صفحة 1 من 1

الليبرالية الديمقراطية والتقدم التكنولوجي

مرسل: الخميس ديسمبر 30, 2010 10:29 pm
بواسطة سجى أبوصالح
من خلال ورقة العمل هذه سندرس العلاقة بين الديمقراطية الليبرالية والتقدم التقني, البنيان الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات الليبرالية , وحدود العلاقة بين التقدم التقني والديمقراطية الليبرالية, وهل تشهد الديمقراطية الليبرالية أزمة.
إن الليبرالية مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي. ففي الميدان السياسي وعلى النطاق الفردي يؤكد هذا المذهب على القبول بأفكار الغير وأفعاله حتى ولو كانت متعارضة مع أفكار المذهب وأفعاله شرط المعاملة بالمثل( ). وعلى النطاق الجماعي فإن الليبرالية هي النظام السياسي المبني على التعددية الايديولوجية والتنظيمية الحزبية والنقابية التي لا يضمنها, حسب ذلك المذهب, سوى النظام البرلماني الديمقراطي الذي يفصل فعليا بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية, ويؤمن الحريات الشخصية والعامة بما في ذلك حرية المعتقد الديني. والواقع أن الليبرالية اكتسبت مفاهيم مختلفة مع مرور الزمن. فعلى الرغم من تشديد الليبراليين الرأسماليين على أهمية الحرية فإنهم في الغالب يتصرفون ضد حريات الأفراد والشعوب في علاقاتهم الدولية لارتباط الظاهرة الرأسمالية بالامبريالية وما يتضمن ذلك من استغلال واستعباد للشعوب الخاضعة للاستعمار. كما أن الليبرالية تهمل مصلحة الجماعة تحت شعار اهتمامها بمصالح الأفراد( ).
أما الميدان الاقتصادي, فإن الليبرالية تأخذ منبعها من المدرسة الطبيعية( الفيزيوقراطية) التي تؤكد على انه يوجد على النطاق الاقتصادي نظام طبيعي يتحقق بواسطة مبادرات الفرد
" الإنسان الاقتصادي" (Homo Oeconomicus ) الذي يحنو بشكل طبيعي نحو تلبية أقصى ما يمكن من الحاجات بأقل ما يمكن من الأتعاب( ). وفي مفهوم الليبراليين فإن مصالح الأفراد تتطابق تماما مع مصلحة المجتمع , لان القوانين الاقتصادية الطبيعية, في نظرها, تؤدي الى إحداث التوازن بين الأسعار والإنتاج والمداخيل. أي الى تحقيق التوازن الاقتصادي بشكل طبيعي. وبالتالي فتحقيق الحرية الاقتصادية يؤدي الى تحقيق النظام الطبيعي الذي أراده الله للبشرية. والليبرالية الاقتصادية التي تقرن دوما بالليبرالية السياسية, ولدت في القرن الثامن عشر حيث نادى بها بشكل خاص كل من ادم سميث ومالتوس وريكاردو... ثم ازدهرت في القرن التاسع عشر على أيدي نخبة من الاقتصاديين مثل جون ستيوارت ميل وجان باتيست ساي وذلك اثر نجاح وازدهار الثورة الصناعية. ففي ذلك القرن أصبحت الليبرالية العقيدة الرسمية للدول التي دخلت بوتقة التطور الصناعي. وتحددت آنذاك النقاط الأساسية لذلك المذهب الاقتصادي بالتأكيد على حرية إقامة المنشآت وحرية الاستثمارات , وبأن التقاء العرض بالطلب في السوق هو الذي يحدد السعر وهو ما يعرف بقانون العرض والطلب الذي يؤدي تعطليه, في نظر المدرسة الليبرالية, الى إحداث أزمات خطيرة, ويمنع إقامة المجتمع الطبيعي المتناسق . إذ إن السلع في النظام الليبرالي يتم تبادلها بسلع أخرى, أما أزمات فائض الإنتاج فهي ليست إلا عوارض مؤقتة. كما إن حرية عقد العمل, في رأيها, توازي من الناحية القانونية بين رب العمل والعامل, وبذلك لا يمكن التحدث عن استغلال الأول للثاني ما دام العامل هو الذي وقع بمحض إرادته عقد العمل. كما تؤكد الليبرالية الاقتصادية أيضا على إن عدم المساواة الاجتماعية هي أمر طبيعي بل ضروري وحتمي وان البطالة ليست إلا مرضا عابرا يختفي عندما يتحقق الانسجام النهائي في المجتمع( ).
إلا إن الفكرة الرئيسية التي تدور حولها بقية أفكار المدرسة الليبرالية, والمتمثلة في إن حرية العوامل الاقتصادية في اختيار المبادرات والاستثمارات التي تريدها هي التي تؤدي حتما الى تحقيق النظام الطبيعي والتوازن العام في المجتمع. أخذت تتراجع شيئا فشيئا كلما ازداد التركيز الصناعي الذي أدى الى الأزمات الاقتصادية. ومن هنا ولدت المدرسة الليبرالية الجديدة بزعامة ليبمان( W.Lippmann ) ومع أن تلك المدرسة الجديدة تؤكد على الملكية الفردية وحرية المنافسة, فإنها أدخلت عنصرا جديدا هو أن حرية المبادرات الفردية وحرية الإنسان الاقتصادي بوجه عام لا تؤدي بشكل آلي الى إقامة النظام الطبيعي, بل أصبحت الدولة مضطرة لأن تضع الإطار القانوني الذي يضمن تطبيق المبادرات الفردية ضمن نطاق المنافسة التي يحددها القانون( ). أي وضع قوانين تمنع قيام الاحتكارات الكبرى. وهكذا فإن الليبرالية الجديدة تجعل من الدولة حكما بين جميع العوامل والأطراف الاقتصادية. ولكن الواقع اثبت أن الدولة لا يمكن أن تكتفي بدور الحكم, إذ أن تنامي النظام الرأسمالي, وحدة المطالب العمالية ومقتضيات اقتصاد الحرب والأعمار الخ........... حتمت عليها أن تكون هي المحرك والمنظم لمجمل النشاط الاقتصادي. وذلك إن الدول الرأسمالية " الليبرالية" نفسها يتشاور بعضها مع بعض في رسم الخطوط الرئيسية العامة لاقتصادياتها آخذة بعين الاعتبار التطورات الحاصلة على النطاق العالمي بما في ذلك التطورات الحاصلة في الدول النامية التي أصبحت تتحكم بدرجات متفاوتة في ثرواتها الطبيعية وموادها الأولية. وبالتالي لم يعد أمام القطاع الخاص, رغم قوته, إلا العمل ضمن الحدود المتفق عليها دوليا, وان كان في بعض الأحيان يتجاوز تلك الحدود ولكن بالشكل الذي لا يؤثر على المصالح العامة للدول الرأسمالية.
ويمكن القول, على ضوء هذا, إن الليبرالية حتى الليبرالية الجديدة لم تعد في الواقع إلا شعارا يذكرنا بالسياسات الاقتصادية التي كانت متبعة في القرن الثامن عشر وخاصة التاسع عشر وذلك على الرغم من إن بعض السياسيين الغربيين قد حاولوا استغلال الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي تعاني منها المجتمعات الصناعية في التسعينات ومطلع الثمانينات لإعادة الاعتبار لليبرالية بوصفها الدواء" السحري" الذي يعيد الحيوية الى الغرب. وما الطروحات التي نادت بها تاتشر في بريطانيا وريغان في الولايات المتحدة وبعض الأحزاب السياسية في فرنسا سوى مظهر من مظاهر العودة والحنين الى الليبرالية( ).
ولكن ماهي أهم مراحل تطور الرأسمالية العالمية؟
ومن هنا تأتي أهمية الوعي بالمراحل التاريخية لتطور الرأسمالية, بعد أن نجحت- كما يقول المفكر الراحل رمزي زكي- في فرض برامج التثبيت والتكيف الهيكلي التي تم تطبيقها في بلدان العالم الثالث منذ ثمانينات القرن الماضي, وإعادة صياغة علاقة الجنوب بالشمال على أسس الليبرالية الجديدة التي تعتمد على الايديولوجية الصارخة لنظام الاستغلال الرأسمالي, الذي بدأ مع نشوء وتوسع النمط الرأسمالي منذ أوائل القرن التاسع عشر( ). والواقع, انه منذ أن نشأت الرأسمالية كنظام عالمي, وهي تسعى دائما لان تخضع العالم اجمع لمتطلبات نموها وشروط حركتها, وكان " تكييف" الأجزاء غير الرأسمالية في مختلف أنحاء المعمورة, لكي تتلاءم مع الحاجات المتغيرة, والأزمات المختلفة للمراكز الرأسمالية, شرطا ضروريا ولازما لاستمرار بقاء الرأسمالية وديمومة نموها. ولهذا فإن مصطلح " عمليات التكييف" الذي راج مؤخرا في كتابات المنظمات الدولية – كما يضيف رمزي زكي- لا يشير الى ظاهرة جديدة, بل في الحقيقة الى ظاهرة قديمة, قدم النظام الرأسمالي نفسه( ).
ومن هنا فإن منطلق التحليل العلمي, يتطلب منا أن نعرض التجارب التاريخية لعمليات التكيف الدولية المختلفة التي فرضتها الرأسمالية العالمية إبان مراحل تطورها المتعاقبة على البلاد المتخلفة.
1- مرحلة الكشوف الجغرافية ( البحث عن السوق العالمي)
وكانت وسيلة التكييف : القرصنة, القهر, الغزو الحربي.
وآثار التكييف على البلاد الرأسمالية: تدفق الذهب والفضة والأرباح على بلاد أوروبا.
و تحويل مسارات التجارة الدولية وخطوطها لصالح دول أوروبا.
وآثار التكييف على البلاد المتخلفة: فقدان ثرواتها من المعادن النفيسة, إبادة شعوب وقبائل,
وتحطيم حضارات قديمة( ).

2- مرحلة المركانتيلية( تكوين السوق العالمي )
وكانت وسيلة التكييف لها: رأس المال التجاري, تكوين المحطات التجارية عبر البحار, الاتفاقيات التجارية الجائرة, تكوين الإمبراطوريات التجارية. وآثار التكييف على البلاد الرأسمالية: تدفق المزيد من المعادن النفيسة على أوروبا, تكوين أرباح ضخمة من التجارة مع الشرق, وتوفير عنصر العمل الرخيص من خلال الاتجار في الرقيق.
أما آثار التكييف مع البلاد المتخلفة: نهب واستنزاف مناجم الذهب والفضة, نقص عدد السكان نتيجة لتجارة الرقيق, إجبار السكان المحليين على الاشتغال في إنتاج المعادن النفيسة ومزارع المواد الخام, و تشويه نمط الإنتاج المحلي( ).
3- مرحلة الثورة الصناعية
وكانت وسيلة التكييف لها: تصدير السلع المصنعة, الاتفاقيات التجارية الجائرة, فرض سياسة حرية التجارة. وآثار التكييف على البلاد الرأسمالية: تزايد فرص التصريف السلعي بالخارج, الحصول على الغلال والسلع الغذائية بأثمان منخفضة, وتزايد الأرباح ونمو تراكم رأس المال.
وآثار التكييف على البلاد المتخلفة: نشوء التخصص المشوه وتقسيم العمل الدولي اللامتكافئ
( التخصص في إنتاج المواد الخام), تدمير الاقتصاد الطبيعي, و تدمير الحرف والصناعات المحلية( ).
4- مرحلة الاستعمار ( نمو رأس المال الاحتكاري)
وكانت وسيلة التكييف لها: تصدير رؤوس الأموال الخاصة, إغراق المستعمرات في الديون, الاحتلال العسكري والسيطرة السياسية, القواعد العسكرية. وآثار التكييف على البلاد الرأسمالية: مزيد من أسواق التصريف الخارجي,الحصول على المواد الخام بالسعار منخفضة, زيادة الأرباح المتحققة بالخارج, و إمكان زيادة الأجور ورفع مستوى المعيشة.
وأما آثار التكييف على البلاد المتخلفة: مزيد من تشويه النتاج المحلي, فقدان الفائض الاقتصادي وإضعاف التراكم المحلي, فقدان السيطرة على توزيع وتخصيص الموارد, و فقدان الاستقلال السياسي( ).
5- مرحلة الامبريالية ( الاستعمار الجديد)
وكانت وسيلة التكييف لها: بقاء الهيكل الاقتصادي للبلاد المتخلفة دون تغيير بعد تحررها سياسيا, المعونات الاقتصادية والعسكرية, التأثير في اتجاهات التنمية, العدوان الاقتصادي والعسكري.وآثار التكييف على البلاد الرأسمالية: تجديد علاقات السيطرة والتبعية على البلاد المتخلفة, إخضاع عمليات التنمية لشروط تراكم رأس المال, ومزيد من نهب الفائض الاقتصادي. أما آثار التكييف على البلاد المتخلفة: زيادة التبعية والتجارية والتكنولوجية مع المراكز الرأسمالية, تعويق عمليات التنمية, فقدان الفائض الاقتصادي( ).
6-مرحلة العولمة الرأسمالية الأحادية وصولا الى الأزمة المالية العالمية الراهنة
لم يعد ثمة خلاف على إن المتغيرات المالية, النوعية المتدفقة, التي ميزت العقدين الأخيرين من القرن العشرين, في السياسة والاقتصاد والتطور العلمي, شكلت في مجملها واقعا تاريخيا معاصرا أو رئيسيا وضع كوكبنا الأرضي على عتبة مرحلة جديدة, في القرن الحادي والعشرين, لم يعهدها من قبل, ولم يتنبأ بمعطياتها ووتائرها المتسارعة اشد الساسة والمفكرين استشرافا أو تشاؤما وأقربهم الى صناع القرار, خاصة ذلك الانهيار المريع في كل من المنظومة الاشتراكية العالمية ومنظومة التحرر القومي من جهة, والانحسار أو التراجع المريع أيضا, ولكن المؤقت للبنية الايديولوجية أو الفكرية لقوى الاشتراكية والتحرر القومي من جهة أخرى, الأمر الذي اخل بكل توازنات القوة والمصالح وفق مفاهيم وأسس الثنائية القطبية التي سادت طوال حقبة الحرب الباردة السابقة, ووفر معظم مقومات بروز مرحلة الأحادية القطبية أو العولمة منذ ثمانينات القرن الماضي, التي اقترنت بالامبريالية الأمريكية التي استطاعت – حتى تفجر الأزمة العالمية المالية في سبتمبر 2008- استكمال فرض هيمنتها على مقدرات هذا الكوكب, بحكم ادعائها أنها المنتصر الوحيد, وبالتالي صاحبة الحق الرئيسي في رسم وتحديد طبيعة ومسار العلاقات الدولية في المرحلة الجديدة وفق آليات ومفاهيم الليبرالية الجديدة, لكن تفجر أزمة الرأسمالية الراهنة أكد بصورة جلية على دحض أفكار منظري الليبرالية الجديدة أو نهاية التاريخ أو سقوط الايدولوجيا , بمثل ما أكد أيضا على صحة ما تنبأ به كارل ماركس قبل 150 عاما بالنسبة لطبيعة الاقتصاد العالمي في مطلع القرن الحادي والعشرين, وذلك استنادا الى تحليله للمجتمع البورجوازي حيث أشار الى أن مولد الاقتصاد الدولي المعولم هو أمر ملازم لنمط الإنتاج الرأسمالي, وان هذه العملية ستولد ليس نموا ورفاهية فقط, كما كان يبشر به منظرو الرأسمالية وساستها, بل أيضا تولد نزاعات عنيفة وأزمات اقتصادية ومظالم اجتماعية ليس في بلدانها فحسب بل – وبصورة أكثر بشاعة – في بلدان الأطراف عموما( ).


فهم العلاقة بين الديمقراطية الليبرالية والتقدم التكنولوجي وآثار ذلك على البنيان الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات الليبرالية
جاء كتاب ثروة الأمم لآدم سميث ليضع أسس علم الاقتصاد الحديث ويمكن تلخيص أهم أفكار آدم سميث حول محورين أساسين‏:‏ الأول يكمن في مفهومه لتقسيم العمل والثاني يدور حول فكرته عن اليد الخفية( )‏.
أما تقسيم العمل فانه يشير الى أهمية زيادة الإنتاجية عن طريق التخصص وتقسيم العمل, وبذلك يمكن القول أن الإشارة الى تقسيم العمل لا تعدو أن تكون تأكيدا على أهمية التقدم التكنولوجي فالأساس الأول لبناء ثروات الأمم عند سميث هو الأخذ بأسباب التقدم التكنولوجي( ).
وأما المحور الثاني لنظرية سميث فهو فكرة اليد الخفية‏,‏ ومقتضاها أن الأفراد في سعيهم لتحقيق مصالحهم الخاصة وزيادة أرباحهم‏,‏ فإنهم في نفس الوقت يحققون المصلحة العامة بإشباع حاجات الناس بأقل التكاليف‏.‏ وكل ذلك يتحقق من خلال المنافسة في الأسواق‏( ).‏
ومنذ منتصف القرن الماضي بدأت موضوعات التنمية في الدول الفقيرة وموضوعات النمو في الدول الصناعية تطرح نفسها علي الاقتصاديين‏,‏ وكان هناك اتفاق بين الجميع علي أن التقدم التكنولوجي هو العنصر الرئيس لبناء الثروة يستوي في ذلك جهود التنمية في الدول الفقيرة أو سياسات النمو في الدول الصناعية‏,‏ ولاغرو في ذاك فتاريخ تقدم البشرية هو تاريخ تطور التكنولوجيا‏.‏ولكن كيف يعالج موضوع التقدم التكنولوجي في سياسات التنمية أو النمو ؟ ثم ما هي علاقته بالمنافسة؟ ونظرا لأن الرأي السائد في الدراسات الاقتصادية بقسم عناصر الإنتاج إلي‏:‏ عمل وطبيعة ورأس المال‏,‏ وأن معظم التطورات التكنولوجية إنما تترجم في نهاية الأمر في شكل آلات أحدث ووسائل إنتاج أكثر كفاءة‏,‏ لذلك اتجه معظم المفكرين الاقتصاديين إلي اعتبار التقدم التكنولوجي هو أحد مظاهر رأس المال‏,‏ فعن طريق زيادة تراكم رأس المال‏(‏ أي الاستثمار‏)‏ يتحقق التقدم التكنولوجي المطلوب( )‏.‏ ولذلك فقد جاءت معظم نماذج التنمية والنمو معتمدة علي زيادة الاستثمار والادخار‏,‏ فالتقدم التكنولوجي لم يعد ينظر إليه كعنصر مستقل بل أصبح صفة ملازمة لرأس المال ومتضمنة فيه‏,‏ وبالتالي لاحاجة لسياسة مستقلة للتقدم التكنولوجي‏,‏ فيكفي الارتقاء بالأسواق المالية وتحسين مناخ الاستثمار‏.‏ ورغم ذلك توجد بعض المحاولات للنظر إلي التقدم التكنولوجي باعتباره عنصرا مستقلا‏,‏ وهي مازالت في البداية‏. ويتضح مما تقدم أن الاقتصاديين ـ بشكل عام ـ وكذا الحكومات والمؤسسات الدولية قد تعاملوا مع قضية التقدم التكنولوجي باعتباره نتيجة حتمية ولازمة لعمليات الاستثمار خاصة الاستثمار الخاص‏.‏ فيكفي لتحقيق التقدم التكنولوجي أن نزيد الاستثمارات الخاصة‏,‏ فهي اللاعب الرئيسي في هذا الميدان‏.‏ ولكن هل هذا صحيح؟ وهل هو صحيح دائما؟ نبدأ بالقول إنه رغم الاعتراف بصحة مقولات آدم سميث ـ بشكل عام ـ عن التوافق بين تقسيم العمل واليد الخفية أو بعبارة آخري بين التقدم التكنولوجي و تنافسية الأسواق‏,‏ فقد تشكك عدد كبير من الاقتصاديين في صحة التلازم بين الأمرين في كل الأحوال‏,‏ فهناك أحوال لا تصلح فيها أسواق المنافسة لتحقيق التقدم التكنولوجي والذي يتطلب أشكالا في الاحتكارات‏.‏ ففكرة المنافسة تنطوي علي الاعتراف بأن هناك حجما أمثل للمشروع تحقق المشروعات عند أدني تكلفة للإنتاج‏,‏ فيما جاوز هذا الحد ترتفع هذه التكلفة‏.‏ وعلي العكس فإذا كانت التكلفة تنخفض باستمرار مع زيادة حجم المشروع‏,‏ فمن الطبيعي أن يتوسع هذا المشروع حتى يسيطر علي السوق كليا‏,‏ ويصبح محتكرا‏.‏ وهذا هو مفهوم الاحتكار الطبيعي‏,‏ والذي ينصرف إلي الصناعات التي تعرف تناقصا في التكاليف أو ما يعرف بالغلة المتزايدة‏( ).‏ ولذلك فإن هناك تعارضا بين التقدم التكنولوجي وبين المنافسة في أحوال تزايد الغلة‏.‏ وكان الاقتصادي الأمريكي ألن يونج قد طرح هذه القضية في محاضرة له سنة‏1928‏ كما تحدث عنها جورج ستيجز‏‏ في مقال له في الخمسينيات‏,‏ ولم يفت الاقتصادي الأمريكي جالبرت الإشارة إلي أن المشروعات الأمريكية التي تمثل فخر الصناعة بتقدمها التكنولوجي هي نفسها التي يزورها المدعي العام بين الحين والآخر لانتهاكها قواعد المنافسة‏.‏
ولكن مشكلة التقدم التكنولوجي لا تقتصر علي أنها قد تتعارض مع مقتضيات المنافسة‏,‏ بل هناك جوانب أخري في طبيعة التقدم التكنولوجي تجعله ينفر من مفهوم اقتصاد السوق في ذاته‏,‏ تنافسيا كان أو احتكاريا فالتقدم التكنولوجي لا ينسجم دائما مع مفهوم السلعة الخاصة الذي هو جوهر نشاط السوق التقدم التكنولوجي ينطوي في جوهره‏,‏ علي نوع من السلعة العامة كيف؟ يكفي أن نشير إلي أن الأصل في معظم السلع الخاصة هو أنها تتمتع بخاصية الاستئثار والمزاحمة‏,‏ بمعني أن صاحبها يستأثر بحق الانتفاع بها والقدرة علي حرمان الآخرين منها‏,‏ وأن انتفاعه بها لا يقبل مزاحمة الآخرين له في الانتفاع بها أيضا‏,‏ فإذا كان معك ساندويتش فأنت تستأثر به ولك أن تأكله وتمنع الآخرين من استهلاكه‏,‏ وإذا أكلته فإن الغير لا يستطيع الانتفاع به فالسلعة الخاصة هي لي أو لك ولكن ليس للاثنين معا‏.‏ وهذا المقصود بالمزاحمة‏RIVAL.‏ وعلي العكس فإن السلعة العامة لأتعرف في الأصل مبدأ الاستئثار‏,‏ كما يمكن مشاركة الآخرين في الاستمتاع بها دون إنقاص حقك في الانتفاع بها أيضا فأنت تستمتع بالموسيقي في الراديو ولا يضيرك أن يستمتع بها الآخرون في نفس الوقت
زمن أهم أشكال السلع العامة سلعة المعرفة. فالأستاذ يدخل قاعة المحاضرات ويلقي درسه على طلابه. هذا جوهر السلعة العامة( ).
فماذا عن التقدم التكنولوجي؟ التقدم التكنولوجي هو في جوهره أفكار جديدة‏,‏ قد تكون نظريات علمية أو تطبيقات لنظرية معروفة أو وسائل جديدة للإنتاج أو أساليب للإدارة وهكذا وإدخال التقدم التكنولوجي في أي بلد يتطلب المعرفة بهذه الأفكار ونقلها إلي مكان العمل في شكل آلات أو أدوات جديدة أو أساليب مختلفة أو نظم حديثة‏( ),‏ هكذا يعتمد التقدم التكنولوجي علي اقتصاديات الأفكار أكثر من اعتماده علي اقتصاديات الأشياء وعندما تظهر الأفكار الجديدة مع التطور التكنولوجي فإن الجميع يمكن أن يفيد منها دون خسارة علي صاحبها‏.‏ والحقيقة أنه يصعب حرمان الآخرين من الإفادة من الأفكار الجديدة إلا بوسائل مصطنعة مثل وضع قيود علي استخدام الاختراعات الجديدة‏(‏ براءات الاختراع‏)‏ لمدة معينة حماية لحقوق المخترع‏.‏ وليست هذه علي أي الأحوال قضيتنا هنا‏.‏ فالقضية هي أن التطور التكنولوجي هو في جوهره خلق للمعرفة ونشرها واستخدامها وتطويرها‏.‏ وإنتاج المعرفة بهذا الشكل وهو إنتاج لسلعة عامة حيث لايحفل بها المشروع الخاص إلا في حدود ضيقة فلا توجد شركات خاصة لإنتاج أو بيع نظريات علمية لأنها مجرد أفكار وليس سلعا خاصة فليس هناك سوق للعلم هناك فقط سوق للشهادات كذلك لايتحقق التقدم التكنولوجي بمجرد شراء آخر الصيحات الفنية للآلات واستخدامها وفقا لتعليمات البائع‏,‏ التقدم التكنولوجي يتطلب الاستيعاب والإضافة‏,‏ وإن لم يكن باختراع جديد فعلي الأقل بالتطوير والملائمة مع الظروف المحلية‏( ).‏ وكل هذا يتطلب معرفة فنية واسعة وخبرة وقدرة تحليلية ونقدية‏.‏ وهذا لا يتحقق إلا بالتعليم والبحث العلمي‏.‏ الخطوة الأولي للتقدم التكنولوجي إذن‏,‏ هي خلق قاعدة واسعة من المعرفة‏,‏ وهذا يتطلب وجود أساس متين للتعليم العام والبحث العلمي‏.‏ وهي مجالات لايمكن القيام بها بعيدا عن تدخل الدولة‏.‏ تنطلق الفلسفة الليبرالية الأصلية من اعتقادات ثابتة أساسية لا تستقيم من دونها. أولها مبدأ الانسجام الطبيعي الذي يقضي بأن بحث كل فرد حر عن مصالحه الخاصة لا يتناقض مع تحقيق المصلحة العامة للجميع، ولكنه يشكل بالعكس ضمانته الحقيقية.
ويعني هذا أنه إذا تركنا كل فرد يبحث بحرية عن مصلحته الخاصة فسنصل إلى انسجام حقيقي في المصالح، أكثر بكثير مما لو سمحنا للدولة بأن تتدخل لضمان مثل هذا الانسجام أو لاختراعه. وثانيها أن حقل الحرية السياسية يتطابق مع حقل الحرية الاقتصادية. ولا يعني هذا مجرد الافتراض بأن الاقتصاد الحر هو شرط للحرية السياسية أو الديمقراطية فحسب، ولكن أكثر من ذلك أن الحريات الاقتصادية المجسدة في اقتصاد السوق الحر تقود مباشرة وتلقائيا إلى نشوء الحريات السياسية وتأكيدها. وثالثها أن الديمقراطية والليبرالية متطابقتان تماما، فلا ديمقراطية من دون ليبرالية ولا ليبرالية من دون ديمقراطية، وبالتالي فالليبرالية تضمن بشكل تلقائي تكافؤ الفرص وآفاق الارتقاء الاجتماعي والمشاركة السياسية لجميع الأفراد، بقدر ما تضمن النمو والتقدم الاقتصادي( ).
لكن الليبرالية كما يعرضها أنصارها وكما عادت إلى التجلي عبر ما يسمى اليوم بالليبرالية الجديدة التي تحولت إلى مذهب سياسي للقوى الكبرى، قد واجهت ولا تزال انتقادات كثيرة.


فقبل أن تظهر التجربة التاريخية أن الحرية بالمعنى الذي تدعو إليه الليبرالية لا تقود بالضرورة إلى الانسجام الطبيعي بين جميع المصالح الاجتماعية، كما أنها يمكن أن تعمل على إيجاد أوضاع اجتماعية تخل بشروط ممارسة الحرية عند القسم الأكبر من الرأي العام لصالح فئات قليلة هي المسيطرة على موارد الثروة والسلطة والمعرفة. لذلك فهي بدل أن تقود إلى تعميم قيم الحرية، تمنع من تحقيق ما تطمح إليه المجتمعات من عدالة ومساواة حقيقيتين( ).
وكان جون ستيوارت ميل قد لاحظ مثل هذه التناقضات داخل الليبرالية، وسعى عبر فلسفته الخاصة إلى التوفيق بين مبادئ الحرية ومبادئ العدالة والمساواة. وهكذا قام بالتمييز منذ القرن التاسع عشر بين مجال الخاص أو مجال الحرمة الشخصية الذي يكون فيه الفرد حرا تماما ولا حق للدولة أو السلطة العمومية في تقييد حريته، ومجال العام الذي يكون فيه للدولة الحق في أن تتدخل بما يضمن مصالح الكل الاجتماعي واتساق حريات الأفراد وقيم المجتمع( ).
وكان هذا التمييز تأكيدا على أن الكل الاجتماعي ليس حصيلة حسابية للفرديات الحرة وإنما هو كيان مختلف عن الفرديات جميعا، له منطق اتساقه الخاص الذي لا يتطابق مع منطق الفرد الحر ميكانيكيا. وهو ما يعني أن ما نسميه المصلحة العامة لا يمكن أن ينجم تلقائيا من تنافس المصالح الخاصة. ولا يقبل الفكر الديمقراطي المعاصر بالمسلمة القائلة إن احترام الحريات الفردية يقود حتما إلى تحقيق القيم الإنسانية المطلوبة وينتج تلقائيا العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص لأبناء المجتمع الواحد، ولا يؤمن بالتالي بالانسجام الطبيعي بين حقلي الحرية الاقتصادية والسياسية( ). إن الحرية لا بد أن تترافق مع سياسات اجتماعية واقتصادية تضمن حدا أدنى من الاستقلال يمكن الأفراد من ممارسة حرياتهم والتعبير الصحيح عنها. فالحرية وحدها ليست مبدأ كافيا لقيام نظام ديمقراطي واجتماعي صالح وناجع بالرغم من أنها تبقى قيمة أساسية فيه. فإذا لم تكن هناك ديمقراطية من دون حرية، فلا حرية أيضا من دون عدالة ومساواة قانونية فعلية. ومن هنا لا يعتبر الفكر الديمقراطي المعاصر عدم تدخل الدولة في العملية الاقتصادية مذهبا مقدسا وشرطا لقيام اقتصاد سوق ناجح ومنتج( ).
ومن هنا سوف يتبلور عبر التجربة التاريخية الطويلة مفهوم للديمقراطية، ويتقاطع مع الليبرالية في مناح عديدة.
المنحى الأول هو التمييز بين المظاهر السطحية والشكلية للممارسة الديمقراطية، وبين تحقيق القيم العميقة للفلسفة الليبرالية. وكان ماركس أول من كشف عن هذا التناقض العميق بين الحريات الشكلية التي وعدت بها الليبرالية، وبين العبودية التي ينتجها ويفرضها تحكم رأس المال حتما على الطبقات الشعبية( ).


وبالرغم من الانحراف الذي قادت إليه هذه النظرية الصحيحة، والذي اتخذ شكل معارضة نظام الحرية السياسية أي الديمقراطية "الشكلية" كما كان يقول الماركسيون بنظام المساواة الاجتماعية أو الديمقراطية "الشعبية" التي تقوم على عدالة توزيع الثروة، فإن تطور التجربة الليبرالية نفسها قد أسفر عن رؤية تكاد تكون موضع إجماع على أمرين.
الأول أن الديمقراطية بما تعنيه من ضمان حرية الأفراد ومشاركتهم السياسية واستقلالهم، لا يمكن أن تتحقق من دون حد أدنى من العدالة والإنصاف في توزيع الثروة.
والثاني أن نظام السوق بالرغم من قانون المنافسة الذي يضبطه يقود حتما وبصورة تلقائية إلى تركيز الثروة، وبالتالي أيضا السلطة والمعرفة بيد فئات قليلة( ). ومن هنا طورت جميع البلدان الليبرالية الأوروبية التقليدية مع الزمن سياسات اجتماعية أساسية، لتجاوز هذا التناقض وإخضاع المبادئ الليبرالية التقليدية إلى ضوابط سياسية واقتصادية واجتماعية تمنع أصحاب الرساميل من السيطرة المتزايدة على مصادر الثروة والسلطة في المجتمع، وتقضي بالتالي على الديمقراطية باسم الحرية أو الحفاظ على أوسع قدر من الحريات الفردية الذي تسعى إليه الليبرالية. وهذا يعني أن الديمقراطية لا تتعلق فقط بالمظاهر والمؤسسات الشكلية ولكنها تهتم بشكل أكبر بالقيم الاجتماعية والسياسية الفعلية. وهو ما يساعدنا على التمييز بين نظام التعددية السياسية بما يشير إليه من اعتراف بالحريات والحقوق الأساسية للأفراد، وبين نظام الديمقراطية بما يتضمنه من تأكيد لقيم الحرية والعدالة والمساواة. فمن الممكن أن يكون هناك نظام يحترم بدقة التعددية السياسية وحرية الرأي والتعبير والتنظيم والمشاركة للجميع، لكنه لا يحقق مع ذلك القيم الديمقراطية من تكافؤ الفرص والمشاركة العملية وحرية الرأي وغيرها.
ذلك أن فئة قليلة من أصحاب الرساميل تسيطر على النظام التعددي وتسيره حسب مصالحها وتتلاعب بالإرادة الشعبية. وهذه أكبر المخاطر التي تواجهها الليبرالية في الواقع.
ومن هنا لم يعد مقياس ديمقراطية المجتمع هو دقة احترام الدساتير للمبادئ الليبرالية، وإنما حقيقة مطابقة هذه المبادئ مع الوقائع الاجتماعية. إن الديمقراطية تقاس إذن بمدى تحقق قيم الحرية والمساواة والعدالة، فلا حرية مع الفقر أو التفاوت الفاحش في مستويات المعيشة، ومن هنا يعتبر ما قامت به بعض الحكومات في العقود الماضية من تقليص سلطة الملاك شبه الإقطاعيين وإعادة توزيع الأرض على الفلاحين باسم الإصلاح الزراعي إجراءا ديمقراطيا، بالرغم من أنه حصل في سياق وبأسلوب غير ديمقراطي. وبالمثل فإن دمج الفلاحين في الحياة الوطنية الحديثة عن طريق نخبهم أو مباشرة بتحسين شروط الحياة في الأرياف، وربط هذه الأخيرة بشبكات النشاط الاقتصادي والسياسي والفكري المدينية، هو جزء من عمليات التحويل الديمقراطي مهما كانت الشروط التي تم فيها. فلم تعد الديمقراطية في هذا المنظور تطبيقا مباشرا وتلقائيا لفلسفة الحرية الفردية، وأصبحت هي نفسها مثالا أو نموذجا للانسجام داخل النظام الاجتماعي، تقاس به درجة تحقق الحرية الفردية الفعلية أو حقيقة الحرية المدعاة في النظم السياسية( ).


وهذا الفصل بين الديمقراطية كنظام اجتماعي يدمج بين دولة القانون التي يتساوى فيها الأفراد، ودولة العدالة الاجتماعية ورفض التهميش والإقصاء والتفاوت الصارخ في المداخيل مهما كان مصدره، وكذلك دولة الحريات الفردية واحترام الأشخاص والجماعات، قد فصل الديمقراطية عن الأيديولوجية الليبرالية التي شكلت التربة الفلسفية التي ولدت فيها وسمح بالتالي بنشوء نماذج متعددة محتملة لها. فلم يعد هناك ما يمنع الديمقراطية، من حيث هي نظام للحكم وتنظيم علاقات السلطة بين الأفراد داخل المجتمع الواحد بما يساعد على تحقيق قيم الحرية والمساواة والعدالة، أن تستقل بنفسها عن الفلسفة الليبرالية لتأخذ بفلسفات روحية واجتماعية مختلفة عنها لا تجعل من حرية الفرد المقياس الوحيد لتقدم الحياة الجمعية من دون أن تلغيها أو تتعارض معها. وهكذا صار من الممكن الحديث، من دون فقدان الاتساق المنطقي، عن ديمقراطية مسيحية أو اشتراكية تستمد شرعية القيم الإنسانية التي تعمل من أجلها من عقائد أو فلسفات أخرى( ). وفي تركيا الراهنة يمكن الحديث عن ديمقراطية إسلامية تؤكد على الالتزام بقواعد الديمقراطية وقيم العدالة والمساواة والحرية مع التمسك ببعض القيم الروحية والاجتماعية والثقافية الخاصة، بما في ذلك ربما التأكيد على أهمية التضامن داخل الأسرة أو تشجيع المؤسسات الأهلية والخيرية الخ. وبالمثل ليس هناك ما يمنع سلطة ديمقراطية منتخبة وتمثيلية من أن تضع بعض القيود على قانون المنافسة الاقتصادية، إذا وجدت في ذلك ضرورة للحد من الهدر أو من احتمالات تدمير الموارد أو إرهاق طبقة العمال أو البيئة العامة. ولن يكون هناك مانع أيضا من وضع قيود على حرية التجارة والتبادل، أو رفع التعريفات الجمركية في العديد من الميادين أو تجاه العديد من المنتجات.
باختصار، من الممكن تماما أن تكون هناك ديمقراطية لا تقاس سعادة المجتمع ورفاهته فيها بحجم أو بعدد الحريات الفردية الممارسة، وأن تكون فيها الأسبقية لقيم العدالة أو المساواة بين المواطنين أو بين الجنسين أو بين الطبقات أو الأقاليم والجماعات المختلفة، خاصة عندما تكون الفوارق بينها ذات طبيعة خطيرة واستثنائية. وذلك ما يعني القبول بما يتطلبه تحقيق ذلك أحيانا من تدخل مباشر لفرض بعض القيود على حريات بعض الفئات التي يعيق نمط إنتاجها أو ممارسة حرياتها تحرر الأغلبية من الأفراد وتفتحهم. كما يعني القبول بما نسميه اليوم مبدأ ممارسة التمييز الإيجابي لصالح الطبقات الشعبية أو الفئات المجتمعية الضعيفة لرفع درجة مشاركتها أو اندماجها أو مستوى معيشة أبنائها. وفي هذه الحالة يمكن الحديث عن ديمقراطية اجتماعية هدفها تحقيق أكثر ما يمكن من التضامن بين الأفراد ومن المساواة الفعلية بين جماعات المنتمين إلى الدولة الواحدة بل إلى العالم الواحد، مع الحفاظ على حرية الفرد كجوهر ثابت لأي ممارسة ديمقراطية( ).
الأزمة العامة للرأسمالية
في الأدبيات الماركسية( ) , الأزمة العامة التي تعصف بالنظام الرأسمالي من جميع النواحي الاقتصادية والسياسية الايديولوجية وتؤدي الى تدهور وتفكك أسلوب الإنتاج فيه, والأزمة بمفهومها الاقتصادي: هي اختلال حاد في التوازن بين العرض والطلب يؤدي الى تفاقم الأوضاع الاقتصادية في بلد أو منطقة معينين وفي مجال أو مجالات اقتصادية محددة. وبقدر ما تعتمد الأزمة أفقيا وعموديا, بقدر ما تكون عامة وعالمية. والأزمة بمعناها الدقيق, هي ذلك الانقلاب العنيف في الدورة الاقتصادية , والذي يجعل الاقتصاد ينتقل فجأة من مرحلة توسعية الى مرحلة انكماشية وركودية. ولعل تعاقب الأزمات في الآونة الحديثة هو الذي دفع ببعض المنظرين الماركسيين الى استنتاجات متفائلة ومتسرعة تقول بأن هذا التعاقب سيؤدي في النهاية الى أزمة عامة شاملة داخل النظام الرأسمالي العالمي تقضي عليه.
تطور الأزمة:
والواقع إن الأزمات الاقتصادية ليست ظاهرة حديثة وخاصة بالمرحلة الحديثة, فتاريخ المجتمعات البشرية قد شهد العديد من الأزمات الاقتصادية. إلا أن تطور النظام الرأسمالي قد أعطى لتعاقب هذه الأزمات سمات محددة( ):
- فتوفير التعاقب والتناوب قد تسارعت مع انطلاقة الثورة الصناعية وازدياد المبادلات الدولية. وهكذا فإن من الممكن تعداد حوالي 15 أزمة اقتصادية ما بين 1780 و 1950
( 1787- 1788, 1826- 1836, 1847- 1848, 1857, 1873- 1866, 1873- 1877, 1882- 1884, 1890- 1893, 1900- 1904, 1907- 1913, 1920- 1922, 1929- 1932).
- كانت الأزمات الاقتصادية في البداية أزمات نقص في الإنتاج الزراعي كما كانت الحال في المراحل التاريخية السابقة للثورة الصناعية. ولكنها ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر أصبحت أزمات نقص في الاستهلاك الشامل وهو نقص ناتج عن اختلال التوازن بين الإنتاج الصناعي والطلب الممكن إشباعه.
- كانت الأزمات تنحصر في البداية في بلد أو بلدين أو ثلاثة. ولكنها ما لبثت مع تزايد المبادلات التجارية. إن اكتسبت طابعا عالميا شاملا.
وتنجلي الأزمة على اثر انقلاب حاد في الأوضاع الاقتصادية تكون مؤشراته هبوط الأسعار وتزايد الافلاسات وانخفاض الإنتاج وانتشار البطالة.
وتتفاقم هذه المؤشرات من تلقاء نفسها( من خلال ترابط الأسعار- المداخيل- الاستهلاك – الإنتاج) وتدوم مرحلة كاملة من الانهيار والانكماش قد تطول أو تقصر الى أن يعود الاقتصاد تدريجيا للدخول في مرحلة جديدة تصاعدية وتوسعية.
إشكالية الأزمة وتفسيرها:
إن تفسير الأزمات بشكل احد أهم مواضيع النظريات الاقتصادية. وبالرغم من تعدد هذه النظريات وتنوعها وبالتالي تعدد التفسيرات واختلافها. فمن الممكن تبيان ثلاثة تيارات أو مدراس تصدت وما تزال تتصدى لمعالجة مشكلة الأزمات وتفسيرها( ).
- المدرسة الليبرالية الكلاسيكية التي ترى في الأزمة حادثا عرضيا غير محتم يكون نتيجة للتصرفات البشرية التي تعرقل- أو تتدخل في – آليات السوق الطبيعية.
وهذه التصرفات التي تدينها هذه المدرسة, تكون عادة, إما نتيجة العوامل الفردية ( توقعات خاطئة, سوء تقدير...) أو في اغلب الأحيان, نتيجة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية
( نظام الضرائب, قوانين التسليف, السياسة المالية الحكومية). وتقوم هذه النظريات على فهم جامد للتوازنات الاقتصادية . فتجهل بالتالي دينامية النظام الرأسمالي وآلياته مما يجعلها اقرب الى التبرير منها الى التفسير الجدي والعلمي للازمات. وعلى كل حال. فإن تطور اقتصاد البلدان الرأسمالية الغربية منذ الأزمة الاقتصادية الكبرى( 1929) وما شهده هذا التطور من غياب نسبي للازمات الحادة ( باستثناء أزمة 1973 وأزمة1979, وأزمة المالية 2008) وذلك بفضل تزايد تدخل الدولة فيها. قد سحب من تحت هذه المدرسة كل مبرراتها النظرية.
- المدرسية الليبرالية الجديدة( ) التي تربط نشأة الأزمات بوجود عوامل اختلال موضوعية مرتبطة بظاهرة عدم التطابق الزمني بين العرض والطلب. فهناك مثلا عدم تطابق زمني بين توقيت اتخاذ قرار بالإنتاج وبين الزيادة الموضوعية للطلب. وبين قرار إعادة النظر بسعر الكلفة وسعر المبيع... وتربط هذه المدرسة الأزمات بحتمية الدورة الاقتصادية وتقترح كحل لها تبني استراتيجيات مضادة للدورات الاقتصادية مع ما يتطلبه ذلك من ضرورة تدخل الدولة في الاقتصاد الوطني. وهكذا نرى إن تحليل الأزمات قد أدى بأصحاب هذه المدرسة وعلى رأسهم كينز وأتباعه الى إعادة الاعتبار لدور الحكومة في تنظيم الاقتصاد والتدخل في دورته.
- المدرسة الماركسية( ): بالرغم من إن هذه المدرسة كانت أول من اكتشف قانون الأزمات ودوريتها. فإنها شهدت في الواقع تطورا جعلها تخفف من أحكامها القاطعة وذلك من خلال تحليل النظام الرأسمالي وقدراته على التكيف وتجاوز أزماته.
لقد ميز ماركس بين أزمات نقص الإنتاج ما فبل الرأسمالية وأزمات" فائض إنتاج قيم التبادل" الرأسمالية. والأزمات الأخيرة ناتجة عن التعارض بين النمو الموضوعي للجهاز الإنتاجي المرتبط بالتراكم الرأسمالي وبين الطلب الذي تشهده السوق والمرتبط بدوره بتوزيع المداخيل وبتطور معدلات أرباح وقد نظر ماركس الى التطور الاقتصادي الذي كانت تشهده المجتمعات الرأسمالية في عصره, فتوقع أو , بالأحرى, تنبأ بتفاقم متزايد للازمات كتعبير متفجر عن تناقضات النظام الرأسمالي الداخلية الى أن تصل الأمور الى حد انفجار أزمة عامة شاملة ونهائية تخلق الظروف الموضوعية لثورة اشتراكية.
والواقع أن دينامية النظام الرأسمالي وتطوره الذاتي والموضوعي قد جعلت الماركسيين يتخلون جزئيا عن هذا التوقع الميكانيكي , وهكذا فقد اعتبر لينين , مثلا, إن الامبريالية . بسعيها الى غزو أسواق جديدة والى استغلال الثروات الطبيعية بأقل كلفة ممكنة . قد شكلت منفذا , مؤقتا على الأقل, لتناقضات النظام الرأسمالي.
أما في أيامنا هذه فهناك , حسب المنظور الماركسي ثلاثة عوامل يمكن أن تفسر صمود النظام الرأسمالي أمام تناقضاته وأزماته الداخلية وهي:
- العلاقات بين البلدان الصناعية الغربية وبلدان العالم الثالث وهى علاقات تستطيع الدول الرأسمالية من خلالها أن تجعل البلدان النامية عبء التقلبات الدورية المتوسطة التي تمر بها.
- علاقات التعايش السلمي بين الدول الرأسمالية والاشتراكية السابقة الذي لعب دورا مزدوجا: ففي مراحل الحرب الباردة أو الحروب المحلية المحدودة ( كوريا, فيتنام...) يشكل تزايد المجهود الحربي وسباق التسلح عامل طلب اقتصادي مستقل يخلق مناخ توسع أو ازدهار اقتصادي مصطنع. أما في مراحل الانفراج فإن " التحدي" الاقتصادي الذي كانت ترفعه البلدان الاشتراكية يدفع الدول الرأسمالية الى التدخل بقوة اكبر لتنظيم اقتصادها وهذا ما ينمي بدوره تناقضات جديدة بين قطاع خاص تقليدي وقطاع عام ذي إمكانيات متعاظمة.
- وأخيرا تطوير السياسات المضادة للدورات الاقتصادية, وهذا من شأنه أن يلقي بأعباء الأزمة على بلدان أخرى من جهة. وان ينظم النمو أللاقتصادي من خلال تعديل توزيع الثروة داخل المجتمعات الرأسمالية من جهة أحرى. وهذا بدوره يؤدي الى تناقضات جديدة.
سياسة مكافحة الأزمات:
إن دورية الأزمات في الأزمنة الحديثة قد دفعت بالحكومات الى البحث عن الوسائل الكفيلة بالحد من آثارها ومن ثم التحسب لها.
أما معالجة الأزمات والتغلب عليها فقد تجسد في خلق طلب مستقل من شأنه أن يعيد للاقتصاد عافيته, مثل انتهاج سياسة مشاريع كبرى أو الدخول في سياق تسلح......... أو أحيانا كثيرة انتهاج سياسة عزلة واكتفاء ذاتي.
أما الوسائل الوقائية فقد تجسدت في تحليل طبيعة الدورات الاقتصادية وتوقع تاريخ حدوثها.
إلا أن كل ذلك لم يمنع الأنظمة الرأسمالية من الوقوع مجددا في أزمات اقتصادية خطيرة كتلك التي شهدتها عامي (1973 , 1979, 2008). ولا شك أن تزايد وعي العالم الثالث لحقوقه, وسعيه المتواصل لفرض نظام اقتصادي عالمي جديد, من شأنه أن يعمق الأزمة العامة للرأسمالية في الغرب ويسرع وتيرتها.