الاسلام والموقف من الفن والادب
مرسل: الجمعة نوفمبر 26, 2010 11:24 am
بلغت الدعوة الى (الادب الاسلامي) اوجها في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين, واشهرت جمعياته في اكثر من بلد عربي, الا انه مع ذلك مازال يواجه اسئلة لا حصر لها, وتثار بشأنه شكوك نقدية وايديولوجية مثلما واجهت اداء جمعياته عوائق كثيرة, ادبية واجرائية, جعلت دعاته يراوحون دوما في مرحلة التنظير او ينافحون عن مشروعية طرحهم, ولعل ابرز تلك الاسئلة او بالاحرى تلك الشكوك التساؤل عن دواعي ظهور هذا (الادب الاسلامي) اصلا, اذ لماذا تقوم في مجتمعاتنا العربية المسلمة جماعة من الناس لتعلن اقامة رابطة ادبية خاصة بها, ثم تضفي عليها صفة الاسلامية؟ وكأنها تمارس نوعا من التفكير الضمني لبقية المشهد الادبي العام في مجتمعاتنا التي تفخر باسلامها وتزهو بفنونها وتسعى في الوقت نفسه الى مواكبة الحركة الادبية العالمية؟ على ان ثمة اسئلة اكثر مباشرة تتهم جمعيات (الادب الاسلامي) بانها جمعيات وعظية تريد ان تجعل الادب اسلوبا في ازجاء المواعظ, مع تقليم اظافره من كل ابعاده الجمالية, كما نبه البعض الاخر الى ان هذه (الجمعيات) ظهرت اصلا لتفكير الكتاب والمبدعين الذين يختلفون مع معاييرها النقدية, او يصدرون عن اعتبارات ادبية تختلف عن تأويل دعاة (الادب الاسلامي) للاسلام, ولأن التفكير لابد ان تتبعه الهجرة بدا هؤلاء ـ حسب خصومهم ـ وكأنهم يبنون لأنفسهم زاوية خاصة, ركنا قصيا, خانة يمارسون فيها ـ هم وحدهم ـ مهاراتهم الادبية والفنية, وتسمح لهم بالانسحاب من المشهد الادبي سواء اكان عربيا ام عالميا بحجة انهما يحويان قيما لا تناسب الانسان المسلم.
لكن ما هو رأي منظري هذه النزعة الادبية في كل تلك الاسئلة والشكوك؟ وعلى اي اساس تستند دعوتهم؟ بل متى يتجاوزون مرحلة التنظير والدفاع ويخرجون من اشكالات المشروعية والنشأة الى مرحلة الانجاز والابداع؟ هذا ما ستحاول القراءة الآتية تجميع اجابات عليه من خلال جولة في بعض اعمال ابرز دعاة الادب الاسلامي. منهج لا مذهب:
يتفق دعاة الادب الاسلامي على ان ما يدعون اليه ليس مذهبا ولا ايديولوجيا ادبية وانما منهج في فهم العالم عامة يقدم بصفة متساندة آلية تفسير لمعنى وجود الانسان ورسالته في الكون وفي المجتمع وازاء نفسه, ويقع التعبير عن كل ذلك في مجمل سلوك ونشاط الانسان المسلم, وفي مقدمة هذا النشاط طبعا عملية التذوق الجمالي والفني, ومستوى الادراك الوجداني, والادراك في فضاء الرمز وافق التسمية, سواء اكانت هذه التسمية ادبية ام فنية, مباشرة ام غير مباشرة, ان المهم دائما هو ان يقع ذلك بما يحافظ على رسم معالم المجتمع المسلم.
ولكن (الدعوة الى رسم معالم صورة المجتمع الاسلامي لا تعني الحجر على سلوك الناس وضبطهم في قوالب مسبقة, وانما هي دعوة لتوضيح الابعاد التي يتيحها الاسلام لحركة الانسان داخل العالم وداخل المجتمع وداخل نفسه, وهذه الحركة مزدوجة الابعاد تسمح للانسان ان يعبر عن وجدانه وخلجات نفسه, وان يتذوق مظاهر الجمال في العالم المحيط به, دون الوقوع في مزالق الاسفاف والابتذال والشهوانية, والاديب او الفنان في هذه الحالة هو وحده الذي يتوافق مع (نواميس الكون, ولا يشذ عنه بطريق الانحراف, ويتخذ وسيلته الى ذلك عرض (الجمال) و(القبح) بمعناهما الواسع ومجالاتهما الشاملة: في المشاعر والافكار والتصرفات والسلوك, وبحيث تشتاق النفس في النهاية الى الجمال وتنفر من القبح, دون ان تحس ضغطا في هذا الاتجاه او ذاك). و(اما شوق الجسد الغائر, فانه لحظة هبوط لا تستحق التسجيل) ولا ان تتخذ موضوعا للادب والفن كما يؤكد محمد قطب.
وهذه مسألة في غاية الاهمية ونعني بعد الالتزام في الادب من منظور اسلامي, الذي يعني قبول اي ابداع بصدر مفتوح ما دام لا يتنافى مع معطيات العقيدة, او القيم والمثل العليا, وهكذا فالمنهج الاسلامي حسب عماد الدين خليل ينتج فنا (يأبى الانحراف, يأبى مثلا تأليه الانسان (كلاسيكيا) واغراقه الذاتي الاناني (رومانسيا) وتمجيد لحظات الضعف البشري واقعيا وتصوير الانحراف الفكري او النفسي او الاخلاقي (وجوديا).. فليس ثمة عبث ولا جدوى كما يرى كامي, وليس ثمة لا معقولية للحياة والوجود كما يرى كافكا, ولا حرية اخلاقية مطلقة من كل قيد كما يرى سارتر, ولا تناقضات نفسية لانهاية لها تنتهي دائما بالضياع كما يرى ديستوفسكي, ذلك ان الفن الاسلامي يستمد تجاربه الباطنية من الحقيقة لا الزيف ومن الاستقامة لا من الانحراف).
اننا لكي نفهم جيدا معنى هذا الادب الملتزم المرغوب علينا ان نتذكر موقف الاسلام نفسه من الادب, فقد شجع المصطفى صلى الله عليه وسلم حسانا على نظم القريض للذود عن الحق والدعوة الى الدين, كما خلع رداءه الكريم على شاعر جاء مادحا بعد ان كان هجاه فيما سبق, وقد استمرت عملية تشجيع الادب والابداع طيلة تاريخ الحضارة الاسلامية, وهو تشجيع آتى أكله بكل تلك الروائع الخالدة التي شكلت فضاء عبقريا اضاء الانسانية جمعاء قرونا عديدة ومازال يضيئها حتى الان.
وبالتالي فإن دعاة (الادب الاسلامي) انطلقوا من هذه الواقعة لينفوا عن الاسلام ما اشاعه بعض الدارسين ذوي المنزع الاستشراقي عنه, من انه اصلا ضد الفن والابداع, بل تمادى بعضهم مؤكدا ان الاسلام (يلغي الموسيقى من حسابه لأن السماع حرام, والتصوير لأنه من مخلفات الوثنية, والمسرح لأنه ينبثق من فكرة صراع الانسان مع القدر, ومآسيه التي تصبها عليه الآلهة من فوق, فضلا عن ان المسرح من الناحية الفنية يستلزم ظهور عناصر نسائية على خشبة المسرح, والاسلام يمنع النظر الى المرأة, ثم ان الشعر يجب ان يكون نوعا من الوعظ والا غدا قائلوه من الكاذبين الذين يهيمون في كل واد).
اننا حتى لو سلمنا جدلا بأن الاسلام ضد الادب والفن فإن هذا الامر لا يجوز ان يحمل محمل احكام القيمة, فيعتبر قدحا او مدحا, لأن الاسلام قبل اية اعتبارات اخرى, هو الاصل والادب هو الفرع الذي قد يتوافق مع هذا الاصل, الاسلام هو المركز والادب هو الهامش, الاسلام هو الثابت, والادب والفن متغيران على نحو ما وصف عمر رضي الله عنه الشعر بأنه كلام كالكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح, ولكن مع هذا, وعلى الرغم من هذا, فإن الاسلام لا يقف ضد الفن او الادب بل يشجع انواعا منهما اكثر من غيرها, وبالتالي يقدم (الادب الاسلامي) نفسه من منظور كونه محاولة لفض الاشتباك بين طرفي هذه المعادلة, وذلك بغربلة المشهد الادبي الموجود ونقده لابراز القيم الجمالية المتوافقة مع الاسلام كالصدق والعدالة والحق والخير والجمال, ولدفع اية قيم مضادة وتعريتها, فالمسألة اذن مسألة التزام فني وادبي بأوسع معاني كلمة التزام وهذا ما يؤكده عماد خليل: (ان الفن الاسلامي فن منفتح على شتى المذاهب الفنية, ما دامت منسجمة في اتجاهها وتفاصيلها مع حركة الكون والانسان الايجابية في سبيل الحق والعدل الازليين, وفي اطار الجمال المبدع بعيدا عن التزييف والكذب والتناقض).
تكفير المبدعين:
مع ان الادب الاسلامي شديد الارتباط بمسائل عقدية الا ان دعاته مع ذلك لا يرفضون التعاطي مع الآداب التي تجد حقلها الدلالي وارضيتها المرجعية في حضارات اخرى او ثقافات او حتى اديان اخرى اذا كانت تبشر بنفس القيم التي يريدون وتلتزم بها, فمثلا في كتاب محمد قطب (منهج الفن الاسلامي) نجده يعبر عن اعجابه بمسرحية (الراكبون الى البحر) للكاتب الايرلندي ج. سينج, التي تتحدث عن ام قدمت ابناءها الخمسة غرقى في البحر الواحد بعد الآخر, وحين مات السادس ولحق بهم بلغت مرحلة النضج العقدي وسلمت بالقضاء والقدر, لتلتقي مع المنهج الاسلامي في التسليم الى الله والايمان بالقدر خيره وشره.
كما نجده في الوقت نفسه يستعرض نماذج للابداع المشبوب بروح الايمان مثل ديوان محمد اقبال (رسالة المشرق) (ببيام مشرق) وقصة (همزات الشياطين) لعبد الحميد جودة السحار, كمانجد عماد الدين خليل يحتفي في كتابه (في النقد الاسلامي المعاصر) بل يحتفل بمسرحية مركب بلا صياد) للكاتب الاسباني اليخاندرو كاسونا ففي هذه المسرحية (يلتقي الشعر بالخيال الجميل بالايمان, ويتعانق الفن والحياة في تكوين رائع هادف, ويتقابل قدر الله وارادة الانسان, في تناغم وجداني مؤثر, وينتصر الخير على الشر, والحياة على الموت, والقيم على الانحلال, في غنائية تنساب في جنبات الوجدان) ومن هذا المنظور فإن هذه المسرحية تتوافق في بعض اوجهها مع المعايير النقدية والقيمية التي يجب ان تتوافر في الادب, والفن الاسلامي, والتي على الفنان المسلم مراعاتها بغية السمو بانتاجه الى آفاق من النبل والالتزام.
ذلك لأن (الرؤية التي يصدر عنها الفنان المسلم, تنفرد عن غيرها من الرؤى بانها معجونة من طينة الامل والفرحة, لانها الطينة التي صنعها الله ووعدها بالخلود.. وبأن هذه الرؤية بعيدة الحدود, عميقة الاغوار, ممتدة المساحات, لأن مساحتها ليست هذه الدنيا فحسب, وليست هذا العالم فحسب, بل لانها تنبثق عن يقين مطلق بحياة بعد هذه الحياة, وبكون عظيم تبدو الارض في كيانه ذرة تائهة في الملكوت, وبعالم اوسع يضم مخلوقات اخرى غير البشرية.. رؤية تحطم الحواجز الحسية وتنساب في عالم الباطن وتتخطى جدران الزمان والمكان لكي تلتقي بالملأ الاعلى).
واذن فإن (قيام نظرية الادب الاسلامي يجب ان تكون تصحيحا للعلاقة بين الادب والعقيدة) كما يرى عبدالباسط بدر في كتابه (مقدمة لنظرية الادب الاسلامي) وذلك لأن مؤرخي الادب يجمعون على انه نشأ اصلا في حضن الاديان المختلفة, وقد كان اديب الازمنة القديمة هو الكاهن نفسه, اي الشخص الضليع في عالم العرفان, المؤول, الممسك بدلالات الكلام.
ومن هنا فلا يوجد ادب لا يستبطن قيما بعينها, وكثيرا ما تكون هذه القيم دينية, وفي هذه الحالة قد تتعارض مع مقولات الاسلام, وبالتالي تكون مهمة الناقد الاسلامي هي توضيح ذلك, ليتبين الحق من الباطل, وفي هذه الحالة, ايضا, قد تصل الامور حد رفض قاطع او حتى تفكير مبدعي تلك القيم الذين يبشرون بها بطريقة مباشرة او غير مباشرة, وهنا تدخل المسألة حدودا عقدية او فقهية, وتتجاوز مستوى اداء النقد الادبي في حدوده المعهودة, ولعل خير مثال على ذلك سلسلة النصوص التي اوردها بدر والتي اعتبرها خارجة عن المعطى الاسلامي ومن ضمنها نماذج من شعر بلند الحيدري وادونيس والسياب وبدوي الجبل ونزار قباني والشاعر القروي وغيرهم كثير.
ويؤكد د. عز الدين اسماعيل في (الشعر في اطار العصر الثوري) بأن الادب في العالم اجمع (ظل مرتبطا بالعقيدة الدينية على مدى عصور طويلة حتى اذا كنا في العصور الحديثة لم يعد للسلطة الدينية وجهها الجماعي القديم, وراح الانسان يبحث عن عقيدة اخرى, ومن ثم لم تخل اعماله الفنية في اي وقت من ان تكون تعبيرا عن عقيدة ايا كانت هذه العقيدة), ولذا لا عيب فينا في استحضار القيم الاسلامية في الادب العربي, ولا عيب ايضا, نقديا, في رفض اي حضور ديني او عبثي معاكس في هذا الادب ونقد منتجيه وتوضيح دلالات نصوصهم الدينية او القيمية المعاكسة للتصور الاسلامي.
وفي الشعر المعاصر نجد ضروبا مختلفة من هذا الاستحضار الديني المعاكس من خلال استدعاء الرموز الاسطورية وتكثيف النص الشعري بدلالاتها الكثيرة بما فيها ايضا دلالاتها الميتافيزيقية الدينية, وقد تكون هذه الرموز والاساطير عراقية قديمة او سورية او مصرية, وقد تكون ايضا دلالة هذه الرموز ذات منشأ ديني صريح نابع من المسيحية مثل هذا المقطع من (الظل والصليب) لصلاح عبدالصبور, والذي رصده عبدالباسط بدر (انا الذي احيا بلا ظل بلا صليب.. الظل لص يسرق السعادة.. ومن يعش بطله يمشي الى الصليب في نهاية الطريق) ان تكرار كلمة (صليب) هنا امر له دلالته الدينية حسب رأي الناقد الاسلامي.
اما ان استحضر الشاعر المعاصر رموزا واحلالات من التراث الاسلامي او حتى من العقيدة الاسلامية, فإن ذلك يكون غالبا للتنديد بها, ولمناوأتها, ففي (خبز وقمر) لنزار قباني نقرأ (الملايين التي تركض في غير نعال.. التي تسكن في الليل بيوتا من سعال.. والتي تؤمن في اربع زوجات وفي يوم القيامة), كما نقرأ في (مهيار الدمشقي) لأدونيس الذي يرتبط اسمه شخصيا وقد غلب عليه, بارث اسطوري طويل عريض, نقرأ هذا المقطع (وجه مهيارنار.. تحرق ارض النجوم الاليفة, هو ذا يتخطى تخوم الخليفة.. رافعا بيرق الافول, هادما كل دار.. هو ذا يرفض الامامة), وكل هذه النماذج تستفز الناقد الاسلامي الذي يرفض اي معنى مجازي لهذه النصوص ويسائلها بما هي ناطقة حرفيا به, وبما هي بالتالي تعبير عن عقيدة واسلوب تفكير مؤلفها, وهذا ما يذكر بمآزق مشابهة واجهتها شطحات بعض الزهاد والمتصوفة في صدر الاسلام والعصر العباسي وواجهتها بعض الاعمال الادبية المعاصرة ايضا.
ادب بديل
وعلى عكس من غزارة الدراسات النقدية المبشرة بالادب الاسلامي بعض الشيء, فإن انتقال هذا الادب الى مرحلة الانجاز ظلت دائما في حدود, اذا استثنينا اعمال نجيب الكيلاني, واذا استثنينا ايضا محاولات انجاز بمعنى اخر هو دراسة اداب الشعوب الاسلامية المختلفة من زاوية فنية هي تشابه آلياتها وطرائقها في التفكير, كما فعل الطاهر احمد مكي في كتابه (مقدمة في الادب الاسلامي المقارن), واذا استثنينا اخيرا شعر بعض المصلحين والدعاة وحركات التصوف وتربية النفس وبعض ادبيات الحركة الاسلامية المعاصرة.
كما ان منظري هذا الادب لا يقدمون انفسهم باعتبارهم مبشرين بأدب بديل للأدب العربي المعاصر, بقدر ما يسعون للتأثير في مسار هذا الادب من باب كونهم نزعة من نزعاته ملتزمة بقيم الدين وساعية الى انشائها ودفع ما يخالفها, ومن هذا المنظور فإن دعوتهم ليست رفضا كاملا للمشهد الادبي السائد بصالحه وطالحه, فالادب الاسلامي حسب رأي عبد الباسط بدر (لا يقابل مصطلح ادب عربي ولا مختلفة منها الاسلامي, ومنها الجاهلي المغرق في جاهليته, ومنها ما ليس بشيء).
وعلى ذكر (ما ليس بشيء) فربما اهتم نقاد الادب الاسلامي اكثر من اي اتجاه اخر برفض تلك اللغة الغجرية الماجنة التي سيطرت على قصيدة التفعيلة وما بعدها, واعتبروا ان النصوص الموغلة في الرمزية, المتخلصة من معظم القواعد النسقية المعروفة, انما هي (خلو من المعنى), ولا يمكن تصنيفها الا ضمن (ما ليس بشيء), وقد وقع هنا التنديد خاصة ـ وكما يمكن ان نتوقع ـ بأدونيس ونصوص مجلة (شعر) وسنسوق هنا امثلة على هذه النصوص (الغجرية) التي استفزت النقاد الاسلاميين, احدها هذا الذي سائله عماد الدين خليل من مجلة (شعر): (ما موت احب شعتقات؟ كحية اسمها, ثم احب شعتقات. قال لها: رمتني شامة.. لوحني كوكب اسد وحدني اشتهاؤه.. قالت له شعتقات: (جسمك ذئب تركض رعشاته جسمك شامة تكسوني) قال لها ما موت: (الدوار والنار والحنين).. قالت له شعتقات (سنعتقل الحارس ونطلق الحصان) قال لها ماموت (جسمك الحرب.. ساحفظ جسمك طريدة.. ساضرب الادوية.. الويل ان جلست. قالت له شعتقات الويل ان جلست تمتلئ الدفاتر.. وتنكسر شوكتي). هذه قصيدة حداثية جدا, وحداثية هذه ايضا: (الاقمشة الممزقة ممنوحة لي عبر الشمس, والمدينة مخدوعة بمعاطف السبت. هذا الفسق ماذا يعرف عن يدي؟
في الباحة, المعلم الهولندي يلتقط الجواهر ـ ويخسرها ايضا ـ والساهرة اليتيمة تعتقل الرغبة هناك.. ما اجمل المتوكلين المحبوبين, رامبو حين طار جسده مات. ملاجئ التأرجح, تروتسكي لم يمتلك خجل الفنادق. جـ: تتدفأون على وحشة القلب منتشين بصبوات القصيدة).
ان نقاد الادب الاسلامي يرون ان مثل هذه اللغة (المتهتكة) بلاغيا لا تفجر المعنى ـ كما تزعم ـ وانما هي تغتال الابداع وتغيبه وراء عبثية يزعم انها مغلفة بسجف من الاخيلة ومن استحضار المجازات في ذائقة المتلقي, التي وقع تشتيتها وتفتيتها, بسيل من انتهاكات لا حدود لها يستحيل معها ايصال رسالة ـ خيرة ام شريرة ـ احرى الاسهام في بناء رؤية متماسكة او نظرة منسجمة مع قيم الصدق والحق والخير والجمال, واكثر من ذلك فإن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الجمال لا مناوأته وتفجيره. ومع هذا لا يريد نقاد الادب الاسلامي من الاديب ان يكون واعظا او جامع بديهيات ومروج لها, لكنهم يطالبونه فقط بالالتزام بمعايير جمالية او منهجية واضحة تحدد بموجبها السياقات الدلالية لأثره الادبي, بشرط الا تتعارض تلك السياقات مع الاسلام في ما هو معلوم منه بالضرورة, او مع القيم الانسانية الاخرى في مثلها وسموها ونبلها, لأن الاسلام جاء اصلا ليتمم مكارم الاخلاق, وليعطي لوجود الانسان معنى, بل ليحتفل بهذا الوجود ويجله ويرفع القناديل عالية في وجهه.
لكن ما هو رأي منظري هذه النزعة الادبية في كل تلك الاسئلة والشكوك؟ وعلى اي اساس تستند دعوتهم؟ بل متى يتجاوزون مرحلة التنظير والدفاع ويخرجون من اشكالات المشروعية والنشأة الى مرحلة الانجاز والابداع؟ هذا ما ستحاول القراءة الآتية تجميع اجابات عليه من خلال جولة في بعض اعمال ابرز دعاة الادب الاسلامي. منهج لا مذهب:
يتفق دعاة الادب الاسلامي على ان ما يدعون اليه ليس مذهبا ولا ايديولوجيا ادبية وانما منهج في فهم العالم عامة يقدم بصفة متساندة آلية تفسير لمعنى وجود الانسان ورسالته في الكون وفي المجتمع وازاء نفسه, ويقع التعبير عن كل ذلك في مجمل سلوك ونشاط الانسان المسلم, وفي مقدمة هذا النشاط طبعا عملية التذوق الجمالي والفني, ومستوى الادراك الوجداني, والادراك في فضاء الرمز وافق التسمية, سواء اكانت هذه التسمية ادبية ام فنية, مباشرة ام غير مباشرة, ان المهم دائما هو ان يقع ذلك بما يحافظ على رسم معالم المجتمع المسلم.
ولكن (الدعوة الى رسم معالم صورة المجتمع الاسلامي لا تعني الحجر على سلوك الناس وضبطهم في قوالب مسبقة, وانما هي دعوة لتوضيح الابعاد التي يتيحها الاسلام لحركة الانسان داخل العالم وداخل المجتمع وداخل نفسه, وهذه الحركة مزدوجة الابعاد تسمح للانسان ان يعبر عن وجدانه وخلجات نفسه, وان يتذوق مظاهر الجمال في العالم المحيط به, دون الوقوع في مزالق الاسفاف والابتذال والشهوانية, والاديب او الفنان في هذه الحالة هو وحده الذي يتوافق مع (نواميس الكون, ولا يشذ عنه بطريق الانحراف, ويتخذ وسيلته الى ذلك عرض (الجمال) و(القبح) بمعناهما الواسع ومجالاتهما الشاملة: في المشاعر والافكار والتصرفات والسلوك, وبحيث تشتاق النفس في النهاية الى الجمال وتنفر من القبح, دون ان تحس ضغطا في هذا الاتجاه او ذاك). و(اما شوق الجسد الغائر, فانه لحظة هبوط لا تستحق التسجيل) ولا ان تتخذ موضوعا للادب والفن كما يؤكد محمد قطب.
وهذه مسألة في غاية الاهمية ونعني بعد الالتزام في الادب من منظور اسلامي, الذي يعني قبول اي ابداع بصدر مفتوح ما دام لا يتنافى مع معطيات العقيدة, او القيم والمثل العليا, وهكذا فالمنهج الاسلامي حسب عماد الدين خليل ينتج فنا (يأبى الانحراف, يأبى مثلا تأليه الانسان (كلاسيكيا) واغراقه الذاتي الاناني (رومانسيا) وتمجيد لحظات الضعف البشري واقعيا وتصوير الانحراف الفكري او النفسي او الاخلاقي (وجوديا).. فليس ثمة عبث ولا جدوى كما يرى كامي, وليس ثمة لا معقولية للحياة والوجود كما يرى كافكا, ولا حرية اخلاقية مطلقة من كل قيد كما يرى سارتر, ولا تناقضات نفسية لانهاية لها تنتهي دائما بالضياع كما يرى ديستوفسكي, ذلك ان الفن الاسلامي يستمد تجاربه الباطنية من الحقيقة لا الزيف ومن الاستقامة لا من الانحراف).
اننا لكي نفهم جيدا معنى هذا الادب الملتزم المرغوب علينا ان نتذكر موقف الاسلام نفسه من الادب, فقد شجع المصطفى صلى الله عليه وسلم حسانا على نظم القريض للذود عن الحق والدعوة الى الدين, كما خلع رداءه الكريم على شاعر جاء مادحا بعد ان كان هجاه فيما سبق, وقد استمرت عملية تشجيع الادب والابداع طيلة تاريخ الحضارة الاسلامية, وهو تشجيع آتى أكله بكل تلك الروائع الخالدة التي شكلت فضاء عبقريا اضاء الانسانية جمعاء قرونا عديدة ومازال يضيئها حتى الان.
وبالتالي فإن دعاة (الادب الاسلامي) انطلقوا من هذه الواقعة لينفوا عن الاسلام ما اشاعه بعض الدارسين ذوي المنزع الاستشراقي عنه, من انه اصلا ضد الفن والابداع, بل تمادى بعضهم مؤكدا ان الاسلام (يلغي الموسيقى من حسابه لأن السماع حرام, والتصوير لأنه من مخلفات الوثنية, والمسرح لأنه ينبثق من فكرة صراع الانسان مع القدر, ومآسيه التي تصبها عليه الآلهة من فوق, فضلا عن ان المسرح من الناحية الفنية يستلزم ظهور عناصر نسائية على خشبة المسرح, والاسلام يمنع النظر الى المرأة, ثم ان الشعر يجب ان يكون نوعا من الوعظ والا غدا قائلوه من الكاذبين الذين يهيمون في كل واد).
اننا حتى لو سلمنا جدلا بأن الاسلام ضد الادب والفن فإن هذا الامر لا يجوز ان يحمل محمل احكام القيمة, فيعتبر قدحا او مدحا, لأن الاسلام قبل اية اعتبارات اخرى, هو الاصل والادب هو الفرع الذي قد يتوافق مع هذا الاصل, الاسلام هو المركز والادب هو الهامش, الاسلام هو الثابت, والادب والفن متغيران على نحو ما وصف عمر رضي الله عنه الشعر بأنه كلام كالكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح, ولكن مع هذا, وعلى الرغم من هذا, فإن الاسلام لا يقف ضد الفن او الادب بل يشجع انواعا منهما اكثر من غيرها, وبالتالي يقدم (الادب الاسلامي) نفسه من منظور كونه محاولة لفض الاشتباك بين طرفي هذه المعادلة, وذلك بغربلة المشهد الادبي الموجود ونقده لابراز القيم الجمالية المتوافقة مع الاسلام كالصدق والعدالة والحق والخير والجمال, ولدفع اية قيم مضادة وتعريتها, فالمسألة اذن مسألة التزام فني وادبي بأوسع معاني كلمة التزام وهذا ما يؤكده عماد خليل: (ان الفن الاسلامي فن منفتح على شتى المذاهب الفنية, ما دامت منسجمة في اتجاهها وتفاصيلها مع حركة الكون والانسان الايجابية في سبيل الحق والعدل الازليين, وفي اطار الجمال المبدع بعيدا عن التزييف والكذب والتناقض).
تكفير المبدعين:
مع ان الادب الاسلامي شديد الارتباط بمسائل عقدية الا ان دعاته مع ذلك لا يرفضون التعاطي مع الآداب التي تجد حقلها الدلالي وارضيتها المرجعية في حضارات اخرى او ثقافات او حتى اديان اخرى اذا كانت تبشر بنفس القيم التي يريدون وتلتزم بها, فمثلا في كتاب محمد قطب (منهج الفن الاسلامي) نجده يعبر عن اعجابه بمسرحية (الراكبون الى البحر) للكاتب الايرلندي ج. سينج, التي تتحدث عن ام قدمت ابناءها الخمسة غرقى في البحر الواحد بعد الآخر, وحين مات السادس ولحق بهم بلغت مرحلة النضج العقدي وسلمت بالقضاء والقدر, لتلتقي مع المنهج الاسلامي في التسليم الى الله والايمان بالقدر خيره وشره.
كما نجده في الوقت نفسه يستعرض نماذج للابداع المشبوب بروح الايمان مثل ديوان محمد اقبال (رسالة المشرق) (ببيام مشرق) وقصة (همزات الشياطين) لعبد الحميد جودة السحار, كمانجد عماد الدين خليل يحتفي في كتابه (في النقد الاسلامي المعاصر) بل يحتفل بمسرحية مركب بلا صياد) للكاتب الاسباني اليخاندرو كاسونا ففي هذه المسرحية (يلتقي الشعر بالخيال الجميل بالايمان, ويتعانق الفن والحياة في تكوين رائع هادف, ويتقابل قدر الله وارادة الانسان, في تناغم وجداني مؤثر, وينتصر الخير على الشر, والحياة على الموت, والقيم على الانحلال, في غنائية تنساب في جنبات الوجدان) ومن هذا المنظور فإن هذه المسرحية تتوافق في بعض اوجهها مع المعايير النقدية والقيمية التي يجب ان تتوافر في الادب, والفن الاسلامي, والتي على الفنان المسلم مراعاتها بغية السمو بانتاجه الى آفاق من النبل والالتزام.
ذلك لأن (الرؤية التي يصدر عنها الفنان المسلم, تنفرد عن غيرها من الرؤى بانها معجونة من طينة الامل والفرحة, لانها الطينة التي صنعها الله ووعدها بالخلود.. وبأن هذه الرؤية بعيدة الحدود, عميقة الاغوار, ممتدة المساحات, لأن مساحتها ليست هذه الدنيا فحسب, وليست هذا العالم فحسب, بل لانها تنبثق عن يقين مطلق بحياة بعد هذه الحياة, وبكون عظيم تبدو الارض في كيانه ذرة تائهة في الملكوت, وبعالم اوسع يضم مخلوقات اخرى غير البشرية.. رؤية تحطم الحواجز الحسية وتنساب في عالم الباطن وتتخطى جدران الزمان والمكان لكي تلتقي بالملأ الاعلى).
واذن فإن (قيام نظرية الادب الاسلامي يجب ان تكون تصحيحا للعلاقة بين الادب والعقيدة) كما يرى عبدالباسط بدر في كتابه (مقدمة لنظرية الادب الاسلامي) وذلك لأن مؤرخي الادب يجمعون على انه نشأ اصلا في حضن الاديان المختلفة, وقد كان اديب الازمنة القديمة هو الكاهن نفسه, اي الشخص الضليع في عالم العرفان, المؤول, الممسك بدلالات الكلام.
ومن هنا فلا يوجد ادب لا يستبطن قيما بعينها, وكثيرا ما تكون هذه القيم دينية, وفي هذه الحالة قد تتعارض مع مقولات الاسلام, وبالتالي تكون مهمة الناقد الاسلامي هي توضيح ذلك, ليتبين الحق من الباطل, وفي هذه الحالة, ايضا, قد تصل الامور حد رفض قاطع او حتى تفكير مبدعي تلك القيم الذين يبشرون بها بطريقة مباشرة او غير مباشرة, وهنا تدخل المسألة حدودا عقدية او فقهية, وتتجاوز مستوى اداء النقد الادبي في حدوده المعهودة, ولعل خير مثال على ذلك سلسلة النصوص التي اوردها بدر والتي اعتبرها خارجة عن المعطى الاسلامي ومن ضمنها نماذج من شعر بلند الحيدري وادونيس والسياب وبدوي الجبل ونزار قباني والشاعر القروي وغيرهم كثير.
ويؤكد د. عز الدين اسماعيل في (الشعر في اطار العصر الثوري) بأن الادب في العالم اجمع (ظل مرتبطا بالعقيدة الدينية على مدى عصور طويلة حتى اذا كنا في العصور الحديثة لم يعد للسلطة الدينية وجهها الجماعي القديم, وراح الانسان يبحث عن عقيدة اخرى, ومن ثم لم تخل اعماله الفنية في اي وقت من ان تكون تعبيرا عن عقيدة ايا كانت هذه العقيدة), ولذا لا عيب فينا في استحضار القيم الاسلامية في الادب العربي, ولا عيب ايضا, نقديا, في رفض اي حضور ديني او عبثي معاكس في هذا الادب ونقد منتجيه وتوضيح دلالات نصوصهم الدينية او القيمية المعاكسة للتصور الاسلامي.
وفي الشعر المعاصر نجد ضروبا مختلفة من هذا الاستحضار الديني المعاكس من خلال استدعاء الرموز الاسطورية وتكثيف النص الشعري بدلالاتها الكثيرة بما فيها ايضا دلالاتها الميتافيزيقية الدينية, وقد تكون هذه الرموز والاساطير عراقية قديمة او سورية او مصرية, وقد تكون ايضا دلالة هذه الرموز ذات منشأ ديني صريح نابع من المسيحية مثل هذا المقطع من (الظل والصليب) لصلاح عبدالصبور, والذي رصده عبدالباسط بدر (انا الذي احيا بلا ظل بلا صليب.. الظل لص يسرق السعادة.. ومن يعش بطله يمشي الى الصليب في نهاية الطريق) ان تكرار كلمة (صليب) هنا امر له دلالته الدينية حسب رأي الناقد الاسلامي.
اما ان استحضر الشاعر المعاصر رموزا واحلالات من التراث الاسلامي او حتى من العقيدة الاسلامية, فإن ذلك يكون غالبا للتنديد بها, ولمناوأتها, ففي (خبز وقمر) لنزار قباني نقرأ (الملايين التي تركض في غير نعال.. التي تسكن في الليل بيوتا من سعال.. والتي تؤمن في اربع زوجات وفي يوم القيامة), كما نقرأ في (مهيار الدمشقي) لأدونيس الذي يرتبط اسمه شخصيا وقد غلب عليه, بارث اسطوري طويل عريض, نقرأ هذا المقطع (وجه مهيارنار.. تحرق ارض النجوم الاليفة, هو ذا يتخطى تخوم الخليفة.. رافعا بيرق الافول, هادما كل دار.. هو ذا يرفض الامامة), وكل هذه النماذج تستفز الناقد الاسلامي الذي يرفض اي معنى مجازي لهذه النصوص ويسائلها بما هي ناطقة حرفيا به, وبما هي بالتالي تعبير عن عقيدة واسلوب تفكير مؤلفها, وهذا ما يذكر بمآزق مشابهة واجهتها شطحات بعض الزهاد والمتصوفة في صدر الاسلام والعصر العباسي وواجهتها بعض الاعمال الادبية المعاصرة ايضا.
ادب بديل
وعلى عكس من غزارة الدراسات النقدية المبشرة بالادب الاسلامي بعض الشيء, فإن انتقال هذا الادب الى مرحلة الانجاز ظلت دائما في حدود, اذا استثنينا اعمال نجيب الكيلاني, واذا استثنينا ايضا محاولات انجاز بمعنى اخر هو دراسة اداب الشعوب الاسلامية المختلفة من زاوية فنية هي تشابه آلياتها وطرائقها في التفكير, كما فعل الطاهر احمد مكي في كتابه (مقدمة في الادب الاسلامي المقارن), واذا استثنينا اخيرا شعر بعض المصلحين والدعاة وحركات التصوف وتربية النفس وبعض ادبيات الحركة الاسلامية المعاصرة.
كما ان منظري هذا الادب لا يقدمون انفسهم باعتبارهم مبشرين بأدب بديل للأدب العربي المعاصر, بقدر ما يسعون للتأثير في مسار هذا الادب من باب كونهم نزعة من نزعاته ملتزمة بقيم الدين وساعية الى انشائها ودفع ما يخالفها, ومن هذا المنظور فإن دعوتهم ليست رفضا كاملا للمشهد الادبي السائد بصالحه وطالحه, فالادب الاسلامي حسب رأي عبد الباسط بدر (لا يقابل مصطلح ادب عربي ولا مختلفة منها الاسلامي, ومنها الجاهلي المغرق في جاهليته, ومنها ما ليس بشيء).
وعلى ذكر (ما ليس بشيء) فربما اهتم نقاد الادب الاسلامي اكثر من اي اتجاه اخر برفض تلك اللغة الغجرية الماجنة التي سيطرت على قصيدة التفعيلة وما بعدها, واعتبروا ان النصوص الموغلة في الرمزية, المتخلصة من معظم القواعد النسقية المعروفة, انما هي (خلو من المعنى), ولا يمكن تصنيفها الا ضمن (ما ليس بشيء), وقد وقع هنا التنديد خاصة ـ وكما يمكن ان نتوقع ـ بأدونيس ونصوص مجلة (شعر) وسنسوق هنا امثلة على هذه النصوص (الغجرية) التي استفزت النقاد الاسلاميين, احدها هذا الذي سائله عماد الدين خليل من مجلة (شعر): (ما موت احب شعتقات؟ كحية اسمها, ثم احب شعتقات. قال لها: رمتني شامة.. لوحني كوكب اسد وحدني اشتهاؤه.. قالت له شعتقات: (جسمك ذئب تركض رعشاته جسمك شامة تكسوني) قال لها ما موت: (الدوار والنار والحنين).. قالت له شعتقات (سنعتقل الحارس ونطلق الحصان) قال لها ماموت (جسمك الحرب.. ساحفظ جسمك طريدة.. ساضرب الادوية.. الويل ان جلست. قالت له شعتقات الويل ان جلست تمتلئ الدفاتر.. وتنكسر شوكتي). هذه قصيدة حداثية جدا, وحداثية هذه ايضا: (الاقمشة الممزقة ممنوحة لي عبر الشمس, والمدينة مخدوعة بمعاطف السبت. هذا الفسق ماذا يعرف عن يدي؟
في الباحة, المعلم الهولندي يلتقط الجواهر ـ ويخسرها ايضا ـ والساهرة اليتيمة تعتقل الرغبة هناك.. ما اجمل المتوكلين المحبوبين, رامبو حين طار جسده مات. ملاجئ التأرجح, تروتسكي لم يمتلك خجل الفنادق. جـ: تتدفأون على وحشة القلب منتشين بصبوات القصيدة).
ان نقاد الادب الاسلامي يرون ان مثل هذه اللغة (المتهتكة) بلاغيا لا تفجر المعنى ـ كما تزعم ـ وانما هي تغتال الابداع وتغيبه وراء عبثية يزعم انها مغلفة بسجف من الاخيلة ومن استحضار المجازات في ذائقة المتلقي, التي وقع تشتيتها وتفتيتها, بسيل من انتهاكات لا حدود لها يستحيل معها ايصال رسالة ـ خيرة ام شريرة ـ احرى الاسهام في بناء رؤية متماسكة او نظرة منسجمة مع قيم الصدق والحق والخير والجمال, واكثر من ذلك فإن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الجمال لا مناوأته وتفجيره. ومع هذا لا يريد نقاد الادب الاسلامي من الاديب ان يكون واعظا او جامع بديهيات ومروج لها, لكنهم يطالبونه فقط بالالتزام بمعايير جمالية او منهجية واضحة تحدد بموجبها السياقات الدلالية لأثره الادبي, بشرط الا تتعارض تلك السياقات مع الاسلام في ما هو معلوم منه بالضرورة, او مع القيم الانسانية الاخرى في مثلها وسموها ونبلها, لأن الاسلام جاء اصلا ليتمم مكارم الاخلاق, وليعطي لوجود الانسان معنى, بل ليحتفل بهذا الوجود ويجله ويرفع القناديل عالية في وجهه.