صفحة 1 من 1

العفو عن الآخرين ..

مرسل: الاثنين ديسمبر 27, 2010 7:47 pm
بواسطة نجلاء المطيري
72. العفو عن الآخرين ..
لا تخلو الحياة من عثرات تصيبنا من الناس ..
فهذه مزحة ثقيلة .. وتلك كلمة نابية .. وتعدٍّ على حاجات شخصية ..
خصومة بين اثنين في مجلس .. أو اختلاف في وجهات نظر .. أو آراء ..
وبعضنا يكبر الموضوع في نفسه .. وليس عنده استعداد للعفو أو النسيان ..
أو ربما لم يملك استعداداً لقبول أعذار الآخرين والعفو عنهم ..
بعض الناس يعذب نفسه بعدم عفوه .. يملأ صدره بأحقاد تشغله تعذبه ..
ولله در الحسد ما أعدله .. بدأ بصاحبه فقتله ..
فلا تعذب نفسك .. هناك أشياء لا يمكن أن تعاقب عليها ..
اِنسَ الماضي .. وعش حياتك ..
لما دخل رسول الله  مكة فاتحاً .. واطمأن الناس ..
خرج حتى جاء الكعبة فطاف بها سبعاً على راحلته ..
فلما قضى طوافه .. دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة .. ففتحت له فدخلها ..
فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم ..
ورأى إبراهيم عليه السلام مصوراً في يده الأزلام يستقسم بها ..
فقال  : قاتلهم الله .. جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام !! ما شأن ابراهيم والأزلام ؟!
ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين ..
ثم أمر  بتلك الصور كلها فطمست ..
ثم وجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده .. ثم طرحها ..
ثم وقف على باب الكعبة ..
وقد اجتمع له الناس في المسجد مسلمين والكفار ينظرون إليه ..
ثم صلى ركعتين ثم انصرف إلى زمزم .. فاطلع فيها .. ودعا بماء فشرب منها وتوضأ ..
والناس يبتدرون وضوءه ..
والمشركون يتعجبون من ذلك .. ويقولون : ما رأينا ملكاً قط ولا سمعنا به مثل هذا ..
ثم أقبل إلى مقام إبراهيم فأخره عن الكعبة .. وكان ملصقا بها ..
ثم قام  على باب الكعبة فقال :
لا إله إلا الله .. وحده لا شريك له .. صدق وعده .. ونصر عبده .. وهزم الاحزاب وحده ..
ألا كل مأثرة .. أو دم .. أو مال يُدَّعى .. فهو موضوع تحت قدمي هاتين .. إلا سدانة البيت .. وسقاية الحاج .. ثم جعل يقرر بعض الأحكام الشرعية فقال :
أَلَا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا .. ففيه الدية مغلظة مائة من الابل .. أربعون منها في بطونها أولادها ..
ثم نظر إلى رؤوس قريش وساداتها .. فصاح بهم :
يا معشر قريش .. إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية .. وتعظّمها بالآباء ..
الناس من آدم .. وآدم من تراب ..
ثم تلا " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ "
ثم جعل يتأمل في وجوه الكفار ..
وهو في عزه وملكه عند الكعبة .. وهم في ذلهم وضعفهم ..
في مكان طالما كذبوه فيه .. وأهانوه .. وألقوا الأوساخ على رأسه وهو ساجد ..
وكفار قريش بين يديه .. مهزومين .. أذلاء .. صاغرين ..
ثم قال : يا معشر قريش .. ما ترون أني فاعل فيكم ؟
فانتنفضوا .. وقالوا : تفعل بنا خيراً .. أنت أخ كريم .. وابن أخ كريم ..
عجباً !! هل نسوا ما كانوا يفعلونه بهذا الأخ الكريم .. أين سبكم : مجنون .. ساحر .. كاهن ؟!
ما دام أخاً كريماً .. وأبوه أخ كريم !! فلماذا حاربتموه ؟!
أين تعذيبكم للمسلمين الضعفاء ..
هذا بلال واقف .. وآثار التعذيب لا تزال في ظهره ..
وتلك نخلة قريبة قتلت عندها أمية .. وزوجها ياسر .. وهذا ابنهما عمار مع المسلمين يشهد ..
أين حبسكم له مع المسلمين الضعفاء .. ثلاث سنين في شعب بني عامر .. حتى أكلوا ورق الشجر من شدة الجوع ..؟!! ما رحمتم بكاء الصغير .. ولا أنين الشيخ الكبير .. ولا حاملاً ولا مرضعاً !!
أين حربكم له في بدر .. وأحد .. وتحزبكم عليه في الخندق ؟
أين منعكم له من دخول مكة معتمراً .. لما جاءكم قبل سنين .. وتركتموه محبوساً في الحديبية .. ممنوعاًمن دخول مكة ؟
أين صدكم لعمه أبي طالب عن الإسلام وهو على فراش الموت ؟
أين ..؟ أين ..؟ شريط طويييييل من الذكريات المؤلمة يمر أمام ناظريه  ..
ليس هو فقط .. بل أمام ناظري أبي بكر وعمر .. وعثمان وعلي .. وبلال وعمر .. فكل واحد من هؤلاء .. له مع قريش قصة حزينة ..
كان يستطيع أن ينزل بهم أقسى أنواع العقوبة .. فهم أعداء محاربون .. معتدون .. خونة ..
نعم خونة .. خانوا صلح الحديبية .. واعتدوا ..
كانوا مجرمين .. متحيرين .. لا يدرون ماذا سيُفعل بهم ..
فإذا به  يدوس على الأحقاد .. ويحلق بهمته عاااالياً ..
ويقول كلمة يهتف بها التاريخ : اذهبوا .. فأنتم الطلقاء ..
فينطلقون .. مستبشرين .. تكاد أرجلهم تطير من الفرح ..
أحقاً عفا عنا ؟!!
ثم تلفت  ينظر حول الكعبة .. فإذا ثلثمائة وستون صنماً .. تعبد من دون الله .. عند بيته المعظّم ..!!
فجعل  يضربها بيده الكريمة .. فتهوي .. وهو يقول :
جاء الحق .. وزهق الباطل .. جاء الحق .. وما يبدئ الباطل وما يعيد ..
عدد من كفار قريش العتاة البغاة .. الذين لهم تاريخ أسود مع المسلمين .. فروا من مكة قبل دخول النبي  وأصحابه إليها ..
منهم صفوان بن أمية ..
فإنه فر منها هارباً .. وقد تحير أين يذهب ..
فمضى إلى جدة ليركب منها إلى اليمن ..
فلما رأى الناس عفو رسول الله  .. ونسيانه للماضي الأليم ..
جاء عمير بن وهب إلى رسول الله  فقال :
يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه .. وقد خرج هارباً منك .. ليقذف نفسه في البحر .. فأّمِّنه .. صلى الله عليك ..
قال r بكل بساطة : هو آمن ..
قال عمير : يا رسول الله .. فأعطني آية يعرف بها أمانك .. فأعطاه رسول الله r عمامته التي دخل فيها مكة .. حتى إذا رآها صفوان .. عرفها فوثق في صدق عمير ..
خرج بها عمير حتى أدركه .. وهو يريد أن يركب في البحر ..
فقال : يا صفوان .. فداك أبي وأمي .. الله .. الله في نفسك أن تهلكها .. فهذا أمان من رسول الله r قد جئتك به ..
فقال صفوان : ويحك .. أغرب عني فلا تكلمني .. فإنك كذاب .. وكان خائفاً من مغبة ما كان فعله بالمسلمين ..
قال : أي صفوان .. فداك أبي وأمي .. رسول الله .. أفضل الناس .. وأبر الناس .. وأحلم الناس ..وخير الناس .. وهو ابن عمك .. عزُّه عزك .. وشرفُه شرفك .. وملكُه ملكك ..
قال : إني أخافه على نفسي ..
قال : هو أحلم من ذاك وأكرم ..
فرجع صفوان معه ..
حتى وصلا إلى مكة .. فمضى به عمير حتى وقف به على رسول الله r ..
فقال صفوان : إن هذا يزعم أنك قد أمنتني ..
قال  : صدق ..
قال صفوان : أما دخولي في الإسلام .. فاجعلني بالخيار فيه شهرين ..
فقال r : أنت بالخيار فيه أربعة أشهر ..
ثم أسلم صفوان بعد ذلك ..
ما أجمل العفو عن الناس .. ونسيان الماضي الأليم .. هذا خلق بلا شك لا يستطيعه إلا العظماء .. الذين يترفعون بأخلاقهم عن سفالة الانتقام .. والحقد .. وشفاء الغيظ .. فالحياة قصيرة - على كل حال - .. نعم هي أقصر من أن ندنسها بحقد وضغينة ..
حتى في الحاجات الخاصة .. كان  هيناً ليناً ..
قال المقداد بن الأسود t : قدمت المدينة أنا وصاحبان لي ..
فتعرضنا للناس فلم يضفنا أحد ..
فأتينا إلى النبي r .. فذكرنا له .. فأضافنا في منزل وعنده أربع أعنز ..
فقال : احلبهن يا مقداد .. وجزئهن أربعة أجزاء .. وأعط كل إنسان جزءاً فكنت أفعل ذلك ..
فكان المقداد كل مساء .. يحلب فيشرب هو وصاحباه .. ويبقى جزء النبي عليه الصلاة والسلام .. فإن كان موجوداً شربه .. وإن كان غائباً حفظوه له حتى يرجع ..
وفي ليلة من الليالي .. تأخر النبي r في المجيء إليهم ..
واضطجع المقداد على فراشه .. فقال في نفسه :
إن النبي r .. قد أتى أهل بيت من الأنصار .. فأطعموه ..
فلو قمت فشربت هذه الشربة ..
فلم تزل به نفسه حتى قام فشربها .. ولم يبق للنبي r شيئاً ..
قال المقداد : فلما دخل في بطني وتقار .. أخذني ما قدم وما حدث ..
فقلت : يجيء الآن النبي r جائعاً ..ظمآناً .. فلا يرى في القدح شيئاً .. فيدعو علي ..
فسجيت ثوباً على وجهي .. يعني من الهم ..
فلما مضى بعض الليل ..
وجاء النبي r .. فسلم تسليمة تسمع اليقظان .. ولا توقظ النائم ..
والمقداد على فراشه .. ينظر إليه .. فأقبل r إلى إنائه ..
فكشف عنه فلم ير شيئاً .. فرفع بصره إلى السماء ..
ففزع المقداد .. وقال : الآن يدعو عليَّ ..
فتسمع ماذا يقول .. فإذا به r .. يقول :
اللهم اسق من سقاني .. وأطعم من أطعمني ..
فلما سمع المقداد ذلك .. أَغتنم دعوة النبي عليه الصلاة والسلام ..
قام فأخذ الشفرة السكين .. فدنا إلى الأعنز .. ليذبح إحداها .. ليطعم النبي r ..
فجعل يجسهن ينظر أيتهن أسمن ليذبحها ..
فوقعت يده على ضرع إحداهن فإذا هي حافل .. مليئة باللبن ..
ونظر إلى الأخرى فإذا هي حافل ..
فنظرت فإذا هي كلهن حفل .. فحلب في إناء كبير .. فملأه حتى علت رغوته ..
ثم أتى به النبي r .. فقال : اشرب ..
فلما رأى رسول الله r كثرة اللبن .. قال :
أما شربتم شرابكم الليلة يا مقداد ؟
فقال : اشرب يا رسول الله .. فقال : ما الخبر يا مقداد ؟
قال : اشرب ثم الخبر .. فشرب النبي  ثم ناول القدح للمقداد .. فقال المقداد : اشرب يا رسول الله ..فشرب ثم ناوله القدح .. قال : اشرب يا رسول الله ..
قال المقداد .. فلما عرفت أن رسول الله r قد روي .. وأصابتني دعوته ..
ضحكت حتى ألقيت إلى الأرض ..
فقال رسول الله : إحدى سوآتك يا مقداد ! .
فقلت : يا رسول الله .. إنك قد أبطأت علينا الليلة .. وكنت جائعاً فقلت في نفسي لعل رسول الله r قد تعشى عند بعض الأنصار .. وقص عليه القصة كلها .. وكيف أن الأعنز حلبت في ليلة واحدة مرتين .. على غير العادة ..
كان من أمري كذا .. فصنعت كذا وكذا ..
فقال : ما كانت هذه إلا رحمة الله .. ألا كنت آذنتي توقظ صاحبيك هذين فيصيبان منها ..
فقلت : والذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتَها .. وأصبتُها معك من أصابها من الناس ..