الدعاء ..
مرسل: الاثنين ديسمبر 27, 2010 7:23 pm
82. الدعاء ..
لا أعني هنا الكلام عن فضل الدعاء .. وآدابه وشروط إجابته ..
فهذا ليس له علاقة مباشرة بما نناقشه هنا وهو مهارات التعامل مع الناس ..
وإنما أعني : كيف تجعل الدعاء مهارة في كسب الناس ؟
ومن ذلك أن تدعو الله أيضاً أن يهديك إلى أحسن الأخلاق .. كما كان الحبيب e يدعو قائلاً :
(اللهم لك الحمد .. لا إله إلا أنت .. سبحانك وبحمدك .. ظلمت نفسي .. واعترفت بذنبي ..
فاغفر لي ذنوبي .. لا يغفر الذنوب إلا أنت ..
اهدني لأحسن الأخلاق .. لا يهدي لأحسنها إلا أنت ..
واصرف عني سيئها .. إنه لا يصرف سيئها إلا أنت ..
لبيك وسعديك والخير بيديك .. ) .. ( )
نعود إلى أصل كلامنا .. كيف تجعل الدعاء مهارة في كسب قلوب الناس ..؟
الناس عموماً يحبون الدعاء لهم .. حتى عند السلام عليهم ولقائهم يفرحون إن دعوت لهم ..
فمع قولك : كيف الحال وما الأخبار ؟ أضف إليها : الله يحرسك .. الله يجعلك مباركاً .. الله يثبت قلبك ..
ولا تكن عبارات دعائك مستهلكة أو اعتيادية مثل : الله يوفقك .. الله يحفظك .. نعم هي دعاء حسن لكن السامع اعتاد عليه حتى لم يعد يرن في أذنه عند سماعه ..
وإن قابلت أحداً معه أولاده .. فادع لهم وهو يسمع .. الله يقر بهم عينك .. الله يجمع شملكم .. الله يرزقك برهم .. ونحو ذلك ..
أنا أحكي هذا عن تجربة .. لقد جربته كثيراً كثيراً .. فرأيته يسلب قلوب الناس سلباً ..
دعيت في ليلة من ليالي شهر رمضان قبل سنتين إلى لقاء مباشر في إحدى القنوات الفضائية ..
كان اللقاء حول أحوال العبادة في رمضان .. وكان انعقاد اللقاء في مكة المكرمة في غرفة بأحد الفنادق مطلة على الحرم .. كنا نتحدث عن رمضان .. والمشاهدون يرون من خلال النافذة التي خلفنا المعتمرين والطائفين خلفنا على الهواء مباشرة ..
كان المنظر مهيباً .. والكلام مؤثراً .. حتى إن مقدم البرنامج رق قلبه وبكى أثناء الحلقة ..
كان الجو إيمانياً .. ما أفسده علينا إلا أحد المصورين !! كان يمسك كاميرا التصوير بيد .. واليد الثانية فيها سيجارة .. وكأنه يريد أن لا تضيع عليه لحظة من ليل رمضان إلا وقد أشبع رئتيه سيجاراً !!
أزعجني هذا كثيراً .. وخنقني وصاحبي الدخان .. لكن لم يكن بد من الصبر .. فاللقاء مباشر .. وما حيلة المضطر إلا ركوبها !!
مضت ساعة كاملة .. وانتهى اللقاء بسلام ..
أقبل إليّ المصور - والسيجارة في يده - شاكراً مثنياً .. فشددت على يده وقلت .. وأنت أيضاً أشكرك على مشاركتك في تصوير البرامج الدينية .. ولي إليك كلمة لعلك تقبلها .. قال : تفضل .. تفضل ..
قلت : الدخان والسجا .. فقاطعني : لا تنصحني .. والله ما فيه فائدة يا شيخ ..
قلت : طيب اسمع مني .. أنت تعلم أن السجاير حرام وأن الله يقول .. فقاطعني مرة أخرى : يا شيخ لا تضع وقتك .. أنا مضى لي أكثر من أربعين سنة وأنا أدخن .. الدخان يجري في عروقي .. ما فيه فااائدة .. كان غيرك أشطر !!
قلت : يعني ما فيه فائدة ؟!!
فأحرج مني وقال : ادع لي .. ادع لي ..
فأمسكت يده وقلت : تعال معي ..
قلت تعال ننظر إلى الكعبة ..
فوقفنا عند النافذة المطلة على الحرم .. فإذا كل شبر فيه مليء بالناس .. ما بين راكع وساجد .. ومعتمر وباك .. كان المنظر فعلاً مؤثراً ..
قلت : هل ترى هؤلاء ؟
قال : نعم ..
قلت : جاؤوا من كل مكان .. بيض وسود .. عرب وأعاجم .. أغنياء وفقراء ..كلهم يدعون الله أن يتقبل منهم ويغفر لهم ..
قال : صحيح .. صحيح ..
قلت أفلا تتمنى أن يعطيك الله ما يعطيهم ؟ قال : بلى ..
قلت : ارفع يديك .. وسأدعو لك .ز أمن على دعائي ..
رفعت يدي وقلت : اللهم اغفر له .. قال : آمين .. قلت : اللهم ارفع درجته واجمعه مع أحبابه في الجنة .. اللهم ..
ولا زلت أدعو حتى رق قلبه وبكى .. وأخذ يردد : آمين .. آمين ..
فلما أردت أن أختم الدعاء .. قلت : اللهم إن ترك التدخين فاستجب هذا الدعاء وإن لم يتركه فاحرمه منه ..
فانفجر الرجل باكياً .. وغطى وجهه بيديه وخرج من الغرفة ..
مضت عدة شهور .. فدعيت إلى مقر تلك القناة للقاء مباشر ..
فلما دخلت المبنى فإذا برجل بدين يقبل عليَّ ثم .. يسلم علي بحرارة .. ويقبل رأسي .. وينحني على يدي ليقبلها .. وهو متأثر جداً ..
فقلت له : شكر الله لطفك .. وأدبك .. وأقدر لك محبتك .. لكن اسمح لي فأنا لم أعرفك ..
فقال : هل تذكر المصور الذي نصحته قبل سنتين ليترك التدخين ؟!
قلت : نعم ..
قال : أنا هو .. والله يا شيخ إني لم سيجارة في فمي منذ تلك اللحظة ..
ما أجمل الذكريات إذا كانت سارة ..
في موسم الحج قبل ثلاث سنوات .. ذهبت لإلقاء كلمة في إحدى حملات الحج الكبرى في صلاة العصر ..
بعد الكلمة ازدحم الناس يسألون ويسلمون .. حاولت التخلص السريع لارتباطي بمحاضرة بعدهم فوراً في حملة أخرى ..
لاحظت من بينهم شاب يقدم رجلاً ويؤخر أخرى .. مستحٍ أن يزاحم الناس ..
التفت إليه .. ومددت يدي نحوه فصافحني .. ثم سألته في وسط الزحام .. : عندك سؤال ؟
قال : نعم ..
فجررته إليَّ والناس مزدحمون .. حتى اقترب ..
قلت : ما سؤالك ؟
فقال وهو مستعجل : ذهبت لرمي الجمرات .. معي جدتي وأختي .. وكان زحاماً شديداً .. و ..
انتهى من سؤاله .. فأجبته عليه ..
شممت منه خلال ذلك رائحة دخان .. فتبسمت وسألته : تدخن ؟
قال : نعم ..
قلت : أسأل الله أن يغفر لك .. ويتقبل حجك .. إن تركت التدخين من هذه اللحظة ..
سكت الشاب .. كان واضحاً من وجهه أنه تأثر بالكلام ..
مضت ثمانية أشهر ..
فذهبت لإلقاء محاضرة في إحدى المدن ..
أقبلت إلى المسجد .. فإذا شاب وقور ينتظرني عند بابه .. تفاجأت به لما رآني .. يقبل عليّ متحمساً ويسلم بحرارة ..
لم أعرفه .. لكني بادلته السلام والترحيب ..
قال : هل عرفتني ..
قلت : أشكر لك لطفك .. ومحبتك .. لكني لم أعرفك ..
قال : هل تذكر الشاب المدخن الذي قابلته في الحج .. ونصحته بترك التدخين ؟
قلت : نعم .. نعم ..
قال : أنا هو .. أبشرك ولله الحمد أني ما وضعت السيجارة في فمي منذ تلك اللحظة .. تركت التدخين .. فصلحت كثير من أمور حياتي ..
هززت يده مشجعاً .. ومضيت .. وقد أيقنت أن الدعاء للناس في وجوههم .. وهم يسمعون .. ربما يكون أكثر تأثيراً من النصح المباشر ..
ومثله لو رأيت شاباً باراً بأبيه .. فقلت له : جزاك الله .. الله يوفقك .. الله يجعل أولادك بارين بك ..
بلا شك أن هذا الدعاء سيكون دافعاً له أكثر ..
كان النبي الكريم .. عليه أفضل الصلاة والتسليم .. مبدعاً في استعمال الدعاء لدعوة الناس وكسبهم والتأثير فيهم لتقريبهم للدين ..
كان الطفيل بن عمرو سيداً مطاعاً في قبيلته دوس ..
قدم مكة يوماً في حاجة .. فلما دخلها .. رآه أشراف قريش .. فأقبلوا عليه .. وقالوا : من أنت ؟ قال : أنا الطفيل بن عمرو .. سيد دوس ..
فقالوا : إن ههنا رجل في مكة يزعم أنه نبي .. فاحذر أن تجلس معه أو تسمع كلامه .. فإنه ساحر .. إن استمعت إليه ذهب بعقلك ..
قال الطفيل : فو الله ما زالوا بي يخوفونني منه .. حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئاً .. ولا أكلمه .. بل حشوت في أذنيَّ كرسفا - وهو القطن – خوفاً من أن يبلغني شيء من قوله .. وأنا مارّ به ..
قال الطفيل : فغدوت إلى المسجد .. فإذا رسول الله r قائم يصلي عند الكعبة ..
فقمت منه قريباً .. فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله ..
فسمعت كلاماً حسناً .. فقلت في نفسي : واثكل أمي ! والله إني لرجل لبيب .. ما يخفى عليَّ الحسنُ من القبيح .. فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول .. فإن كان الذي به حسناً قبلته .. وإن كان قبيحاً تركته .. فمكثت حتى قضى صلاته .. فلما قام منصرفاً إلى بيته تبعته ..
حتى إذا دخل بيته دخلت عليه .. فقلت : يا محمد .. إن قومك قالوا لي كذا وكذا ..
ووالله ما برحوا يخوفونني منك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك .. وقد سمعت منك قولاً حسناً .. فاعرض عليَّ أمرك ..
فابتهج النبي عليه الصلاة والسلام .. وفرح ..وعرض الإسلام على الطفيل .. وتلا عليه القرآن .. فتفكر الطفيل في حاله .. فإذا كل يوم يعيشه يزيده من الله بعداً ..
وإذا هو يعبد حجراً .. لا يسمع دعاءه إذا دعاه .. ولا يجيب نداءه إذا ناداه .. وهذا الحق قد تبين له ..
ثم بدأ الطفيل يتفكر في عاقبة إسلامه ..
كيف يغير دينه ودين آبائه !!.. ماذا سيقول الناس عنه ؟!
حياته التي عاشها .. أمواله التي جمعها .. أهله .. ولده .. جيرانه .. خلانه .. كل هذا سيضطرب ..
سكت الطفيل .. يفكر .. يوازن بين دنياه وآخرته ..
وفجأة إذا به يضرب بدنياه عرض الحائط ..
نعم سوف يستقيم على الدين .. وليرض من يرضى .. وليسخط من يسخط .. وماذا يكون أهل الأرض .. إذا رضي أهل السماء ..
ماله ورزقه بيد من في السماء .. صحته وسقمه بيد من في السماء .. منصبه وجاهه بيد من في السماء .. بل حياته وموته بيد من في السماء ..
فإذا رضي أهل السماء .. فلا عليه ما فاته من الدنيا ..
إذا أحبه الله .. فلبيغضه بعدها من شاء .. وليتنكر له من شاء .. وليستهزئ به من شاء ..
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين
وكل الذي فوق التراب تراب
نعم .. أسلم الطفيل في مكانه .. وشهد شهادة الحق ..
ثم ارتفعت همته .. فقال : يا نبي الله .. إني امرؤ مطاع في قومي .. وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام ..
ثم خرج الطفيل من مكة .. مسرعاً إلى قومه .. حاملاً همَّ هذا الدين ..
يصعد به جبل .. وينزل به واد ..
حتى وصل ديار قومه .. فلما دخلها .. أقبل إليه أبوه .. وكان شيخاً كبيراً ..
فقال الطفيل : إليك عني يا أبت .. فلست منك ولست مني ..
قال : ولم يا بني ؟ قال : أسلمت وتابعت دين محمد r ..
قال : أي بني ديني دينك ..
قال : فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك .. ثم ائتني حتى أعلمك مما علمت ..
فذهب أبوه واغتسل وطهر ثيابه .. ثم جاء فعرض عليه الإسلام فأسلم ..
ثم مشى الطفيل إلى بيته .. فأتته زوجته مرحبة ..
فقال : إليك عني .. فلست منك ولست مني ..
قالت : ولم ؟ بأبي أنت وأمي ..
قال : فرَّق بيني وبينك الإسلام .. وتابعت دين محمد r ..
قالت : فديني دينك ..
قال : فقلت فاذهبي فتطهري .. ثم ارجعي إليَّ .. فواّته ظهرها ذاهبة ..
ثم خافت من صنمهم أن يعاقبها في أولادها إن تركت عبادته ..
فرجعت إليه وقالت : بأبي أنت وأمي .. أما تخشى على الصبية من ذي الشرى .. ؟
وذو الشرى صنم عندهم يعبدونه .. وكانوا يرون أن من ترك عبادته أصابه أو أصاب ولده بأذى ..
فقال الطفيل : اذهبي .. أنا ضامن لك أن لا يضرهم ذو الشرى ..
فذهبت فاغتسلت .. ثم عرض عليها الإسلام فأسلمت ..
ثم جعل الطفيل يطوف في قومه .. يدعوهم إلى الإسلام بيتاً بيتاً .. ويقبل عليهم في نواديهم .. ويقف عليهم في طرقاتهم ..
لكنهم أَبَوْا إلا عبادة الأصنام .. فغضب الطفيل .. وذهب إلى مكة ..
فأقبل على رسول الله r فقال : يا رسول الله .. إن دوساً قد عصت وأبت .. يا رسول الله .. فادع الله عليهم ..
فتغير وجه النبي عليه الصلاة والسلام .. ورفع يديه إلى السماء ..
فقال الطفيل في نفسه .. هلكت دوْس ..
فإذا بالرحيم الشفيق r .. يقول : " اللهم اهد دوساً .. اللهم اهد دوساً ..
ثم التفت إلى الطفيل وقال : ارجع إلى قومك .. فادعُهم .. وارفق بهم ..
فرجع إليهم .. فلم يزل بهم .. حتى أسلموا ..
نعم .. ما أحسن قرع أبواب السماء ..
ليس الطفيل وقومه فقط .. وإنما غيرهم كثير ..
كان المسلمون في بداية الدعوة النبوية قلة .. لم يتعدوا ثمانية وثلاثين رجلا ..
فألـحَّ أبو بكر يوماً على رسول الله e في الظهور أمام الناس بالدعوة ولاجهر بالإسلام ..
فقال : يا أبا بكر .. إنا قليل ..
كان أبو بكر متحمساً .. فلم يزل يلحّ على رسول الله e حتى اجتمعوا فخرجوا .. يتقدمهم رسول الله ..
توجهوا إلى المسجد ..
تفرقوا في نواحي المسجد .. كل رجل في عشيرته ..
وقام أبو بكر في الناس خطيباً .. يدعو إلى الإسلام .. ويذم آلهتهم ..
وثار المشركون على المسلمين .. فضربوهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً ..
كان المشركون كثير .. فتفرق المسلمون ..
أقبل جمع منهم إلى أبي بكر .. وضربوه ضرباً شديداً ..
فوقع على الأرض في شدة الرمضاء ..
فدنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة .. فجعل يضربه بنعلين مخصوفين .. ويفركهما على وجهه ..
ثم قام على بطن أبي بكر .. حتى سالت الدماء من وجه أبي بكر .. وتمزق لحم وجهه .. حتى ما يعرف فمه من أنفه ..
وجاء بنو تيم قبيلة أبي بكر .. يتعادون ..
وأبعدوا الناس عن أبي بكر .. وحملوه في ثوب حتى أدخلوه منزله ..
وهم لا يشكون أنه ميت ..
ثم رجع قومه بنو تيم .. فدخلوا المسجد .. وجعلوا يصرخون في المشركين .. يقولون :
والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة ..
ثم رجعوا الى أبي بكر .. وهو مغمى عليه .. لايدرون .. حي أو ميت !!
ظل أبو قحافة والد أبي بكر .. مع قومه .. واقفين عند أبي بكر .. يكلمونه .. فلا يجيبهم ..
وأمه تبكي عند رأسه ..
فلما كان آخر النهار .. فتح عينيه .. فكان أول كلمة قالها :
ما فعل رسول الله e .. ؟!
رضي الله عن أبي بكر .. كان يهيم برسول الله حباً .. يخاف عليه أكثر مما يخاف على نفسه ..
كان كل من حوله .. أبوه أمه .. قومه .. مشركين ..
فغضبوا .. وجعلوا يسبون رسول الله ..
ثم قاموا .. وقالوا لأم أبي بكر : أطعميه شيئاً أو اسقيه ..
فجعلت أمه تلح عليه ..
وهو يردد قائلاً : ما فعل رسول الله e ..؟
فقالت : والله مالي علم بصاحبك ..
فقال : اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب .. فسليها عنه ..
وكانت أم جميل مسلمة تكتم إسلامها ..
خرجت أمه حتى جاءت أم جميل .. فقالت : إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله ..
فقالت : ما أعرف أبا بكر .. ولا محمد بن عبد الله .. لكن أتحبين أن أمضي معك إلى ابنك ؟
قالت : نعم ..
فمضت معها .. حتى دخلت على أبي بكر .. فوجدته صريعاً دنفاً .. ممزق الوجه .. مرهق الجسد ..
فلما رأته أم جميل صاحت .. وقالت :
والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر .. وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم ..
قال : فما فعل رسول الله e ..
وكانت أم أبي بكر بجانبها .. فخافت أم جميل أن يفضح أمر إسلامها .. فيؤذونها ..
فقالت : يا أبا بكر .. هذه أمك تسمع ..
قال : فلا شيء عليك فيها ..
قالت : أبشر .. فرسول الله .. سالم صالح ..
قال : فأين هو ؟
قالت : في دار أبي الأرقم ..
فقالت أمه : قد علمت خبر صاحبك .. فقم فأكل طعاماً .. أو اشرب ..
قال : فإن لله عليَّ أن لا أذوق طعاماً أو شراباً .. حتى أرى رسول الله بعيني ..
فانتظرتا .. حتى إذا هدأ الناس .. خرجتا به يتكيء عليهما . فذهبتا به إلى بيت أبي الأرقم ..
حتى أدخلتاه على رسول الله e ..
فلما دخل فإذا وجه جريح .. ودماء تسيل .. وثياب ممزقة ..
فرآه رسول الله .. فأكب عليه النبي يقبله ..
وأكب عليه المسلمون يقبلونه ..
ورقَّ له رسول الله e رقة شديدة .. حتى ظهر التأثر على وجهه الشريف ..
فأراد أبو بكر أن يخفف عليه .. فقال : بأبي وأمي يا رسول الله .. ليس من بأس .. إلا ما نال الفاسق من وجهي ..
ثم قال أبو بكر .. البطل الذي يحمل هم الدعوة .. ويحسن استثمار المواقف ..
كان جريحاً .. جائعاً عطشاناً .. ومع ذلك .. قال : يا رسول الله .. هذه أمي برة بوالديها .. وأنت مبارك .. فادعها الى الله عز وجل .. وادع الله لها .. عسى الله أن يستنقذها بك من النار ..
فدعا لها رسول الله e .. ثم دعاها الى الله عز وجل .. فأسلمت فوراً في مكانها ..
كان الدعاء أصلاً من الأصول التي يتعاملون بها ..
أسلم أبو هريرة ..
وبقيت أمه كافرة ..
كان يدعوها إلى الإسلام فتأبى ..
فدعاها يوماً .. وألـحَّ فأسمعته في رسول الله ما يكره ..
فضاق صدر أبي هريرة بذلك .. وذهب إلى رسول الله وهو يبكي .. فقال :
يا رسول الله .. إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي .. وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره .. فادع الله يا رسول الله أن يهدي أم أبي هريرة إلى الإسلام ..
فدعا لها رسول الله ..
فرجع أبو هريرة إلى أمه ..
فلما كان على الباب .. فإذا هو مغلق .. فحركه ليدخل ..
فإذا بأمه تفتح له الباب .. وتقول : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأن محمداً رسول الله ..
فرجع أبو هريرة إلى رسول الله وهو يبكي من الفرح ..
وجعل يقول : أبشر يا رسول الله .. قد استجاب الله دعوتك .. وهدى الله أم أبي هريرة إلى الإسلام ..
ثم قال أبو هريرة : يا رسول الله .. أدع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين .. ويحببهم إلينا ..
فقال : اللهم حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين .. وحببهم إليهما ..
قال أبو هريرة : فما على الأرض مؤمن ولا مؤمنة .. إلا وهو يحبني وأحبه .. ( )
لا أعني هنا الكلام عن فضل الدعاء .. وآدابه وشروط إجابته ..
فهذا ليس له علاقة مباشرة بما نناقشه هنا وهو مهارات التعامل مع الناس ..
وإنما أعني : كيف تجعل الدعاء مهارة في كسب الناس ؟
ومن ذلك أن تدعو الله أيضاً أن يهديك إلى أحسن الأخلاق .. كما كان الحبيب e يدعو قائلاً :
(اللهم لك الحمد .. لا إله إلا أنت .. سبحانك وبحمدك .. ظلمت نفسي .. واعترفت بذنبي ..
فاغفر لي ذنوبي .. لا يغفر الذنوب إلا أنت ..
اهدني لأحسن الأخلاق .. لا يهدي لأحسنها إلا أنت ..
واصرف عني سيئها .. إنه لا يصرف سيئها إلا أنت ..
لبيك وسعديك والخير بيديك .. ) .. ( )
نعود إلى أصل كلامنا .. كيف تجعل الدعاء مهارة في كسب قلوب الناس ..؟
الناس عموماً يحبون الدعاء لهم .. حتى عند السلام عليهم ولقائهم يفرحون إن دعوت لهم ..
فمع قولك : كيف الحال وما الأخبار ؟ أضف إليها : الله يحرسك .. الله يجعلك مباركاً .. الله يثبت قلبك ..
ولا تكن عبارات دعائك مستهلكة أو اعتيادية مثل : الله يوفقك .. الله يحفظك .. نعم هي دعاء حسن لكن السامع اعتاد عليه حتى لم يعد يرن في أذنه عند سماعه ..
وإن قابلت أحداً معه أولاده .. فادع لهم وهو يسمع .. الله يقر بهم عينك .. الله يجمع شملكم .. الله يرزقك برهم .. ونحو ذلك ..
أنا أحكي هذا عن تجربة .. لقد جربته كثيراً كثيراً .. فرأيته يسلب قلوب الناس سلباً ..
دعيت في ليلة من ليالي شهر رمضان قبل سنتين إلى لقاء مباشر في إحدى القنوات الفضائية ..
كان اللقاء حول أحوال العبادة في رمضان .. وكان انعقاد اللقاء في مكة المكرمة في غرفة بأحد الفنادق مطلة على الحرم .. كنا نتحدث عن رمضان .. والمشاهدون يرون من خلال النافذة التي خلفنا المعتمرين والطائفين خلفنا على الهواء مباشرة ..
كان المنظر مهيباً .. والكلام مؤثراً .. حتى إن مقدم البرنامج رق قلبه وبكى أثناء الحلقة ..
كان الجو إيمانياً .. ما أفسده علينا إلا أحد المصورين !! كان يمسك كاميرا التصوير بيد .. واليد الثانية فيها سيجارة .. وكأنه يريد أن لا تضيع عليه لحظة من ليل رمضان إلا وقد أشبع رئتيه سيجاراً !!
أزعجني هذا كثيراً .. وخنقني وصاحبي الدخان .. لكن لم يكن بد من الصبر .. فاللقاء مباشر .. وما حيلة المضطر إلا ركوبها !!
مضت ساعة كاملة .. وانتهى اللقاء بسلام ..
أقبل إليّ المصور - والسيجارة في يده - شاكراً مثنياً .. فشددت على يده وقلت .. وأنت أيضاً أشكرك على مشاركتك في تصوير البرامج الدينية .. ولي إليك كلمة لعلك تقبلها .. قال : تفضل .. تفضل ..
قلت : الدخان والسجا .. فقاطعني : لا تنصحني .. والله ما فيه فائدة يا شيخ ..
قلت : طيب اسمع مني .. أنت تعلم أن السجاير حرام وأن الله يقول .. فقاطعني مرة أخرى : يا شيخ لا تضع وقتك .. أنا مضى لي أكثر من أربعين سنة وأنا أدخن .. الدخان يجري في عروقي .. ما فيه فااائدة .. كان غيرك أشطر !!
قلت : يعني ما فيه فائدة ؟!!
فأحرج مني وقال : ادع لي .. ادع لي ..
فأمسكت يده وقلت : تعال معي ..
قلت تعال ننظر إلى الكعبة ..
فوقفنا عند النافذة المطلة على الحرم .. فإذا كل شبر فيه مليء بالناس .. ما بين راكع وساجد .. ومعتمر وباك .. كان المنظر فعلاً مؤثراً ..
قلت : هل ترى هؤلاء ؟
قال : نعم ..
قلت : جاؤوا من كل مكان .. بيض وسود .. عرب وأعاجم .. أغنياء وفقراء ..كلهم يدعون الله أن يتقبل منهم ويغفر لهم ..
قال : صحيح .. صحيح ..
قلت أفلا تتمنى أن يعطيك الله ما يعطيهم ؟ قال : بلى ..
قلت : ارفع يديك .. وسأدعو لك .ز أمن على دعائي ..
رفعت يدي وقلت : اللهم اغفر له .. قال : آمين .. قلت : اللهم ارفع درجته واجمعه مع أحبابه في الجنة .. اللهم ..
ولا زلت أدعو حتى رق قلبه وبكى .. وأخذ يردد : آمين .. آمين ..
فلما أردت أن أختم الدعاء .. قلت : اللهم إن ترك التدخين فاستجب هذا الدعاء وإن لم يتركه فاحرمه منه ..
فانفجر الرجل باكياً .. وغطى وجهه بيديه وخرج من الغرفة ..
مضت عدة شهور .. فدعيت إلى مقر تلك القناة للقاء مباشر ..
فلما دخلت المبنى فإذا برجل بدين يقبل عليَّ ثم .. يسلم علي بحرارة .. ويقبل رأسي .. وينحني على يدي ليقبلها .. وهو متأثر جداً ..
فقلت له : شكر الله لطفك .. وأدبك .. وأقدر لك محبتك .. لكن اسمح لي فأنا لم أعرفك ..
فقال : هل تذكر المصور الذي نصحته قبل سنتين ليترك التدخين ؟!
قلت : نعم ..
قال : أنا هو .. والله يا شيخ إني لم سيجارة في فمي منذ تلك اللحظة ..
ما أجمل الذكريات إذا كانت سارة ..
في موسم الحج قبل ثلاث سنوات .. ذهبت لإلقاء كلمة في إحدى حملات الحج الكبرى في صلاة العصر ..
بعد الكلمة ازدحم الناس يسألون ويسلمون .. حاولت التخلص السريع لارتباطي بمحاضرة بعدهم فوراً في حملة أخرى ..
لاحظت من بينهم شاب يقدم رجلاً ويؤخر أخرى .. مستحٍ أن يزاحم الناس ..
التفت إليه .. ومددت يدي نحوه فصافحني .. ثم سألته في وسط الزحام .. : عندك سؤال ؟
قال : نعم ..
فجررته إليَّ والناس مزدحمون .. حتى اقترب ..
قلت : ما سؤالك ؟
فقال وهو مستعجل : ذهبت لرمي الجمرات .. معي جدتي وأختي .. وكان زحاماً شديداً .. و ..
انتهى من سؤاله .. فأجبته عليه ..
شممت منه خلال ذلك رائحة دخان .. فتبسمت وسألته : تدخن ؟
قال : نعم ..
قلت : أسأل الله أن يغفر لك .. ويتقبل حجك .. إن تركت التدخين من هذه اللحظة ..
سكت الشاب .. كان واضحاً من وجهه أنه تأثر بالكلام ..
مضت ثمانية أشهر ..
فذهبت لإلقاء محاضرة في إحدى المدن ..
أقبلت إلى المسجد .. فإذا شاب وقور ينتظرني عند بابه .. تفاجأت به لما رآني .. يقبل عليّ متحمساً ويسلم بحرارة ..
لم أعرفه .. لكني بادلته السلام والترحيب ..
قال : هل عرفتني ..
قلت : أشكر لك لطفك .. ومحبتك .. لكني لم أعرفك ..
قال : هل تذكر الشاب المدخن الذي قابلته في الحج .. ونصحته بترك التدخين ؟
قلت : نعم .. نعم ..
قال : أنا هو .. أبشرك ولله الحمد أني ما وضعت السيجارة في فمي منذ تلك اللحظة .. تركت التدخين .. فصلحت كثير من أمور حياتي ..
هززت يده مشجعاً .. ومضيت .. وقد أيقنت أن الدعاء للناس في وجوههم .. وهم يسمعون .. ربما يكون أكثر تأثيراً من النصح المباشر ..
ومثله لو رأيت شاباً باراً بأبيه .. فقلت له : جزاك الله .. الله يوفقك .. الله يجعل أولادك بارين بك ..
بلا شك أن هذا الدعاء سيكون دافعاً له أكثر ..
كان النبي الكريم .. عليه أفضل الصلاة والتسليم .. مبدعاً في استعمال الدعاء لدعوة الناس وكسبهم والتأثير فيهم لتقريبهم للدين ..
كان الطفيل بن عمرو سيداً مطاعاً في قبيلته دوس ..
قدم مكة يوماً في حاجة .. فلما دخلها .. رآه أشراف قريش .. فأقبلوا عليه .. وقالوا : من أنت ؟ قال : أنا الطفيل بن عمرو .. سيد دوس ..
فقالوا : إن ههنا رجل في مكة يزعم أنه نبي .. فاحذر أن تجلس معه أو تسمع كلامه .. فإنه ساحر .. إن استمعت إليه ذهب بعقلك ..
قال الطفيل : فو الله ما زالوا بي يخوفونني منه .. حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئاً .. ولا أكلمه .. بل حشوت في أذنيَّ كرسفا - وهو القطن – خوفاً من أن يبلغني شيء من قوله .. وأنا مارّ به ..
قال الطفيل : فغدوت إلى المسجد .. فإذا رسول الله r قائم يصلي عند الكعبة ..
فقمت منه قريباً .. فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله ..
فسمعت كلاماً حسناً .. فقلت في نفسي : واثكل أمي ! والله إني لرجل لبيب .. ما يخفى عليَّ الحسنُ من القبيح .. فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول .. فإن كان الذي به حسناً قبلته .. وإن كان قبيحاً تركته .. فمكثت حتى قضى صلاته .. فلما قام منصرفاً إلى بيته تبعته ..
حتى إذا دخل بيته دخلت عليه .. فقلت : يا محمد .. إن قومك قالوا لي كذا وكذا ..
ووالله ما برحوا يخوفونني منك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك .. وقد سمعت منك قولاً حسناً .. فاعرض عليَّ أمرك ..
فابتهج النبي عليه الصلاة والسلام .. وفرح ..وعرض الإسلام على الطفيل .. وتلا عليه القرآن .. فتفكر الطفيل في حاله .. فإذا كل يوم يعيشه يزيده من الله بعداً ..
وإذا هو يعبد حجراً .. لا يسمع دعاءه إذا دعاه .. ولا يجيب نداءه إذا ناداه .. وهذا الحق قد تبين له ..
ثم بدأ الطفيل يتفكر في عاقبة إسلامه ..
كيف يغير دينه ودين آبائه !!.. ماذا سيقول الناس عنه ؟!
حياته التي عاشها .. أمواله التي جمعها .. أهله .. ولده .. جيرانه .. خلانه .. كل هذا سيضطرب ..
سكت الطفيل .. يفكر .. يوازن بين دنياه وآخرته ..
وفجأة إذا به يضرب بدنياه عرض الحائط ..
نعم سوف يستقيم على الدين .. وليرض من يرضى .. وليسخط من يسخط .. وماذا يكون أهل الأرض .. إذا رضي أهل السماء ..
ماله ورزقه بيد من في السماء .. صحته وسقمه بيد من في السماء .. منصبه وجاهه بيد من في السماء .. بل حياته وموته بيد من في السماء ..
فإذا رضي أهل السماء .. فلا عليه ما فاته من الدنيا ..
إذا أحبه الله .. فلبيغضه بعدها من شاء .. وليتنكر له من شاء .. وليستهزئ به من شاء ..
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين
وكل الذي فوق التراب تراب
نعم .. أسلم الطفيل في مكانه .. وشهد شهادة الحق ..
ثم ارتفعت همته .. فقال : يا نبي الله .. إني امرؤ مطاع في قومي .. وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام ..
ثم خرج الطفيل من مكة .. مسرعاً إلى قومه .. حاملاً همَّ هذا الدين ..
يصعد به جبل .. وينزل به واد ..
حتى وصل ديار قومه .. فلما دخلها .. أقبل إليه أبوه .. وكان شيخاً كبيراً ..
فقال الطفيل : إليك عني يا أبت .. فلست منك ولست مني ..
قال : ولم يا بني ؟ قال : أسلمت وتابعت دين محمد r ..
قال : أي بني ديني دينك ..
قال : فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك .. ثم ائتني حتى أعلمك مما علمت ..
فذهب أبوه واغتسل وطهر ثيابه .. ثم جاء فعرض عليه الإسلام فأسلم ..
ثم مشى الطفيل إلى بيته .. فأتته زوجته مرحبة ..
فقال : إليك عني .. فلست منك ولست مني ..
قالت : ولم ؟ بأبي أنت وأمي ..
قال : فرَّق بيني وبينك الإسلام .. وتابعت دين محمد r ..
قالت : فديني دينك ..
قال : فقلت فاذهبي فتطهري .. ثم ارجعي إليَّ .. فواّته ظهرها ذاهبة ..
ثم خافت من صنمهم أن يعاقبها في أولادها إن تركت عبادته ..
فرجعت إليه وقالت : بأبي أنت وأمي .. أما تخشى على الصبية من ذي الشرى .. ؟
وذو الشرى صنم عندهم يعبدونه .. وكانوا يرون أن من ترك عبادته أصابه أو أصاب ولده بأذى ..
فقال الطفيل : اذهبي .. أنا ضامن لك أن لا يضرهم ذو الشرى ..
فذهبت فاغتسلت .. ثم عرض عليها الإسلام فأسلمت ..
ثم جعل الطفيل يطوف في قومه .. يدعوهم إلى الإسلام بيتاً بيتاً .. ويقبل عليهم في نواديهم .. ويقف عليهم في طرقاتهم ..
لكنهم أَبَوْا إلا عبادة الأصنام .. فغضب الطفيل .. وذهب إلى مكة ..
فأقبل على رسول الله r فقال : يا رسول الله .. إن دوساً قد عصت وأبت .. يا رسول الله .. فادع الله عليهم ..
فتغير وجه النبي عليه الصلاة والسلام .. ورفع يديه إلى السماء ..
فقال الطفيل في نفسه .. هلكت دوْس ..
فإذا بالرحيم الشفيق r .. يقول : " اللهم اهد دوساً .. اللهم اهد دوساً ..
ثم التفت إلى الطفيل وقال : ارجع إلى قومك .. فادعُهم .. وارفق بهم ..
فرجع إليهم .. فلم يزل بهم .. حتى أسلموا ..
نعم .. ما أحسن قرع أبواب السماء ..
ليس الطفيل وقومه فقط .. وإنما غيرهم كثير ..
كان المسلمون في بداية الدعوة النبوية قلة .. لم يتعدوا ثمانية وثلاثين رجلا ..
فألـحَّ أبو بكر يوماً على رسول الله e في الظهور أمام الناس بالدعوة ولاجهر بالإسلام ..
فقال : يا أبا بكر .. إنا قليل ..
كان أبو بكر متحمساً .. فلم يزل يلحّ على رسول الله e حتى اجتمعوا فخرجوا .. يتقدمهم رسول الله ..
توجهوا إلى المسجد ..
تفرقوا في نواحي المسجد .. كل رجل في عشيرته ..
وقام أبو بكر في الناس خطيباً .. يدعو إلى الإسلام .. ويذم آلهتهم ..
وثار المشركون على المسلمين .. فضربوهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً ..
كان المشركون كثير .. فتفرق المسلمون ..
أقبل جمع منهم إلى أبي بكر .. وضربوه ضرباً شديداً ..
فوقع على الأرض في شدة الرمضاء ..
فدنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة .. فجعل يضربه بنعلين مخصوفين .. ويفركهما على وجهه ..
ثم قام على بطن أبي بكر .. حتى سالت الدماء من وجه أبي بكر .. وتمزق لحم وجهه .. حتى ما يعرف فمه من أنفه ..
وجاء بنو تيم قبيلة أبي بكر .. يتعادون ..
وأبعدوا الناس عن أبي بكر .. وحملوه في ثوب حتى أدخلوه منزله ..
وهم لا يشكون أنه ميت ..
ثم رجع قومه بنو تيم .. فدخلوا المسجد .. وجعلوا يصرخون في المشركين .. يقولون :
والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة ..
ثم رجعوا الى أبي بكر .. وهو مغمى عليه .. لايدرون .. حي أو ميت !!
ظل أبو قحافة والد أبي بكر .. مع قومه .. واقفين عند أبي بكر .. يكلمونه .. فلا يجيبهم ..
وأمه تبكي عند رأسه ..
فلما كان آخر النهار .. فتح عينيه .. فكان أول كلمة قالها :
ما فعل رسول الله e .. ؟!
رضي الله عن أبي بكر .. كان يهيم برسول الله حباً .. يخاف عليه أكثر مما يخاف على نفسه ..
كان كل من حوله .. أبوه أمه .. قومه .. مشركين ..
فغضبوا .. وجعلوا يسبون رسول الله ..
ثم قاموا .. وقالوا لأم أبي بكر : أطعميه شيئاً أو اسقيه ..
فجعلت أمه تلح عليه ..
وهو يردد قائلاً : ما فعل رسول الله e ..؟
فقالت : والله مالي علم بصاحبك ..
فقال : اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب .. فسليها عنه ..
وكانت أم جميل مسلمة تكتم إسلامها ..
خرجت أمه حتى جاءت أم جميل .. فقالت : إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله ..
فقالت : ما أعرف أبا بكر .. ولا محمد بن عبد الله .. لكن أتحبين أن أمضي معك إلى ابنك ؟
قالت : نعم ..
فمضت معها .. حتى دخلت على أبي بكر .. فوجدته صريعاً دنفاً .. ممزق الوجه .. مرهق الجسد ..
فلما رأته أم جميل صاحت .. وقالت :
والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر .. وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم ..
قال : فما فعل رسول الله e ..
وكانت أم أبي بكر بجانبها .. فخافت أم جميل أن يفضح أمر إسلامها .. فيؤذونها ..
فقالت : يا أبا بكر .. هذه أمك تسمع ..
قال : فلا شيء عليك فيها ..
قالت : أبشر .. فرسول الله .. سالم صالح ..
قال : فأين هو ؟
قالت : في دار أبي الأرقم ..
فقالت أمه : قد علمت خبر صاحبك .. فقم فأكل طعاماً .. أو اشرب ..
قال : فإن لله عليَّ أن لا أذوق طعاماً أو شراباً .. حتى أرى رسول الله بعيني ..
فانتظرتا .. حتى إذا هدأ الناس .. خرجتا به يتكيء عليهما . فذهبتا به إلى بيت أبي الأرقم ..
حتى أدخلتاه على رسول الله e ..
فلما دخل فإذا وجه جريح .. ودماء تسيل .. وثياب ممزقة ..
فرآه رسول الله .. فأكب عليه النبي يقبله ..
وأكب عليه المسلمون يقبلونه ..
ورقَّ له رسول الله e رقة شديدة .. حتى ظهر التأثر على وجهه الشريف ..
فأراد أبو بكر أن يخفف عليه .. فقال : بأبي وأمي يا رسول الله .. ليس من بأس .. إلا ما نال الفاسق من وجهي ..
ثم قال أبو بكر .. البطل الذي يحمل هم الدعوة .. ويحسن استثمار المواقف ..
كان جريحاً .. جائعاً عطشاناً .. ومع ذلك .. قال : يا رسول الله .. هذه أمي برة بوالديها .. وأنت مبارك .. فادعها الى الله عز وجل .. وادع الله لها .. عسى الله أن يستنقذها بك من النار ..
فدعا لها رسول الله e .. ثم دعاها الى الله عز وجل .. فأسلمت فوراً في مكانها ..
كان الدعاء أصلاً من الأصول التي يتعاملون بها ..
أسلم أبو هريرة ..
وبقيت أمه كافرة ..
كان يدعوها إلى الإسلام فتأبى ..
فدعاها يوماً .. وألـحَّ فأسمعته في رسول الله ما يكره ..
فضاق صدر أبي هريرة بذلك .. وذهب إلى رسول الله وهو يبكي .. فقال :
يا رسول الله .. إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي .. وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره .. فادع الله يا رسول الله أن يهدي أم أبي هريرة إلى الإسلام ..
فدعا لها رسول الله ..
فرجع أبو هريرة إلى أمه ..
فلما كان على الباب .. فإذا هو مغلق .. فحركه ليدخل ..
فإذا بأمه تفتح له الباب .. وتقول : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأن محمداً رسول الله ..
فرجع أبو هريرة إلى رسول الله وهو يبكي من الفرح ..
وجعل يقول : أبشر يا رسول الله .. قد استجاب الله دعوتك .. وهدى الله أم أبي هريرة إلى الإسلام ..
ثم قال أبو هريرة : يا رسول الله .. أدع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين .. ويحببهم إلينا ..
فقال : اللهم حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين .. وحببهم إليهما ..
قال أبو هريرة : فما على الأرض مؤمن ولا مؤمنة .. إلا وهو يحبني وأحبه .. ( )