منتديات الحوار الجامعية السياسية

الوقائع و الأحداث التاريخية
#31365
قبل 50 سنة، أرسلت سويسرا إلى الخارج أوّل ملحق علمي. لإحياء هذه الذّكرى، ولفهم أبعاد هذه الخطوة ماضيا وحاضرا، نظمت مؤسسة الوثائق الدبلوماسية ندوة علمية موسعة ببرن يومي 3 و4 ديسمبر 2008، شارك فيها خبراء من الأكاديمية السويسرية للعلوم الإنسانية، ومسؤولون من وزارة الخارجية، بالإضافة إلى ممثلين عن كتابة الدولة للتعليم والبحوث.
حضر هذه الندوة مؤرخون سويسريون وأمريكيون شرحوا الظروف الدولية التي نشأت فيها مهمة الملحق العلمي سواء بالسفارات السويسرية أو الأمريكية، وعلاقة ذلك بالتعاون العلمي وصراع النفوذ على الساحة الدولية.

كما أثريت هذه الندوة من خلال الشهادة العينية والأدلة التي قدمها أورخ هوشستراسر، أوّل ملحق علمي في إحدى السفارات السويسرية، وأول موفد حكومي سويسري في قضايا الأبحاث النووية.

المسالة النووية
وبالعودة إلى أواخر الخمسينات، يتضح أن مهمة الملحق العلمي كانت تنحصر في التعرف بدقة على التقدم العلمي في البلد المضيف، وجمع المعلومات حول برامجه في مجال التسلح، في مرحلة كانت هواجس امتلاك السلاح النووي مسيطرة على كل العواصم، وكانت لا تزال الجراح التي تسببت فيها القنبلة الامريكية على هيروشيما وناغازاكي لم تندمل بعدُ.

لقد تبيّن أن سويسرا لم تشذ عن ذلك. فقد شهد اليوم الثاني من هذه الندوة العلمية احتداما للنقاش حول جدية المسعى السويسري لامتلاك القنبلة النووية.

هذه المسألة، بالنسبة للمؤرخ ماورو سيروتّي، الأستاذ بجامعة جنيف، والباحث بمؤسسة الوثائق السويسرية، مؤكدة ولا يعتريها أدنى شك، إذ كان هذا الموضوع في النصف الثاني من الخمسينات مثار جدل تجاوز الدوائر السياسية والعسكرية، وتشكلت لجان سياسية وعلمية لدراسة الإجراءات والخطوات العملية لذلك.

وخلال الندوة إستظهر المؤرّخ سيروتّي بوثيقة صادرة عن "اللجنة النووية السويسرية" سنة 1957، تعتبر فيها أن "الحصول على القنبلة النووية ضروري للحفاظ على أمن البلاد"، وما لم يحدث ذلك، تضيف الوثيقة: "يحدث فراغ أمني بالبلاد" . ولم تر هذه اللجنة في ذلك المسعي ما يعارض مبدأ الحياد، بل تعتقد على العكس أن "الحفاظ على موقف الحياد، يستدعي التزوّد بأدوات الردع الإستراتيجية".

لكن دخول أعضاء جدد في الحكومة الفدرالية بداية الستينات مناهضين لفكرة إمتلاك سلاح نووي، وحدوث تغييرات كبيرة على رأس هرم المؤسسة العسكرية، فضلا عن غياب مساحات كافية لإجراء تجارب نووية، وقلة الباحثين في المجال، كل ذلك جمّد هذا المشروع، الذي قُبر بعد أن أمضت سويسرا سنة 1968 على اتفاقية عدم انتشار الأسلحة النووية.

تطويع الحياد لمواجهة الزحف الأحمر
رغم ما هو متداول عن الطابع الحيادي للسياسة الخارجية السويسرية، يشدد بحث قدمه البروفسور جون كريج، وهو مؤرخ فيزيائي وكيميائي مختص في دور العلوم والتقنية في بناء أوروبا الحديثة على أن "الحياد مفهوم في العلوم السياسية، ولا وجود له إلا في طيات الكتب".

فمن خلال محاضرة بعنوان "العلوم والتقنية، وتطويع مبدأ الحياد"، كشف البروفسور كريج ما أحاط بتأسيس "المركز الأوروبي للأبحاث النووية" (سيرن) الواقع على الأراضي السويسرية المحاذية للحدود الفرنسية، من حسابات سياسية دولية.

وبيّن هذا الخبير بالوثائق والأدلة كيف أن "القوى الدولية قد طوّعت الحياد السويسري، من خلال قبول سويسرا بهذا المختبر على أراضيها، من أجل إعادة إدماج ألمانيا في المنظومة الغربية، وتحييد أخطارها، و من أجل استدراج العلماء من الإتحاد السوفياتي ومن الصين، للمشاركة مع الغربيين في مشروعات بحثية وتجارب مشتركة، الهدف منها على المدى البعيد التجسس على برامج التسلح في البلدان الاشتراكية"، ومراقبة التقدم العلمي فيها عن قرب.

وفي سياق كلامه، أورد صاحب البحث شهادة أحد الباحثين الأمريكيين الذي عمل سابقا في مركز "سيرن" قوله: "كنت كلما عدت إلى الولايات المتحدة أجد بالمطار في بانتظاري عونيْ مخابرات، يسألانني فأحدثّهم عما سمعته وعلمته من الباحثين والعلماء الأجانب".

ويختم هذا الباحث حديثه بالقول: "لقد وظّف الغرب، وعلى رأسه أمريكا الحياد السويسري لإعادة فرض هيمنة أمريكا على البحوث الفيزيائية، وتحقيق التفوق الأمريكي على بلدان الكتلة الشرقية، بعد أن كاد يفتقد تلك الهيمنة أمام التقدم السوفياتي".

من الملحق العلمي إلى الملحق الاقتصادي
مع منتصف الثمانينات، انحصرت شيئا فشيئا أهمية الدور الذي يقوم به الملحق العلمي. فالمجال الأكاديمي خاصة مع انتهاء الحرب الباردة، وانخراط سويسرا في مسيرة الاندماج الأوروبي، تحوّل من ساحة للتنافس إلى مجال للتعاون بين الجامعات والمراكز البحثية. في المقابل تضاعف اهتمام القطاع الخاص بهؤلاء الملحقين والمستشارين، وأعطيت الأولوية للعلوم التطبيقية بدلا من الاهتمام بالعلوم النظرية.

ويقول ستيف باج، خبير علمي بمؤسسة الوثائق الدبلوماسية السويسرية واصفا هذا التحوّل: "بدأ الحديث منذ منتصف الثمانينات عن "المبعوث الصناعي والتكنولوجي"، وأصبح هؤلاء يتبعون وزارة الإقتصاد بدلا من وزارة الخارجية".

وتزامن هذا مع "تغيّر في طبيعة المؤسسة العلمية نفسها - كما يقول الأستاذ أنطوان فلوري، مدير وحدة الطباعة والنشر بالمؤسسة السابقة الذكر - فأصبح التركيز في الأبحاث العلمية على مسألة التنمية المستدامة وقضايا البيئة بدل الإنشغال المفرط بالتسلح، وأصبح كل شيء في العالم مترابطا".

وفي مقابل تراجع دعم الدولة لهذا القطاع من المستشارين، تضاعف عدد المنخرطين في هذا العمل، منذ سنة 2000 أصبح هؤلاء المستشارين العلميين والتجاريين السويسريين موجودين في سنغفورة، وفي شنغهاي، وبانغالور الهندية، تماما كما نجدهم في بوسطن وطوكيو وموسكو، وفي الغالب طبعا في جميع العواصم الاوروبية. ولم يعد عملهم بالضرورة مرتبطا بسفارة أو مرافق رسمية، فهم يوجدون في العادة قريبين من مراكز البحوث والتطوير الصناعي.

كما أصبح هذا القطاع ينزع إلى المأسسة، وبدلا من الأفراد بدأ الحديث عن شبكات ومؤسسات، وفرق عمل مشتركة، وأفضل مثال على ذلك مؤسسة "سويس ناكس" swissnex، التي يقول عنها فرنسوا فيزار، رئيس قسم الدراسات التاريخية بوزارة الخارجية السويسرية: "هدف هذا المشروع إنشاء شراكات مستدامة بين المعاهد العلمية العليا والمؤسسات الصناعية في بلدان مختلفة في نفس الوقت".

لاشك ان خطة الملحق العلمي مهمة إذ بالإمكان ان تساعد في تعزيز القدرة التنافسية للمؤسسات العلمية والإقتصادية، وتيسّر العلاقات الخارجية، وتسهّل التعاون الاكاديمي، لكن هذه الجدوى مشروطة باتباع سياسات علمية حكيمة ونافعة للبلد المعني وللعالم قاطبة.