الاسلام والمسؤوليه
مرسل: الخميس ديسمبر 30, 2010 3:02 pm
أَنعَم الله على الإنسان إلى جانب تقويمه الحسن وعقله المبدع ونفسه الطيبة بكثير من المزايا التي جعلت علماء الاجتماع يصفونه لأجلها تارة بالحيوان الاجتماعي، وطوراً بالحيوان الضاحك، وطوراً آخر بالمخلوق الحزين.
وهذه الاطلاقات اللفظية ابتكرتها مخيلة العلماء ليؤدوا بها معنىً صادقاً في الإنسان غير التعقل، وصفة خفية تلازمه غير التفكير، ألا وهي إحساس الإنسان بإنسانيته من حيث هو مخلوق يحافظ على نفسه بغريزته ويحافظ على مَن وصلتهم الأقدار فيه بطبيعته.
ولكي نكون أكثر وضوحاً وأظهر بياناً نقول إن الإنسان مسؤول وهو ضاحك باك على السواء، ومسؤوليته هذه قد تقسو عندما تفدحه أعباؤها، وقد ترق عندما لا يكاد المرء يشعر بها. غير أنه ميال بأي حال إلى العناية بأقرب الناس إليه والعمل على إفادتهم ونفعهم مهما برزت أنانيته وظهرت أثرته.
ومن هنا كانت المسؤولية هي مقياس العظمة، وكان السابقون الأولون فيها هم المتطوعون لغيرهم، العاملون على خدمة إخوانهم وبني جنسهم. وكان أتفه الناس أولئك الذين يلهثون تحت مسؤولية أنفسهم وحدها وليس يشغلهم سواها.
هكذا خلق الله الخلق وطبع الطبائع فجعل لكل نفس هواها ولكل موجود هدفه، ثم تنازع الناس البقاء، واختلفوا على العرض الفاني والمتاع الزائل، فاقتضت حكمة الله أن ينصب لهم ولياً من أنفسهم يرتضون لمقدراتهم أن تكون ملك يديه، فيجمع كلمتهم، ويقيم الأحكام فيهم، وذلك هو الإمام العادل أو الرئيس الصالح، وتلك هي الرعاية العظمى التي وصفها رسولنا الحكيم بقوله: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والولد راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)).
صدق رسول الله عليه صلوات الله، إن كل مَن كان تحت نظره وولاياته أسرة أو أخوة، شعب أو أمة، مطالب بالعدل فيهم والقيام بمصالحهم فإن وفّى حق الرعاية والنظر نال الحظ الأكبر من سلامة الدنيا ونعيم الآخرة.
وإن أخلّ بالحقوق التي استودعه الله إياها واستأمنه رعايتها وحفظها كان من حق كل فرد من أفراد الرعية أن يطالبه بها.
فالحاكم وكل إليه شأن الأمة يدبر أمورها ويحفظ حقوقها، وهو مسؤول عن كل شيء فيها وعن كل فرد منها.
والدولة هي الأسرة الكبيرة وما حكامها وقادتها إلا رعاة مسؤولون عن سعادتها واستقرارها. فبقدر ما يشعر الحاكم بمسؤوليته تجاه رعيته بقدر ما تتوضح له سبل الخدمة العامة التي تقضي منه أن يضحي براحته وأنانيته والكثير من وقته ليؤديها على وجهها الأكمل، كما يجب أن تؤدى.
هكذا فهم المسؤولية الرعيل الأول من المسلمين الأولين، فهموها حثاً لهم على العناية بشؤون رعيتهم والاهتمام بها، تفانياً في سبيل إسعادهم وتوفير الراحة والطمأنينة لمجتمعهم.. لأن المسؤولية في الإسلام أمانة، والحكم أمانة، والقضاء أمانة.
ولعل من أهم أمانات الحكم وجوب إسناد المهام الرئيسية والوظائف العامة إلى الأمناء والأقوياء والعلماء الأكفاء لا إلى الضعفاء أو الخونة أو الجهلاء..
يحدثنا القرآن الكريم عن لسان بنت شعيب قولها لأبيها: (يا أبت استأجره إن خير مَن استأجرت القوي الأمين). ويقول أبو ذر: ((قلت لرسول الله (ص): ألا تستعملني))؟ يعني تجعلني أميراً أو والياً على أحد الأمصار. فضرب رسول الله على كتفي وقال لي: ((يا أبا ذر، إنك رجل ضعيف وإنها أمانة يوم القيامة خزي وندامة إلا مَن أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها)).
ومن أمانات الحكم أيضاً في الإسلام عدم محاباة الأقرباء والأنصار والأنسباء بتقديمهم على مَن هم أحق منهم بالمسؤولية وأجدر.يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((مَن وُلي من أمر المسلمين شيئاً فأمر عليه أحداً محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ـ يعني فرضاً ولا نفلاً ـ حتى يدخله جهنم)).
ومن هذا القبيل ما رواه البخاري في صحيحه عن رسول الله إنه قال: ((إذا ضُيعت الأمانة فانتظروا الساعة)). قيل: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: ((أن يوسد الأمر لغير أهله)). وفي حديث آخر: ((مَن استعمل رجلاً على عصابة من المسلمين وفيهم مَن هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين)).
إن الحكم تكليف لا تشريف، ومسؤولية وتضحية وإرهاق في النهار وهم بالليل. وإن معنى الحكم إقامة ميزان الحق ونشر لواء العدالة وبثّ روح المساواة. فعلى المسؤولين أن يفهموه هكذا.. وإلا فإن الهوة السحيقة المخيفة ستظل قائمة فاغرة فاها بين الحاكم والمحكوم، وإن العداء سيظل مستحكماً بين المواطن والراعي، ولا ينكر أحد حتى المكابر. إن نهضات الأمم وتقدم الشعوب لا يكون غلا بتحقيق الانسجام المنتج الفعال بين الشعب وحكامه، بين القادة والمواطنين.
ومن هنا كان الخليفة أو الرئيس أو أي حاكم أو أي مسؤول، في شريعة الإسلام، هو وكيل عن الأمة ولهذه الأمة حق محاسبته ومقاضاته، ومن ثم حق عزله إذا ثبتت خيانته أو تحققت جرائمه التي يرتكبها في أثناء حكمه.
وليس هذا بدعاً في شريعة الإسلام، فجميع الأمم المتحضرة اليوم تشترعه وترضاه، غير أن أفضلية الإسلام على ما عداه كونه سبق الزمان ـ في ما يتعلق بمحاكمة الرؤساء ـ بأربعة عشر قروناً.
ومن جولة خاطفة في القرآن الكريم نراه في مخاطباته الجماعية لم يكن يوجه شيئاً منها إلى الإمام أو الخليفة، بل كان يوجهه مباشرة إلى أفراد الأمة معتبراً شخص المسؤول الأول ـ خليفة كان أم رئيساً أم ملكاً ـ كسائر الأفراد عليه تطبيق المبادئ القرآنية مثلما يطبقها سواه. مثال ذلك: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين). قال: (عاهدتم)، والخطاب لجماهير الأمة. ولم يقل عاهدت ويعني المسؤول الأول في الدولة.
وحين يتحدث القرآن أيضاً عن الأسرة والأحوال الشخصية يخاطب المسلمين جميعاً، فيقول: (فإن خفتم ألاّ يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به). قال كما نلاحظ (خفتم)، مخاطباً جميع المسلمين. ولم يقل خفت يا محمد، ويكون الخطاب للرسول وحده.
هذا بعض من كل وقليل من كثير من مسؤولية الرؤساء والحكام في الإسلام. أما مسؤولية علمائه فليست أقل شأناً منها عند أمرائه، فهم توأم الأمراء في المسؤولية وفقاً لما ورد في الحديث الشريف: ((صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت وإذا فسدا فسدت العلماء والأمراء)): العلماء العاملون المخلصون، والأمراء الرحماء العادلون.
وأولى مسؤوليات العلماء تتعلق بالدعوة إلى الله الواحد الأحد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر توصلاً إلى إعمار البلاد وإسعاد العباد، وترسيخ قواعد العدالة والأمن، وضبط العلاقات الإنسانية العامة في إطار من الخير المطلق والنفع العام.
فحمل الإسلام، ونشره بين الناس ـ كل الناس ـ هو أمر لازم على المسلمين بطريق الوجوب. يدل عليه الأمر الرباني الظاهر في قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). والمهمة الحقيقية لهؤلاء الدعاة التي تنتظر التنفيذ منذ زمن بعيد هي ((صناعة المستقبل الإسلامي))، وتقويم الإسلام ـ بالفعل ـ لعالم الغد كنموذج حياة فضلى ونظام أمثل. فخدمة هذا الدين لم يعد من الجائز الاقتصار فيها على عرض صوره الماضية للذكرى فحسب، بل من الواجب عرضه للتطبيق بغية إنقاذ الحياة الإنسانية.
فالدعاة هم مفاتيح النجاة للأمة، وعليهم يبنى مجدها، وبعلمهم يظهر تفوقها وتبدو محاسنها.
ولكن مَن هم هؤلاء الدعاة الذين نرجو تحقيق ذلك عن طريقهم وبقدراتهم؟
نحن اليوم في أحرج الأوقات، فليس أمامنا إلا حركة وإمكانات، لشعب أصيل، يتمسك بعقيدته، ويعتصم بدينه، ولا بد لتحقيق هذه الحركة وتلك الإمكانات، من إيجاد العالم الناضج المتسامح، كي تنشأ عن طريقه دعوة جادة قوية، لتصلح هذه الأمة على ما صلح عليه أولها، ولا سيما أنه لم يضع من أركان العلم الإسلامي شيء. فالقرآن الكريم والحديث الشريف ما برحا ولن يبرحا، والفقه المفضل والتاريخ المبسوط كل ذلك ماثل معروف. وليس على الدعاة من رجال الدين إلا أن يستقوا بتلك الدلاء ويشربوا من هذه الموارد.
القضايا التي تواجه الداعية المسلم في عصرنا الحاضر:
ومن أهم ما يواجهه الإسلام اليوم، هو قضايا: ((وجود الله)) والغيبيات، والإيمان بصورة مطلقة، مع ما يستتبع ذلك كله من قضايا: الرسل والملائكة، والبعث، والخلق والتكوين، والجنة والنار... إلخ.
كما أن الإسلام يواجه اليوم نظريات علمية فلسفية، قائمة على الأسلوب التجريبي والبحث العلمي المطلق. ويجب علينا أن نواجه الواقع، ونعترف بأن الإسلام يتعرض اليوم لحملة تفتيت وتوهين ومحو، شبيهة بالحملة التي تعرضت لها النصرانية في أواخر القرن السابع عشر، وفي أثناء القرن الثامن عشر الميلاديين.
ويجب علينا بالتالي أن نعترف أيضاً، بأن العقيدة الإسلامية، تواجه هذه النظريات الشديدة التأثير على عقول الناشئين والمثقفين، بقدراتها الكلاسيكية، وبأساليب ومناهج أقل ما يقال فيها، إنها لا تناسب متطلبات الثقافة الحديثة، ولا يمكن بالتالي أن تمكن أصحابها من الثبات، بله الانتصار.
إن شباب المسلمين اليوم، يتلقون التعليم العالي في المعاهد والجامعات، ويدرسون النظريات العلمية الحديثة كالوجودية، والشيوعية، والمادية، وسواها. ويتلقون كل هذا، من دون أن تكون لهم سابق معرفة بدينهم وقواعده.. بحيث نرى الكثيرين منهم وقد احتلت رؤوسهم أفكار لا علاقة لها بالإسلام مطلقاً، بل هي مناقضة للإسلام، وهادمة له بصورة كلية.
ولذلك، فإن أشد ما تمس له الحاجة في زمننا، هو إيجاد طبقة رائدة، من الدعاة المسلمين، تتوفر فيهم من الصفات ما هو شكلي، وما هو جوهري. فمن الصفات الشكلية التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية:
1 ـ العناية بمظهره عناية تجعله جذاباً أخّاذاً.
2 ـ يستحسن أن تتوفر فيه اللياقة البدنية. ويمكننا أن نلمح هذه الناحية في قول الله سبحانه لجماعة من بني إسرائيل بعد موسي، طلبوا من نبيهم أن يجعل عليهم حاكماً، يقودهم تحت لوائه لإعلاء كلمة الله. فقال لهم نبيهم: ((إن الله قد استجاب لكم، فاختار طالوت حاكماً عليكم، لتوافر صفات القيادة فيه، وهي: سعة الخبرة مع قوة الجسم))، قال: ((إن الله اصطفاه عليكم، وزاده بسطة في العلم والجسم)).
3 ـ أن يجلس الداعية في تواضع، ويعرض المسائل في لين، ويجادل في أدب، ويصغي لسائله باحترام. فلا يعلو عن العوام، ولا ينزل عن مرتبة الخواص، استناداً إلى وصية الله تعالى لموسى وهارون، حين أمرهما بالتوجه إلى فرعون، بقوله لهما: (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى).
أما الصفات الجوهرية التي ينبغي أن يتسم بها الداعية فمنها:
1 ـ أن يكون معداً إعداداً كاملاً: دينياً وخلقياً وثقافياً واجتماعياً.
2 ـ الدراية التامة بأخلاق المدعوين وعاداتهم وتقاليدهم.
3 ـ التمكن من إحدى اللغات الحية ـ عدا لغته الأصلية ـ خطابة وكتابة. مما يساعده على تبليغ رسالته لمن يشاء من المدعوين، باللغة التي يفهمونها.
4 ـ استيعاب الإسلام، بقواعده ومبادئه ونصه وروحه، استيعاباً كاملاً.
5 ـ التخصص ـ لا مجرد الإحاطة السطحية ـ بقضايا العصر ومشكلاته وفلسفاته ونظرياته وأُسسها.
6 ـ التفوق في عرض بضاعة الإسلام، ومحاسنه السلوكية والفكرية والإدارية، والإنسانية الفطرية، مع القدرة على اقتناص مثالب النظريات الحديثة وخللها ومحاذيرها من خلال مقارنتها بما يشتمل عليه الإسلام.
ولابد أيضاً من إناطة إدارات الوعظ والإرشاد في البلاد الإسلامية بتلك النخبة الممتازة من الدعاة، لتتمكن من أداء رسالتها، والقيام بواجباتها، في أوسع نطاق ممكن.
ومما لا شك فيه، أن التوسع في إيجاد هذه الطبقة من الدعاة الإسلاميين وتطويرها ـ بحيث يشمل نشاطها سائر البلاد الإسلامية ـ سيكون له أكبر الأثر في وقف حملة التشكيك التي يتعرض لها المسلمون، وفي إنهاء الأسطورة القائلة: بأن الإسلام لا يواكب تطور الحضارة وسير العلم الحديث.
إن المطلوب في العصر الحاضر، شيء آخر، شيء يواجه الفكر الحديث المتطور. المطلوب وعاظ مسلحون بسلاح العصر، محيطون بقضاياه، متعمقون بالاتجاهات الفكرية الحديثة، التي هي في الواقع ((جاهلية حديثة))، قادرون على الخوض في اهتمامات الجيل المثقف، على عرض الإسلام كبديل فطري وعقلي لها، ومتمكنون ـ بالوقت نفسه ـ من علم البحث والمناظرة.
ومن ثم إعداد قوافل من الدعاة الاختصاصيين وإيفادهم نحو المشارق والمغارب لبذر بذور الإسلام الصافي ونشر أغراسه في جميع البقاع والأصقاع. وإذا هم لم يفعلوا ـ لا قدّر الله ـ فإن الله لا يخلف وعده، ولن يتخلى عن دينه الذي ارتضاه لعباده، بل سيقيض لهذا الدين أُناساً ليسوا من أهله، يخرجونه من قوقعته، ويعتنقونه ويعتزون به، ويطرحونه على العالم في واجهة القرن الحادي والعشرين كبديل أفضل للحياة ويبطلون ـ بعد طره ـ بهرجة وزيف ما عداه من المعروضات الأخرى: (وإن تتولوا نستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).
عندئذ يغدو الإسلام ـ حقاً وصدقاً ـ دين المستقبل، دين العالم الحر السعيد، دين المدنية القادمة. ويقولون: (متى هو؟ قل عسى أن يكون قريباً).
وهذه الاطلاقات اللفظية ابتكرتها مخيلة العلماء ليؤدوا بها معنىً صادقاً في الإنسان غير التعقل، وصفة خفية تلازمه غير التفكير، ألا وهي إحساس الإنسان بإنسانيته من حيث هو مخلوق يحافظ على نفسه بغريزته ويحافظ على مَن وصلتهم الأقدار فيه بطبيعته.
ولكي نكون أكثر وضوحاً وأظهر بياناً نقول إن الإنسان مسؤول وهو ضاحك باك على السواء، ومسؤوليته هذه قد تقسو عندما تفدحه أعباؤها، وقد ترق عندما لا يكاد المرء يشعر بها. غير أنه ميال بأي حال إلى العناية بأقرب الناس إليه والعمل على إفادتهم ونفعهم مهما برزت أنانيته وظهرت أثرته.
ومن هنا كانت المسؤولية هي مقياس العظمة، وكان السابقون الأولون فيها هم المتطوعون لغيرهم، العاملون على خدمة إخوانهم وبني جنسهم. وكان أتفه الناس أولئك الذين يلهثون تحت مسؤولية أنفسهم وحدها وليس يشغلهم سواها.
هكذا خلق الله الخلق وطبع الطبائع فجعل لكل نفس هواها ولكل موجود هدفه، ثم تنازع الناس البقاء، واختلفوا على العرض الفاني والمتاع الزائل، فاقتضت حكمة الله أن ينصب لهم ولياً من أنفسهم يرتضون لمقدراتهم أن تكون ملك يديه، فيجمع كلمتهم، ويقيم الأحكام فيهم، وذلك هو الإمام العادل أو الرئيس الصالح، وتلك هي الرعاية العظمى التي وصفها رسولنا الحكيم بقوله: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والولد راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)).
صدق رسول الله عليه صلوات الله، إن كل مَن كان تحت نظره وولاياته أسرة أو أخوة، شعب أو أمة، مطالب بالعدل فيهم والقيام بمصالحهم فإن وفّى حق الرعاية والنظر نال الحظ الأكبر من سلامة الدنيا ونعيم الآخرة.
وإن أخلّ بالحقوق التي استودعه الله إياها واستأمنه رعايتها وحفظها كان من حق كل فرد من أفراد الرعية أن يطالبه بها.
فالحاكم وكل إليه شأن الأمة يدبر أمورها ويحفظ حقوقها، وهو مسؤول عن كل شيء فيها وعن كل فرد منها.
والدولة هي الأسرة الكبيرة وما حكامها وقادتها إلا رعاة مسؤولون عن سعادتها واستقرارها. فبقدر ما يشعر الحاكم بمسؤوليته تجاه رعيته بقدر ما تتوضح له سبل الخدمة العامة التي تقضي منه أن يضحي براحته وأنانيته والكثير من وقته ليؤديها على وجهها الأكمل، كما يجب أن تؤدى.
هكذا فهم المسؤولية الرعيل الأول من المسلمين الأولين، فهموها حثاً لهم على العناية بشؤون رعيتهم والاهتمام بها، تفانياً في سبيل إسعادهم وتوفير الراحة والطمأنينة لمجتمعهم.. لأن المسؤولية في الإسلام أمانة، والحكم أمانة، والقضاء أمانة.
ولعل من أهم أمانات الحكم وجوب إسناد المهام الرئيسية والوظائف العامة إلى الأمناء والأقوياء والعلماء الأكفاء لا إلى الضعفاء أو الخونة أو الجهلاء..
يحدثنا القرآن الكريم عن لسان بنت شعيب قولها لأبيها: (يا أبت استأجره إن خير مَن استأجرت القوي الأمين). ويقول أبو ذر: ((قلت لرسول الله (ص): ألا تستعملني))؟ يعني تجعلني أميراً أو والياً على أحد الأمصار. فضرب رسول الله على كتفي وقال لي: ((يا أبا ذر، إنك رجل ضعيف وإنها أمانة يوم القيامة خزي وندامة إلا مَن أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها)).
ومن أمانات الحكم أيضاً في الإسلام عدم محاباة الأقرباء والأنصار والأنسباء بتقديمهم على مَن هم أحق منهم بالمسؤولية وأجدر.يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((مَن وُلي من أمر المسلمين شيئاً فأمر عليه أحداً محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ـ يعني فرضاً ولا نفلاً ـ حتى يدخله جهنم)).
ومن هذا القبيل ما رواه البخاري في صحيحه عن رسول الله إنه قال: ((إذا ضُيعت الأمانة فانتظروا الساعة)). قيل: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: ((أن يوسد الأمر لغير أهله)). وفي حديث آخر: ((مَن استعمل رجلاً على عصابة من المسلمين وفيهم مَن هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين)).
إن الحكم تكليف لا تشريف، ومسؤولية وتضحية وإرهاق في النهار وهم بالليل. وإن معنى الحكم إقامة ميزان الحق ونشر لواء العدالة وبثّ روح المساواة. فعلى المسؤولين أن يفهموه هكذا.. وإلا فإن الهوة السحيقة المخيفة ستظل قائمة فاغرة فاها بين الحاكم والمحكوم، وإن العداء سيظل مستحكماً بين المواطن والراعي، ولا ينكر أحد حتى المكابر. إن نهضات الأمم وتقدم الشعوب لا يكون غلا بتحقيق الانسجام المنتج الفعال بين الشعب وحكامه، بين القادة والمواطنين.
ومن هنا كان الخليفة أو الرئيس أو أي حاكم أو أي مسؤول، في شريعة الإسلام، هو وكيل عن الأمة ولهذه الأمة حق محاسبته ومقاضاته، ومن ثم حق عزله إذا ثبتت خيانته أو تحققت جرائمه التي يرتكبها في أثناء حكمه.
وليس هذا بدعاً في شريعة الإسلام، فجميع الأمم المتحضرة اليوم تشترعه وترضاه، غير أن أفضلية الإسلام على ما عداه كونه سبق الزمان ـ في ما يتعلق بمحاكمة الرؤساء ـ بأربعة عشر قروناً.
ومن جولة خاطفة في القرآن الكريم نراه في مخاطباته الجماعية لم يكن يوجه شيئاً منها إلى الإمام أو الخليفة، بل كان يوجهه مباشرة إلى أفراد الأمة معتبراً شخص المسؤول الأول ـ خليفة كان أم رئيساً أم ملكاً ـ كسائر الأفراد عليه تطبيق المبادئ القرآنية مثلما يطبقها سواه. مثال ذلك: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين). قال: (عاهدتم)، والخطاب لجماهير الأمة. ولم يقل عاهدت ويعني المسؤول الأول في الدولة.
وحين يتحدث القرآن أيضاً عن الأسرة والأحوال الشخصية يخاطب المسلمين جميعاً، فيقول: (فإن خفتم ألاّ يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به). قال كما نلاحظ (خفتم)، مخاطباً جميع المسلمين. ولم يقل خفت يا محمد، ويكون الخطاب للرسول وحده.
هذا بعض من كل وقليل من كثير من مسؤولية الرؤساء والحكام في الإسلام. أما مسؤولية علمائه فليست أقل شأناً منها عند أمرائه، فهم توأم الأمراء في المسؤولية وفقاً لما ورد في الحديث الشريف: ((صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت وإذا فسدا فسدت العلماء والأمراء)): العلماء العاملون المخلصون، والأمراء الرحماء العادلون.
وأولى مسؤوليات العلماء تتعلق بالدعوة إلى الله الواحد الأحد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر توصلاً إلى إعمار البلاد وإسعاد العباد، وترسيخ قواعد العدالة والأمن، وضبط العلاقات الإنسانية العامة في إطار من الخير المطلق والنفع العام.
فحمل الإسلام، ونشره بين الناس ـ كل الناس ـ هو أمر لازم على المسلمين بطريق الوجوب. يدل عليه الأمر الرباني الظاهر في قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). والمهمة الحقيقية لهؤلاء الدعاة التي تنتظر التنفيذ منذ زمن بعيد هي ((صناعة المستقبل الإسلامي))، وتقويم الإسلام ـ بالفعل ـ لعالم الغد كنموذج حياة فضلى ونظام أمثل. فخدمة هذا الدين لم يعد من الجائز الاقتصار فيها على عرض صوره الماضية للذكرى فحسب، بل من الواجب عرضه للتطبيق بغية إنقاذ الحياة الإنسانية.
فالدعاة هم مفاتيح النجاة للأمة، وعليهم يبنى مجدها، وبعلمهم يظهر تفوقها وتبدو محاسنها.
ولكن مَن هم هؤلاء الدعاة الذين نرجو تحقيق ذلك عن طريقهم وبقدراتهم؟
نحن اليوم في أحرج الأوقات، فليس أمامنا إلا حركة وإمكانات، لشعب أصيل، يتمسك بعقيدته، ويعتصم بدينه، ولا بد لتحقيق هذه الحركة وتلك الإمكانات، من إيجاد العالم الناضج المتسامح، كي تنشأ عن طريقه دعوة جادة قوية، لتصلح هذه الأمة على ما صلح عليه أولها، ولا سيما أنه لم يضع من أركان العلم الإسلامي شيء. فالقرآن الكريم والحديث الشريف ما برحا ولن يبرحا، والفقه المفضل والتاريخ المبسوط كل ذلك ماثل معروف. وليس على الدعاة من رجال الدين إلا أن يستقوا بتلك الدلاء ويشربوا من هذه الموارد.
القضايا التي تواجه الداعية المسلم في عصرنا الحاضر:
ومن أهم ما يواجهه الإسلام اليوم، هو قضايا: ((وجود الله)) والغيبيات، والإيمان بصورة مطلقة، مع ما يستتبع ذلك كله من قضايا: الرسل والملائكة، والبعث، والخلق والتكوين، والجنة والنار... إلخ.
كما أن الإسلام يواجه اليوم نظريات علمية فلسفية، قائمة على الأسلوب التجريبي والبحث العلمي المطلق. ويجب علينا أن نواجه الواقع، ونعترف بأن الإسلام يتعرض اليوم لحملة تفتيت وتوهين ومحو، شبيهة بالحملة التي تعرضت لها النصرانية في أواخر القرن السابع عشر، وفي أثناء القرن الثامن عشر الميلاديين.
ويجب علينا بالتالي أن نعترف أيضاً، بأن العقيدة الإسلامية، تواجه هذه النظريات الشديدة التأثير على عقول الناشئين والمثقفين، بقدراتها الكلاسيكية، وبأساليب ومناهج أقل ما يقال فيها، إنها لا تناسب متطلبات الثقافة الحديثة، ولا يمكن بالتالي أن تمكن أصحابها من الثبات، بله الانتصار.
إن شباب المسلمين اليوم، يتلقون التعليم العالي في المعاهد والجامعات، ويدرسون النظريات العلمية الحديثة كالوجودية، والشيوعية، والمادية، وسواها. ويتلقون كل هذا، من دون أن تكون لهم سابق معرفة بدينهم وقواعده.. بحيث نرى الكثيرين منهم وقد احتلت رؤوسهم أفكار لا علاقة لها بالإسلام مطلقاً، بل هي مناقضة للإسلام، وهادمة له بصورة كلية.
ولذلك، فإن أشد ما تمس له الحاجة في زمننا، هو إيجاد طبقة رائدة، من الدعاة المسلمين، تتوفر فيهم من الصفات ما هو شكلي، وما هو جوهري. فمن الصفات الشكلية التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية:
1 ـ العناية بمظهره عناية تجعله جذاباً أخّاذاً.
2 ـ يستحسن أن تتوفر فيه اللياقة البدنية. ويمكننا أن نلمح هذه الناحية في قول الله سبحانه لجماعة من بني إسرائيل بعد موسي، طلبوا من نبيهم أن يجعل عليهم حاكماً، يقودهم تحت لوائه لإعلاء كلمة الله. فقال لهم نبيهم: ((إن الله قد استجاب لكم، فاختار طالوت حاكماً عليكم، لتوافر صفات القيادة فيه، وهي: سعة الخبرة مع قوة الجسم))، قال: ((إن الله اصطفاه عليكم، وزاده بسطة في العلم والجسم)).
3 ـ أن يجلس الداعية في تواضع، ويعرض المسائل في لين، ويجادل في أدب، ويصغي لسائله باحترام. فلا يعلو عن العوام، ولا ينزل عن مرتبة الخواص، استناداً إلى وصية الله تعالى لموسى وهارون، حين أمرهما بالتوجه إلى فرعون، بقوله لهما: (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى).
أما الصفات الجوهرية التي ينبغي أن يتسم بها الداعية فمنها:
1 ـ أن يكون معداً إعداداً كاملاً: دينياً وخلقياً وثقافياً واجتماعياً.
2 ـ الدراية التامة بأخلاق المدعوين وعاداتهم وتقاليدهم.
3 ـ التمكن من إحدى اللغات الحية ـ عدا لغته الأصلية ـ خطابة وكتابة. مما يساعده على تبليغ رسالته لمن يشاء من المدعوين، باللغة التي يفهمونها.
4 ـ استيعاب الإسلام، بقواعده ومبادئه ونصه وروحه، استيعاباً كاملاً.
5 ـ التخصص ـ لا مجرد الإحاطة السطحية ـ بقضايا العصر ومشكلاته وفلسفاته ونظرياته وأُسسها.
6 ـ التفوق في عرض بضاعة الإسلام، ومحاسنه السلوكية والفكرية والإدارية، والإنسانية الفطرية، مع القدرة على اقتناص مثالب النظريات الحديثة وخللها ومحاذيرها من خلال مقارنتها بما يشتمل عليه الإسلام.
ولابد أيضاً من إناطة إدارات الوعظ والإرشاد في البلاد الإسلامية بتلك النخبة الممتازة من الدعاة، لتتمكن من أداء رسالتها، والقيام بواجباتها، في أوسع نطاق ممكن.
ومما لا شك فيه، أن التوسع في إيجاد هذه الطبقة من الدعاة الإسلاميين وتطويرها ـ بحيث يشمل نشاطها سائر البلاد الإسلامية ـ سيكون له أكبر الأثر في وقف حملة التشكيك التي يتعرض لها المسلمون، وفي إنهاء الأسطورة القائلة: بأن الإسلام لا يواكب تطور الحضارة وسير العلم الحديث.
إن المطلوب في العصر الحاضر، شيء آخر، شيء يواجه الفكر الحديث المتطور. المطلوب وعاظ مسلحون بسلاح العصر، محيطون بقضاياه، متعمقون بالاتجاهات الفكرية الحديثة، التي هي في الواقع ((جاهلية حديثة))، قادرون على الخوض في اهتمامات الجيل المثقف، على عرض الإسلام كبديل فطري وعقلي لها، ومتمكنون ـ بالوقت نفسه ـ من علم البحث والمناظرة.
ومن ثم إعداد قوافل من الدعاة الاختصاصيين وإيفادهم نحو المشارق والمغارب لبذر بذور الإسلام الصافي ونشر أغراسه في جميع البقاع والأصقاع. وإذا هم لم يفعلوا ـ لا قدّر الله ـ فإن الله لا يخلف وعده، ولن يتخلى عن دينه الذي ارتضاه لعباده، بل سيقيض لهذا الدين أُناساً ليسوا من أهله، يخرجونه من قوقعته، ويعتنقونه ويعتزون به، ويطرحونه على العالم في واجهة القرن الحادي والعشرين كبديل أفضل للحياة ويبطلون ـ بعد طره ـ بهرجة وزيف ما عداه من المعروضات الأخرى: (وإن تتولوا نستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).
عندئذ يغدو الإسلام ـ حقاً وصدقاً ـ دين المستقبل، دين العالم الحر السعيد، دين المدنية القادمة. ويقولون: (متى هو؟ قل عسى أن يكون قريباً).