صفحة 1 من 1

أشياء من حياة الجوهري ..

مرسل: الثلاثاء ديسمبر 21, 2010 6:51 pm
بواسطة نهى العشيوان

صورة


أنا العراق ...
لساني قلبه , ودمي فراته
وكياني منه أشطار .



وهذه أشطار موجزة عن الجواهري , ليست سرداً لسيرته , ولا جمعاً لدواوينه , ولا تشريحاً لفكره ؛ وإنما أشياء منثورة متفرقة وقفت على بعضٍ منها لدى أبي فرات , وأنا أنظر فيما تركه خلفه وما أخذه معه , في تلك الحياة التي تضج بالغرائب والأعاجيب ؛ من مهده و حتى لحده .

كان أول معرفتي بالجواهري هو عبر ذلك الصوت العميق الآسر , الذي يخرجه من قلبه وربما من روحه , دون أن أميز كنه اللغة ومن يكون ناطقها .. ودون استفهام المعاني التي تطير بها كلماته . صوتٌ يُشجيك أنينه ويأسرك عصفه و تهدجه وتقاطيعه . نغمه أصيل , كأن دم وريده من شريانك .. فأخذني معه ومضيت به وكان ذلك أول اللقاء , و تتابع الأمر بمعرفته بعدها .

الجواهري من عائلة شيعية خالصة , لا من جهة أبيه ولا من جهة أمه , وآباءه و أجداده من سدنة النجف وأصفيائها , أكان في الموطن أو العقيدة. وهم أركانٌ مقدمين في مجتمعهم ذاك , وكان من المفترض والحال هذه أن يخرج الجواهري عالم دين معمم . حيث نُشّئ أصلاً أن يكون كذلك . لكنه لم يكد يضع العمامة ويلبس العباءة وينخرط في ذلك السلك المتوارث , حتى فتر وتذمر فانقلب على نجفيته , وضرب بأمل أبيه فيه عرض الحائط , ولا أدري ماذا كان وقع فعلته هذه عليه وعلى من هم حوله .


صورة

من اليمين حسن العلوي و علي الوردي فترة السبيعينات الميلادية .


كثيراً ما يردد المفكر العراقي حسن العلوي في مقالاته أن الجواهري هو ابن النجف العاق والنجفي العاق و العاق النجفي , معللاً بأنك لا تجد في قصائده طوال عمره مدحاً لها ولا تبجيلاًً أو ذكراً , لا من قريب ولا من بعيد , إلا ما كان في مقام الصمت والإعراض أو الازدراء و الكراهية :
وبلدة ذل تميت الشعور.. فما يطيقها الحر كالأخرس
كهذا البيت مثلاً وهي من قصيدة عنوانها : بين النجف و أمريكا .

و الجواهري ممن حمل الجنسية العثمانية و يدين لها بالولاء قبل أن يجتثها الإنجليز, وحينما طوق الإنجليز العراق و أرادوا "تهنيده" و جعله مستعمرة مطابقة لمستعمرتهم الهندية , ثار كما ثار جيله الأول آنذاك ودخل مع من دخل في المعارك الحزبية و السياسية وحدثت أحداث كثيرة وكبيرة و حكومات ذهبت وجاءت غيرت وجه العراق , ليس من شأننا بحثها هنا ..

دع الموت فاستحلت لديه سرائره .. أخو مورد ضاقت عليه مصادره
وحيداً يحامي عن مبادئ جمــة .. أما في البرايا منصف فيؤازره
لفقدك أبكى باطن الأرض ظهرها .. وصارت سواءاً دوره ومقابره


كانت لقصائد الجواهري في مسرح السياسة العراقي دوي وضجيج , يعرفه من عاش تلك المراحل و التحولات , في مدح الرموز وهجو الوزراء و الملوك . قتل أخوه أمام عينيه على جسر بغداد , و زج به هو في السجن مرات ومرات , وطرد من سلك التعليم حيث كان معلماً ومنعت صحيفته من النشر ونُغّص عليه في رزقه

توفيت زوجته الأولى أم فرات وهو خارج العراق فرثاها بقصيدة تقطر الدمَ والأحزان ..

في ذمة الله ما ألقى وما أجدُ .. أهذه صخرةٌ أم هذه كبدُ
قد يقتل الحزن من أحبابه بعد عنه فكيف بمن أحبابه فقدوا

[/align]

Re: أشياء من حياة الجوهري ..

مرسل: الثلاثاء ديسمبر 21, 2010 6:58 pm
بواسطة نهى العشيوان

صورة

الملك فيصل في أول زيارة للعراق فترة الأربعينات الميلادية .



عندما زار الملك فيصل بن عبد العزيز العراق , دبجَ قصيدةَ مدحٍ فيه , وعرّض بالحال الأسيفة التي وصل لها العراق و ساسة العراق ..

فتى عبد العزيز وفيكَ ما في .. أبيك الشْهمِ من غُررِ المعاني
ولم أر مثلَهُ إلا قليلاً .. مهِيباً في السماع وفي العيانِ
كأني منه بين يَديْ هِزبَرٍ .. أخي لِبَدٍ على بُعدِ المكانِ
أقول الشعر محتفظاً وئيداً .. كأني خائفٌ من أن يراني
وقى اللهُ الحِجزَ وما يليهِ .. بفضل أبيك من غُصَصِ الهوانِ
ومتَّعَ ذلك الشعبَ الموقَّى .. بسبع سنينَ شيقةٍ سِمانِ
على حينَ اصطلى جيرانُ نجد .. بجمر لظىً وسمّ الأفعوانِ
وقد رقَّت لها حتى عِداها .. لكابوس بها مُلقى الجرانِ


وقد نشرت صحيفة أم القرى السعودية نص القصيدة كاملاً .


شعر الجواهري فاخر أنيق يضج بالجمال والآلام و الثورات , ويشوبه شيء من المجون والنزق والتناقض , ومرد هذا إلى البيئات المختلفة التي عاشها الجواهري مقيماً ومرتحلاً , وهو يعد آخر المتقنين للقصائد الكلاسيكية الفاخرة بعد أمير الشعراء شوقي , ولم يوجد حتى الآن من يخلف هؤلاء الرواد فيما أتى من أجيال بعدهم .

وكان له خصوم كثيرون من شعراء ومفكرين وساسة , من بينهم حسن العلوي الذي كتب مقالة يهاجمه فيها : ( الجواهري وسخ وشعره كيمر! ) (*) فغضب الجواهري جداً ورد على المقالة بمقالة اسماها ( أنت يا خروف الإرشاد ) موجهة لوزير الإرشاد العراقي آنذاك لارتخائه عن تأديب المتطاولين , وبعد ما انجلت أيام الغضبة , ندم العلوي ولامه العديد من الأوساط الموجودة حينها من بينهم أخاه الذي هجاه كما يخبر العلوي بذلك , وراح يصنف التناصيف التمجيدية في الجواهري كرد اعتبار واعتذار له .

وكان الجواهري يرى في "قصيدة التتويج" التي نظمها في الملك فيصل الثاني , حينما نُصّب ملكاً رسميّاً على العراق بالنقطة السوداء في تاريخه . إذ يقول : ( إنها زلة العمر في مديح فيصل الثاني ، أقولها زلة ، وأكثر من زلّة ، ولا أتراجع أو أحاول أن أخفف من وطأة الموقف ، وأن استعمل التبرير الذي اعتاده رهط كبير من الكتاب ممن يخطئون ويزلون في المجتمع العربي … ذلك لأنني ، بمحض أرادتي هرولت مسرعاً إلى تلك الهاوية ، ولأنني كنت أول العارفين إن هذا الممدوح ربيب مدرسة الاستعمار الإنكليزي بُعَيْد الرضاعة والطفولة بقليل ، وأنه الوريث الوحيد لأبيه .. غباوة ورعونة … وقد أضاف إليهما قماره وسكره ، كما كان أمره قبيل عيد تتويجه بقليل وهو يزور كركوك حيث حمل مخموراً من أحضان أرباب شركة النفط الإنكليزية ) .

وبالطبع كشفت هذه القصيدة على الجواهري مقاتل دامية انتظرها خصومه الذين يرونه ارتد عن مبادئه وباعها للفساق و المأجورين , فكتب إبراهيم الخال قصيدة هجاه فيها ومنها :
صَهْ يا رقيع فمن شفيعُك في غدِ .. فلقد خسئتَ وبانَ معدنك الرديّ

وما كان الجواهري ليسكت ويعرض عن مثل هذا .. فانفجر غضباً يقول :
مشت إليّ بعوضات تلدَغني .. وهل يحسُ دبيب النّخْلِ يعسوبُ
تسعون كلباً عوى خلفي وفوقهم .. دمي ، فعندهُمُ من فيضهِ كوبُ
... ثم توالى الهجاء .

صورة

- تخطى عمر الجواهري المائة عام (**) , عاصر خلالها دولاً وأجيالاً لم يعاصرها شعراء خرجوا قبله ومعه وبعده ؛ وتعتبر داووينه ومواقفه وثائق مهمة لتاريخ العراق الحديث .

- مات في دمشق بعدما جاب بلدان كثيرة شرقية وغربية , وهو على جلالة شعره ورفيع كعبه على الكثير من الشعراء الذين تدفقوا عن يمينه وشماله , لم يحظى بالمكانة التي يستحق . ويحاول بعض النقاد تعليل ذلك بأن الجواهري أتى وبحر الشعر الحديث قد اكتسح الميادين الأدبية .. بالسياب ونازك الملائكة و نزار قباني وغيرهم ... رحم الله الجميع .