الأقل الحلقة المفرغة التي حاصرت المسلمين بين نظامين استبداديين، نظام الملكية الوراثية الجبرية عند أهل السنة ، ونظام الإمامة الاستبدادية الوراثية عند الشيعة والباطنية ؛ ولاقتربوا بذلك شيئا ما ، من المفهوم الإسلامي للحكم الذي يرى أن المجتمع مجموعة أفراد أحرار متساوين في الحقوق والواجبات ، تحكمهم شريعة واضحة في الكتاب والسنة ، بمنهج شوروي عام شامل ، يتيح لهم التسلط على أمرهم كله ، قرارا وتنفيذا ومراقبة ومحاسبة .
من هذا العرض المختصر، يمكن أن نوجز التصور السياسي العقدي ، للرعيل الأول من فلاسفة المسلمين عامة ، في سبعة أسس قام عليها هي :
1 - استنادهم إلى نظرية الفيض وهي كفر صريح .
2 - الفلك الأقصى حيّ عاقل مميز ، يسير الموجودات ويحركها نيابة عن الله ، وهذا أيضا تصور لا علاقة له بالإسلام .
3 - الحاكم والفيلسوف والملك والنبي والإمام والرئيس الأول ألفاظ مترادفة ، تعني الاتصال المباشر بواجب الوجود ، والعصمة التامة ، والقدرة المطلقة على إصلاح الخلائق الذين هم مجرد أدوات لأفعالهم . وهذا التصور أيضا بعيد كل البعد عن العقيدة الإسلامية .
4 - الحاكم والفيلسوف والملك والنبي والإمام ، يستمد النور من العقل الفعال الذي يستمد بدوره النور من الموجود الأول ، ولذلك لا يصدر منه إلا الحسن . وهذا أساس الفكر السياسي لدى المعتزلة ، ورئيسهم إبراهيم بن سيار النظام صاحب نظرية "الأصلح" ، بمعنى أن الله تعالى لا يفعل إلا الصلاح وليس له إلا ذلك، لأنه لا يستطيع إلا فعل الخير ، فهو جواد كريم كالنبع الذي لا يصدر عنه جفاف ، والشمس التي لا يصدر عنها ظلام ، وفعل الخير واجب عليه . وهذه النظرية بلا شك تعبير مراوغ عن نظرية "الفيض" الوثنية .
5 - الحاكم أو الفيلسوف أو الملك أو النبي أو الإمام ، لا يلتزم بالفضائل لأنها أوامر إلهية نزل بها الوحي قرءانا وسنة ، ولكن لأنه مجبول على ذلك بالفطرة بسبب اتصاله بمصدر النور ، فهو المعصوم ومرتبته فوق الخاصة والعامة .
6 - السعادة القصوى في الدنيا هي بلوغ كل فرد قمة كماله المـؤهـل لـه بالفطرة، إنْ ملكا أو خاصة أو عامة . أما الحياة الأخروية فقد جحدها كل هؤلاء الفلاسفة ؛ إذ أنكروا المعاد الجسماني والبعث ، وأولوا ما ورد في الشرع من نصوص حول اليوم الآخر والبعث والنشور والعرض والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار ، بأنه مجرد تمثيل بالمحسوسات لتقريب المعاني إلى أذهان العامة ؛ وأن التسليم بالمعاد الجسماني وحياة الآخرة مجرد وسيلة للمحافظة على الأخلاق .
7 - البشر ثلاث طبقات ، الأرفعون والخاصة والأوضعون ، ولكل طبقة سماتها وفطرتها ودورها . وهم تبعا لذلك ثلاثة أصناف ، حكام وأدوات حكم ومحكومون. وجذور هذه العقيدة تجد تربتها لدى البراهمة .
هذه زبدة التصور السياسي الفلسفي ، وهو كما يتضح بجلاء يتعارض تعارضا مطلقا مع التصور الإسلامي ، عقيدة وسلوكا ونظام حكم واجتماع .
ولئن حاولوا التمويه على هذا التعارض بتأويل بعض النصوص الإسلامية تأويلا يخدم هدفهم ، وتأويل بعض الآراء اليونانية الوثنية بما يجعل بينها وبين الإسلام شبهة علاقة ووشيجة ، فإن مثل هذه المحاولات البائسة ليست بجديدة في هذا الميدان . لقد سبقهم إليها فيلون الإسكندري (ت 50 م ) ، فحاول تأويل الشريعة الموسوية بما يقربها من المعتقدات اليونانية ؛ ومن الكنيسة المسيحية حاول ذلك أوريجنس (ت 254 م) ، والراهب أوغستينوس (ت430 م) ، ثم تداولها بعد ذلك من المسلمين ، الكندي (185-250 هـ / 801 - 871 م) الذي رأى في رسائله ، أن صدق المعارف الدينية يُعرف بالمقاييس العقلية معرفة لا ينكرها إلا جاهل ؛ ثم تبعه في ذلك من تلاه ممن سار على نهجه .

الطالبة : سناء الأحمد