أشياء من حياة الجوهري ..
أنا العراق ...
لساني قلبه , ودمي فراته
وكياني منه أشطار .
وهذه أشطار موجزة عن الجواهري , ليست سرداً لسيرته , ولا جمعاً لدواوينه , ولا تشريحاً لفكره ؛ وإنما أشياء منثورة متفرقة وقفت على بعضٍ منها لدى أبي فرات , وأنا أنظر فيما تركه خلفه وما أخذه معه , في تلك الحياة التي تضج بالغرائب والأعاجيب ؛ من مهده و حتى لحده .
كان أول معرفتي بالجواهري هو عبر ذلك الصوت العميق الآسر , الذي يخرجه من قلبه وربما من روحه , دون أن أميز كنه اللغة ومن يكون ناطقها .. ودون استفهام المعاني التي تطير بها كلماته . صوتٌ يُشجيك أنينه ويأسرك عصفه و تهدجه وتقاطيعه . نغمه أصيل , كأن دم وريده من شريانك .. فأخذني معه ومضيت به وكان ذلك أول اللقاء , و تتابع الأمر بمعرفته بعدها .
الجواهري من عائلة شيعية خالصة , لا من جهة أبيه ولا من جهة أمه , وآباءه و أجداده من سدنة النجف وأصفيائها , أكان في الموطن أو العقيدة. وهم أركانٌ مقدمين في مجتمعهم ذاك , وكان من المفترض والحال هذه أن يخرج الجواهري عالم دين معمم . حيث نُشّئ أصلاً أن يكون كذلك . لكنه لم يكد يضع العمامة ويلبس العباءة وينخرط في ذلك السلك المتوارث , حتى فتر وتذمر فانقلب على نجفيته , وضرب بأمل أبيه فيه عرض الحائط , ولا أدري ماذا كان وقع فعلته هذه عليه وعلى من هم حوله .
من اليمين حسن العلوي و علي الوردي فترة السبيعينات الميلادية .
كثيراً ما يردد المفكر العراقي حسن العلوي في مقالاته أن الجواهري هو ابن النجف العاق والنجفي العاق و العاق النجفي , معللاً بأنك لا تجد في قصائده طوال عمره مدحاً لها ولا تبجيلاًً أو ذكراً , لا من قريب ولا من بعيد , إلا ما كان في مقام الصمت والإعراض أو الازدراء و الكراهية :
وبلدة ذل تميت الشعور.. فما يطيقها الحر كالأخرس
كهذا البيت مثلاً وهي من قصيدة عنوانها : بين النجف و أمريكا .
و الجواهري ممن حمل الجنسية العثمانية و يدين لها بالولاء قبل أن يجتثها الإنجليز, وحينما طوق الإنجليز العراق و أرادوا "تهنيده" و جعله مستعمرة مطابقة لمستعمرتهم الهندية , ثار كما ثار جيله الأول آنذاك ودخل مع من دخل في المعارك الحزبية و السياسية وحدثت أحداث كثيرة وكبيرة و حكومات ذهبت وجاءت غيرت وجه العراق , ليس من شأننا بحثها هنا ..
دع الموت فاستحلت لديه سرائره .. أخو مورد ضاقت عليه مصادره
وحيداً يحامي عن مبادئ جمــة .. أما في البرايا منصف فيؤازره
لفقدك أبكى باطن الأرض ظهرها .. وصارت سواءاً دوره ومقابره
كانت لقصائد الجواهري في مسرح السياسة العراقي دوي وضجيج , يعرفه من عاش تلك المراحل و التحولات , في مدح الرموز وهجو الوزراء و الملوك . قتل أخوه أمام عينيه على جسر بغداد , و زج به هو في السجن مرات ومرات , وطرد من سلك التعليم حيث كان معلماً ومنعت صحيفته من النشر ونُغّص عليه في رزقه
توفيت زوجته الأولى أم فرات وهو خارج العراق فرثاها بقصيدة تقطر الدمَ والأحزان ..
في ذمة الله ما ألقى وما أجدُ .. أهذه صخرةٌ أم هذه كبدُ
قد يقتل الحزن من أحبابه بعد عنه فكيف بمن أحبابه فقدوا