صفحة 1 من 1

اتجاهات التحليل في السياسه الدوليه

مرسل: السبت ديسمبر 04, 2010 7:15 pm
بواسطة نوره سريحان الزهراني
--------------------------------------------------------------------------------


ملحوظة :-ليس معنى نشر دراسة ما أن نكون موافقين عن كل ما فيها .
لا أرى شرعية كتابة(ص)وإنما تكتب صلى الله عليه وسلم .

اتجاهات التحليل في السياسة الدولية


اتجاهات تحليل السياسة الدولية الأصول الفلسفية لعلاقات السياسة العالمية
باستثناء المشكلات الدولية الكبرى فإن أحداث العلاقات الدولية لا تحظى باهتمام واسع من الناس ، ويرجع السبب في ذلك إلى تشعب تلك القضايا واختلاطها وصعوبة رصد العوامل التي تحركها ، كما يلعب ضعف إحساس الناس بآثار العلاقات الدولية على حياتهم الخاصة دوراً آخر في إضعاف اهتمامهم بتلك القضايا. إن تأثير المشاكل الدولية على أوضاع الناس العاديين تأثير كبير وأساسي إلى حد بعيد ، ولكن ضعف إحساس الناس به يتأتى من أنه يحدث في الغالب بطريق غير مباشر ، والغريب أن بعض كبار السياسيين العالميين يشاركون الناس العاديين في ضعف الإحساس بأثر الأحداث الدولية . ولعل من أبلغ ما حفظه لنا التاريخ الحديث دلالة على ذلك هو اتجاه القادة الأوروبيين إلى تجاهل الخطر النازي في البداية ، بل حتى عندما كانت الحرب العالمية الثانية على وشك الانفجار وكان هتلر يهدد باجتياح الدول تباعاً ، وعندها صرح رئيس الوزراء البريطاني آنها تشمبرلين بأن اجتياح هتلر لتشيكوسلوفاكيا إذا ما وقع فإنه لن يؤثر على الأوضاع الداخلية لبريطانيا ، ولذلك فقد رفض أن تقدم بلاده أي عون للتشيك في دفاعهم عن بلادهم ضد الألمان ، مما سهل على هتلر مهمته في توسيع مجاله الحيوي ، وتهديد الأمن الدولي برمته ، ووضع العالم على شفير الحرب التي قضت على أرواح سبعين مليون من البشر. وبالطبع فليست كل آثار السياسة الدولية على السياسات الداخلية للدول بمثل هذا الواقع المروع ، فهذا هو المثال الأكثر سطوعاً لا المثال العادي. ولكنا سقناه لنؤكد أنه حتى قادة الدول العظمى ينحون نوعاً ما ، إلى تجاهل آثار العلاقات الدولية .تفاعل مسلمي الأمس مع العلاقات الدولية: ومسلمو الأمس كانوا رغم انحصارهم في إطار مكاني بعيد عن الأثر المباشر لواقع التفاعلات الدولية، إلا أن القرآن أكد لنا أنهم كانوا شديدي الاهتمام بآثار تلك التفاعلات ، وما روته لنا سورة الروم عن قلق المسلمين من انتصار الفرس المجوس على الروم الكتابيين هو مثال لذلك ، وما روته كتب السيرة عن تسابق رجال الدولة النبوية الثلاثة الأوائل لتفقد سور المدينة هو مثال آخر . فقد حكت تلك الكتب أن سيدنا عمرعندما سمع ذات ليل جلبة عنيفة قادمة أصداؤها من عند أبواب المدينة ، تقلد سلاحه ، وخف مسرعاً يتفقد الأمر ، خوفاً من أن يكون الروم قد وصلوا إلى أبواب المدينة ، ليخنقوا دولة الإسلام الناشئة ، وفي طريقه إلى هناك وجد سيدنا أبا بكر الصديق وقد سبقه مستكشفاً جلية الأمر، وعندما اقترب الرجلان من أبواب المدينة ألفيا سيدنا رسول الله (ص) قادماً من هناك ، وقد سبقهما لاستجلاء الحدث .. وهكذا كان إحساس الجميع مرهفاً بالخطر القادم من خارج الحدود ! وهكذا فإن المسلم لا يمكن أن يعيش معزولاً عما حوله من أحداث، ولا عما بعد عنه من أحداث . وفي هذا المقال نود أن نعين القارئ العادي غير المتخصص على تكوين منهجية خاصة لفهم العلاقات الدولية ، وذلك من خلال الاستعراض المقارن لأفكار المدارس الثلاث المسيطرة على أساليب تحليل العلاقات الدولية ، وإضافة ملامح المدرسة الرابعة التي هي الآن في حال مخاض لما يسفر عن وجه واضح .تحليلات التيار الواقعـــي: إن أكثر المحللين السياسيين سواء كانوا علماء سياسة ، أو سياسيين سابقين ، أو خبراء إعلاميين ، فإنهم قد خرجوا من عباءة المدرسة الواقعية (Realist approach) وحتى نعرف اتجاهات تفكير هؤلاء ، فلابد من أن نستبطن مسلماتهم الفكرية السياسية ، التي تشكل الأرضية الفلسفية التي ينطلقون منها ، وهي أكثر التيارات معرفة عامة بهذه الفلسفة ، ولكن المعرفة الغامضة لا تكفي لمعرفة الأبعاد العقلية التي تؤطر تفكير هؤلاء المحللين . ولإيضاح ما نرمي إلى إيضاحه فلنبدأ بهذه المدرسة ، فهي الأقدم والأرسخ ، وعلى أساس مبادراتها وتفسيراتها نهضت المدارس الأخرى : مدرسة (العالمية) و (التبعية) و (الأصولية)، ويعتقد كثير من خبراء السياسة أن نظريات هذه المدارس الثلاث مهما بلغت أصالتها فما هي إلا ردود فعل لاطروحات المدرسة الواقعية .كيف هرب الغزال السمين؟ لقد ورث التيار الواقعي نزعة الشك العميق لدى الفيلسوفين الإنجليزي توماس هوبز، والفرنسي جان جاك روسو . وفي اعتقاد هذين الفيلسوفين فإن حالة عدم الثقة التي تسود المستوى الدولي هي حالة طبيعية دائمة لا يمكن أن تتغير لأنها مشتقة من طبيعة الإنسان المفطور على العدوان . وهكذا فلابد أن تؤسس تصرفات الدول في علاقاتها الخارجية على هذا الأساس . فلا أحد يثق في الآخر ، ومن ثم فلابد أن يأخذ احتياطاته بالكامل تحسباً من أي خطر أو هجوم يجترحه في حقه الآخرون ، سواء كانوا أصدقاء أم أعداء ، ولا تكمن الثقة حتى في إمكانية وفاء الآخرين ممن تدخل الدولة معهم في أحلاف أو مواثيق مكتوبة . والمثال الكلاسيكي الذي يورده هؤلاء هو مثال الصيادين الذين اتفقوا فيما بينهم على صيد غزال سمين ، كان قمينا بأن يقدم وجبة عشاء سخية تكفيهم جميعاً ، فاحتوشوا الغزال وكمن كل منهم في مرصد أو منفذ ينتظر أن يفلت منه الغزال ، بينما تفرغ البعض لمناوشته من الداخل ، غير أن أحدهم خان العهد فترك ثغرة لما رأى أرنباً صغيراً ، رأى أنه يكفي لعشائه منفرداً ، فانشغل بصيد الأرنب تاركاً مرصده لينفذ منه الغزال ويهرب ، وضاعت بذلك الوجبة الجماعية لقاء الطمع الفردي لصائد الغزال ! هذا هو مثال النظام الدولي الذي يمكنه نظرياً أن يحقق الأمن والرخاء للجميع ، طالما التزم الجميع بمقتضياته ، ولكن الواقع شيء آخر تنعدم فيه إمكانية تأسيس مثل ذلك النظام ، وتكثر فيه احتمالات بروز أمثال صائد الأرنب ممن يفكرون على مستوى المصالح الشخصية ، ويهملون أمر المصالح الجماعية الدولية. ولذا اقتضى الأمر أن تفكر كل دولة حسب مصلحتها الخاصة ومصالحها الآنية ، على وجه الخصوص ، ضاربة عرض الحائط بمصالح الآخرين أو بمصالح النظام الدولي بعيدة المدى . هذه الأفكار الغليظة قلما يصرح بها المحللون الواقعيون، وذلك بسبب بشاعتها المميتة ، وإفراطها في التشاؤم ، ولكن إيمانهم بها هو إيمان قطعي لا يتخلله الشك ، وهي تستبطن كتاباتهم جميعاً ، وبقليل من التدريب يستطيع القارئ أن يستبصر أطيافها وملامحها في معظم ما يقرأ من تحليلات السياسة الدولية التي ينتجها الاصلاء أو المقلدون في هذا الحقل . الدولة هي المؤثر الأوحد: وانسجاماً مع هذه المقدمة الفلسفية فإن وحدة التحليل عند هذه المدرسة هي الدولة القومية لا غير ، فهم لا يعترفون بأي دور في السياسة العالمية لسوي الدول القومية ، فما يسمى بالمنظمات الدولية ، والقانون الدولي ، والشركات عابرة القارات ، والحركات الثورية، ما هي سوى واجهات وهمية لأثر الدول القومية التي تسعى إلى تحقيق مصالحها وزيادة قواها العسكرية والدبلوماسية التي تضغط بها على الدول الأخرى لتكيف سلوك تلك الدول بما يتفق لا مع الصالح الدولي ولا المقتضيات الأخلاقية ، وإنما بما يتفق مع مصالح الدولة الأقوى . ويعتقد المحللون الواقعيون أن ذلك هو الوضع الطبيعي المشتق من طبيعة الإنسان الأمارة بالطمع والبخل وحب الاستعلاء، ويحذرون أي دولة لا تنفق جهدها في اكتساب القوة ، لأنها إنما تخلي بذلك مواقعها للدولة الأقوى، وتصبح بالتالي سبباً مباشراً في اندلاع الحرب . فاختلال موازين القوة إنما هو الداعي الرئيس الذي يجرئ دولة ما ، لإعلان الحرب . هذا بينما يؤدي اعتدال ذلك الميزان إلى حالة ردع متبادل بين الخصوم ويسبب استقراراً مشوباً بالحذر في الوضع الدولي .مشكلات الحرب والسلام: واستنتاجاً من ذلك فإن أهم المشكلات الدولية عند هؤلاء المحللين الواقعيين، هي مشكلات الحرب والسلام . إن االسلام مطلوب دائماً ولكنه مطلب عزيز لأن حالة الحرب هي الوضع الطبيعي ! وبدلاً من شجب الحرب وتبيان أضرارها بالجنس البشري ، وبدلاً من صرف الجهد في الدعوة إلى السلام يجب التركيز على دراسة ظاهرة الحرب دراسة موضوعية، تهدف إلى الخروج بقوانين عامة عن قضايا القوة النسبية والتحالفات الدولية والاحتواء ، والأداء الدبلوماسي وأسباب اندلاع الحروب ومحاولة التنبؤ بلحظ اندلاع الحرب وبما يعقبها من تسويات وأوضاع . وإنما عدت الحرب أهم المشكلات لأنها ظلت قدر الإنسان التاريخي كما ظلت مصدراً لأهم التغيرات والتحولات الثورية في جوانب الوضع السياسي الدولي ، فكم من دولة زالت أو وهنت قواها بسبب الحرب ، وكم من دولة نهضت كنتاج للحرب ، وكم من حدود سياسية تم تعديلها بسبب الحرب ، وكم من حكومات قد سقطت بسبب الحرب ، وحتى ميزان القوى الدولي فيمكن تغييره بسبب الحرب التي قد تنتج عنها دولة عظمى واحدة سائدة ، أو عدة دول تتوزع فيما بينها القوة الدولية أو قوتان عظميان تتنازعان النفوذ . وفي غضون ذلك كله يتهمش ما يسمى بالقانون الدولي ، وتتجرد العلاقات الدولية من كل مضمون أخلاقي أو اعتبار قيمي ، لأن الحرب والسعي إلى اكتساب القوة لا يعرفان أياً من هذه الاعتبارات ، فالأخلاق عملة فاسدة في هذا المجال ، أو بتعبير كيسنجر- وهو أعظم مراجع التيار الواقعي في الوقت الراهن- فالأخلاق لا حساب لها هنا على الإطلاق!! ومن قديم قدم المؤرخ توسيديس وصفه الشامل للحرب الاثينية -الاسبارطية بحسابات باردة، ومن دون أن يذرف دمعة واحدة على مآسي الحرب التي استعرضها وعلى الضحايا الذين أحصاهم ، وكان تبريره هو نفس التبرير الطريف التليد ، والذي مؤداه أن الحرب وكل ما تنطوي عليه من مآس إنما هو شأن طبيعي لا يستغرب ، وأكثر من ذلك فعند مطالع عصر النهضة الأوروبية جاء الفلاسفة غلاظ القلوب شأن مكيافلي و هوبز و هيجل ليبجلوا مفاهيم القوة والغزو والحرب وليؤكدوها في أذهان الساسة . حتى أن هيجل كان يعتبر الحرب بمثابة الدافع الأساسي لتطهير وصقل الجنس البشري وإنتاج الإنسان الأعلى . هذه المفاهيم حول إشكالات الواقع الدولي ما زالت هي نفس المفاهيم التي توجه مفكري التيار التحليلي الواقعي سواء المتشددين منهم والمتشائمين أمثال هنري كيسنجر وزبيغنيو برزنسكي من القائلين بحتمية استمرار الصراع الدولي بين الدول الراضية عن الواقع الدولي الراهن ، والعاملة على تمديد أجله ما استطاعت ، وبين الدول الثائرة عليه والتي تنتهز الفرص لتقويضه من الأساس . أو من مفكري التيار الواقعي المعتدلين من أمثال جورج كينان وسايروس فانس من المؤمنين بجدوى سياسة الاحتواء والمناورات الدبلوماسية التقدم العلمي ليس كفيلاً بتحقيق السلم الدولــي وفي مواجهة طروحات التيار الواقعي نشأ الاتجاه الوسطي التصالحي الذي يسمي نفسه بالتيار العالمي (global) وهي تسمية تشير إلى صلب فلسفته القائمة بعدم حتمية الصراع على المستوى الدولي ، وبأن مناخ العلاقات الدولية هو أقرب إلى حالة الاعتماد المشترك ، منه إلى حال الفوضى والحرب . فهناك نوع من النظام الدولي آخذ في الاتساع والتكامل وهو في طريقه إلى أن يفرض نفسه كنوع من العرف والقانون الدولي المقبول طواعية من كل الدول. ويلاحظ مفكرو هذا من أمثال جوزيف ناي وروبرت كوهين تناقص تركيز الدول على قضايا الحرب والسلام ، واتجاهها إلى التركيز على قضايا التطور التكنولوجي والاقتصادي ، وهي قضايا تقود بطبيعتها إلى خلق وتعزيز مناخ من التفاهم والتعاون بين الدول وإلى تخفيض درجة الاستقطاب والاستعداء بينها . وبالطبع فإن المحللين العالميين لا يمضون في ذلك الشوط إلى درجة الزعم بأن ملامح الفوضى والحرب : هي في طريقها إلى الاختفاء نهائياً . كل ما هناك أنهم لا يعطونها الأهمية العظمى في التحليل .ومعظم كتابات هؤلاء العالميين تتمحور حول تحليل دور المؤسسات الدولية ، وهم يتجاوزون شأن الدول القومية ، معتقدين أن تلك المؤسسات تستطيع أن تقود العالم نحو آفاق الاعتدال . ولذلك فهم يدعون إلى مزيد من مأسسة السياسة الدولية ، وإلى تقوية تلك المؤسسات وإعطائها استقلالية خاصة حتى تستطيع أن تشكل بتشابكها النامي نسيج النظام الدولي الحقيقي . وقد كان هؤلاء العالميون هم أشد المحللين شجباً لوثيقة البنتاغون الشهيرة التي دعت إلى تجاوز الأمم المتحدة ، ونظم الأمن الجماعي ، وسائر المنظمات الدولية ، تحقيقاً للهيمنة الأمريكية المباشرة على العالم . وفي محيط اهتمامات المحللين العالميين تتناثر قضايا كثيرة يرونها أشد إلحاحاً من قضايا الحرب مثل قضايا التوازن البيئي وحقوق الإنسان والمجاعات ، وتناقص موارد الطاقة ..إلخ ، فهذه وأمثالها تشكل قضاياهم المركزية ، وذلك على عكس تحليلات التيار الواقعي التي تناقش هذه القضايا على هامش قضايا الحرب وتعدها من نوافل القول . محللو رفض التبعيـــة: ويمثل تيار رفض التبعية اتجاها آخر في مواجهة التيار الواقعي وهو أكثر راديكالية من التيار العالمي. وعلى عكس ما يظن الكثيرون من أن تيار رفض التبعية قد قام على أساس الاستهداء بالتراث الماركسي ، فإن بعض منطلقاته ترتطم رأساً بمقولات التراث الماركسي .فكل من ماركس وانجلز أبديا تفاؤلهما بظاهرة اكتساح الرأسمالية للعلاقات الدولية باعتباره علامة تعجل بنضج الرأسمالية ومن ثم تبشر بانهيارها الوشيك كما اعتقد أن الأقطار المتخلفة يمكن أن تجني فوائد بنيوية ضخمة من جراء نزوح الرأسمالية إليها . وعلى نقيض ذلك التفكير يذهب منظرو مدرسة رفض التبعية وعلى رأسهم بول باران وقونديز فرانك وسمير أمين وولرستين إلى أن تعامل الدول الغنية مع الفقيرة لا يمكن أن يكون إلا من قبيل مباريات حاصل الصفر بمعنى أن غنم (أ) هو غرم (ب) وأن المركز لا يتطور إلا بتخلف الأطراف .ويعتقد محللو هذا التيار أن النظام الدولي قد تم تشييده سلفاً وأن مباريات السياسة الدولية إنما تدار على أساس ذلك النظام أي على أساس الاستغلال وأنماط الاستنزاف الذي تقوم به قيادات ذلك النظام . وعند تصميم النظام الدولي روعي أن يؤدي أولى متطلباته المتلخصة في ضمان نجاح الوظائف الاقتصادية التي يقوم بها المركز . هذا بينما لم تعط أي ضمانات تذكر للاطراف التي انحصر دورها في توفير المواد الخام التي تتدهور أسعارها آناً بعد آن واستيراد الموارد المصنعة التي تتصاعد أسعارها باستمرار . وهكذا فبينما يرى المحللون الواقعيون أن طبيعة النظام الدولي عادلة ومتسقة مع الواقع العلمي فإن المحللين الراديكاليين يرونها طبيعة استغلال وتأكيداً للتبعية الاقتصادية . ومن هنا تنطلق كافة تحليلاتهم لمشاكل النظام الدولي .ووحدة التحليل كما يتضح من الشرح السابق ليست هي الدولة القومية، ولا المنظمات العالمية ، وإنما النظام الرأسمالي العالمي ككل ، فهو الكتلة التي تفرخ السياسة الدولية وتؤثر في معظم قراراتها ، ويعتقد منظرو هذا التيار إنه لا أمل في أي جهد قومي منفرد لاختراق هذا النظام الدولي ، ولا يرون سبيلاً لتقدم العالم الثالث واستقلال قراراته السياسية إلا بالاتحاد في وجه النظام الدولي . ولذلك دعا الأستاذ الجزائري العظيم مالك بن نبي، رحمه الله، والذي يمكن اعتباره ببعض التجاوز من دعاة هذا التيار إلى تكوين تكتلات ومحاور تنظم بعض تجمعات العالم الثالث ، مثل محور طنجة - جاكرتا الذي رأى أنه يمكن أن يحرر العالم الإسلامي من قبضة السياسة الدولية ومقتضياتها . تحليلات التيار الأصولـــي: وبينما يرى رجال هذا التيار الراديكالي أن أساس المعضل السياسي الدولي هو ذو طابع اقتصادي ، فإن تياراً جديداً يتشكل في دوائر تحليل السياسة الدولية يرى أن ذلك المعضل نشأ لأسباب تتصل بعالم الروح والأديان. وأفكار التيار الأصولي تجد سندها المتين في كتابات بعض الفلاسفة السياسيين الأمريكيين المبرزين من تيار لي ستراوس ، وإيريك فوغلين الذين، وإن لم يكن اعتبارهم أصوليين بالمعنى الحرفي للكلمة، إلا أنهم كانت لهم الجرأة الكافية لتثبيت المعاني الفلسفية لعلم السياسة في وجه هجمات العلوم السلوكية. وإضافة إلى ذلك كانت لهم قوة عارضة وركيزة استيعابية عالية، مكنتهم من إعادة الاعتبار الأدبي للمفاهيم الأخلاقية والإنجيلية، والزج بها إلى مضمار المفاهيم والممارسات السياسية، حتى لم يعد مستغرباً على الإطلاق اندماج الدين مع السياسة في سياق الدعوة إلى تدين الحضارة الغربية . نهاية الزمن أضحت وشيكة: وإسهام الأصوليين الرئيس في قيام السياسة الدولية هو استصحابهم لمجموعة مفاهيم قدرية لا تحتمل النقاش أهمها مفهوم نهاية الزمن الذي كان قد نحته من قديم الزمان الثيولوجي الكبير أوغسطين ثم سطا عليه هيجل وقام بإفراغه من مضامينه الدينية وشحنه بمضامين علمانية ذات طابع قومي. وواصل المهمة نفسها ليبراليون آخرون آخرهم فوكاياما في حديثه نهاية التاريخ عقب سقوط الاتحاد السوفيتي ، ثم عاد وراجع أطروحته قبل وقت قليل وأخرج نفسه من زمرة المحافظين الجدد الذين ورثوا تلك الدعوة ووضعوها على محكات التنفيذ . وحسب تقدير الأصوليين فإن التاريخ يسرع الخطى نحو نهاياته بطريقة قدرية لا تحكمه فيها عوامل سياسية ولا اقتصادية وإنما تجره عوامل قدرية نحو الفصل الخاتم . فصل الصراع الدامي والمعارك المهلكة التي ستتمخض عن جيل الخلاص الذي يمسح أوضار الشرك والعلمانية ويجلب عهد السلام الأبدي .وهكذا فإن بيئة النظام الدولي ستظل بيئة الصراع الدائم والشر المستفحل . ولاثمة أمل للسلام قبل انتهاء المعركة العظمى التي يسمونها أحياناً بـ الهولوكوست النووي وأحياناً باسمها التاريخي هرمجدون وهي المعركة التي ورد عنها خبر واحد فقط في الكتب المقدسة ، يقولون بأنها تقع في آخر الزمان في أرض إسرائيل ويسيل الدم فيها لمسافة 200 ميل من القدس ، وتتحطم على أثرها كل مدن الأرض بالسلاح النووي ! وهذه الأقاصيص التي تبدو من قبيل البشارات اللاهوتية ، يروج لها الآن ساسة كبار في الغرب ، وقد قام عدد من الرؤساء الأمريكيين منذ عهد كارتر لهؤلاء المحللين السياسيين ليوجهوا مجلس الأمن القومي الأمريكي والبنتاغون . وقد دعي أقطاب ذلك التيار مراراً لتقديم تحليلاتهم لكبار صناع قرار السياسة الخارجية الأمريكية . المجتمع الديني لا القومي ولا الرأسمالي: ووحدة التحليل السياسي عند هؤلاء هي المجتمع الديني العابر للقوميات ، والدولة القومية لا تشكل وحدة تحليل إلا إذا كانت تمثل مجتمعاً دينياً بعينه كإسرائيل ، ولا يشير الأصوليون إلى النظام الرأسمالي إلا بقدر تمثيله للمجتمع الديني النصراني .واللافت للنظر أن مفهومين من مفاهيم التيار الأصولي التقطهما الدكتور صمويل هنتنجتون في حديثه صراع الحضارات وهما مفهوما نهاية الزمن وحسبان الحضارة وحدة التحليل المثلى . والمعروف عن هنتنجتون أنه سليل أسرة عريقة من طائفة البيوريتان الأصولية وأحد أجداده كان من ضمن الآباء المؤسسين للدولة الأمريكية ، وفي كل مفصل من تاريخ أمريكا كان ينهض فرد من أفراد أسرة هنتنجتون بتلك النكهة الدينية التطهرية المفتعلة، فهل يا ترى أراد هنتنجتون وهو بعد التقاعد أن يسترجع ذلك النفس البيوريتاني القديم ؟ نعم. وقد دل على ذلك بكتابه الأخير (من نحب؟) الذي فاضت منه الأفكار الدينية حتى غضت على الفكر العلماني الذي كان يصدر عنه! وعموماً فإن ظهور النكهة الدينية طفح بشكل واضح على كتاب التيار الواقعي من أمثال بيريزنسكي و رتشارد نيكسون ولكن لا يمكن اعتبار هذين ، ولا هنتنجتون من ضمن التيار الأصولي فالتيار الأصولي يرفض في حسم واضح مسلمات التيار الواقعي، ويرفض سياسته القائمة على الاحتواء، ويطالب بالاقتحام، لاسيما في هذا الزمن الأحادي، الذي يعدونه آخر فرصة لنشر الديانة النصرانية على ربوع العالم أجمع ، واتخاذها أداة لخلاص الناس من شرور الحرب والإشكالات الدوليه

Re: اتجاهات التحليل في السياسه الدوليه

مرسل: السبت ديسمبر 04, 2010 7:23 pm
بواسطة نوره سريحان الزهراني
السياسة الشرعية تعريف وتأصيل الفقه


حاجاتنا إلى السياسة الشرعية
السياسة الشرعية باب من أبواب العلم والفقه في الدين، وفي قيادة الأمة وتحقيق مصالحها الدينية الدنيوية، جليل القدر عظيم النفع، أفرده جماعة من العلماء بالتصنيف في القديم والحديث، وانتشرت كثير من مباحثه أو مسائلة في بطون كتب التفسير والفقه والتاريخ وشروح الحديث، وهذا الباب خطره عظيم ينتج عن الغلط فيه وعدم الفهم له شر مستطير، والخطأ في التفريط فيه كالخطأ في الإفراط؛ إذ كلاهما يقود إلى نتائج مرذولة غير مقبولة، وقد وضح ذلك شيخ الإسلام ابن القيم فقال: 'وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها .. وأفرطت فيه طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه'
وإدراكًا منَّا لأهمية هذا الباب وموقعه من الدين وحاجة الناس إليه، فقد رأينا أن نجعل له زاوية دورية في المجلة؛ سائلين الله تعالى أن يتحقق المقصود منها، وأن تقوم بالدور المراد منها على الوجه الذي يحب ربنا ويرضى، الله من وراء القصد.

ـ السياسة في اللغة:
لفظ 'السياسة' في لغة العرب محمل بكثير من الدلالات والإرشادات والمضامين، فهي إصلاح واستصلاح، بوسائل متعددة من الإرشاد والتوجيه والتأديب والتهذيب والأمر والنهي، تنطلق من خلال قدرة تعتمد على الولاية أو الرئاسة. وما جاء في معاجم اللغة يدل على ما تقدم، فقد جاء في تاج العروس في مادة سوس: 'سست الرعية سياسة' أمرتها ونهيتها، والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه'، وفي لسان العرب في المادة نفسها: 'السوس: الرياسة، وإذا رأسوه قيل سوسوه، وأساسوه، وسوس أمر بني فلان: أي كلف سياستهم، وسُوِّس الرجل على ما لم يسم فاعله: إذ ملك أمرهم، وساس الأمر سياسة: قام به، والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه.
والسياسة: فعل السائس يقال: هو يسوس الدواب إذا قام عليها وراضها، والوالي يسوس رعتيه'.
والإصلاح في 'السياسة' ليس مجرد هدف أو غاية تسعى السياسة في حركتها لتحقيقه، بل هو السياسة نفسها وحقيقتها، إذا فقدته فقد فقدت نفسها.

ـ السياسة في النص الشرعي:
لم يرد لفظ 'السياسة' ولا شيء من مادته في كتاب الله سبحانه وتعالى، وإن جاء الحديث فيه عن الصلاح والإصلاح والأمر والنهي والحكم وغير ذلك من المعاني التي اشتمل عليها لفظ 'السياسة'. وإما السنة فقد جاء قوله صلى الله عليه وسلم: 'كادت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي ...'، وقوله صلى الله عليه وسلم: 'تسوسهم الأنبياء'؛ أي: تتولى أمورهم كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية'.

ويتبين بما تقدم أن السياسة في الشريعة استخدمت بمعناها اللغوي. وهي تعني:
القيام على شأن الرعية من قِبَل ولاتهم بما يصلحهم من الأمر والنهي والإرشاد والتهذيب، وما يحتاج إليه ذلك من وضع تنظيمات أو ترتيبات إدارية تؤدي إلى تحقيق مصالح الرعية بجلب المنافع أو الأمور الملائمة، ودفع المضار والشرور أو الأمور المنافية.
وهذا التعريف يبرز الجانب العملي للسياسة، فالسياسة هنا إجراءات وأعمال وتصرفات للإصلاح، وعلى ذلك فإن سياسة الرعية تتطلب القدرة على القيادة الحكيمة التي تتمكن من تحقيق الصلاح عن طريق إتقان التدبير وحسن التأتي لما يراد فعله أو تركه، وهذا بدوره يحتاج إلى معرفة تامة بما تتطلبه القيادة والرئاسة من خبرة وحنكة، وقدرة على استعمال واستغلال الإمكانات المتاحة على الوجه الأمثل الذي يتحقق المراد المطلوب.
وقد جاء من كلام أهل العلم عن السياسة ما يدل لذلك، فمن ذلك: قال ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ في بيان السبب الذي من أجله جعل عمر ـ رضي الله عنه ـ أمر الخلافة في الستة الذين اختارهم: 'لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم، والمعرفة بالسياسة؛ ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم'.
وقال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: 'والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها'، ومما ورد في ذلك أيضًا ما جاء في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم: 'يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين؛ باب يدخل الناس، وباب يخرجون'، والذي ترجم له البخاري في صحيحه بقوله: باب من ترك بعض الاختيار مخالفة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه'، قال ابن حجر: 'ويستفاد منه أن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم، ولو كان مفضولاً، ما لم يكن محرمًا'.
والسياسة فيما تقدم مجالها رحب فسيح، فهي ليست مقصورة على شيء أو محجوزة عن شيء؛ إذ هي 'القيام على الشيء ـ بما يحمله لفظ الشيء من العموم والشمول، ـ بما يصلحه'، فيعمل بنا كل صاحب ولاية في تدبير أمر ولايته.
ومن أمثلة السياسة في عصر الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ ما قام به أبو بكر رضي الله عنه من استخلافه لعمر رضي الله عنه، وما قام به عمر من جعل أمر الخلافة شورى في ستة من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رعاية لمصلحة الأمة وتجنيبها مضرة الاختلاف، ومن ذلك جمع عثمان رضي الله عنه المسلمين على مصحف واحد، وإحراق ما سواه من المصاحف؛ لأن ذلك يحقق المصلحة من الائتلاف والاتفاق، ويدفع مضرة التفرق والاختلاف، وكذلك ما أمر به عثمان من إمساك ضوال الإبل لما ضعفت الأمانة، وصار تركها مضيعًا لها على أصحابها، ومن ذلك نفي عمر بن الخطاب لنصر بن حجاج لما افتتنت بعض النساء بجماله ـ من غير ذنب أتاه ـ لما كان في ذلك تحقيق مصلحة العفة والطهارة، ودفع مضرة تعلق القلوب به، ومن أمثلة ما تلاهم من عصور تسعير السلع التي يضطر إليها الناس إذا تمالأ التجار على رفع سعرها بغير مسوغ يدعو لذلك، فكان في التسعير دفع مضرة الظلم عن الرعية من غير ظلم للتجار، والأمثلة في هذا كثيرة، والجامع بينها تحقيق المصلحة ودفع المضرة من غير مخالفة للشريعة.

ـ السياسة عند الفقهاء:
هناك اتجاهان عند الفقهاء في نظرتهم للسياسة:
الاتجاه الأول:
ويمثله قول أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي: 'السياسة ما كان من الأفعال؛ بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي'، وقد قيده بقوله: 'ما لم يخالف ما نطق به الوحي' وعلى هذا النحو يحمل كلام ابن نجيم الحنفي، حيث يقول في باب حد الزنا: 'وظاهر كلامهم هاهنا أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي'، وكلام ابن نجيم يحتمل أن يصيب في الاتجاه الثاني كما يأتي، وكلام ابن عقيل أدق منه وأسد؛ لأنه قيد تحقيق المصالح ودرء المفاسد بعدم مخالفة الشريعة، وقد يكون هذا أيضًا مراد ابن نجيم، لكن عبارته قصرت عن ذلك، وهذا الاتجاه موافق لما تقدم ذكره من أمثلة السياسة.
والاتجاه الثاني:
وهو اتجاه يضيق مجال السياسة ويحصرها في باب الجنايات أو العقوبات المغلظة، وقد تجعل أحيانًا مرادفة التعزير، وهذا الاتجاه غالب على الفقه الحنفي في نظرته للسياسة، قال علاء الدين الطرابلسي الحنفي: 'السياسة شرع مغلظ'.
وقد 'نقل العلامة ابن عابدين ـ الحنفي ـ عن كتب المذهب: أن السياسة تجوز في كل جناية والرأي فيها إلى الإمام، كقتل مبتدع يتوهم منه انتشار بدعته وإن لم يحكم بكفره .. ولذا عرفها بعضهم بأنها تغليط جناية لها حكم شرعي حسمًا لمادة الفساد، وقوله: لها حكم شرعي معناه أنها داخلة تحت وقاعد الشرع وإن لم ينص عليها بخصوصه .. ولذا قال في البحر: ظاهر كلامهم أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي'.
وقال بعض علماء الحنفية: 'والظاهر أن السياسة والتعزيز مترادفان، ولذا عطفوا أحدهما على الآخر لبيان التفسير كما وقع في الهداية والزيلعي وغيرهما'.
وتضييق هذا الاتجاه لمعنى السياسة وحصرها فيما حصرها فيه ليس بسديد؛ 'إذ السياسة قد تكون بغير التغليظ، وبغير العقوبة، وقد تكون بتخفيف العقوبة أو تأجيلها أو إسقاطها إذا وجدت موجبات التخفيف أو الإسقاط، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين مع علمه بأعيانهم لما يترتب على ذلك من المفسدة، وقال: 'لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه'، وترك تأديب أو تعنيف الأعرابي الذي بال في المسجد تقديرًا لظروف بداوته وجهله، ونهى عن قطع الأيدي أو إقامة الحد في الغزو تأخيرًا للحد لمصلحة راجحة؛ إما لحاجة المسلمين إليه، أو خوف اللحاق بالمشركين'.
وأيضًا فإن عهد أبي بكر لعمر بالخلافة، وكذلك جعلها عمر شورى في ستة من الصحابة، وعمل عمر الديوان، وجمع عثمان للمصحف الإمام وتحريق ما عداه ليس من العقوبة في شيء.

ـ السياسة الشرعية:
تنقسم السياسة بحسب مصدرها على قسمين كبيرين: سياسة دينية، وسياسة عقلية، وقد بين ذلك ابن خًُلدون عندما تحدث عن وجوب وجود قوانين سياسية مفروضة في الدولة يسلم بها الكافة، فقال: 'فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عقلية، وإن كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية'.
وانطلاقًا من تقسيم ابن خُلدون للسياسة؛ فإنه بين أنواع النظم السياسية القائمة عليه، فيقول: 'الملك السياسي: هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها'.
وابن خلدون رحمه الله في حديثه عن القوانين السياسية يبرز الجانب الكلي أو المعياري لها بوصفها تشريعات ضابطة أو حاكمة، وحديثه في هذا المجال يقترب من الحديث عن 'الأحكام السلطانية'.
ومن هنا ومما تقدم يتبين أن للسياسة جانبين: أحدهما معياري كلي 'تأصيلي'، والآخر عملي تطبيقي، والسياسة الشرعية ما كانت مراعية للشرع في الجانبي، تلتزم به وتتقيد، ولا تخرج عنه.
والذي يظهر لي أن عبارة 'السياسة الشرعية' لم تكن مقيدة أولاً بقيد 'الشرعية'؛ انطلاقًا من أن السياسة هي الإصلاح، ولا إصلاح حقيقيًا إلا بالشرع، فكان إطلاق لفظ 'السياسة' بدون قيد كافيًا في إفادة المطلوب من عبارة 'السياسة الشرعية'، ثم مع ضعف العلم وعدم الفقه الجيد لسياسة الرسول صلى الله عليه وسلم عند الولاة وعند من تقلد لهم القضاء؛ صارت 'السياسة' تخالف الشرع، فاحتيج إلى تقييد السياسة بالشرعية لإخراج تلك السياسة الظالمة من حد القبول، وتسمى السياسة الشرعية أحيانًا بالسياسة العادلة. وقد تحدث شيخ الإسلام عن هذا التغيير الحاصل في السياسة وبَيَّن سببه، فقال: 'لما صارت الخلافة في ولد العباس، واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيًا في السياسة العادلة؛ احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة ... والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة، فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق، وعطلوا الحدود، حتى تسفك الدماء، وتؤخذ الأموال وتستباح المحرمات، والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة'.
ويقول ابن القيم رحمه الله: 'ومن له ذوق في الشريعة، وإطلاع على كمالاتها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها، وحسن فهمه فيها؛ لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشرعية، علمها من علمها وجهلها من جهلها'، إلى أن يقول: 'فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحهم، وإنما هي عدل الله ورسوله'.

ـ الفقه في السياسة الشرعية:
تواجه السياسة الشرعية نوعين من المسائل:
أحدهما: جاءت فيه نصوص شرعية.
والثاني: لم تأت فيه نصوص بخصوصه.
والفقه في النوع الأول يكون عن طريق:
1ـ فهم النصوص الشرعية فهمًا جيدًا، ومعرفة ما دلت عليه، والتنبه للشروط الواجب توافرها في تطبيق الحكم والموانع التي تمنع من تنفيذه، ثم يلي ذلك تطبيق الحكم وتنفيذه.
2ـ التمييز بين النصوص التي جاءت تشريعًا عامًا يشمل الزمان كله، والمكان كله ـ وهذا هو الأصل في مجيء النصوص ـ، وبين النصوص التي جاءت الأحكام فيها معللة بعلة، أو مقيدة بصفة، أو التي راعت عرفًا موجودًا زمن التشريع، أو نحو ذلك.
والأول يسميه ابن القيم: 'الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة'، بينما يسمي الثاني: 'السياسات الجزئية التابعة للمصالح فتتقيد بها زمانًا ومكانًا'.
ومن مسائل هذه السياسات 'النوع الثاني' منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم عن قوم كان يعطيهم إياه، وذلك لزوال تلك الصفة عنهم، فإنما كانوا يعطون لاتصافهم بهذه الصفة لا لأعيانهم، فلما زالت الصفة منع السهم عنهم، وليس في هذا تغيير للحكم وإنما هو إعمال له، وهو من باب السياسة الشرعية، وكذلك أمر عثمان رضي الله عنه بإمساك ضوال الإبل مع أن المنع من إمساكها مستفاد من سؤال أحد الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن إمساك الإبل فقال: 'ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها ـ ترد الماء وتأكل من الشجر ـ حتى يلقاها ربها'، ومع النظرة الثاقبة في الحديث يتبين دقة فهم عثمان رضي الله عنه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ظهر من كلامه أنه يفتي عن حالة آمنة تأكل فيها الإبل من الشجر وتشرب من الماء، من غير أن يلحقها ضرر حتى يجدها صاحبها، فأما إذا تغير حال الناس ووجد منهم من يأخذ الضالة، صار هذا الحال غير متحقق، فإنها إذا تركت في هذه الحالة لن يجدها صاحبها، ومن هنا أمر بإمساكها وكذلك نقول: لو أن حالة الناس من حيث الأمانة لم تتغير، وإنما كان الناس يعيشون بجوار أرض مسبعة، وكان في تركها هلاك لها حتى يأكلها السبع؛ لكان الأمر بإمساكها هو المتعين حفظًا لأموال المسلمين، وهذا من السياسة الشرعية، والأمثلة في ذلك كثيرة.
والنوع الثاني من المسائل: وهو ما لم تأت فيه نصوص بخصوصه، فإن الفقه فيه يكون عن طريق الاجتهاد الذي تكون غايته تحقيق المصالح ودرء المفاسد، والاجتهاد هنا ليس لمجرد تحصيل ما يتوهم أنه مصلحة أو درء ما يتوهم أنه مفسدة، بل هو اجتهاد منضبط بضوابط الاجتهاد الصحيح، وذلك من خلال:
1ـ أن يجري ذلك الاجتهاد في تحقيق المصالح ودرء المفاسد في ضوء مقاصد الشريعة تحقيقًا لها وإبقاء عليها، والاجتهاد الذي يعود على المقاصد الشرعية أو بعضها بالإبطال هو اجتهاد فاسد مردود، وإن ظهر أنه يحقق مصلحة، أو يدرأ مفسدة.
2ـ عدم مخالفته لدليل من أدلة الشرع التفصيلية، إذ لا مصلحة حقيقية ـ وإن ظهرت ببادي الرأي ـ في مخالفة الأدلة الشرعية.
والنوعان الأول والثاني من المسائل قد تحتاج كل منهما ـ وخاصة في هذا العصر ـ لضمان حسن تطبيقه وتنفيذه إلى إنشاء هيئات أو مؤسسات تكون مسؤولة عن التطبيق والتنفيذ، وإنشاء هذه الهيئات أو المؤسسات في ظل موافقة مقاصد الشريعة وعدم مخالفتها لنصوصها التفصيلية؛ هو من السياسة الشرعية.
والاجتهاد في مسائل السياسة الشرعية قد يؤدي إلى 'استنباط أحكام اجتهادية جديدة تبعًا لتغيير الأزمان مراعاة لمصالح الناس والعباد، أو نفي أحكام اجتهادية سابقة إذا ما أصبحت غير محصلة لمصلحة أو مؤدية لضرر أو فساد، أو غير مسايرة لتطور الأزمان والأحوال والأعراف، أو كانت الأحكام الاجتهادية الجديدة أكثر تحقيقًا للمصالح ودفعًا للمفاسد.

ـ السياسة الشرعية والنظم السياسية:
مما تقدم يتبين أن موضوعات السياسة الشرعية كثيرة، وأن أحد موضوعاتها هو التشريعات السياسية التي تسير بمقتضاها الدولة أو بالتعبير القديم 'الأحكام السلطانية'، أو بالتعبير المعاصر 'النظام السياسي'، فإن البحث في النظام السياسي الإسلامي وتطبيقه في الواقع والاجتهاد في تكوين مؤسساته، ووضع النظم واللوائح المنظمة لذلك؛ هو مما يدخل في السياسة الشرعية، ولمكانة هذا الموضوع من السياسة الشرعية؛ فإن بعض أهل العلم المعاصرين قد عرف السياسة الشرعية به فقال: 'فالسياسة الشرعية هي تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار؛ مما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية، والمراد بالشؤون العامة للدولة كل ما تتطلبه حياتها من نظم، سواء أكانت 'دستورية' أم مالية أم 'تشريعية' أم قضائية أم تنفيذية، وسواء أكانت من شؤونها الداخلية أم علاقاتها الخارجية، فتدبير هذه الشؤون، ووضع قواعدها بما يتفق وأصول الشرع هو السياسة الشرعية'، وعلم السياسة الشرعية على ذلك هو 'علم يبحث فيه عما تدبر به شؤون الدولة الإسلامية من القوانين والنظم التي تتفق وأصول الإسلام، وإن لم يقم على كل تدبير دليل خاص'. ولا شك أن هذا من السياسة الشرعية لكنه جزء من أجزائها كما تقدم، ويدخل في ذلك الرد على الشبه التي تثار حول السياسة الشرعية، وعليه فإن التعرض للنظم المناقضة للنظم الإسلامية وبيان فسادها وبطلانها يدخل في علم السياسة الشرعية.

ـ متطلبات النظر في السياسة الشرعية:
نظرًا لطبيعة السياسة الشرعية على الوجه المتقدم بيانه، فإنه يلزم الناظر فيها والمتفقه أمور منها:
ـ المعرفة التامة بأن الشريعة تضمن غاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها كاملة في هذا الباب صورة ومعنى؛ بحيث لا تحتاج إلى غيرها؛ فإن الله تعالى قد أكمل الدين وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، ومنها الاطلاع الواسع على نصوص الشريعة مع الفهم لها ولما دلت عليه من السياسة الإلهية أو النبوية، ومنها المعرفة الواسعة الدقيقة بمقاصد الشريعة، وأن مبناها على تحصيل المصالح الأخروية والدنيوية ودرء المفاسد، ومنها التفرقة بين الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة، والسياسات الجزئية التابعة للمصالح التي تتقيد بها زمانًا ومكانًا، ومنها المعرفة بالواقع والخبرة فيه، وفهم دقائقه، والقدرة على الربط بين الواقع وبين الأدلة الشرعية، ومنها دراسة السياسة الشرعية للخلفاء الراشدين والفقه فيها،ومنها معرفة أن الاجتهاد في باب السياسة الشرعية ليس بمجرد ما يتصور أنه مصلحة وإنما يلزم التقيد في ذلك بالمصالح المعتبرة شرعًا، ومنها رحمة الناظرين في هذا الباب بعضهم بعضًا عند الاختلاف في مواطن الاجتهاد