صفحة 1 من 1

الكرم ..

مرسل: الاثنين ديسمبر 27, 2010 7:45 pm
بواسطة نجلاء المطيري
73. الكرم ..
قال لهم : من سيدكم ؟
قالوا : سيدنا فلان .. على أننا نبخِّله ..
فقال : وأي داء أدوأُ من البخل ؟!! بل سيدكم الأبيض الجعد فلان ..
هكذا جرى النقاش بين إحدى القبائل وبين رسول الله e لما أسلموا فسألهم عن سيدهم ليقره عليهم بعد إسلامهم أو يغيره ..
نعم وأي داء أدوأ من البخل ..
ما أقبح البخل وما أعرض الناس عنه .. وما أثقله عليهم ..
لا يكاد يقيم في بيته وليمة يتحبب بها إليهم .. ولا يكاد يهدي هدية .. ولا يكاد يعتني بجمال مظهره .. ولا يهتم بزكاء برائحته .. توفيراً للمال .. ورضاً بالدون ..
أما الكريم فهو مفضال على أصحابه .. قريب من أحبابه .. إن اشتاقوا للاجتماع والأنس ففي بيته .. وإن نقص على أحدهم شيء تفضل عليه به .. فيأسر نفوسهم بكرمه .. ويستعبد قلوبهم بإحسانه ..
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسان
وينبغي عند إكرام غيرك أن تكون نيتك حسنة .. للتآلف مع إخوانك المسلمين .. وكسب مودتهم .. والتقرب إلى الله بالإحسان إليهم .. لا لأجل شهرة أو رئاسة أو كسب مديحهم وثنائهم ..
قال e : أول من تسعر بهم النار ثلاثة .. وذكر منهم رجلاً كان ينفق ليقال جواد أي كريم .. فلم يعمل ابتغاء وجه الخالق وإنما ابتغى وجه المخلوق .. رياءً وسمعة ..
وإليك الحديث كاملاً :
قال سفيان :
دخلت المدينة .. فإذا أنا برجل قد اجتمع الناس عليه ..
فقلت : من هذا ؟
قالوا : أبو هريرة ..
فدنوت منه حتى قعدت بين يديه .. وهو يحدث الناس ..
فلما سكت وخلا .. قلت : أنشدك الله .. بحق وحق .. لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله  .. وعلمته ..
فقال أبو هريرة : أفعل .. لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله  .. عقلته وعلمته ..
ثم نشغ أبو هريرة نشغة ( شهق ) .. فمكث قليلاً .. ثم أفاق ..
فقال : لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله  .. وأنا وهو في هذا البيت .. ليس فيه أحد غيري وغيره ..
ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى .. فمكث بذلك .. ثم أفاق .. ومسح وجهه .. فقال :
أفعل .. لأحدثنك بحديث حدثنيه رسول الله  .. وأنا وهو في هذا البيت .. ليس فيه أحد غيري وغيره ..
ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى .. ثم مال خارّاً على وجهه .. وأسندته طويلاً .. ثم أفاق .. فقال :
حدثني رسول الله  :
إن الله عز وجل إذا كان يوم القيامة .. نزل إلى العباد ليقضي بينهم .. وكل أمة جاثية ..
فأول من يدعو به : رجل جمع القرآن .. ورجل يقتل في سبيل الله .. ورجل كثير المال ..
فيقول الله للقارىء : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟
قال : بلى يا رب ..
قال : فماذا عملت فيما علمت ؟
قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار ..
فيقول الله له : كذبت ..
وتقول الملائكة له : كذبت ..
فيقول الله عز وجل : أردت أن يقال : فلان قارىء .. فقد قيل ..
ويؤتى بصاحب المال فيقول : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟
قال : بلى ..
قال : فماذا عملت فيما آتيتك ؟
قال : كنت أصل الرحم .. وأتصدق ..
فيقول الله : كذبت ..
وتقول الملائكة : كذبت ..
ويقول الله : بل أردت أن يقال : فلان جواد .. فقد قيل ذلك ..
ويؤتى بالرجل الذي قتل في سبيل الله .. فيقال له : فيم قتلت ؟
فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك .. فقاتلت حتى قتلت ..
فيقول الله : كذبت ..
وتقول الملائكة له : كذبت ..
ويقول الله : بل أردت أن يقال : فلان جريء .. فقد قيل ذلك ..
ثم ضرب رسول الله  على ركبتي فقال :
يا أبا هريرة .. أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة ( ) ..
فإذا أحسنت النية في كرمك فأبشر بالخير ..
وأولى من تحسن إليهم ليحبوك ويكرموك .. أهل بيتك .. الأم .. الأب .. الزوجة .. الأولاد .. ثم الأقرب قالأقرب .. ابدأ بنفسك ثم بمن تعول .. وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول ..
ولا بد من التفريق بين الكرم والإسراف ..
دلف رجل في شارع قديم فمر ببيت متهالك .. فإذا فتاة صغيرة قد جلست على عتبة الباب بثياب رثة .. وهيئة فقيرة .. فسألها : من أنت ؟
قالت : أنا ابنة حاتم الطائي ..
فقال : عجباً !! ابنة حاتم الطائي الكريم الجواد .. على هذا الحال ؟!!
فقالت : كرم أبي صيرنا إلى ما ترى !!
كان رسول الله  أكرم الناس .. ولم يكن جشعاً ينظر في مصلحة نفسه ولا يلتفت إلى غيره ..
كلا ..
قال ابو هريرة t :
والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد على الأرض من الجوع .. وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ..
ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه .. فمر أبو بكر .. فسألته عن آية من كتاب الله .. ما سألته إلا ليستتبعني .. فلم يفعل ..
ثم مرَّ عمر .. فسألته عن آية من كتاب الله .. ما سألته إلا ليستتبعني .. فمر فلم يفعل ..
ثم مرَّ بي أبو القاسم r .. فتبسم حين رآني .. وعرف ما في وجهي وما في نفسي ..
ثم قال : أبا هر .. قلت : لبيك يا رسول الله .. قال : اِلْحَقْ ..
ومضى .. فاتبعته .. فدخل .. فاستأذن .. فأذن لي .. فدخلت ..
فوجد لبناً في قدح .. فقال : من أين هذا اللبن ؟
قالوا : أهداه لك فلان .. أو فلانة ..
قال : أبا هر .. قلت : لبيك يا رسول الله ..
قال : اِلْحَقْ أهل الصفة .. فادعهم لي ..
قال : وأهل الصفة أضياف الإسلام .. لا يأوون إلى أهل ولا إلى مال .. إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً .. وإذا أتته هدية أرسل إليهم .. وأصاب منها وأشركهم فيها .. فساءني ذلك ..
وقلت : وما هذا اللبن في أهل الصفة !! كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها .. فإذا جاءوا .. أمرني .. فكنت أنا أعطيهم .. وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ..
ولم يكن من طاعة الله .. وطاعة رسوله بدٌ .. فأتيتهم .. فدعوتهم ..
فأقبلوا .. فأذن لهم .. وأخذوا مجالسهم من البيت .. فقال : يا أبا هر ..
قلت : لبيك يا رسول الله .. قال : خذ .. فأعطهم ..
فأخذت القدح .. فجعلت أعطيه الرجلَ فيشرب حتى يروى .. ثم يرد عليَّ القدح .. فأعطيه الآخر .. فيشرب حتى يروى .. ثم يرد علي القدح .. فأعطيه الآخر فيشرب حتى يروى .. ثم يرد علي القدح ..
حتى انتهيت إلى النبي r .. وقد روي القوم كلهم .. فأخذ القدح فوضعه على يده .. فنظر إليَّ فتبسم فقال : أبا هر .. قلت : لبيك يا رسول الله .. قال :
بقيت أنا وأنت ؟ قلت : صدقت يا رسول الله .. قال : اقعد فاشرب .. فقعدت فشربت .. فقال : اشرب .. فشربت ..
فما زال يقول : اشرب .. حتى قلت : لا .. والذي بعثك بالحق .. ما أجد له مسلكاً .. قال : فأرني .. فأعطيته القدح .. فحمد الله وسمَّى .. وشرب الفضلة .. ( )
وللكرم أسرار ..
أحياناً لا تتكرم على الشخص مباشرة .. وإنما تتكرم على من يحبهم .. فيحبك ..
زارني أحد الأصدقاء يوماً .. وكان يحمل كيساً فيه عدد من الحلويات والألعاب .. أظنها لم تكلفه بضعة ريالات .. وضعها بجانب الباب لما دخل .. وقال : هذه للأولاد ..
فرح بها الصغار .. وفرحت بها أنا لأنه أشعرني أنه يحب إدخال السرور على أولادي ..
كان أحد السلف عالماً .. لكنه كان فقيراً ..
فكان طلابه يهدون إليه بين فترة وأخرى .. أنواعاً من الهدايا .. تمر .. دقيق ..
وكان الطالب إذا أهدى إليه .. لم يزل الشيخ مكرماً مقبلاً عليه .. ما دامت هديته باقية ..
فإذا انتهت .. رجع إلى طبعه الأول ..
ففكر أحد طلابه بهدية يحملها إلى الشيخ .. تكون معقولة الثمن .. وتطول مدة بقائها ..
فأهدى إليه كيس ملح ..
ولو استشرتني في هديتين ستهدي إحداهما إلى صديق ..
أولهما زجاجة عطر رائع .. ثمين ..
أو ساعة حائطية تكتب عليها إهداءً باسمه ..
لاخترت الساعة .. لأنها يطول بقاؤها .. ويراها دائماً ..
وأذكر أن أحد طلابي أهديته ساعة حائطية فيها إهداء باسمه ..
وتخرج من الكلية .. ومرت السنين ..
ثم زرت إحدى المدن فتفاجأت به يحضر المحاضرة ويدعوني إلى بيته ..
فلما دخلت مجلس الضيوف فإذا به يشير إلى الساعة معلقة على الحائط .. ويقول : هذه أغلى هدية عندي ..
وقد مر على تخرجه سبع سنين ..
بقي أن تعلم أن هذه الساعة لم تكلف إلا شيئاً يسيراً .. لكن قيمتها المعنوية أعلى وأكبر ..