- الأربعاء ديسمبر 29, 2010 11:43 pm
#31123
الصراع على الماء.. حوض النيل نموذجاً
د. محمد مورو | 11/5/1431 هـ
إذا كان الصراع على البترول قد شكل مساحة كبيرة من معادلات وأحداث المنطقة منذ عقود كثيرة وحتى الآن، فإن الصراع على المياه يمكن أن يكون أشد حدة؛ ذلك أن المياه في التحليل النهائي أهم من البترول وأغلى؛ فهو سر الحياة {وَجَعَلْنَا مِنَ الْـمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30].
ولا شك أن الإدراك المبكر لأهمية المياه، ومعرفة طبيعة الصراع القادم حولها سيؤثر على أمتنا إذا ما أحسنا الاستعداد بكثير من الجهد والتضحيات، ويؤمّن لهم مستقبلاً معقولاً، أما إذا ظل العرب في حالة غفلة عن هذه التقنية الخطيرة فإن مجرد وجودهم على سطح الأرض سيصبح أمراً صعباً!
ومن المهم هنا أن نقرر حقيقة بدهية، أن هناك علاقة مباشرة بين الأمن العربي بعامة ومسألة تأمين مصادر المياه. وإذا كان الأمن العام لدولة ما هوالا الإجراءات التي تتخذها تلك الدولة لتحافظ على كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل، فإن فهم الأمن على أنه موضوع الدفاع العسكري داخلياً وخارجياً هو أمر سطحي وضيق؛ لأن الأمن العسكري هو وجه سطحي ضيق لمسألة الأمن الكبرى كما يقول روبرت مكنمارا وزير الدفاع الأمريكي الأسبق؛ فهناك الكثير من الجوانب غير العسكرية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمسألة الأمن القومي، ومن هذه الجوانب بالطبع مسألة الأمن الغذائي والاقتصادي ومسألة المياه على رأس تلك الجوانب.
وإذا أخذنا مسألة الأمن الغذائي كمحدد لفهم مستقبل العالم العربي لوجدنا أن الأمر مفزع؛ ذلك أنه إذا كان من يمتلك غذاءه يمتلك قراراه؛ فإن وجود فجوة غذائية في العالم العربي تصل إلى حوالي 60 مليار دولار سنوياً هي الفرق بين الصادرات والواردات العربية مما يمثل مشكلة خطيرة، بل ونسبة الاكتفاء الذاتي من أهم السلع الاستراتيجية في مجال الغذاء لا تزيد عن 39%، وهذه النسبة لها أهميتها؛ ونراها في حالة الدول ذات الأهمية في المنطقة العربية مثل مصر التي يبلغ اكتفاؤها الذاتي من القمح 27%.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن السوق العالمية للقمح تتشكل من دول ذات توجهات سياسية ومتعارضة معنا، لأدركنا فداحة المشكلة؛ فالدول الكبرى المسيطرة على سوق تصدير القمح هي «أمريكا، كندا، أستراليا، السوق الأوروبية المشتركة»؛ حيث يمكنها التكتل في احتكار للتحكم ليس في تصدير القمح فقط بل وفي أسعاره كذلك.
وهكذا فإن المسألة الغذائية تفجر بالضرورة مسألة الماء؛ حيث إن الماء هو العنصر الأساس للزراعة القادرة بدورها على سد تلك الفجوة الغذائية. وبالطبع لا تقتصر أهمية الماء على مسألة الزراعة؛ فالماء ضروري للتصنيع أيضاً، فضلاً عن أهميته لتلبية الاستهلاكات البشرية المباشرة من مياه شرب وغسيل وغيرها، وليس عبثاً بالطبع أن تكون معظم الحضارات قد نشأت حول مصادر المياه.
ومشكلة المياه في الوطن العربي ذات أبعاد كثيرة؛ فالوطن العربي يقع في الحزام الجاف وشبه الجاف من العالم، وتقل فيه الموارد المائية المتجددة عن 1% من المياه المتجددة في العالم، ونصيب الفرد العربي من المياه 1744 متراً مكعباً سنوياً، في حين أن المعدل العالمي يصل إلى 12900 متر مكعب سنوياً، ومعدل هطول الأمطار في الوطن العربي بين 5 ـ 450 ملم سنوياً، في حين يتراوح في أوروبا مثلاً بين 200 ـ 3000 ملم سنوياً. وتمثل الصحارى في الوطن العربي مساحة 43% من إجمالي المساحة الكلية للوطن العربي،و حجم الموارد المائية المتاحة ً تبلغ 338 مليار متر مكعب سنوياً لا يستثمر منها إلا 173 مليار متر مكعب! في حين أن الوطن العربي يحتاج لتلبية احتياجاته من المياه ـ إذا أحسن استخدامها، وتم عمل خطط لسد الفجوة الغدائية ـ إلى حوالي 500 مليار متر مكعب من المياه سنوياً.
والموارد ومصادر المياه في الوطن العربي تتمثل في الأمطار والمياه السطحية «الأنهار» والمياه الجوفية، ولعل المشكلة حول المياه السطحية «الأنهار» هي الأهم؛ فالمياه السطحية المتاحة حالياً للوطن العربي تبلغ 127.5 مليار متر مكعب سنوياً، تحوز ثلاثة أقطار عربية حوالي 71 % منها، هي مصر والعراق والسودان، ومن المفروض أن يزيد حجم الموارد السطحية ليصل إلى 256 مليار متر مكعب من المياه؛ أي ضعف ما هو متاح حالياً عن طريق مشروعات الري والسدود مثل قناة جونجلي في السودان.
وإذا أدركنا أن 67% من مياه الأنهار «المياه السطحية» في البلدان العربية تأتي من خارج بلادهم لعرفنا حجم ما يمكن أن يحدث من مشكلات إذا قام العرب بعمل تنمية أو سدود تؤدي إلى زيادة مواردهم، وعلى سبيل المثال فإن نهر النيل ينبع من إثيوبيا «النيل الأزرق»، وبحيرة فكتوريا «النيل الأبيض»، ويمر في تسع دول إفريقية هي «إثيوبيا، كينيا، أوغندا، تنزانيا، رواندا، بوروندي، والكونغو والسودان ومصر»، ويقطع مسافة من أبعد منابعه على روافد بحيرة فكتوريا نيانزا في قلب إفريقيا إلى ساحل رشيد على البحرالأبيض المتوسط في مصر حوالي 6700 كم.
أما نهرا الفرات ودجلة فينبعان من الجبال الواقعة شمال تركيا، ويمر الفرات عبر سوريا ثم العراق. أما نهر دجلة فيمر من تركيا إلى العراق مباشرة.
وبالنسبة لنهر النيل ـ مثلاً ـ الذي تعتمد مصر عليه اعتماداً شبه كامل في اقتصادياتها وخاصة الزراعة؛ فإن نصيب مصر منه يصل الآن إلى 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، والسودان إلى 18.5 مليار متر مكعب سنوياً، وبديهي أن مصر والسودان يسعيان إلى زيادة مواردهما من مياه النيل عن طريق مجموعة من المشروعات، وهذه المشروعات لن تؤثر على حصة دول المنبع؛ لأن المياه قد تركت أراضيهم بالفعل من ناحية، ولأن هذه الدول لها مصادر مياه غنية جداً، فإثيوبيا مثلاً التي يأتي منها 85% من مياه النيل المستخدمة في مصر ليست في حاجة إلى مياه النيل أصلاً؛ لأن مواردها المائية أعلى كثيراً من احتياجاتها، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة؛ حيث تسعى قوى عالمية وإقليمية لحرمان مصر من حصة كبيرة من المياه أو منها على الأقل من زيادة مواردها من تلك المياه؛ فإسرائيل تسعى إلى زيادة نفوذها في القرن الإفريقي ومنطقة البحيرات الكبرى وكذلك أمريكا.
والمخططات المعادية لمصر في هذا الصدد كثيرة وهناك مخطط قديم يقضي بمحاولة تحويل مجرى النيل في إثيوبيا، وقد قام المكتب الأمريكي لاستصلاح الأراضي بعمل الدراسات الخاصة به إلا أنه بالطبع لم ينفذ، ولكنه يشكل فكرة في الأدراج يمكن تنفيذها فيما بعد للضغط على مصر، وهناك الآن عدد من الدراسات الجاهزة لإقامة سدود على النيل في إثيوبيا سوف يمولها البنك الدولي تؤثر على حصة مصر من المياه بنسبة 20% سنوياً، أي 7 مليارات متر مكعب من المياه، بل ووصل التفكير إلى حد أن هناك خطة تقضي بتحويل كل مصادر المياه في تلك المنطقة لتصب في منطقة البحيرات العظمى في وسط القارة كخزان عملاق للمياه، ثم بيع هذه المياه لمن يريد ويدفع الثمن كالبترول تماماً، ويمكن كذلك تعبئتها في براميل تحملها السفن أو عن طريق أنابيب لبيعها لدول خارج القارة، وتطالب إسرائيل أيضاً بمدها بنصيب من مياه النيل عن طريق سيناء، وإلا قامت بإحداث متاعب لمصر في منابع النيل في إثيوبيا ومنطقة البحيرات.
وفي الحقيقة فإن المطامع الإسرائيلية في مياه النيل قديمة قدم المشروع الصهيوني ذاته، فقد تقدم الصهاينة في بداية هذا القرن بمشروع إلى اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر لهذا الغرض إلا أن ذلك المشروع قد رفض، وفي عام 1974م قام مهندس إسرائيلي «إليشع كيلي» بتصميم مشروع لجلب المياه لإسرائيل من الدول المجاورة على أساس أن إسرائيل ستعاني من مشكلة مياه في المستقبل، ويتلخص المشروع بالنسبة لنهر النيل في توسيع ترعة الإسماعيلية حتى يزيد معدل تدفق المياه داخلها إلى 30 متراً مكعباً في الثانية، ونقل هذه المياه عن طريق سحارة تمر أسفل قناة السويس، ثم تصب المياه على الجانب الآخر من القناة في ترعة مبطنة بالإسمنت لمنع تسرب المياه، وتصل هذه الترعة إلى ساحـل فلـسطين المحتلة وتل أبيب، ثم في خط آخر يتجه جنوباً نحو بئر السبع لعرب صحراء النقـب، وتســـعى إســــــرائيل وفــق هــذه الخطة إلى الحصـول علـى 8 مليارات متر مكعب من المياه سنوياً من النيل، وقد تكرر الحديث عن هذا المشروع فيما بعد خاصة بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1979م.
وبالنسبة لنهر الفرات الذي ينبع من تركيا ويمر في سوريا والعراق، فإنه نشأت حول حصص المياه والتدفق في هذا النهر العديد من المشاكل بين كل من تركيا وسوريا والعراق، وتستخدم تركيا مسألة المياه للضغط السياسي على سوريا مثلاً ، ومن الناحية الفنية فإن سوريا لديها عجز في المياه يقدر بحوالي مليار متر مكعب سنوياً، ومع قيام تركيا بمشروعات كبرى على نهر الفرات تقضي بإنشاء 13 سداً، نفذت بالفعل منها سد أتاتورك عام 1990م؛ فإن معدل التدفق في النهر قد انخفض مما أثر على كل من سوريا والعراق، كما أن قيام سوريا بدورها بإنشاء سدود على الفرات يؤثر على العراق الذي يصل إليه النهر في النهاية، بل قد وصلت الأمور إلى حافة الصدام بين سوريا والعراق عام 1974م.
كانت المياه من أهم العوامل التي نشأت بسببها الحروب بين العرب و (إسرائيل)، فالعمليات العسكرية الإسرائيلية على الحدود السورية اللبنانية عامي 1964، 1965م كانت بسبب الأطماع الإسرائيلية في مياه نهر الأردن ونهر بانياس ونهر اليرموك ونهر الحاصباني، كما كان من أسباب حرب 1967م موضوع تحويل مجرى نهر الأردن، وفي عام 1982م شنت إسرائيل حملة عسكرية على لبنان كان من أهدافها أطماع إسرائيل في نهر الليطاني.
وتسعى (إسرائيل) كما ذكرنا من قبل إلى الحصول على مياه نهر الفرات من تركيا مباشرة، وكذلك الحصول على حصة من مياه نهر النيل عن طريق قناة الإسماعيلية باتجاه النقب وساحل (إسرائيل).
وتعتبر المياه محوراً هاماً من محاور الفكر الصهيوني؛ فبعد صدور وعد بلفور عام 1917م تقدم حاييم وايزمان رئيس المؤتمر الصهيوني آنذاك إلى لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا طالباً تحسين حدود إسرائيل حسب وعد بلفور، لتضم حوض الليطاني وجبل الشيخ وحرمون أي تضم أنهار الأردن وبانياس واليرموك.
ويقول الصهيوني بلسان هوارس عام 1921م: «إن مستقبل فلسطين بأكمله هو بين أيدي الدولة التي تبسط سيطرتها على الليطاني واليرموك ومنابع الأردن».
وأعلن ديفيد بن جوريون عام 1955م «أن اليهود يخوضون مع العرب معركة المياه، وعلى نتيجة هذه المعركة يتوقف مصير إسرائيل، وأننا إذا لم ننجح في هذه المعركة فإننا لن نبقى في فلسطين».
ومن المعروف أن الحدود الإسرائيلية المستهدفة طبقاً للخريطة المعلقة على الكنيست في إسرائيل هي من النيل إلى الفرات أي من ماء إلى ماء.
على كل حال فإن إسرائيل توفر حاجاتها المتزايدة من المياه التي تصل 3.5 مليار متر مكعب حالياً، وتريد إسرائيل زيادتها إلى 12 ملياراً للتوسع في مشروعاتها، وتحصل عليها الآن إما من سرقة مياه الآبار العربية بوسائل تكنولوجية معقدة داخل الأراضي المحتلة، أو من مشروعات تستهدف السيطرة على أكبر قدر ممكن من مياه الأنهار العربية وحرمان الآخرين منها. وبالطبع فإن الفجوة المائية بين ما تنهبه إسرائيل حالياً من المياه العربية وبين ما تستهدف نهبه يمكن أن يشكل عنصراً هاماً من عناصر اندلاع حروب قادمة في المنطقة.
جاءت اجتماعات شرم الشيخ في مصر ، التي ضمت دول حوض النيل التسعة " دولتا المصب مصر والسودان ، ودول المنابع إثيوبيا وتنزانيا وكينيا ورواندا وبوروندي وأوغندا والكونوغو " ، لتفتح من جديد ملف شائك هو ملف المياه وحصص الدول واستحقاقاتها في حوض النيل ، وهي قضية ليست جديدة ، فقد ثارت منذ عدة سنوات ، حول حقوق دول المنبع في إقامة مشروعات مياه يمكن أن تؤثر على على حصة دول المصب من هذا الماء ، وقد اتخذت دول المنابع السبع هذه المرة ، موقفاً تصعيدياً خطيراً فرفضت الرؤية التي تريدها مصر والسودان حول إنشاء مفوضية واحدة لإدارة الموضوع بالكامل ، ومن ثم الحوار والنقاش والوصول إلى الأهداف المرجوة بالاتفاق ، بمعنى عمل مشروعات لزيادة موارد المياه ومنع هدرها ، وكذلك عمل مشروعات في دول المنابع بما لا يضر دول المصب ، أصرت دول المنابع السبع على توقيع اتفاقية إطار وطلبت من مصر والسودان التوقيع ، وأعطتها مهلة زمنية لمدة عام لمن أراد ، وبذلك أرادت هذه الدول أن تفرض على مصر والسودان رؤيتها ، ومن ثم يتم تغيير الاتفاقيات السابقة التي تحدد حصة مصر والسودان من المياه ، وبديهي أن الأمر بهذه المثابة شديد الخطورة ، لأن حصة مصر من المياه لا تكاد تكفيها ، ومن ثم فإن هذه المسألة بالنسبة لمصر خط أحمر ، والرئيس السادات هدد بشن حرب على إثيوبيا عندما علم بنيتها في إقامة سدود بالتعاون مع إسرائيل تؤثر على حصة مصر من المياه ، والشيء نفسه هدد به الدكتور محمود أبو زيد وزير الري الأسبق عندما طلبت دول المنابع تغيير الاتفاقيات الدولية الموقعة بين دول الحوض .
الاستهلاك المصري من الماء حالياً يبلغ 80 مليار متر مكعب من النيل يؤمن النيل منها 75 % ومياه الصرف 20 % والباقي أي 5 % من مياه الأمطار والمياه الجوفية ونلاحظ أن المياه التي تأتي عن طريق معالجة الصرف الصحي والصناعي هي ذاتها استرجاع لمياه النيل أصلاً أي أن الموارد المائية المصرية خارج النيل لا تتعدى 2 – 5 % فقط ، وهكذا فإن النيل هو شريان الحياة بالنسبة لمصر ، وأي اقتراب من هذا الموضوع هو خط أحمر يمس حياة المصريين وليس نوعاً من الترف مثلاً ، ونصيب الفرد المصري حالياً من المياه حوالي 700 متر مكعب من الماء سنوياً وهو رقم شديد التدني بالنسبة للأرقام العالمية ، ومرشح للمزيد من النقصان مع زيادة عدد سكان مصر " نصيب الفرد في العالم 4000 متر مكعب من المياه سنوياً " .
الموقف المصري قائم على أنه لا يجوز تغيير الاتفاقيات الدولية بخصوص المياه وأن القانون الدولي يؤيد ذلك ، أما دول المنبع فترى أن تلك الاتفاقيات تمت في مرحلة الاستعمار ، ومن ثم فإن قراراها لم يكن بيدها في ذلك الوقت ولا يمكن الاستمرار في هذا الأمر لأنه تم على حساب مصالح وحقوق شعوبها ، وفي الحقيقة فإن تلك الاتفاقيات التي تمت إبان مرحلة الاستعمار لا تخص المياه فقط ولكنها تخص الحدود كذلك – التي اعتبرتها منظمة الوحدة الإفريقية حدوداً منتهية لا يجوز إعادة النظر فيها وإلا فتحنا الباب لصراعات بين دول إفريقية كثيرة .
كل طرف له حجته القانونية والإنسانية ، فلا يمكن نقصان نصيب مصر من المياه التي تعاني أصلاً من ضعفها وإلا كان ذلك نوع من قتل الشعب المصري والقضاء على مستقبله وكذا لا يمكن تجاوز حق دول المنبع في تنمية مواردها ورفع مستوى شعوبها ، ويمكن الوصول إلى صيغة توافقية في هذا الصدد لو خلصت النوايا ، فمثلاً فإن بحيرة فيكتوريا يبلغ الإيراد السنوي فيها 144 مليار لتر مكعب وما يتم استخدامه منها يبلغ 21 مليار لتر مكعب أي أن هناك 93 مليار متر مكعب من المياه تضيع ، وبحيرة ألبرت يبلغ إيرادها السنوي 34 مليار متر مكعب يتم استخدام 26.5 مليار متر مكعب ويضيع 6.7 مليار لتر مكعب ، نفس الأمر بالنسبة للمياه الآتية من هضبة إثيوبيا حيث يضيع معظمها في المستنقعات ، وفي المحصلة فإن موارد النيل 1660 مليار متر مكعب سنوياً لا يصل إلى مصر والسودان منها إلا 74 مليار لتر مكعب أي حوالي 4 % والباقي يضيع أو جزء كبير منه وهكذا فإن إنشاء مفوضية عليا تهدف إلى تنسيق المشروعات وتدير الاستثمارات وطرح أفكار التعاون بين دول حوض النيل هي فكرة جيدة جداً يمكن أن تزيد حصة مصر والسودان من الماء ، وتحقق استثماراً في دول المنبع ، بحيث لا يضيع مئات المليارات من الأمتار المكعبة من المياه التي تهدر سنوياً ، ومن ثم تحل مشكلة الجميع ، ولكن الإصرار على تعديل الاتفاقيات الموقعة يعطي الانطباع بأن المسألة ليست مسألة فنية بحتة ، بل بها دوافع سياسية مختلفة وعلينا أن ندرك ما يلي
- أن نفوذ مصر السياسي والاجتماعي والثقافي قد ضعف في الآونة الأخيرة ، وأنه ما كانت تتمتع به مصر من نفوذ في النطاق الإفريقي قد تراجع
- أن هناك تدخلات إسرائيلية وأمريكية معروفة وسرية تلعب في هذا الموضوع وأنه إذا أرادت مصر أن تمارس أوراقها في هذه القضية فإن عليها أن تستعيد نفوذها في النطاق الإفريقي ، ويمكن تحقيق ذلك عن طريق الأزهر مثلاً ، وكذا يمكن التلويح بفتح قضايا الحدود المرتبطة بتلك الاتفاقات ، مثلاً فإن الصومال إذا دعمت مصر فيه الاتجاهات المتشددة التي تريد تحقيق وحدة الصومال التاريخية ، فإنها سوف تطالب بأوجادين من إثيوبيا ، وبونتي من كينيا ، وهكذا فإن هذه ورقة ضغط خطيرة على كل من إثيوبيا وكينيا .
لو التي تستفح عمل الشيطان
لو أن محمد عي باشا ، كان قد سار في مشروعه الإفريقي واستخدم قوة مصر في هذا الصدد بدلاً من الاتجاه شمالاً والصدام مع الدولة العثمانية ، فأضعفها وأضعف نفسه ، ومن ثم سمح بظهور أوروبا على حساب الخلافة ، وكذا منع مشروعه الإفريقي ، لأنه لو ترك الخلافة قوية تناطح أوروبا ، واتجه إلى إفريقيا فقط ، وصنع إمبراطورية إسلامية إفريقية تضم كل دول حوض النيل ، ما كان أحد يقدر على منعه ، لأن وسائل المواصلات لم تكن تسمح لأوروبا بتعطيل مشروعه الإفريقي ، وكذا التوازن القائم في أوروبا بسبب استمرار الخلافة العثمانية قوية ، لو حدث ذلك لمنع محمد علي المشروع الأوروبي الاستعماري ، ومن ثم لم تكن النهضة الأوروبية قد تحققت أصلاً ، لأنها ما تحققت إلا بسبب تراكم ثروات النهب من إفريقيا ، ولكانت النهضة قد تحققت في إفريقيا بدلاً من أوروبا ، وكان من الممكن الآن أن نسمع إعلانات التلفاز عن مساحيق تسويد البشرة بدلاً من مساحيق تبييض البشرة ! !
لو أن النظام المصري لم يرتكب الخطيئة التاريخية في 1956 بفصل السودان عن مصر ، وبديهي أن قضايا وحدة الدول لا تتم بالاستفتاءات ، وإلا ما كانت هناك دولة واحدة في العالم لم تتفكك إلى عشرات الدول ، بل إن الوحدة لا تتم أحياناً إلا بالقوة . لو لم يرتكب النظام المصري هذه الحماقة لكان الأمر مختلفاً ، وعلى كل حال فإن المسألة لا تزال متاحة فيمكن بالفعل تحقيق وحدة مصر والسودان وإصلاح الخطأ التاريخي .
***
يعتبر نهر النيل هو أطول أنهار العالم حيث يبلغ طوله 6670 كيلو متر وتقدر مساحة حوض النيل بنحو 9.21 مليون كيلو متر مربع أي ما يعادل 10 % من مساحة إفريقيا ، وتوجد مننابع النيل في 3 قطاعات هي القطاع الجنوبي ويضم بحيرة فيكتوريا وتشترك فيها كل من تنزانيا وأوغندا وكينيا ، كما يوجد نهر كاجيرا في رواندا وبوروندي ، وبحيرة إدوارد وألبرت ، وهي مشتركة بين أوغندا والكونغو ، أما القطاع الشرقي فيضم إثيوبيا ، ومنابع النيل الشرقية تعطي النيل 85 % من المياه التي تصل إلى مصر والباقي 15 % من القطاع الجنوبي .
أهم الاتفاقات الدولية التي نظمت علاقة دول حوض النيل هي
- بروتوكول روما 1881 بين بريطانيا وإيطاليا
- اتفاقية أديس أبابا 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا
- معاهدة لندن 1906 بين بريطانيا وبلجيكا
- اتفاقية 1925 بين بريطانيا وإيطاليا
- اتفاقية عام 1929
- اتفاقية عام 1932 بين مصر وبريطانيا وأوغندا وكينيا وتنجانيقا
- الاتفاقية المصرية السودانية عام 1959
- اتفاقية منظمة دول حوض النيل عام 1983 بين مصر والسودان وأوغندا
- اتفاقية 1993 بين مصر والسودان وإثيوبيا
د. محمد مورو | 11/5/1431 هـ
إذا كان الصراع على البترول قد شكل مساحة كبيرة من معادلات وأحداث المنطقة منذ عقود كثيرة وحتى الآن، فإن الصراع على المياه يمكن أن يكون أشد حدة؛ ذلك أن المياه في التحليل النهائي أهم من البترول وأغلى؛ فهو سر الحياة {وَجَعَلْنَا مِنَ الْـمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30].
ولا شك أن الإدراك المبكر لأهمية المياه، ومعرفة طبيعة الصراع القادم حولها سيؤثر على أمتنا إذا ما أحسنا الاستعداد بكثير من الجهد والتضحيات، ويؤمّن لهم مستقبلاً معقولاً، أما إذا ظل العرب في حالة غفلة عن هذه التقنية الخطيرة فإن مجرد وجودهم على سطح الأرض سيصبح أمراً صعباً!
ومن المهم هنا أن نقرر حقيقة بدهية، أن هناك علاقة مباشرة بين الأمن العربي بعامة ومسألة تأمين مصادر المياه. وإذا كان الأمن العام لدولة ما هوالا الإجراءات التي تتخذها تلك الدولة لتحافظ على كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل، فإن فهم الأمن على أنه موضوع الدفاع العسكري داخلياً وخارجياً هو أمر سطحي وضيق؛ لأن الأمن العسكري هو وجه سطحي ضيق لمسألة الأمن الكبرى كما يقول روبرت مكنمارا وزير الدفاع الأمريكي الأسبق؛ فهناك الكثير من الجوانب غير العسكرية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمسألة الأمن القومي، ومن هذه الجوانب بالطبع مسألة الأمن الغذائي والاقتصادي ومسألة المياه على رأس تلك الجوانب.
وإذا أخذنا مسألة الأمن الغذائي كمحدد لفهم مستقبل العالم العربي لوجدنا أن الأمر مفزع؛ ذلك أنه إذا كان من يمتلك غذاءه يمتلك قراراه؛ فإن وجود فجوة غذائية في العالم العربي تصل إلى حوالي 60 مليار دولار سنوياً هي الفرق بين الصادرات والواردات العربية مما يمثل مشكلة خطيرة، بل ونسبة الاكتفاء الذاتي من أهم السلع الاستراتيجية في مجال الغذاء لا تزيد عن 39%، وهذه النسبة لها أهميتها؛ ونراها في حالة الدول ذات الأهمية في المنطقة العربية مثل مصر التي يبلغ اكتفاؤها الذاتي من القمح 27%.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن السوق العالمية للقمح تتشكل من دول ذات توجهات سياسية ومتعارضة معنا، لأدركنا فداحة المشكلة؛ فالدول الكبرى المسيطرة على سوق تصدير القمح هي «أمريكا، كندا، أستراليا، السوق الأوروبية المشتركة»؛ حيث يمكنها التكتل في احتكار للتحكم ليس في تصدير القمح فقط بل وفي أسعاره كذلك.
وهكذا فإن المسألة الغذائية تفجر بالضرورة مسألة الماء؛ حيث إن الماء هو العنصر الأساس للزراعة القادرة بدورها على سد تلك الفجوة الغذائية. وبالطبع لا تقتصر أهمية الماء على مسألة الزراعة؛ فالماء ضروري للتصنيع أيضاً، فضلاً عن أهميته لتلبية الاستهلاكات البشرية المباشرة من مياه شرب وغسيل وغيرها، وليس عبثاً بالطبع أن تكون معظم الحضارات قد نشأت حول مصادر المياه.
ومشكلة المياه في الوطن العربي ذات أبعاد كثيرة؛ فالوطن العربي يقع في الحزام الجاف وشبه الجاف من العالم، وتقل فيه الموارد المائية المتجددة عن 1% من المياه المتجددة في العالم، ونصيب الفرد العربي من المياه 1744 متراً مكعباً سنوياً، في حين أن المعدل العالمي يصل إلى 12900 متر مكعب سنوياً، ومعدل هطول الأمطار في الوطن العربي بين 5 ـ 450 ملم سنوياً، في حين يتراوح في أوروبا مثلاً بين 200 ـ 3000 ملم سنوياً. وتمثل الصحارى في الوطن العربي مساحة 43% من إجمالي المساحة الكلية للوطن العربي،و حجم الموارد المائية المتاحة ً تبلغ 338 مليار متر مكعب سنوياً لا يستثمر منها إلا 173 مليار متر مكعب! في حين أن الوطن العربي يحتاج لتلبية احتياجاته من المياه ـ إذا أحسن استخدامها، وتم عمل خطط لسد الفجوة الغدائية ـ إلى حوالي 500 مليار متر مكعب من المياه سنوياً.
والموارد ومصادر المياه في الوطن العربي تتمثل في الأمطار والمياه السطحية «الأنهار» والمياه الجوفية، ولعل المشكلة حول المياه السطحية «الأنهار» هي الأهم؛ فالمياه السطحية المتاحة حالياً للوطن العربي تبلغ 127.5 مليار متر مكعب سنوياً، تحوز ثلاثة أقطار عربية حوالي 71 % منها، هي مصر والعراق والسودان، ومن المفروض أن يزيد حجم الموارد السطحية ليصل إلى 256 مليار متر مكعب من المياه؛ أي ضعف ما هو متاح حالياً عن طريق مشروعات الري والسدود مثل قناة جونجلي في السودان.
وإذا أدركنا أن 67% من مياه الأنهار «المياه السطحية» في البلدان العربية تأتي من خارج بلادهم لعرفنا حجم ما يمكن أن يحدث من مشكلات إذا قام العرب بعمل تنمية أو سدود تؤدي إلى زيادة مواردهم، وعلى سبيل المثال فإن نهر النيل ينبع من إثيوبيا «النيل الأزرق»، وبحيرة فكتوريا «النيل الأبيض»، ويمر في تسع دول إفريقية هي «إثيوبيا، كينيا، أوغندا، تنزانيا، رواندا، بوروندي، والكونغو والسودان ومصر»، ويقطع مسافة من أبعد منابعه على روافد بحيرة فكتوريا نيانزا في قلب إفريقيا إلى ساحل رشيد على البحرالأبيض المتوسط في مصر حوالي 6700 كم.
أما نهرا الفرات ودجلة فينبعان من الجبال الواقعة شمال تركيا، ويمر الفرات عبر سوريا ثم العراق. أما نهر دجلة فيمر من تركيا إلى العراق مباشرة.
وبالنسبة لنهر النيل ـ مثلاً ـ الذي تعتمد مصر عليه اعتماداً شبه كامل في اقتصادياتها وخاصة الزراعة؛ فإن نصيب مصر منه يصل الآن إلى 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، والسودان إلى 18.5 مليار متر مكعب سنوياً، وبديهي أن مصر والسودان يسعيان إلى زيادة مواردهما من مياه النيل عن طريق مجموعة من المشروعات، وهذه المشروعات لن تؤثر على حصة دول المنبع؛ لأن المياه قد تركت أراضيهم بالفعل من ناحية، ولأن هذه الدول لها مصادر مياه غنية جداً، فإثيوبيا مثلاً التي يأتي منها 85% من مياه النيل المستخدمة في مصر ليست في حاجة إلى مياه النيل أصلاً؛ لأن مواردها المائية أعلى كثيراً من احتياجاتها، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة؛ حيث تسعى قوى عالمية وإقليمية لحرمان مصر من حصة كبيرة من المياه أو منها على الأقل من زيادة مواردها من تلك المياه؛ فإسرائيل تسعى إلى زيادة نفوذها في القرن الإفريقي ومنطقة البحيرات الكبرى وكذلك أمريكا.
والمخططات المعادية لمصر في هذا الصدد كثيرة وهناك مخطط قديم يقضي بمحاولة تحويل مجرى النيل في إثيوبيا، وقد قام المكتب الأمريكي لاستصلاح الأراضي بعمل الدراسات الخاصة به إلا أنه بالطبع لم ينفذ، ولكنه يشكل فكرة في الأدراج يمكن تنفيذها فيما بعد للضغط على مصر، وهناك الآن عدد من الدراسات الجاهزة لإقامة سدود على النيل في إثيوبيا سوف يمولها البنك الدولي تؤثر على حصة مصر من المياه بنسبة 20% سنوياً، أي 7 مليارات متر مكعب من المياه، بل ووصل التفكير إلى حد أن هناك خطة تقضي بتحويل كل مصادر المياه في تلك المنطقة لتصب في منطقة البحيرات العظمى في وسط القارة كخزان عملاق للمياه، ثم بيع هذه المياه لمن يريد ويدفع الثمن كالبترول تماماً، ويمكن كذلك تعبئتها في براميل تحملها السفن أو عن طريق أنابيب لبيعها لدول خارج القارة، وتطالب إسرائيل أيضاً بمدها بنصيب من مياه النيل عن طريق سيناء، وإلا قامت بإحداث متاعب لمصر في منابع النيل في إثيوبيا ومنطقة البحيرات.
وفي الحقيقة فإن المطامع الإسرائيلية في مياه النيل قديمة قدم المشروع الصهيوني ذاته، فقد تقدم الصهاينة في بداية هذا القرن بمشروع إلى اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر لهذا الغرض إلا أن ذلك المشروع قد رفض، وفي عام 1974م قام مهندس إسرائيلي «إليشع كيلي» بتصميم مشروع لجلب المياه لإسرائيل من الدول المجاورة على أساس أن إسرائيل ستعاني من مشكلة مياه في المستقبل، ويتلخص المشروع بالنسبة لنهر النيل في توسيع ترعة الإسماعيلية حتى يزيد معدل تدفق المياه داخلها إلى 30 متراً مكعباً في الثانية، ونقل هذه المياه عن طريق سحارة تمر أسفل قناة السويس، ثم تصب المياه على الجانب الآخر من القناة في ترعة مبطنة بالإسمنت لمنع تسرب المياه، وتصل هذه الترعة إلى ساحـل فلـسطين المحتلة وتل أبيب، ثم في خط آخر يتجه جنوباً نحو بئر السبع لعرب صحراء النقـب، وتســـعى إســــــرائيل وفــق هــذه الخطة إلى الحصـول علـى 8 مليارات متر مكعب من المياه سنوياً من النيل، وقد تكرر الحديث عن هذا المشروع فيما بعد خاصة بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1979م.
وبالنسبة لنهر الفرات الذي ينبع من تركيا ويمر في سوريا والعراق، فإنه نشأت حول حصص المياه والتدفق في هذا النهر العديد من المشاكل بين كل من تركيا وسوريا والعراق، وتستخدم تركيا مسألة المياه للضغط السياسي على سوريا مثلاً ، ومن الناحية الفنية فإن سوريا لديها عجز في المياه يقدر بحوالي مليار متر مكعب سنوياً، ومع قيام تركيا بمشروعات كبرى على نهر الفرات تقضي بإنشاء 13 سداً، نفذت بالفعل منها سد أتاتورك عام 1990م؛ فإن معدل التدفق في النهر قد انخفض مما أثر على كل من سوريا والعراق، كما أن قيام سوريا بدورها بإنشاء سدود على الفرات يؤثر على العراق الذي يصل إليه النهر في النهاية، بل قد وصلت الأمور إلى حافة الصدام بين سوريا والعراق عام 1974م.
كانت المياه من أهم العوامل التي نشأت بسببها الحروب بين العرب و (إسرائيل)، فالعمليات العسكرية الإسرائيلية على الحدود السورية اللبنانية عامي 1964، 1965م كانت بسبب الأطماع الإسرائيلية في مياه نهر الأردن ونهر بانياس ونهر اليرموك ونهر الحاصباني، كما كان من أسباب حرب 1967م موضوع تحويل مجرى نهر الأردن، وفي عام 1982م شنت إسرائيل حملة عسكرية على لبنان كان من أهدافها أطماع إسرائيل في نهر الليطاني.
وتسعى (إسرائيل) كما ذكرنا من قبل إلى الحصول على مياه نهر الفرات من تركيا مباشرة، وكذلك الحصول على حصة من مياه نهر النيل عن طريق قناة الإسماعيلية باتجاه النقب وساحل (إسرائيل).
وتعتبر المياه محوراً هاماً من محاور الفكر الصهيوني؛ فبعد صدور وعد بلفور عام 1917م تقدم حاييم وايزمان رئيس المؤتمر الصهيوني آنذاك إلى لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا طالباً تحسين حدود إسرائيل حسب وعد بلفور، لتضم حوض الليطاني وجبل الشيخ وحرمون أي تضم أنهار الأردن وبانياس واليرموك.
ويقول الصهيوني بلسان هوارس عام 1921م: «إن مستقبل فلسطين بأكمله هو بين أيدي الدولة التي تبسط سيطرتها على الليطاني واليرموك ومنابع الأردن».
وأعلن ديفيد بن جوريون عام 1955م «أن اليهود يخوضون مع العرب معركة المياه، وعلى نتيجة هذه المعركة يتوقف مصير إسرائيل، وأننا إذا لم ننجح في هذه المعركة فإننا لن نبقى في فلسطين».
ومن المعروف أن الحدود الإسرائيلية المستهدفة طبقاً للخريطة المعلقة على الكنيست في إسرائيل هي من النيل إلى الفرات أي من ماء إلى ماء.
على كل حال فإن إسرائيل توفر حاجاتها المتزايدة من المياه التي تصل 3.5 مليار متر مكعب حالياً، وتريد إسرائيل زيادتها إلى 12 ملياراً للتوسع في مشروعاتها، وتحصل عليها الآن إما من سرقة مياه الآبار العربية بوسائل تكنولوجية معقدة داخل الأراضي المحتلة، أو من مشروعات تستهدف السيطرة على أكبر قدر ممكن من مياه الأنهار العربية وحرمان الآخرين منها. وبالطبع فإن الفجوة المائية بين ما تنهبه إسرائيل حالياً من المياه العربية وبين ما تستهدف نهبه يمكن أن يشكل عنصراً هاماً من عناصر اندلاع حروب قادمة في المنطقة.
جاءت اجتماعات شرم الشيخ في مصر ، التي ضمت دول حوض النيل التسعة " دولتا المصب مصر والسودان ، ودول المنابع إثيوبيا وتنزانيا وكينيا ورواندا وبوروندي وأوغندا والكونوغو " ، لتفتح من جديد ملف شائك هو ملف المياه وحصص الدول واستحقاقاتها في حوض النيل ، وهي قضية ليست جديدة ، فقد ثارت منذ عدة سنوات ، حول حقوق دول المنبع في إقامة مشروعات مياه يمكن أن تؤثر على على حصة دول المصب من هذا الماء ، وقد اتخذت دول المنابع السبع هذه المرة ، موقفاً تصعيدياً خطيراً فرفضت الرؤية التي تريدها مصر والسودان حول إنشاء مفوضية واحدة لإدارة الموضوع بالكامل ، ومن ثم الحوار والنقاش والوصول إلى الأهداف المرجوة بالاتفاق ، بمعنى عمل مشروعات لزيادة موارد المياه ومنع هدرها ، وكذلك عمل مشروعات في دول المنابع بما لا يضر دول المصب ، أصرت دول المنابع السبع على توقيع اتفاقية إطار وطلبت من مصر والسودان التوقيع ، وأعطتها مهلة زمنية لمدة عام لمن أراد ، وبذلك أرادت هذه الدول أن تفرض على مصر والسودان رؤيتها ، ومن ثم يتم تغيير الاتفاقيات السابقة التي تحدد حصة مصر والسودان من المياه ، وبديهي أن الأمر بهذه المثابة شديد الخطورة ، لأن حصة مصر من المياه لا تكاد تكفيها ، ومن ثم فإن هذه المسألة بالنسبة لمصر خط أحمر ، والرئيس السادات هدد بشن حرب على إثيوبيا عندما علم بنيتها في إقامة سدود بالتعاون مع إسرائيل تؤثر على حصة مصر من المياه ، والشيء نفسه هدد به الدكتور محمود أبو زيد وزير الري الأسبق عندما طلبت دول المنابع تغيير الاتفاقيات الدولية الموقعة بين دول الحوض .
الاستهلاك المصري من الماء حالياً يبلغ 80 مليار متر مكعب من النيل يؤمن النيل منها 75 % ومياه الصرف 20 % والباقي أي 5 % من مياه الأمطار والمياه الجوفية ونلاحظ أن المياه التي تأتي عن طريق معالجة الصرف الصحي والصناعي هي ذاتها استرجاع لمياه النيل أصلاً أي أن الموارد المائية المصرية خارج النيل لا تتعدى 2 – 5 % فقط ، وهكذا فإن النيل هو شريان الحياة بالنسبة لمصر ، وأي اقتراب من هذا الموضوع هو خط أحمر يمس حياة المصريين وليس نوعاً من الترف مثلاً ، ونصيب الفرد المصري حالياً من المياه حوالي 700 متر مكعب من الماء سنوياً وهو رقم شديد التدني بالنسبة للأرقام العالمية ، ومرشح للمزيد من النقصان مع زيادة عدد سكان مصر " نصيب الفرد في العالم 4000 متر مكعب من المياه سنوياً " .
الموقف المصري قائم على أنه لا يجوز تغيير الاتفاقيات الدولية بخصوص المياه وأن القانون الدولي يؤيد ذلك ، أما دول المنبع فترى أن تلك الاتفاقيات تمت في مرحلة الاستعمار ، ومن ثم فإن قراراها لم يكن بيدها في ذلك الوقت ولا يمكن الاستمرار في هذا الأمر لأنه تم على حساب مصالح وحقوق شعوبها ، وفي الحقيقة فإن تلك الاتفاقيات التي تمت إبان مرحلة الاستعمار لا تخص المياه فقط ولكنها تخص الحدود كذلك – التي اعتبرتها منظمة الوحدة الإفريقية حدوداً منتهية لا يجوز إعادة النظر فيها وإلا فتحنا الباب لصراعات بين دول إفريقية كثيرة .
كل طرف له حجته القانونية والإنسانية ، فلا يمكن نقصان نصيب مصر من المياه التي تعاني أصلاً من ضعفها وإلا كان ذلك نوع من قتل الشعب المصري والقضاء على مستقبله وكذا لا يمكن تجاوز حق دول المنبع في تنمية مواردها ورفع مستوى شعوبها ، ويمكن الوصول إلى صيغة توافقية في هذا الصدد لو خلصت النوايا ، فمثلاً فإن بحيرة فيكتوريا يبلغ الإيراد السنوي فيها 144 مليار لتر مكعب وما يتم استخدامه منها يبلغ 21 مليار لتر مكعب أي أن هناك 93 مليار متر مكعب من المياه تضيع ، وبحيرة ألبرت يبلغ إيرادها السنوي 34 مليار متر مكعب يتم استخدام 26.5 مليار متر مكعب ويضيع 6.7 مليار لتر مكعب ، نفس الأمر بالنسبة للمياه الآتية من هضبة إثيوبيا حيث يضيع معظمها في المستنقعات ، وفي المحصلة فإن موارد النيل 1660 مليار متر مكعب سنوياً لا يصل إلى مصر والسودان منها إلا 74 مليار لتر مكعب أي حوالي 4 % والباقي يضيع أو جزء كبير منه وهكذا فإن إنشاء مفوضية عليا تهدف إلى تنسيق المشروعات وتدير الاستثمارات وطرح أفكار التعاون بين دول حوض النيل هي فكرة جيدة جداً يمكن أن تزيد حصة مصر والسودان من الماء ، وتحقق استثماراً في دول المنبع ، بحيث لا يضيع مئات المليارات من الأمتار المكعبة من المياه التي تهدر سنوياً ، ومن ثم تحل مشكلة الجميع ، ولكن الإصرار على تعديل الاتفاقيات الموقعة يعطي الانطباع بأن المسألة ليست مسألة فنية بحتة ، بل بها دوافع سياسية مختلفة وعلينا أن ندرك ما يلي
- أن نفوذ مصر السياسي والاجتماعي والثقافي قد ضعف في الآونة الأخيرة ، وأنه ما كانت تتمتع به مصر من نفوذ في النطاق الإفريقي قد تراجع
- أن هناك تدخلات إسرائيلية وأمريكية معروفة وسرية تلعب في هذا الموضوع وأنه إذا أرادت مصر أن تمارس أوراقها في هذه القضية فإن عليها أن تستعيد نفوذها في النطاق الإفريقي ، ويمكن تحقيق ذلك عن طريق الأزهر مثلاً ، وكذا يمكن التلويح بفتح قضايا الحدود المرتبطة بتلك الاتفاقات ، مثلاً فإن الصومال إذا دعمت مصر فيه الاتجاهات المتشددة التي تريد تحقيق وحدة الصومال التاريخية ، فإنها سوف تطالب بأوجادين من إثيوبيا ، وبونتي من كينيا ، وهكذا فإن هذه ورقة ضغط خطيرة على كل من إثيوبيا وكينيا .
لو التي تستفح عمل الشيطان
لو أن محمد عي باشا ، كان قد سار في مشروعه الإفريقي واستخدم قوة مصر في هذا الصدد بدلاً من الاتجاه شمالاً والصدام مع الدولة العثمانية ، فأضعفها وأضعف نفسه ، ومن ثم سمح بظهور أوروبا على حساب الخلافة ، وكذا منع مشروعه الإفريقي ، لأنه لو ترك الخلافة قوية تناطح أوروبا ، واتجه إلى إفريقيا فقط ، وصنع إمبراطورية إسلامية إفريقية تضم كل دول حوض النيل ، ما كان أحد يقدر على منعه ، لأن وسائل المواصلات لم تكن تسمح لأوروبا بتعطيل مشروعه الإفريقي ، وكذا التوازن القائم في أوروبا بسبب استمرار الخلافة العثمانية قوية ، لو حدث ذلك لمنع محمد علي المشروع الأوروبي الاستعماري ، ومن ثم لم تكن النهضة الأوروبية قد تحققت أصلاً ، لأنها ما تحققت إلا بسبب تراكم ثروات النهب من إفريقيا ، ولكانت النهضة قد تحققت في إفريقيا بدلاً من أوروبا ، وكان من الممكن الآن أن نسمع إعلانات التلفاز عن مساحيق تسويد البشرة بدلاً من مساحيق تبييض البشرة ! !
لو أن النظام المصري لم يرتكب الخطيئة التاريخية في 1956 بفصل السودان عن مصر ، وبديهي أن قضايا وحدة الدول لا تتم بالاستفتاءات ، وإلا ما كانت هناك دولة واحدة في العالم لم تتفكك إلى عشرات الدول ، بل إن الوحدة لا تتم أحياناً إلا بالقوة . لو لم يرتكب النظام المصري هذه الحماقة لكان الأمر مختلفاً ، وعلى كل حال فإن المسألة لا تزال متاحة فيمكن بالفعل تحقيق وحدة مصر والسودان وإصلاح الخطأ التاريخي .
***
يعتبر نهر النيل هو أطول أنهار العالم حيث يبلغ طوله 6670 كيلو متر وتقدر مساحة حوض النيل بنحو 9.21 مليون كيلو متر مربع أي ما يعادل 10 % من مساحة إفريقيا ، وتوجد مننابع النيل في 3 قطاعات هي القطاع الجنوبي ويضم بحيرة فيكتوريا وتشترك فيها كل من تنزانيا وأوغندا وكينيا ، كما يوجد نهر كاجيرا في رواندا وبوروندي ، وبحيرة إدوارد وألبرت ، وهي مشتركة بين أوغندا والكونغو ، أما القطاع الشرقي فيضم إثيوبيا ، ومنابع النيل الشرقية تعطي النيل 85 % من المياه التي تصل إلى مصر والباقي 15 % من القطاع الجنوبي .
أهم الاتفاقات الدولية التي نظمت علاقة دول حوض النيل هي
- بروتوكول روما 1881 بين بريطانيا وإيطاليا
- اتفاقية أديس أبابا 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا
- معاهدة لندن 1906 بين بريطانيا وبلجيكا
- اتفاقية 1925 بين بريطانيا وإيطاليا
- اتفاقية عام 1929
- اتفاقية عام 1932 بين مصر وبريطانيا وأوغندا وكينيا وتنجانيقا
- الاتفاقية المصرية السودانية عام 1959
- اتفاقية منظمة دول حوض النيل عام 1983 بين مصر والسودان وأوغندا
- اتفاقية 1993 بين مصر والسودان وإثيوبيا