النظام العالمي الجديد والعالم الاسلامي
مرسل: الجمعة ديسمبر 31, 2010 12:27 am
[ماهو النظام الدولي الجديد، وما ملامحه وهل يقوم على الاحادية أم التعددية، وما تأثيره على المسلمين؟ يقوم النظام الدولي الجديد على ثلاثة عناصر: وجود قواعد تنظم العلاقات الدولية، والدول والمنظمات، والتفاعلات بين أجزاء النظام الدولي. ولفكرة النظام الدولي تاريخ عريق ينطلق من رغبة الانسان في الوحدة الانسانية. والنظام الدولي في القرنين الاخيرين بدأت مرحلته الاولى من مؤتمر فينا في مطلع القرن التاسع عشر، وهو الذي أعاد التوازن الدولي للمجموعة الاوربية، وفي هذه المرحلة تكونت الدولة الرأسمالية وحرية السوق. والثانية هي الفترة مابين الحربين العالميتين، وتميزت بعدم الاستقرار ونشأت في ظل مؤتمر الصلح في فرساي، والثالثة هي التي نشأت مع الحرب العالمية الثانية ووصفت بأنها مرحلة الحرب الباردة وتميزت بثنائية القطبية. ثم ظهرت مرحلة النظام الدولي الجديد في منتصف الثمانينات. يرفض بعض الباحثين أن يكون ثمة نظام دولي جديد ويرون أن ماحدث هو انحلال لنظام دولي دون أن يتبلور في نظام دولي آخر. لكن وثيقة استراتيجية الامن القومي لبوش تؤكد أن ثمة شيئا جديدا بدأ يظهر على الساحة الدولية، وله آثاره على المجال السياسي، والعسكري، والجيوسياسي، والاقتص
ادي. والمنطقة الاسلامية أكثر المناطق تأثراً بالمتغيرات الدولية الاخيرة، فهل حدد المسلمون موقعهم من النظام الدولي الجديد، وهل يمكن لهم ذلك في ظل التخلف والتبعية؟ هذا ما يتوقف على عزم الامة وارادتها.
مقدمة
على الرغم من مرور سنوات على صيحة الرئيس الأمريكي السابق (جورج بوش) وهو يقف ليعلن بداية نظام دولي جديد يحل على العالم، إلا أن مابين تلك الصيحة وهذا اليوم لم يشهد العالم تبلوراً واضحاً لحقيقة هذا النظام الدولي الجديد ومكوناته وخصائصه، وماتم حتى الآن لا يخرج عن تشخيصات السياسيين وتصورات الأكاديميين وهم يلتمسون البحث عن ملامح هذا النظام.
ومع أن الأمر كذلك فإنه لا يمنع من القول إن شيئاً - جنينياً - في العلاقات الدولية بدأ يتشكل خلال العقد الأخير من السنوات.
فما هو النظام الدولي الجديد؟
وماهي ملامحه؟
وهل حقاً هو نظام جديد؟ أم قديم في ثوب جديد؟
هل هو أحادي القطب أم متعدد الأقطاب؟
ماتأثير هذا النظام علينا نحن العرب والمسلمين؟
سنحاول الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال استعراضنا لموضوع النظام الدولي الجديد وآثاره على العالم الإسلامي.
فمصطلح "النظام" يعتبر من أكثر المصطلحات استخداماً في شتى المعارف والعلوم وخاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث نمت المناهج التنسيقية Systems analysis والرؤى النظميةSystemic في النظر إلى مختلف الظواهر الطبيعية والبشرية. وقد اجتهد علماء السياسة كغيرهم في مختلف التخصصات في سبيل التعريف بفكرة النظام على المستوى الدولي، فقد عرّفه "ولتز" مثلاً بأنه عبارة عن مجموعة من الوحدات التي تتفاعل فيما بينها، فمن ناحية يتكون النظام من هيكل أو بنيان ويتكون من ناحية أخرى من وحدات تتفاعل معها، ولعل "ستانلي هوفمان Stanley Hoffman" أكثر تحديداً في رؤيته للنظام الدولي، فهو يرى أنه عبارة عن نمط للعلاقات بين الوحدات الأساسية الدولية، ويتحدد هذا النمط بطريق بنيان أو هيكل العالم، وقد يطرأ تغيرات على النظام مردها التطور التكنولوجي أو التغير في الأهداف الرئيسية لوحدات النظام أو نتيجة التغير في نمط وشكل الصراع بين مختلف الوحدات المشكّلة للنظام [١].
أما "مارتن كابلن Marton Kaplan" فقد عرّفه بأنه وجود مجموعة من القواعد والقيم والمعايير المترابطة التي تحكم عمل العلاقات بين الدول وتحدد مظاهر الانتظام والخلل فيها خلال فترة معينة من الزمن [٢].
وقريباً من هذا التعريف ماذهب إليه "كينث ولتز Kenneth waltz".
ويذهب موريس إيست وآخرون إلى أن النظام الدولي "يمثل أنماط التفاعلات والعلاقات بين العوامل السياسية ذات الطبيعة الأرضية - الدول - خلال وقت محدد" [٣].
ومن هنا يمكننا القول أن العناصر الأساسية التي يتكون منها النظام الدولي هي ثلاثة عناصر رئيسية:
١ - وجود قواعد تنظم التفاعلات بين وحدات النظام الدولي وهذه القواعد هي مايعبر عنه بالقانون الدولي والمواثيق والمعاهدات والأعراف الدولية، كحق السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى والأعراف الدبلوماسية وغيرها.
٢ - الوحدات التي يتم التفاعل فيما بينها وهي الدول والمنظمات الدولية والمؤسسات ذات الوجود المتعدد (الدولي) كمؤسسات الإعلام الدولية والشركات متعددة الجنسية، وكذا الأشخاص الذين يقومون بأدوار دولية.
٣ - التفاعلات التي تتم بين وحدات النظام سواء كانت في المجالات السياسية أم في غيرها من المجالات كالاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية والرياضية… الخ.
وإذا كانت هذه هي فكرة النظام الدولي وعناصره فماذا عن نشأته؟
إن فكرة النظام الدولي ليست بالفكرة الحديثة أو المتأخرة، بل هي فكرة قديمة تضرب في جذور التاريخ، حاول خلالها الإنسان أن يمثل العالم النموذجي المثالي الذي يعيش فيه جميع البشر على مبدأ الوحدة الإنسانية القائمة على أسس قانونية - طبيعية أو دينية أو وضعية - دون التمييز بين أفراد هذا النظام بسبب اللون أو المعتقد الديني أو العرقي، ولعل أفكارها بدأت مع أفكار الفلسفة الرواقية "Stoic Philosophy" التي ظهرت في أثينا في القرن الثالث قبل الميلاد - تقريباً - حيث دعا زعيمها زينون "Zenon" إلى مدينة العالم" Cosppolis". وقد استلهمت الإمبراطورية الرومانية أفكار الرواقية حيث حاول قانون الشعب "Gentium" أن يكون قانوناً عالمياً، إلا أن تلك المحاولة كانت تخفي تحت ردائها إعطاء المشروعية القانونية لسعي روما إلى احتلال الشعوب الأخرى، وقد نجحت في ذلك إلى حد بعيد حيث تلاشى كيان الدول الموجودة وقتئذ في الإمبراطورية، وتعزز هذا الاتجاه بظهور المسيحية واعتمادها بعد ذلك في القرن الرابع الميلادي كديانة للإمبراطورية، فسعت إلى فرض هذه الفكرة بدعوى نشر المسيحية، إلا أن الفكرة اصطدمت بمعارضة الدول القائمة في ذلك الحين، حيث شهد العالم المسيحي حروباً و
نزاعات جعلت فكرة خضوع الدول والشعوب لقانون واحد يعد ضرباً من الخيال، إلا أن فشل الفكرة في ميدان التطبيق لم يلغها من الذاكرة الإنسانية، إذ أن فكرة النظام الدولي كانت تبرز بين الحين والآخر، وقد بدأت الفكرة تتطور مع ظهور فكرة نظرية العقد الاجتماعي التي نادى بها فلاسفة أمثال (توماس هويز، وجون لوك، وجان جاك روسو) إذ أن فكرة العقد الاجتماعي القائمة على تنظيم العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، نقلت هذه العلاقة - في المجتمع الأوروبي - إلى نسق قانوني منظم دفعت بكثير من الباحثين والمفكرين إلى تطوير الفكرة بحيث تكون فكرة واعية تقوم على تنظيم العلاقة بين الدول، بحيث تقوم هذه العلاقة على تنازل الدول عن جزء من حقوقها والتزاماتها مقابل الحصول على امتيازات من الآخرين، كالسلام والمصالح المتبادلة وغيرها. وهكذا نجد مفكرين مثل "ديفيد إيستون David Easton" يؤسس نظريته في النظم السياسية على أساس "أن الحياة السياسية هي جسد من التفاعلات ذات الحدود الخاصة والتي تحيط بها نظم اجتماعية تؤثر فيها بشكل مستمر، أما (غابريل ألموند) فقد كان أكثر تحديداً ووضوحاً حين وصف النظام السياسي بأنه "نظام من التفاعلات التي توجد في كل المجتمعات المستقلة ال
تي تؤدي وظائف التكامل والتكيف داخل هذه النظم وفي اتجاه المجتمعات الأخرى - بوسائل توظيف أو التهديد بتوظيف وسائل القهر الشرعي بصورة كبيرة أو صغيرة. وإذا كان المفكرون والفلاسفة قد طوروا الفكرة، فإن الساسة والمنفذين وبعض المفكرين حاولوا طرح الفكرة وإدخالها إلى عالم التطبيق، وكان من أبرز هذه المحاولات مشروع الوزير الفرنسي "ساي" عام ١٦٠٣م الذي طرحه على الملك هنري الرابع حيث اقترح إنشاء جمهورية مسيحية تضم كافة شعوب العالم، وكانت الفكرة تقوم على إنشاء اتحاد أوروبي بـإشراف الإمبراطور.
ثم تلت ذلك فكرة الأب "برنارد سان بيير" عام ١٧١٣م التي تقدم بها إلى مؤتمر (يوترخت) في المشروع الذي سماه مشروع السلم الدائم والذي يدعو فيه لإنشاء عصبة أمم أوروبية كاتحاد دولي للفصل في المنازعات.
ثم كانت دعوة الفيلسوف "كانت" عام ١٨٧٥م لإنشاء مشروع دائم للسلم يقوم على قوانين عامة تطبق على جميع الدول. كما دعا إلى ذلك "بنتام" صاحب مبدأ المنفعة، حين عرض ما سماه بفكرة "العالمية". وكذلك ما دعا إليه "اسكندر" القيصر الروسي عام ١٨١٥م، إذ دعا إلى حلف مقدس، وكذلك "مترنيج" الذي كان يدعو إلى مشروع للتضامن الأوروبي. ولعل فكرة الأممية التي نادى بها "كارل ماركس" لا تبعد كثيراً عن فكرة النظام العالمي، وإن اختلفت في الوسائل والأدوات.
إلا أننا ونحن نبحث في تطور فكرة النظام الدولي لايمكن أن نغفل معاهدة "وستفاليا" التي وقعتها مجموعة من الدول الأوروبية عام ١٦٤٨م إثر الحروب والمنازعات التي شهدتها هذه الدول فترة طويلة من الزمن، وتأتي أهمية هذه المعاهدة باعتبارها أول سعي جاد ومنظم لإقامة نظام دولي على أسس قانونية وتعاون مشترك بين أعضائها بدلاً من الحروب والصراعات. كما نظمت هذه المعاهدة العلاقات بين هذه الدول وفق قانون مشترك وحددت آلية لتنفيذها من خلال التشاور بين أعضائها في حل مشاكلهم على أساس المساواة في الحقوق والواجبات بين الأعضاء، كما أخذت المعاهدة بفكرة التوازن الدولي، ولذلك أعطت الحق للدول بالتدخل ضد أي دولة تحاول أن تخل بالوضع القائم حتى يمكن المحافظة على السلم والتوازن القائم بين الدول. كما وضعت المعاهدة قاعدة تدوين القواعد القانونية الملزمة للدولة المعنية.
إلا أنه على الرغم من ذلك فإن معاهدة "وستفاليا" لا تشبع مفهوم النظام الدولي، بهذه الصفة - أي دوليته - بل اقتصر مفهوم الدولية أو العالم فيها على العالم الأوروبي وبالتحديد الدول الموقعة على الاتفاقية.
مراحل النظام الدولي
المرحلة الأولى
ويمكننا تحديد فترات زمنية برز فيها مفهوم النظام الدولي بصورة واضحة إلى حيز التطبيق. ولعل أهم هذه المراحل تلك الفترة التي امتدت منذ مؤتمر "فينّا" عام ١٨١٠م وحتى عام ١٩١٤م، هذا المؤتمر الذي عمل على إعادة التوازن الدولي للمجموعة الأوربية وخاصة العمل على عودة الأنظمة السياسية الحاكمة في تلك الدول إلى سيادتها، وإعادة تقسيم الأراضي الأوربية بعد هزيمة نابليون، ولذلك سعت الدول إلى إبرام العديد من الاتفاقيات والتحالفات التي أخذت طابع الدولية لتضمن إقرار السلام وعدم العودة إلى حالة الحرب. ولعل وجه الشبه بين النظام الدولي في تلك المرحلة والنظام الدولي الحالي الجديد هو أن كلاهما قام على أنقاض قوة عسكرية وسياسية دولية، فالأولى - قوة نابليون - انهارت بالقوة العسكرية، بينما انهارت القوة الثانية - الاتحاد السوفيتي - لأسباب سياسية وداخلية. والملاحظة الأخرى أن كلا النظامين أعاد تشكيل القارة الأوربية حيث أعيد تنظيم الدول الأوربية كالسويد وسويسرا وبولندا وروسيا والنمسا وبروسيا… وغيرها من الدول، بينما أدى انهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومته الاشتراكية إلى إعادة تشكيل القارة الأوربية، فأعيد توحيد ألمانيا، وانقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى د
ولتين (جمهورية التشيك، وجمهورية السولفاك) كما أعيد تنظيم دول البلطيق (لتوانيا، واستونيا ولاتفيا) وأخذت أوكرانيا وروسيا البيضاء وجورجيا وصفاً جديداً باستقلالها، وتفتتت يوغسلافيا إلى عدة دول وهي سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا وصربيا والجبل الأسود وهما الدولتان اللتان بقيتا ضمن الاتحاد اليوغسلافي. إلا أن إعادة الترتيب هذه المرة طالت دولاً بعيدة عن القارة الأوربية وهي كازخستان وتركمانستان وقرغيزيا وطاجاكستان وأذربيجان وأوزبكستان وأرمينيا وهي من الدول التي ينتمي سكانها إلى المجموعة الإسلامية. ومن المفارقات العجيبة أن كلا النظامين تأثرا بالأحداث التي تجري في المنطقة الإسلامية، فقد تدخلت دول معاهدة "فينّا" في مصر عام ١٨٤٠م عندما أرسل محمد علي والي مصر ابنه ابراهيم باشا في حملة على بلاد الشام، فتدخلت هذه الدول حتى لا تصبح مصر دولة قوية وتخل بالتوازن في المنطقة، وقد تكرر المشهد مرة أخرى عام ١٩٩٠ عندما تدخلت دول التحالف وفي مقدمتها دول النظام الدولي الجديد لإخراج العراق من الكويت، وإنهاء احتلاله له، بل إن مصطلح النظام الدولي الجديد لم يأخذ مكانه من التداول إلا مع أزمة الخليج الثانية!
أبرز ملامح هذه المرحلة
١ - بداية تكوين الدولة الرأسمالية وخاصة في القرن التاسع عشر حيث بدأت الدول الأوربية، تأخذ صفة الرأسمالية الصناعية، وامتدت تلك الصفة إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتصبح بعد ذلك إحدى الوحدات الأساسية الفاعلة في النظام الدولي. وقد عبرت الدول في سياستها الخارجية وعلاقاتها بالدول الأخرى عن هذا التصور، فانطلقت هذه العلاقات من حرية التجارة والسوق ولو على حساب الدول الأخرى مستخدمة في ذلك القوة العسكرية التي مكنتها من فرض سيطرتها على أجزاء واسعة من العالم، وانعكس ذلك على الأوضاع الداخلية لهذه الدول فسادت الليبرالية السياسية والاقتصادية وحرية الاعتقاد والحرية الفردية وغيرها من المبادئ.
وقد تأثرت البلاد الإسلامية بذلك إذ خضعت أجزاء كبيرة منها للاستعمار الذي حاول نقل تصوراته ومفاهيمه السياسية والاقتصادية لتلك البلدان مع الاختلاف الكبير في الظروف والبيئات.
٢ - لقد أدت الثورة الصناعية وقيام الدولة الرأسمالية والتنافس بين وحدات النظام الدولي في تلك المرحلة إلى قيام التحالفات بين وحدات النظام وانتقال الصراع من التنافس العسكري إلى التنافس السياسي والصناعي وإبراز سياسة توازن القوى بصورة واضحة في النظام الدولي، مما حقق سلاماً نسبياً بين الدول الأوربية وحال دون نشوب حروب شاملة كتلك التي حدثت في القرن الثامن عشر، كما أن انشغال هذه الدول بمشكلاتها الداخلية كقمع الحركات السياسية ومواجهة الدعوات القومية شغلها عن الحروب الخارجية، فلم تبرز قوى متميزة على الرغم من المحاولات التي بذلتها بعض الدول من خلال التحالفات، إلا أن هذا التوازن اختل مع بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر نتيجة توحيد ألمانيا وظهورها كقوة كبرى في القارة الأوربية مما أدى إلـى تصادمها مـع مصالح الدول الاستعمارية الكبرى في ذلك الوقت كبريطانيا وفرنسا.
٣ - كان من مظاهر تلك المرحلة أن انتقلت فكرة حرية السوق إلى المستوى الدولي، فاتجهت الدول إلى فرض حرية التجارة بين دول العالم بحيث تجد هذه الدول أسواقاً استهلاكية واسعة ومنخفضة الرسوم الجمركية، وأدى ذلك إلى ارتفاع معـدلات النمـو الاقتصادي وانتعاش اقتصاد تلك الدول على حساب المستعمرات والدول الأخرى خارج المجموعة الأوربية، وكانت بريطانيا أكثر الدول استفادة من هذه الخطوة إذ أنها كانت أكثر الدول الأوربية تقدماً في مجال الصناعة. وقد دخلت بعد ذلك دول أخرى كألمانيا والولايات المتحدة كمنافس قوي لبريطانيا، إلا أن أواخر القرن الماضي (أي ما بين ١٨٧٣ - ١٨٩٦م) شهد كساداً اقتصادياً ساد العالم الرأسمالي، وقد مهدت كل هذه الإجراءات الطريق نحو الحرب العالمية الأولى.
٤ - اتسمت علاقة هذه المجموعة بدول العالم الثالث - والبلاد الإسلامية من بينها - بالهيمنة والسيطرة الاستعمارية، فلقد كان التوسع الاستعماري وسيلة للبحث عن أسواق جديدة والحصول على مصادر الطاقة والمواد الأولية بأسعار زهيدة، كما كان التنافس العسكري والاستراتيجي للسيطرة على طرق التجارة سبباً آخر لهذا الاستعمار الذي انعكس على دول العالم بتأثيرات سلبية من أبرزها القضاء على محاولات التنمية الصناعية الناشئة في بلدان العالم الثالث كالصين والهند ومصر وغيرها، كما امتد التأثير إلى الجوانب الفكرية والثقافية، إذ حاولت الدول الاستعمارية فرض الاتجاهات الفكرية الغربية من قيم وثقافة ولغة وعادات على الشعوب المستعمرة، ونمّت لديها الشعور بالتبعية والدونية والحاجة الدائمة لها، كما استولت على القطاع الأكبر والأهم من تجارتها الخارجية، وسعت إلى إيجاد طبقة وطنية موالية لها تحافظ على مصالحها وتعمل على استمرارها في حال انتهاء وجودها، كل ذلك فرض نظاماً دولياً غير متكافئ الوحدات بل انقسم إلى فئتين، فئة متحكمة في هذا النظام وفئة تابعة ومستهلكة ومحققة لأغراضه.
المرحلة الثانية
أما المرحلة الثانية من مراحل النظام الدولي فهي تلك المرحلة التي امتدت بين عامي ١٩١٩ و١٩٤٥م، وهي الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقد تميزت هذه المرحلة بعدم الاستقرار على الرغم من أن النظام كان سائداً خلالها نشأ في ظل مؤتمر الصلح في "فرساي" عام ١٩١١م الذي عملت ألمانيا على تغييره نظراً لما كانت تشعر به من إذلال وتقليل من دورها. كما برزت قوة أخرى تبعد كثيراً عن المجموعة الأوربية وهي اليابان التي حاولت أن تجد لها مكاناً مناسباً في النظام الدولي السائد آنذاك، ولم تكن راضية عن التطورات السياسية التي كانت تجري في تلك الفترة فعملت - هي الأخرى - على تغيير النظام الذي نشأ بعد مؤتمر فرساي.
أبرز ملامح هذه المرحلة
١ - برزت القوة كإحدى الركائز التي قام عليها هذا النظام إذ فرضت على ألمانيا معاهدة الصلح بعد تدمير قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ولذا كان الألمان يطلقون على هذه المعاهدة (معاهدة العبودية) أما على الطرف الآخر فخرجت قوى النظام الجديد وهي فرنسا وبريطانيا وأمريكا منتصرة ظافرة، بينما اتجه الاتحاد السوفيتي لبناء كيانه الاشتراكي والانطواء على نفسه وتعزيز وجوده الداخلي وقدراته العسكرية، أما الولايات المتحدة الأمريكية، فعلى الرغم من انتصارها، إلا أنها فضلت العزوف عن التدخل في شؤون القارة الأوربية وتركت ذلك لأبناء القارة نفسها فانفردت فرنسا وبريطانيا بفرض هيمنتها على الدول الأوربية، أما ألمانيا فقد ساءها ما حدث وحولت هذه الإساءة إلى بناء كيان جديد يستطيع أن ينخلع من ربقة الهيمنة. وهذا ما حدث بعد وصول (هتلر) إلى مقعد القيادة في العربة الألمانية، فعمل تدريجياً على استعادة ألمانيا لمكانتها.
أما في الشرق فقد انطلقت اليابان تتحدى النظام الجديد خاصة في منافسته على أسواقه التقليدية في الشرق وبدأت تجربة هذا التحدي باحتلال (منشوريا) عام ١٩٣١م، وغزو شمال الصين عام ١٩٣٧م. ويمكننا القول أن الهدوء النسبي الذي شهده العالم خلال بعض فترات هذه المرحلة كان أشبه بسن السكاكين أو الهدوء الذي يسبق العاصفة!!
٢ - اتصفت هذه المرحلة بصعود المد الإيديولوجي في بعض وحدات هذا النظام واشتداد الصراع بين هذه (الأيديولوجيات) إذ انتعشت الشيوعية من جهة وقابلتها كل من النازية والفاشية من جانب آخر، بينما تنامى المد القومي في أرجاء واسعة من العالم الإسلامي كتركيا وأجزاء من الهند وأندونيسيا والبلاد العربية.
٣ - أما على المستوى الاقتصادي فتميزت هذه المرحلة بفترات كساد اقتصادي ساد أغلب مناطق العالم. وكان أبرز تلك المراحل الأزمة المالية الدولية التي بدأت في النمسا صيف ١٩٣١م وامتدت إلى ألمانيا ثم انتشرت في بقية الدول الأوربية، وكان من نتيجة ذلك أن الوحدات المؤثرة في هذا النظام اتجهت إلى مستعمراتها ومناطق نفوذها في مزيد من الاستغلال لتعويض خسارتها من الكساد.
٤ - الملاحظ أن بعض ملامح هذا النظام الدولي في هذه المرحلة تكاد تتكرر مع النظام الدولي الجديد. فنهوض الفكر القومي وانتعاشه بات أحد الأسباب التي تقلق ساسة النظام الجديد وخاصة بعد تفتت الاتحاد السوفيتي وإعادة تكون الدول على أسس قومية، وما أدى إليه ذلك من صراع دموي بات يغطي بعض مساحات الدول مثلما نشهد ذلك في البوسنة والهرسك وكرواتيا، وسلوفينيا قبلهما، وإبخازيا و (ناجورنوقرباغ) وناختشفييان وأرمينيا وأذريبجان، والقضية الكردية. ولم يسلم الاتحاد الروسي الذي ورث بقايا روسيا القيصيرية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي من هذا الصراع، حيث تشهد بعض أرجائه تململاً واضحاً للقوميات الواقعة تحت حكمه، وصل بعضها إلى الحرب الشنيعة، كما حدث في الشيشان وما يتوقع أن يحدث في أرجاء أخرى كأنغوشيا، وداغستان، وتتارستان، إذا لم تتم الاستفادة من دروس الشيشان. والملاحظ أن معظم هذه الصراعات تمس البلاد الإسلامية أو الدول التي تحتوي على تجمعات إسلامية.
٥ - إلا أن أهم معالم هذا النظام الدولي في هذه المرحلة هو إيجاد منظومة دولية تضفي مشروعية قانونية دولية على الوضع القائم بعد الحرب وذلك من خلال إنشاء عصبة الأمم التي أسند إليها الإشراف على هذا النظام، إلا أن هذه (المنظومة) لم يكتب لها النجاح بسبب إصرار المجموعة الأوربية على إضفاء التصورات القديمة للنظام العالمي - القائم على تميز أوروبا عن غيرها - عليها، لذلك بقيت هذه المنظمة منظمة على مستوى أوروبا والعالم المسيحي، إذ لم تشارك الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المنظمة بعد رفض مجلس الشيوخ الأمريكي المصادقة على معاهدة فرساي. كما انسحبت منها ألمانيا بعد فترة من انضمامها لها. هذا إلى جانب أسباب أخرى حدت من تأثير عصبة الأمم وفاعليتها، إلا أن هذه التجربة كانت دافعاً لكثير من الدول للتفكير بمنظمة جديدة يكون لها دور وتأثير أكبر، وهذا ما تحقق في المرحلة التالية.
٦ - يبدو واضحاً أن هذه المرحلة تميزت بتعدد القطبية فيها، إذ لم تنفرد دولة واحدة بذلك، كما لم يقم النظام على قطبين متقابلين - كما حدث ذلك في المرحلة اللاحقة - وإنما توزعت القطبية على دول كفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة وحتى اليابان، مما جعل من الصعب التحكم في هذا النظام بصورة مباشرة، وأثّر ذلك على حالة توازن القوى فكان من نتائجه اختلال هذا التوازن بين فترة وأخرى لصالح إحدى مكوناته، ودفعت هذه الحالة العالم إلى خوض حرب عالمية ثانية خلطت جميع الأوراق وأعادت فرزها لتبرز مرحلة جديدة كان لها خصائصها ومميزاتها.
المرحلة الثالثة
أما المرحلة الثالثة من النظام الدولي هي تلك التي يمكن تحديدها بالمرحلة التي نشأت مع الحرب العالمية الثانية (عام ١٩٤٥م) وامتدت حتى عام ١٩٩٠م والتي وصفت بأنها مرحلة (الحرب الباردة) وحددت بالثنائية القطبية إذ أدت الحرب العالمية الثانية إلى خروج معظم أطرافها منهوكة القوى في مختلف جوانب التأثير العسكري والسياسي والاقتصادي، على الرغم مما حققه الحلفاء من انتصارات عسكرية، إلا أن آثار الحرب قد ألقت بكلكلها على هذه الدول - وخاصة الأوربية الغربية - بينما شهدت هذه المرحلة صعوداً سريعاً لقوتين كبيرتين متنافستين هما الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الرغم من توزيع الأدوار خلال الحرب إلا أن الاتحاد السوفيتي ولأسباب جغرافية، خرج وتحت إبطه مجموعة من الدول الأوربية الشرقية الدائرة في فلكه مما عزز موقفه في المواجهة، بينما خرجت الولايات المتحدة وهي تملك بقية الأوراق في يدها. إذ ولأول مرة في تاريخها يتحقق لها نفوذ كبير بهذه السعة، وكانت القنبلتان النوويتان اللتان ألقتهما الولايات المتحدة الأمريكية على "هيروشيما ونجازاكي" في شهر أغسطس عام ١٩٤٥م إيذاناً ببدء عصر تكون لأمريكا فيه اليد الطولى، سواء كان ذلك على الصعيد
العسكري أم السياسي أم الإقتصادي، إذ تم تدعيم الموقف العسكري بموقف سياسي من خلال مبدأ ترومان المعلن في مارس ١٩٤٧م، واقتصادياً ببرنامج (مارشال) للمساعدات المعلن في يونيو ١٩٤٧م والذي ساعد على إعادة إعمار أوروبا الغربية واليابان، كما ساعد في تدعيم الاقتصاد الأمريكي.
أبرز خصائص هذه المرحلة
١ - ثنائية القطبية، إذ أن وجود مركزين للنظام أدى إلى استقطاب مجموعة من الدول دائرة في فلكه وأصبحت المنظومة الاشتراكية تشكل وحدة متجانسة من حيث اتجاهاتها السياسية وتصوراتها. وكانت المجموعة الغربية تشكل وحدة متجانسة كذلك. من هنا برزت (الإيديولوجيا) مرة أخرى، وهي هنا ليست معتقداً فكرياً وسياسياً، وإنما تصوراً شاملاً لصياغة الحياة. فقام المعسكر الشرقي على الفكر الشيوعي، بينما قام المعسكر الغربي على الفكر الرأسمالي. وحاول كل معسكر كسب عدد من الدول والقوى السياسية المؤيدة له، فخرج مفهوم المعسكر عن إطار (الجغرافيا) شرق وغرب، إلى أن أصبح مفهوماً يرمز إلى أحد المعسكرين اللذين حاولا الوصول إلى مناطق نفوذ الآخر، وهكذا وجدنا الاتحاد السوفيتي يمدُّ أطرافه إلى كوبا غرباً وفيتنام وكوريا الشمالية شرقاً وبينهما دول تخضع لهذا النفوذ أو ذاك، سواء كانت في آسيا أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية. كانت رؤية القطب الآخر للنظام (الرأسمالي) ترى أنه لا يمكن التعايش مع النظام الاشتراكي وأن أفضل وسيلة للقضاء على هذا النظام هو مواجهته في مختلف المواقع، وأن النظام الرأسمالي لا يمكن حصره في أمريكا أو أوربا الغربية، وأن المواجهة تتطلب الانتقال إل
ى مواقع الصراع مباشرة. وكان أوضح نموذج لذلك نقل الاتحاد السوفيتي المواجهة مع أمريكا إلى أقرب شواطئها عندما نصب صواريخه في كوبا لمواجهة أمريكا، بينما نقلت أمريكا صراعها إلى فيتنام وكوريا وإلى كل مكان تضع الشيوعية فيه قدماً لها، وكان آخرها أفغانستان.
٢ - تميزت هذه المرحلة بتكوين قوى (ظل) تساند سعي كلا الطرفين لتطوير قدراته في المواجهة من خلال إيجاد تكتلات سياسية أو عسكرية كبرى يسند بها موقفه من المواجهة، وهكذا وجدنا أوربا الغربية (الوارث للنظام الدولي السابق) تضع كل ثقلها إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية متحالفة معها في حلف شمال الأطلسي، بينما تكتلت أوروبا الشرقية خلف الاتحاد السوفيتي في حلف وارسو، وفي الشرق نما سندان كبيران لكلا الطرفين، إذ استطاعت اليابان بناء قوة اقتصادية كبرى وضعتها في ميزان النظام الرأسمالي من خلال مجموعة الدول الصناعية الكبرى السبع، مما رجح كفته الاقتصادية، بينما تبنت الصين وهي قوة بشرية وصناعية وعسكرية هائلة النظام الشيوعي، إلا أنها حاولت أن تصنع لنفسها محوراً خاصاً يستقطب أطرافاً من المنتمين للمعسكر الشيوعي.
٣ - دفعت "الحمى الباردة" التي سرت في جسد النظام الدولي خلال هذه الفترة إلى السباق في شتى الميادين، وكان الميدان العسكري والتقني أبرزهما، فقد كان انطلاق رائد الفضاء السوفيتي "جاجارين" إلى الفضاء رعشة سرت في الجسد الأمريكي كله، فدعته إلى تطوير قدراته الفضائية التي لم يهنأ لها بال إلا وهي ترى رائدها "نيل آرمسترنج" وهو يضع قدمه على سطح القمر. وقد تجلى السباق في الميدان العسكري من خلال الأسلحة النووية والصواريخ العابرة للقارات وملايين الأطنان من الإنتاج العسكري وتطوير البرامج الحربية وكان آخرها برنامج حرب النجوم في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق "ريجان" وقد حملت الكرة الأرضية من وسائل التدمير خلال هذه المرحلة مايكفي لتدميرها ست مرات كما يقول الخبراء العسكريون.
٤ - لم يكن احتواء الشيوعية أو مواجهتها هدفاً (أيديولوجيا) سياسياً فقط، بل كان هدفاً اقتصادياً كذلك. لقد كانت مصادر الطاقة تشكل هاجساً للولايات المتحدة إذ تخشى أن تلعب بها أصابع الدب الروسي!! ولذلك فقد سعت إلى سد كل المنافذ التي يمكن أن يصل منها ولو أدى ذلك إلى الرد العسكري كما عبر عنه الجنرال أ. م. غراي، أحد قادة القوات البحرية الأمريكية في تصريح له في أول مايو من عام ١٩٩٠م عندما قال: "إذا أرادت الولايات المتحدة أن تحافظ على إمكانية الوصول بحرية إلى الأسواق الخارجية والمصادر الرئيسية وكل ما تحتاجه صناعتنا… فعلينا أن نحافظ داخل هياكلنا الدفاعية على طاقة حقيقية من أجل الرد العسكري على أنماط الصراعات وفي كل مكان من العالم" [٤].
ولذلك عملت الدول الرأسمالية خلال هذه الفترة على فتح أسواق جديدة لها خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشرق آسيا، كما سعت للحفاظ على مصادر الطاقة وخاصة النفط وبأسعار مخفضة حتى لا تتأثر صناعتها بأي خلل يقع في هذا المصدر. كما حدث ذلك أثناء حرب أكتوبر عام ١٩٧٣م. وسعت كذلك ومنذ بداية السبعينيات إلى فتح أسواق جديدة لها في بعض المناطق التي كانت مغلقة أمامها كالصين التي نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في اختراق سورها العظيم من خلال سياسة (البنج بونج)، بحيث أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية، من أكثر المستفيدين من فتح هذه السوق التي كوفئت بعدها الصين بـإعطائها موقع الدولة الأفضل في الرعاية.
٥ - برزت خلال هذه المرحلة آلية جديدة لحفظ النظام الدولي وهي منظمة الأمم المتحدة التي أنشأت عام ١٩٤٥م وقد تأثرت في رسم سياستها بما خلفته الحرب العالمية الثانية من دمار ومآسي. ولذلك اهتمت المنظمة في مواثيقها بالسلام العالمي وحقوق الإنسان والمساواة وإقامة العلاقات الدولية على أساس الاحترام المتبادل. وأخذت الأمم المتحدة صلاحيات واسعة خولتها التدخل - أكثر مما كانت عليه عصبة الأمم - لحل المنازعات وإقرار السلم. إلا أن هذه الصلاحيات كانت أسيرة القوى العظمى التي تحكمت في مصير العالم من خلال نظام التصويت في مجلس الأمن. إلا أن الأمم المتحدة استطاعت - إلى حد ما - أن تقوم بأدوار متعددة خاصة في مجالات إقرار السلم في بعض المواقع المضطربة من العالم، كما أسهمت في مجالات التنمية والتطور في بعض دول العالم الثالث، وكان للمنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة أدواراً أخرى كذلك، إضافة إلى المواثيق الدولية التي صدرت خلال هذه الفترة وأبرزها اتفاقية جنيف لحقوق الإنسان. ويمكننا القول أن خلال هذه الفترة بدأت تتكون ملامح المشروعية الدولية التي ستصبح بعد ذلك إحدى ركائز النظام الدولي الجديد.
٦ - أما عن العالم الإسلامي فقد كان خلال هذه الفترة محط جذب من كلا القطبين، إذ حرص كلاهما على إقامة علاقة وطيدة مع بعض الدول الإسلامية خاصة بعد مرحلة التحرر والحصول على الاستقلال الوطني، إذ اتجهت بعض الأنظمة التي نشأت في هذه المرحلة إلى تبني بعض الأطروحات الاشتراكية وإن حاولت أن تكسبها الرؤى القومية أو الوطنية، إلا أن النصف الثاني من هذه المرحلة شهد تحولاً لدى بعض الدول الإسلامية عن التوجه الاشتراكي إلى الأخذ بالنظام الليبرالي كما حدث في أندونيسيا وبعض الدول العربية، أما الولايات المتحدة وحلفاؤها فقد حرصوا على توطيد علاقاتهم مع الدول التي تمتلك مصادر الطاقة كدول الخليج، كما برزت إسرائيل خلال هذه المرحلة كموطئ قدم للنظام الدولي بشقه الغربي في البلاد العربية مما أثر بشكل مباشر على اتجاه بعض الدول العربية إلى المجموعة الاشتراكية التي كانت بمثابة الحليف والمساند للعرب في قضيتهم الفلسطينية.
٧ - إلا أن هذه المرحلة - خلافاً للمرحلتين السابقتين - شهدت تحولاً في النصف الثاني منها، فبعد أن "انعكس التوتر على سباق التسلح النووي وبروز الأحلاف العسكرية وعلى تبني سياسة الاحتواء والتطويق وسياسة الاستقطاب والتنافس على مناطق النفوذ في العالم - إلا أن هناك حالات - الانفراج في لقاء القمم والتوصل إلى العديد من الاتفاقيات الثنائية أو المتعددة الأطراف للحد من انتشار الأسلحة التدميرية أو التخلص من البعض منها، وفي التعاون العلمي والتقني والاقتصادي والسياسي بين القوتين، وعليه فإن المرحلة الثالثة شهدت الانتقال من مرحلة الجمود التي استمرت حتى منتصف الخمسينيات إلى الثنائية المرنة بعد قبول الأطراف الرئيسية في النظام الدولي بمبدأ التعايش السلمي والسماح للأطراف الأخرى مثل أوروبا الغربية وجمهورية الصين الشعبية وكتلة عدم الانحياز، بأن تؤدي دوراً فاعلاً في النظام الدولي. وقد شهدت هذه المرحلة العديد من التطورات، أهمها تزايد عدد دول العالم الثالث، وبروز فاعلين من غير الدول، واتساع دور الأيديولوجيا، وضعف التمييز بين الحروب الدولية والحروب الأهلية، وتزايد دور الرأي العام والثورة في وسائل الاتصال والثورة العلمية والاهتمام بقضايا ا
لبيئة والدراسات الاستشرافية" [٥].
مرحلة النظام الدولي الجديد
لاشك أن منتصف الثمانينات من هذا القرن شهد تحولاً كبيراً في مسيرة النظام الدولي، وذلك بعد وصول الرئيس السوفيتي آنذاك (ميخائيل غورباتشوف) إلى سدة الحكم، إذ أن التغيرات السريعة والمتلاحقة جعلت كثيراً من المراقبين والمحللين يصاب بحالة من الانبهار وعدم القدرة على المتابعة والتدقيق أو التفاؤل والتبشير بعصر جديد. تلك الحالة التي دفعت بكاتب مرموق كالكاتب الأمريكي، الياباني الأصل، "فرنسيس فاكوياما" أن يصف ما حدث بأنه "نهاية التاريخ" حين أصدر كتابه المعنون بذات العنوان وتحدث فيه عن تصوره حول هزيمة النظام الشيوعي الحاسمة، وغلبة النظام الرأسمالي وسيادته على العالم. وبذلك فإن العالم - برؤيته - قد وصل إلى نهاية التاريخ، إذ ليس بـإمكان العقل البشري أن يأتي بنظام أفضل من النظام الرأسمالي لأن البديل - الشيوعي - الذي كان يؤمل منه تحقيق السعادة البشرية قد فشل بعد تطبيق دام اثنين وسبعين عاماً. وبذلك فإن النظام الرأسمالي الذي يحقق للبشرية ما تريد من الرفاه والحرية والنمو السريع والمضطرد في مستوى المعيشة قد أصبح قدر الإنسانية!! الذي لا مفر منه… والذي ستعيش في ظله إلى الأبد!!
ادي. والمنطقة الاسلامية أكثر المناطق تأثراً بالمتغيرات الدولية الاخيرة، فهل حدد المسلمون موقعهم من النظام الدولي الجديد، وهل يمكن لهم ذلك في ظل التخلف والتبعية؟ هذا ما يتوقف على عزم الامة وارادتها.
مقدمة
على الرغم من مرور سنوات على صيحة الرئيس الأمريكي السابق (جورج بوش) وهو يقف ليعلن بداية نظام دولي جديد يحل على العالم، إلا أن مابين تلك الصيحة وهذا اليوم لم يشهد العالم تبلوراً واضحاً لحقيقة هذا النظام الدولي الجديد ومكوناته وخصائصه، وماتم حتى الآن لا يخرج عن تشخيصات السياسيين وتصورات الأكاديميين وهم يلتمسون البحث عن ملامح هذا النظام.
ومع أن الأمر كذلك فإنه لا يمنع من القول إن شيئاً - جنينياً - في العلاقات الدولية بدأ يتشكل خلال العقد الأخير من السنوات.
فما هو النظام الدولي الجديد؟
وماهي ملامحه؟
وهل حقاً هو نظام جديد؟ أم قديم في ثوب جديد؟
هل هو أحادي القطب أم متعدد الأقطاب؟
ماتأثير هذا النظام علينا نحن العرب والمسلمين؟
سنحاول الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال استعراضنا لموضوع النظام الدولي الجديد وآثاره على العالم الإسلامي.
فمصطلح "النظام" يعتبر من أكثر المصطلحات استخداماً في شتى المعارف والعلوم وخاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث نمت المناهج التنسيقية Systems analysis والرؤى النظميةSystemic في النظر إلى مختلف الظواهر الطبيعية والبشرية. وقد اجتهد علماء السياسة كغيرهم في مختلف التخصصات في سبيل التعريف بفكرة النظام على المستوى الدولي، فقد عرّفه "ولتز" مثلاً بأنه عبارة عن مجموعة من الوحدات التي تتفاعل فيما بينها، فمن ناحية يتكون النظام من هيكل أو بنيان ويتكون من ناحية أخرى من وحدات تتفاعل معها، ولعل "ستانلي هوفمان Stanley Hoffman" أكثر تحديداً في رؤيته للنظام الدولي، فهو يرى أنه عبارة عن نمط للعلاقات بين الوحدات الأساسية الدولية، ويتحدد هذا النمط بطريق بنيان أو هيكل العالم، وقد يطرأ تغيرات على النظام مردها التطور التكنولوجي أو التغير في الأهداف الرئيسية لوحدات النظام أو نتيجة التغير في نمط وشكل الصراع بين مختلف الوحدات المشكّلة للنظام [١].
أما "مارتن كابلن Marton Kaplan" فقد عرّفه بأنه وجود مجموعة من القواعد والقيم والمعايير المترابطة التي تحكم عمل العلاقات بين الدول وتحدد مظاهر الانتظام والخلل فيها خلال فترة معينة من الزمن [٢].
وقريباً من هذا التعريف ماذهب إليه "كينث ولتز Kenneth waltz".
ويذهب موريس إيست وآخرون إلى أن النظام الدولي "يمثل أنماط التفاعلات والعلاقات بين العوامل السياسية ذات الطبيعة الأرضية - الدول - خلال وقت محدد" [٣].
ومن هنا يمكننا القول أن العناصر الأساسية التي يتكون منها النظام الدولي هي ثلاثة عناصر رئيسية:
١ - وجود قواعد تنظم التفاعلات بين وحدات النظام الدولي وهذه القواعد هي مايعبر عنه بالقانون الدولي والمواثيق والمعاهدات والأعراف الدولية، كحق السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى والأعراف الدبلوماسية وغيرها.
٢ - الوحدات التي يتم التفاعل فيما بينها وهي الدول والمنظمات الدولية والمؤسسات ذات الوجود المتعدد (الدولي) كمؤسسات الإعلام الدولية والشركات متعددة الجنسية، وكذا الأشخاص الذين يقومون بأدوار دولية.
٣ - التفاعلات التي تتم بين وحدات النظام سواء كانت في المجالات السياسية أم في غيرها من المجالات كالاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية والرياضية… الخ.
وإذا كانت هذه هي فكرة النظام الدولي وعناصره فماذا عن نشأته؟
إن فكرة النظام الدولي ليست بالفكرة الحديثة أو المتأخرة، بل هي فكرة قديمة تضرب في جذور التاريخ، حاول خلالها الإنسان أن يمثل العالم النموذجي المثالي الذي يعيش فيه جميع البشر على مبدأ الوحدة الإنسانية القائمة على أسس قانونية - طبيعية أو دينية أو وضعية - دون التمييز بين أفراد هذا النظام بسبب اللون أو المعتقد الديني أو العرقي، ولعل أفكارها بدأت مع أفكار الفلسفة الرواقية "Stoic Philosophy" التي ظهرت في أثينا في القرن الثالث قبل الميلاد - تقريباً - حيث دعا زعيمها زينون "Zenon" إلى مدينة العالم" Cosppolis". وقد استلهمت الإمبراطورية الرومانية أفكار الرواقية حيث حاول قانون الشعب "Gentium" أن يكون قانوناً عالمياً، إلا أن تلك المحاولة كانت تخفي تحت ردائها إعطاء المشروعية القانونية لسعي روما إلى احتلال الشعوب الأخرى، وقد نجحت في ذلك إلى حد بعيد حيث تلاشى كيان الدول الموجودة وقتئذ في الإمبراطورية، وتعزز هذا الاتجاه بظهور المسيحية واعتمادها بعد ذلك في القرن الرابع الميلادي كديانة للإمبراطورية، فسعت إلى فرض هذه الفكرة بدعوى نشر المسيحية، إلا أن الفكرة اصطدمت بمعارضة الدول القائمة في ذلك الحين، حيث شهد العالم المسيحي حروباً و
نزاعات جعلت فكرة خضوع الدول والشعوب لقانون واحد يعد ضرباً من الخيال، إلا أن فشل الفكرة في ميدان التطبيق لم يلغها من الذاكرة الإنسانية، إذ أن فكرة النظام الدولي كانت تبرز بين الحين والآخر، وقد بدأت الفكرة تتطور مع ظهور فكرة نظرية العقد الاجتماعي التي نادى بها فلاسفة أمثال (توماس هويز، وجون لوك، وجان جاك روسو) إذ أن فكرة العقد الاجتماعي القائمة على تنظيم العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، نقلت هذه العلاقة - في المجتمع الأوروبي - إلى نسق قانوني منظم دفعت بكثير من الباحثين والمفكرين إلى تطوير الفكرة بحيث تكون فكرة واعية تقوم على تنظيم العلاقة بين الدول، بحيث تقوم هذه العلاقة على تنازل الدول عن جزء من حقوقها والتزاماتها مقابل الحصول على امتيازات من الآخرين، كالسلام والمصالح المتبادلة وغيرها. وهكذا نجد مفكرين مثل "ديفيد إيستون David Easton" يؤسس نظريته في النظم السياسية على أساس "أن الحياة السياسية هي جسد من التفاعلات ذات الحدود الخاصة والتي تحيط بها نظم اجتماعية تؤثر فيها بشكل مستمر، أما (غابريل ألموند) فقد كان أكثر تحديداً ووضوحاً حين وصف النظام السياسي بأنه "نظام من التفاعلات التي توجد في كل المجتمعات المستقلة ال
تي تؤدي وظائف التكامل والتكيف داخل هذه النظم وفي اتجاه المجتمعات الأخرى - بوسائل توظيف أو التهديد بتوظيف وسائل القهر الشرعي بصورة كبيرة أو صغيرة. وإذا كان المفكرون والفلاسفة قد طوروا الفكرة، فإن الساسة والمنفذين وبعض المفكرين حاولوا طرح الفكرة وإدخالها إلى عالم التطبيق، وكان من أبرز هذه المحاولات مشروع الوزير الفرنسي "ساي" عام ١٦٠٣م الذي طرحه على الملك هنري الرابع حيث اقترح إنشاء جمهورية مسيحية تضم كافة شعوب العالم، وكانت الفكرة تقوم على إنشاء اتحاد أوروبي بـإشراف الإمبراطور.
ثم تلت ذلك فكرة الأب "برنارد سان بيير" عام ١٧١٣م التي تقدم بها إلى مؤتمر (يوترخت) في المشروع الذي سماه مشروع السلم الدائم والذي يدعو فيه لإنشاء عصبة أمم أوروبية كاتحاد دولي للفصل في المنازعات.
ثم كانت دعوة الفيلسوف "كانت" عام ١٨٧٥م لإنشاء مشروع دائم للسلم يقوم على قوانين عامة تطبق على جميع الدول. كما دعا إلى ذلك "بنتام" صاحب مبدأ المنفعة، حين عرض ما سماه بفكرة "العالمية". وكذلك ما دعا إليه "اسكندر" القيصر الروسي عام ١٨١٥م، إذ دعا إلى حلف مقدس، وكذلك "مترنيج" الذي كان يدعو إلى مشروع للتضامن الأوروبي. ولعل فكرة الأممية التي نادى بها "كارل ماركس" لا تبعد كثيراً عن فكرة النظام العالمي، وإن اختلفت في الوسائل والأدوات.
إلا أننا ونحن نبحث في تطور فكرة النظام الدولي لايمكن أن نغفل معاهدة "وستفاليا" التي وقعتها مجموعة من الدول الأوروبية عام ١٦٤٨م إثر الحروب والمنازعات التي شهدتها هذه الدول فترة طويلة من الزمن، وتأتي أهمية هذه المعاهدة باعتبارها أول سعي جاد ومنظم لإقامة نظام دولي على أسس قانونية وتعاون مشترك بين أعضائها بدلاً من الحروب والصراعات. كما نظمت هذه المعاهدة العلاقات بين هذه الدول وفق قانون مشترك وحددت آلية لتنفيذها من خلال التشاور بين أعضائها في حل مشاكلهم على أساس المساواة في الحقوق والواجبات بين الأعضاء، كما أخذت المعاهدة بفكرة التوازن الدولي، ولذلك أعطت الحق للدول بالتدخل ضد أي دولة تحاول أن تخل بالوضع القائم حتى يمكن المحافظة على السلم والتوازن القائم بين الدول. كما وضعت المعاهدة قاعدة تدوين القواعد القانونية الملزمة للدولة المعنية.
إلا أنه على الرغم من ذلك فإن معاهدة "وستفاليا" لا تشبع مفهوم النظام الدولي، بهذه الصفة - أي دوليته - بل اقتصر مفهوم الدولية أو العالم فيها على العالم الأوروبي وبالتحديد الدول الموقعة على الاتفاقية.
مراحل النظام الدولي
المرحلة الأولى
ويمكننا تحديد فترات زمنية برز فيها مفهوم النظام الدولي بصورة واضحة إلى حيز التطبيق. ولعل أهم هذه المراحل تلك الفترة التي امتدت منذ مؤتمر "فينّا" عام ١٨١٠م وحتى عام ١٩١٤م، هذا المؤتمر الذي عمل على إعادة التوازن الدولي للمجموعة الأوربية وخاصة العمل على عودة الأنظمة السياسية الحاكمة في تلك الدول إلى سيادتها، وإعادة تقسيم الأراضي الأوربية بعد هزيمة نابليون، ولذلك سعت الدول إلى إبرام العديد من الاتفاقيات والتحالفات التي أخذت طابع الدولية لتضمن إقرار السلام وعدم العودة إلى حالة الحرب. ولعل وجه الشبه بين النظام الدولي في تلك المرحلة والنظام الدولي الحالي الجديد هو أن كلاهما قام على أنقاض قوة عسكرية وسياسية دولية، فالأولى - قوة نابليون - انهارت بالقوة العسكرية، بينما انهارت القوة الثانية - الاتحاد السوفيتي - لأسباب سياسية وداخلية. والملاحظة الأخرى أن كلا النظامين أعاد تشكيل القارة الأوربية حيث أعيد تنظيم الدول الأوربية كالسويد وسويسرا وبولندا وروسيا والنمسا وبروسيا… وغيرها من الدول، بينما أدى انهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومته الاشتراكية إلى إعادة تشكيل القارة الأوربية، فأعيد توحيد ألمانيا، وانقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى د
ولتين (جمهورية التشيك، وجمهورية السولفاك) كما أعيد تنظيم دول البلطيق (لتوانيا، واستونيا ولاتفيا) وأخذت أوكرانيا وروسيا البيضاء وجورجيا وصفاً جديداً باستقلالها، وتفتتت يوغسلافيا إلى عدة دول وهي سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا وصربيا والجبل الأسود وهما الدولتان اللتان بقيتا ضمن الاتحاد اليوغسلافي. إلا أن إعادة الترتيب هذه المرة طالت دولاً بعيدة عن القارة الأوربية وهي كازخستان وتركمانستان وقرغيزيا وطاجاكستان وأذربيجان وأوزبكستان وأرمينيا وهي من الدول التي ينتمي سكانها إلى المجموعة الإسلامية. ومن المفارقات العجيبة أن كلا النظامين تأثرا بالأحداث التي تجري في المنطقة الإسلامية، فقد تدخلت دول معاهدة "فينّا" في مصر عام ١٨٤٠م عندما أرسل محمد علي والي مصر ابنه ابراهيم باشا في حملة على بلاد الشام، فتدخلت هذه الدول حتى لا تصبح مصر دولة قوية وتخل بالتوازن في المنطقة، وقد تكرر المشهد مرة أخرى عام ١٩٩٠ عندما تدخلت دول التحالف وفي مقدمتها دول النظام الدولي الجديد لإخراج العراق من الكويت، وإنهاء احتلاله له، بل إن مصطلح النظام الدولي الجديد لم يأخذ مكانه من التداول إلا مع أزمة الخليج الثانية!
أبرز ملامح هذه المرحلة
١ - بداية تكوين الدولة الرأسمالية وخاصة في القرن التاسع عشر حيث بدأت الدول الأوربية، تأخذ صفة الرأسمالية الصناعية، وامتدت تلك الصفة إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتصبح بعد ذلك إحدى الوحدات الأساسية الفاعلة في النظام الدولي. وقد عبرت الدول في سياستها الخارجية وعلاقاتها بالدول الأخرى عن هذا التصور، فانطلقت هذه العلاقات من حرية التجارة والسوق ولو على حساب الدول الأخرى مستخدمة في ذلك القوة العسكرية التي مكنتها من فرض سيطرتها على أجزاء واسعة من العالم، وانعكس ذلك على الأوضاع الداخلية لهذه الدول فسادت الليبرالية السياسية والاقتصادية وحرية الاعتقاد والحرية الفردية وغيرها من المبادئ.
وقد تأثرت البلاد الإسلامية بذلك إذ خضعت أجزاء كبيرة منها للاستعمار الذي حاول نقل تصوراته ومفاهيمه السياسية والاقتصادية لتلك البلدان مع الاختلاف الكبير في الظروف والبيئات.
٢ - لقد أدت الثورة الصناعية وقيام الدولة الرأسمالية والتنافس بين وحدات النظام الدولي في تلك المرحلة إلى قيام التحالفات بين وحدات النظام وانتقال الصراع من التنافس العسكري إلى التنافس السياسي والصناعي وإبراز سياسة توازن القوى بصورة واضحة في النظام الدولي، مما حقق سلاماً نسبياً بين الدول الأوربية وحال دون نشوب حروب شاملة كتلك التي حدثت في القرن الثامن عشر، كما أن انشغال هذه الدول بمشكلاتها الداخلية كقمع الحركات السياسية ومواجهة الدعوات القومية شغلها عن الحروب الخارجية، فلم تبرز قوى متميزة على الرغم من المحاولات التي بذلتها بعض الدول من خلال التحالفات، إلا أن هذا التوازن اختل مع بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر نتيجة توحيد ألمانيا وظهورها كقوة كبرى في القارة الأوربية مما أدى إلـى تصادمها مـع مصالح الدول الاستعمارية الكبرى في ذلك الوقت كبريطانيا وفرنسا.
٣ - كان من مظاهر تلك المرحلة أن انتقلت فكرة حرية السوق إلى المستوى الدولي، فاتجهت الدول إلى فرض حرية التجارة بين دول العالم بحيث تجد هذه الدول أسواقاً استهلاكية واسعة ومنخفضة الرسوم الجمركية، وأدى ذلك إلى ارتفاع معـدلات النمـو الاقتصادي وانتعاش اقتصاد تلك الدول على حساب المستعمرات والدول الأخرى خارج المجموعة الأوربية، وكانت بريطانيا أكثر الدول استفادة من هذه الخطوة إذ أنها كانت أكثر الدول الأوربية تقدماً في مجال الصناعة. وقد دخلت بعد ذلك دول أخرى كألمانيا والولايات المتحدة كمنافس قوي لبريطانيا، إلا أن أواخر القرن الماضي (أي ما بين ١٨٧٣ - ١٨٩٦م) شهد كساداً اقتصادياً ساد العالم الرأسمالي، وقد مهدت كل هذه الإجراءات الطريق نحو الحرب العالمية الأولى.
٤ - اتسمت علاقة هذه المجموعة بدول العالم الثالث - والبلاد الإسلامية من بينها - بالهيمنة والسيطرة الاستعمارية، فلقد كان التوسع الاستعماري وسيلة للبحث عن أسواق جديدة والحصول على مصادر الطاقة والمواد الأولية بأسعار زهيدة، كما كان التنافس العسكري والاستراتيجي للسيطرة على طرق التجارة سبباً آخر لهذا الاستعمار الذي انعكس على دول العالم بتأثيرات سلبية من أبرزها القضاء على محاولات التنمية الصناعية الناشئة في بلدان العالم الثالث كالصين والهند ومصر وغيرها، كما امتد التأثير إلى الجوانب الفكرية والثقافية، إذ حاولت الدول الاستعمارية فرض الاتجاهات الفكرية الغربية من قيم وثقافة ولغة وعادات على الشعوب المستعمرة، ونمّت لديها الشعور بالتبعية والدونية والحاجة الدائمة لها، كما استولت على القطاع الأكبر والأهم من تجارتها الخارجية، وسعت إلى إيجاد طبقة وطنية موالية لها تحافظ على مصالحها وتعمل على استمرارها في حال انتهاء وجودها، كل ذلك فرض نظاماً دولياً غير متكافئ الوحدات بل انقسم إلى فئتين، فئة متحكمة في هذا النظام وفئة تابعة ومستهلكة ومحققة لأغراضه.
المرحلة الثانية
أما المرحلة الثانية من مراحل النظام الدولي فهي تلك المرحلة التي امتدت بين عامي ١٩١٩ و١٩٤٥م، وهي الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقد تميزت هذه المرحلة بعدم الاستقرار على الرغم من أن النظام كان سائداً خلالها نشأ في ظل مؤتمر الصلح في "فرساي" عام ١٩١١م الذي عملت ألمانيا على تغييره نظراً لما كانت تشعر به من إذلال وتقليل من دورها. كما برزت قوة أخرى تبعد كثيراً عن المجموعة الأوربية وهي اليابان التي حاولت أن تجد لها مكاناً مناسباً في النظام الدولي السائد آنذاك، ولم تكن راضية عن التطورات السياسية التي كانت تجري في تلك الفترة فعملت - هي الأخرى - على تغيير النظام الذي نشأ بعد مؤتمر فرساي.
أبرز ملامح هذه المرحلة
١ - برزت القوة كإحدى الركائز التي قام عليها هذا النظام إذ فرضت على ألمانيا معاهدة الصلح بعد تدمير قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ولذا كان الألمان يطلقون على هذه المعاهدة (معاهدة العبودية) أما على الطرف الآخر فخرجت قوى النظام الجديد وهي فرنسا وبريطانيا وأمريكا منتصرة ظافرة، بينما اتجه الاتحاد السوفيتي لبناء كيانه الاشتراكي والانطواء على نفسه وتعزيز وجوده الداخلي وقدراته العسكرية، أما الولايات المتحدة الأمريكية، فعلى الرغم من انتصارها، إلا أنها فضلت العزوف عن التدخل في شؤون القارة الأوربية وتركت ذلك لأبناء القارة نفسها فانفردت فرنسا وبريطانيا بفرض هيمنتها على الدول الأوربية، أما ألمانيا فقد ساءها ما حدث وحولت هذه الإساءة إلى بناء كيان جديد يستطيع أن ينخلع من ربقة الهيمنة. وهذا ما حدث بعد وصول (هتلر) إلى مقعد القيادة في العربة الألمانية، فعمل تدريجياً على استعادة ألمانيا لمكانتها.
أما في الشرق فقد انطلقت اليابان تتحدى النظام الجديد خاصة في منافسته على أسواقه التقليدية في الشرق وبدأت تجربة هذا التحدي باحتلال (منشوريا) عام ١٩٣١م، وغزو شمال الصين عام ١٩٣٧م. ويمكننا القول أن الهدوء النسبي الذي شهده العالم خلال بعض فترات هذه المرحلة كان أشبه بسن السكاكين أو الهدوء الذي يسبق العاصفة!!
٢ - اتصفت هذه المرحلة بصعود المد الإيديولوجي في بعض وحدات هذا النظام واشتداد الصراع بين هذه (الأيديولوجيات) إذ انتعشت الشيوعية من جهة وقابلتها كل من النازية والفاشية من جانب آخر، بينما تنامى المد القومي في أرجاء واسعة من العالم الإسلامي كتركيا وأجزاء من الهند وأندونيسيا والبلاد العربية.
٣ - أما على المستوى الاقتصادي فتميزت هذه المرحلة بفترات كساد اقتصادي ساد أغلب مناطق العالم. وكان أبرز تلك المراحل الأزمة المالية الدولية التي بدأت في النمسا صيف ١٩٣١م وامتدت إلى ألمانيا ثم انتشرت في بقية الدول الأوربية، وكان من نتيجة ذلك أن الوحدات المؤثرة في هذا النظام اتجهت إلى مستعمراتها ومناطق نفوذها في مزيد من الاستغلال لتعويض خسارتها من الكساد.
٤ - الملاحظ أن بعض ملامح هذا النظام الدولي في هذه المرحلة تكاد تتكرر مع النظام الدولي الجديد. فنهوض الفكر القومي وانتعاشه بات أحد الأسباب التي تقلق ساسة النظام الجديد وخاصة بعد تفتت الاتحاد السوفيتي وإعادة تكون الدول على أسس قومية، وما أدى إليه ذلك من صراع دموي بات يغطي بعض مساحات الدول مثلما نشهد ذلك في البوسنة والهرسك وكرواتيا، وسلوفينيا قبلهما، وإبخازيا و (ناجورنوقرباغ) وناختشفييان وأرمينيا وأذريبجان، والقضية الكردية. ولم يسلم الاتحاد الروسي الذي ورث بقايا روسيا القيصيرية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي من هذا الصراع، حيث تشهد بعض أرجائه تململاً واضحاً للقوميات الواقعة تحت حكمه، وصل بعضها إلى الحرب الشنيعة، كما حدث في الشيشان وما يتوقع أن يحدث في أرجاء أخرى كأنغوشيا، وداغستان، وتتارستان، إذا لم تتم الاستفادة من دروس الشيشان. والملاحظ أن معظم هذه الصراعات تمس البلاد الإسلامية أو الدول التي تحتوي على تجمعات إسلامية.
٥ - إلا أن أهم معالم هذا النظام الدولي في هذه المرحلة هو إيجاد منظومة دولية تضفي مشروعية قانونية دولية على الوضع القائم بعد الحرب وذلك من خلال إنشاء عصبة الأمم التي أسند إليها الإشراف على هذا النظام، إلا أن هذه (المنظومة) لم يكتب لها النجاح بسبب إصرار المجموعة الأوربية على إضفاء التصورات القديمة للنظام العالمي - القائم على تميز أوروبا عن غيرها - عليها، لذلك بقيت هذه المنظمة منظمة على مستوى أوروبا والعالم المسيحي، إذ لم تشارك الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المنظمة بعد رفض مجلس الشيوخ الأمريكي المصادقة على معاهدة فرساي. كما انسحبت منها ألمانيا بعد فترة من انضمامها لها. هذا إلى جانب أسباب أخرى حدت من تأثير عصبة الأمم وفاعليتها، إلا أن هذه التجربة كانت دافعاً لكثير من الدول للتفكير بمنظمة جديدة يكون لها دور وتأثير أكبر، وهذا ما تحقق في المرحلة التالية.
٦ - يبدو واضحاً أن هذه المرحلة تميزت بتعدد القطبية فيها، إذ لم تنفرد دولة واحدة بذلك، كما لم يقم النظام على قطبين متقابلين - كما حدث ذلك في المرحلة اللاحقة - وإنما توزعت القطبية على دول كفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة وحتى اليابان، مما جعل من الصعب التحكم في هذا النظام بصورة مباشرة، وأثّر ذلك على حالة توازن القوى فكان من نتائجه اختلال هذا التوازن بين فترة وأخرى لصالح إحدى مكوناته، ودفعت هذه الحالة العالم إلى خوض حرب عالمية ثانية خلطت جميع الأوراق وأعادت فرزها لتبرز مرحلة جديدة كان لها خصائصها ومميزاتها.
المرحلة الثالثة
أما المرحلة الثالثة من النظام الدولي هي تلك التي يمكن تحديدها بالمرحلة التي نشأت مع الحرب العالمية الثانية (عام ١٩٤٥م) وامتدت حتى عام ١٩٩٠م والتي وصفت بأنها مرحلة (الحرب الباردة) وحددت بالثنائية القطبية إذ أدت الحرب العالمية الثانية إلى خروج معظم أطرافها منهوكة القوى في مختلف جوانب التأثير العسكري والسياسي والاقتصادي، على الرغم مما حققه الحلفاء من انتصارات عسكرية، إلا أن آثار الحرب قد ألقت بكلكلها على هذه الدول - وخاصة الأوربية الغربية - بينما شهدت هذه المرحلة صعوداً سريعاً لقوتين كبيرتين متنافستين هما الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الرغم من توزيع الأدوار خلال الحرب إلا أن الاتحاد السوفيتي ولأسباب جغرافية، خرج وتحت إبطه مجموعة من الدول الأوربية الشرقية الدائرة في فلكه مما عزز موقفه في المواجهة، بينما خرجت الولايات المتحدة وهي تملك بقية الأوراق في يدها. إذ ولأول مرة في تاريخها يتحقق لها نفوذ كبير بهذه السعة، وكانت القنبلتان النوويتان اللتان ألقتهما الولايات المتحدة الأمريكية على "هيروشيما ونجازاكي" في شهر أغسطس عام ١٩٤٥م إيذاناً ببدء عصر تكون لأمريكا فيه اليد الطولى، سواء كان ذلك على الصعيد
العسكري أم السياسي أم الإقتصادي، إذ تم تدعيم الموقف العسكري بموقف سياسي من خلال مبدأ ترومان المعلن في مارس ١٩٤٧م، واقتصادياً ببرنامج (مارشال) للمساعدات المعلن في يونيو ١٩٤٧م والذي ساعد على إعادة إعمار أوروبا الغربية واليابان، كما ساعد في تدعيم الاقتصاد الأمريكي.
أبرز خصائص هذه المرحلة
١ - ثنائية القطبية، إذ أن وجود مركزين للنظام أدى إلى استقطاب مجموعة من الدول دائرة في فلكه وأصبحت المنظومة الاشتراكية تشكل وحدة متجانسة من حيث اتجاهاتها السياسية وتصوراتها. وكانت المجموعة الغربية تشكل وحدة متجانسة كذلك. من هنا برزت (الإيديولوجيا) مرة أخرى، وهي هنا ليست معتقداً فكرياً وسياسياً، وإنما تصوراً شاملاً لصياغة الحياة. فقام المعسكر الشرقي على الفكر الشيوعي، بينما قام المعسكر الغربي على الفكر الرأسمالي. وحاول كل معسكر كسب عدد من الدول والقوى السياسية المؤيدة له، فخرج مفهوم المعسكر عن إطار (الجغرافيا) شرق وغرب، إلى أن أصبح مفهوماً يرمز إلى أحد المعسكرين اللذين حاولا الوصول إلى مناطق نفوذ الآخر، وهكذا وجدنا الاتحاد السوفيتي يمدُّ أطرافه إلى كوبا غرباً وفيتنام وكوريا الشمالية شرقاً وبينهما دول تخضع لهذا النفوذ أو ذاك، سواء كانت في آسيا أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية. كانت رؤية القطب الآخر للنظام (الرأسمالي) ترى أنه لا يمكن التعايش مع النظام الاشتراكي وأن أفضل وسيلة للقضاء على هذا النظام هو مواجهته في مختلف المواقع، وأن النظام الرأسمالي لا يمكن حصره في أمريكا أو أوربا الغربية، وأن المواجهة تتطلب الانتقال إل
ى مواقع الصراع مباشرة. وكان أوضح نموذج لذلك نقل الاتحاد السوفيتي المواجهة مع أمريكا إلى أقرب شواطئها عندما نصب صواريخه في كوبا لمواجهة أمريكا، بينما نقلت أمريكا صراعها إلى فيتنام وكوريا وإلى كل مكان تضع الشيوعية فيه قدماً لها، وكان آخرها أفغانستان.
٢ - تميزت هذه المرحلة بتكوين قوى (ظل) تساند سعي كلا الطرفين لتطوير قدراته في المواجهة من خلال إيجاد تكتلات سياسية أو عسكرية كبرى يسند بها موقفه من المواجهة، وهكذا وجدنا أوربا الغربية (الوارث للنظام الدولي السابق) تضع كل ثقلها إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية متحالفة معها في حلف شمال الأطلسي، بينما تكتلت أوروبا الشرقية خلف الاتحاد السوفيتي في حلف وارسو، وفي الشرق نما سندان كبيران لكلا الطرفين، إذ استطاعت اليابان بناء قوة اقتصادية كبرى وضعتها في ميزان النظام الرأسمالي من خلال مجموعة الدول الصناعية الكبرى السبع، مما رجح كفته الاقتصادية، بينما تبنت الصين وهي قوة بشرية وصناعية وعسكرية هائلة النظام الشيوعي، إلا أنها حاولت أن تصنع لنفسها محوراً خاصاً يستقطب أطرافاً من المنتمين للمعسكر الشيوعي.
٣ - دفعت "الحمى الباردة" التي سرت في جسد النظام الدولي خلال هذه الفترة إلى السباق في شتى الميادين، وكان الميدان العسكري والتقني أبرزهما، فقد كان انطلاق رائد الفضاء السوفيتي "جاجارين" إلى الفضاء رعشة سرت في الجسد الأمريكي كله، فدعته إلى تطوير قدراته الفضائية التي لم يهنأ لها بال إلا وهي ترى رائدها "نيل آرمسترنج" وهو يضع قدمه على سطح القمر. وقد تجلى السباق في الميدان العسكري من خلال الأسلحة النووية والصواريخ العابرة للقارات وملايين الأطنان من الإنتاج العسكري وتطوير البرامج الحربية وكان آخرها برنامج حرب النجوم في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق "ريجان" وقد حملت الكرة الأرضية من وسائل التدمير خلال هذه المرحلة مايكفي لتدميرها ست مرات كما يقول الخبراء العسكريون.
٤ - لم يكن احتواء الشيوعية أو مواجهتها هدفاً (أيديولوجيا) سياسياً فقط، بل كان هدفاً اقتصادياً كذلك. لقد كانت مصادر الطاقة تشكل هاجساً للولايات المتحدة إذ تخشى أن تلعب بها أصابع الدب الروسي!! ولذلك فقد سعت إلى سد كل المنافذ التي يمكن أن يصل منها ولو أدى ذلك إلى الرد العسكري كما عبر عنه الجنرال أ. م. غراي، أحد قادة القوات البحرية الأمريكية في تصريح له في أول مايو من عام ١٩٩٠م عندما قال: "إذا أرادت الولايات المتحدة أن تحافظ على إمكانية الوصول بحرية إلى الأسواق الخارجية والمصادر الرئيسية وكل ما تحتاجه صناعتنا… فعلينا أن نحافظ داخل هياكلنا الدفاعية على طاقة حقيقية من أجل الرد العسكري على أنماط الصراعات وفي كل مكان من العالم" [٤].
ولذلك عملت الدول الرأسمالية خلال هذه الفترة على فتح أسواق جديدة لها خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشرق آسيا، كما سعت للحفاظ على مصادر الطاقة وخاصة النفط وبأسعار مخفضة حتى لا تتأثر صناعتها بأي خلل يقع في هذا المصدر. كما حدث ذلك أثناء حرب أكتوبر عام ١٩٧٣م. وسعت كذلك ومنذ بداية السبعينيات إلى فتح أسواق جديدة لها في بعض المناطق التي كانت مغلقة أمامها كالصين التي نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في اختراق سورها العظيم من خلال سياسة (البنج بونج)، بحيث أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية، من أكثر المستفيدين من فتح هذه السوق التي كوفئت بعدها الصين بـإعطائها موقع الدولة الأفضل في الرعاية.
٥ - برزت خلال هذه المرحلة آلية جديدة لحفظ النظام الدولي وهي منظمة الأمم المتحدة التي أنشأت عام ١٩٤٥م وقد تأثرت في رسم سياستها بما خلفته الحرب العالمية الثانية من دمار ومآسي. ولذلك اهتمت المنظمة في مواثيقها بالسلام العالمي وحقوق الإنسان والمساواة وإقامة العلاقات الدولية على أساس الاحترام المتبادل. وأخذت الأمم المتحدة صلاحيات واسعة خولتها التدخل - أكثر مما كانت عليه عصبة الأمم - لحل المنازعات وإقرار السلم. إلا أن هذه الصلاحيات كانت أسيرة القوى العظمى التي تحكمت في مصير العالم من خلال نظام التصويت في مجلس الأمن. إلا أن الأمم المتحدة استطاعت - إلى حد ما - أن تقوم بأدوار متعددة خاصة في مجالات إقرار السلم في بعض المواقع المضطربة من العالم، كما أسهمت في مجالات التنمية والتطور في بعض دول العالم الثالث، وكان للمنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة أدواراً أخرى كذلك، إضافة إلى المواثيق الدولية التي صدرت خلال هذه الفترة وأبرزها اتفاقية جنيف لحقوق الإنسان. ويمكننا القول أن خلال هذه الفترة بدأت تتكون ملامح المشروعية الدولية التي ستصبح بعد ذلك إحدى ركائز النظام الدولي الجديد.
٦ - أما عن العالم الإسلامي فقد كان خلال هذه الفترة محط جذب من كلا القطبين، إذ حرص كلاهما على إقامة علاقة وطيدة مع بعض الدول الإسلامية خاصة بعد مرحلة التحرر والحصول على الاستقلال الوطني، إذ اتجهت بعض الأنظمة التي نشأت في هذه المرحلة إلى تبني بعض الأطروحات الاشتراكية وإن حاولت أن تكسبها الرؤى القومية أو الوطنية، إلا أن النصف الثاني من هذه المرحلة شهد تحولاً لدى بعض الدول الإسلامية عن التوجه الاشتراكي إلى الأخذ بالنظام الليبرالي كما حدث في أندونيسيا وبعض الدول العربية، أما الولايات المتحدة وحلفاؤها فقد حرصوا على توطيد علاقاتهم مع الدول التي تمتلك مصادر الطاقة كدول الخليج، كما برزت إسرائيل خلال هذه المرحلة كموطئ قدم للنظام الدولي بشقه الغربي في البلاد العربية مما أثر بشكل مباشر على اتجاه بعض الدول العربية إلى المجموعة الاشتراكية التي كانت بمثابة الحليف والمساند للعرب في قضيتهم الفلسطينية.
٧ - إلا أن هذه المرحلة - خلافاً للمرحلتين السابقتين - شهدت تحولاً في النصف الثاني منها، فبعد أن "انعكس التوتر على سباق التسلح النووي وبروز الأحلاف العسكرية وعلى تبني سياسة الاحتواء والتطويق وسياسة الاستقطاب والتنافس على مناطق النفوذ في العالم - إلا أن هناك حالات - الانفراج في لقاء القمم والتوصل إلى العديد من الاتفاقيات الثنائية أو المتعددة الأطراف للحد من انتشار الأسلحة التدميرية أو التخلص من البعض منها، وفي التعاون العلمي والتقني والاقتصادي والسياسي بين القوتين، وعليه فإن المرحلة الثالثة شهدت الانتقال من مرحلة الجمود التي استمرت حتى منتصف الخمسينيات إلى الثنائية المرنة بعد قبول الأطراف الرئيسية في النظام الدولي بمبدأ التعايش السلمي والسماح للأطراف الأخرى مثل أوروبا الغربية وجمهورية الصين الشعبية وكتلة عدم الانحياز، بأن تؤدي دوراً فاعلاً في النظام الدولي. وقد شهدت هذه المرحلة العديد من التطورات، أهمها تزايد عدد دول العالم الثالث، وبروز فاعلين من غير الدول، واتساع دور الأيديولوجيا، وضعف التمييز بين الحروب الدولية والحروب الأهلية، وتزايد دور الرأي العام والثورة في وسائل الاتصال والثورة العلمية والاهتمام بقضايا ا
لبيئة والدراسات الاستشرافية" [٥].
مرحلة النظام الدولي الجديد
لاشك أن منتصف الثمانينات من هذا القرن شهد تحولاً كبيراً في مسيرة النظام الدولي، وذلك بعد وصول الرئيس السوفيتي آنذاك (ميخائيل غورباتشوف) إلى سدة الحكم، إذ أن التغيرات السريعة والمتلاحقة جعلت كثيراً من المراقبين والمحللين يصاب بحالة من الانبهار وعدم القدرة على المتابعة والتدقيق أو التفاؤل والتبشير بعصر جديد. تلك الحالة التي دفعت بكاتب مرموق كالكاتب الأمريكي، الياباني الأصل، "فرنسيس فاكوياما" أن يصف ما حدث بأنه "نهاية التاريخ" حين أصدر كتابه المعنون بذات العنوان وتحدث فيه عن تصوره حول هزيمة النظام الشيوعي الحاسمة، وغلبة النظام الرأسمالي وسيادته على العالم. وبذلك فإن العالم - برؤيته - قد وصل إلى نهاية التاريخ، إذ ليس بـإمكان العقل البشري أن يأتي بنظام أفضل من النظام الرأسمالي لأن البديل - الشيوعي - الذي كان يؤمل منه تحقيق السعادة البشرية قد فشل بعد تطبيق دام اثنين وسبعين عاماً. وبذلك فإن النظام الرأسمالي الذي يحقق للبشرية ما تريد من الرفاه والحرية والنمو السريع والمضطرد في مستوى المعيشة قد أصبح قدر الإنسانية!! الذي لا مفر منه… والذي ستعيش في ظله إلى الأبد!!