- الاثنين يناير 03, 2011 1:37 am
#31522
إذا تتبع المرء حياة الرئيس الأمريكي الأسبق (رونالد ويلسون ريجان) الذي رحل عن عالمنا قبل أيام قليلة عن عمر ناهز 93 عاما سيجد أننا نتحدث بشكل خاص عن ذلك الممثل السينمائي الذي أصبح واحداً من أكثر الرؤساء الأمريكيين شعبية في القرن العشرين، حيث أعاد هذا الرجل وضع الأجندة السياسية للولايات المتحدة، كما أعاد تحديد شكل العلاقات بين أمريكا والاتحاد السوفيتي بشكل دراماتيكي خلال فترة توليه منصبه التي امتدت ما بين عامي 1981 و1989.
وبعد خروجه من البيت الأبيض عانى (ريجان) في سنواته الأخيرة من مرض التلف الدماغي المعروف باسم (الزهايمر)، وقد أعلن بنفسه عن مرضه هذا في الخامس من نوفمبر من عام 1994 خلال كلمة مؤثرة وجهها للمواطنين الأمريكيين شكرهم خلالها لمنحهم إياه (الشرف العظيم لأن أكون رئيسا لكم).
وعلى الرغم من أن ريجان الذي كان يوصف غالبا بأنه محاور عظيم اعتبر رمزا لأصحاب الفكر المحافظ في الولايات المتحدة، الذين قادهم للخروج من دائرة العزلة السياسية، إلا أن ما تركه من إرث سياسي قد أشاع مناخا من الحيرة في صفوف هؤلاء ممن يسعون دائما إلى تصنيف الساسة إيديولوجيا بشكل تقليدي ومبسط.
وفي هذا الإطار، لاحظ (هوارد بيكر) زعيم الجمهوريين السابق في مجلس الشيوخ والذي عمل كبيرا لموظفي البيت الأبيض خلال عهد ريجان أنه على الرغم من ثبات هذا الرجل على مبادئه إلا أنه كانت لديه أيضا القدرة على مباغتة الجماهير.
وتظهر الدلائل على هذا الأمر بشكل خاص من خلال السياسة التي انتهجها الرئيس الأمريكي الأسبق مع الزعيم السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، فعلى الرغم من أن ريجان كان معاديا بشكل واضح وصريح للشيوعية بل ووصف الاتحاد السوفيتي السابق بأنه ( إمبراطورية الشر)، إلا أنه أقام علاقات بناءة مع جورباتشوف ذي العقلية الإصلاحية والذي وصل إلى سدة السلطة في موسكو في منتصف الفترة التي حكم فيها ريجان الولايات المتحدة.
وعقد الزعيمان خمس قمم، عقدت أولاها عام 1985 في مدينة جنيف السويسرية، ووقعا خلال إحداها تلك التي جمعت بينهما في واشنطن عام 1987 اتفاقا كان الأول من نوعه لتقليص الترسانة النووية لكل من البلدين، وبعد عام من تلك القمة كان الموعد مع قمة مماثلة عقدها الرئيسان في موسكو لمتابعة ما تم الاتفاق عليه في العام السابق وهي تلك التي أعلن ريجان بعدها بداية عصر جديد في العلاقات الأمريكية السوفيتية.
وجاء ذوبان جليد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق بعد فترة طويلة الأمد من التوتر الشديد بينهما، تفاقمت خلال الفترة الرئاسية الأولى لريجان وبلغت ذروتها في سبتمبر من عام 1983 عندما أسقطت مقاتلة سوفيتية طائرة ركاب كورية جنوبية دخلت المجال الجوي السوفيتي بطريق الخطأ وهو ما أسفر عن مقتل 269 شخصا كانوا على متن الطائرة من بينهم 61 أمريكيا، وفي أعقاب هذا الحادث وضعت القوات الأمريكية والسوفيتية في حالة تأهب.
وقد أشار منتقدو ريجان إلى أنه أسهم في نشوب مثل هذه الأزمات من خلال تصريحاته النارية ضد الاتحاد السوفيتي واتباعه سياسة ترمي إلى تعزيز القدرات العسكرية لأمريكا بشكل كبير وذلك وفاء للتعهدات التي قطعها على نفسه خلال حملته الانتخابية عام 1980، حيث أكد ريجان في ذلك العام في تصريحات أدلى بها لل(واشنطن بوست) أن تعزيز القدرات العسكرية للبلاد سيكون مفيدا للغاية بالنسبة للولايات المتحدة، قائلا إن السوفيت لديهم اقتصاد ضعيف للغاية وهو ما لن يمكنهم من الدخول في سباق تسلح واسع النطاق مما سيدفعهم إلى بدء مسيرة المساومات والتنازلات.
النبوءة
وقد تنبأ الرجل بانهيار الاتحاد السوفيتي، وجاء ذلك بشكل خاص في خطاب ألقاه أمام أعضاء البرلمان البريطاني في لندن في الثامن من يونيو عام 1982، وهو الخطاب الذي أكد فيه ريجان أن الاتحاد السوفيتي يواجه (أزمة جذرية هائلة ( وأنه في سبيله للاندثار، وفي خطاب تاريخي آخر ألقاه ريجان في يونيو أيضا ولكن من عام 1987 أمام بوابة براندبورج الواقعة بالقرب من سور برلين، حث الرئيس الأمريكي الأسبق الزعيم السوفيتي جورباتشوف على فتح هذه البوابة وتحطيم السور.
ولم تمض أكثر من عشرة أشهر على نهاية فترة الرئاسة الثانية لريجان حتى قام المواطنون الألمان بتفكيك هذا السور الذي كان رمزا لتقسيم بلادهم، وفي عام 1991 وبالتحديد في ليلة عيد الميلاد ترك جورباتشوف منصبه وأصبح الاتحاد السوفيتي والحرب الباردة برمتها في ذمة التاريخ.
وبينما يرى بعض المؤرخين أن لريجان نصيبا كبيرا في هذه الأحداث أو على الأقل في تعجيل وقوعها، يقول آخرون إن أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي ترجع في الأساس لعوامل داخلية، في حين يطرح فريق ثالث من المؤرخين رؤية مؤداها أن انهيار هذه الدولة يرجع إلى تضافر عوامل الضعف الداخلية والضغوط الخارجية.
ولكن على الرغم من هذا الاختلاف في الرؤى إلا أن هناك اتفاقا على أن القمم التي عقدها ميخائيل جورباتشوف مع ريجان ومن بعده الرئيس جورج بوش الأب أسهمت في تسهيل عملية الانتقال من مناخ الحرب الباردة إلى مناخ السلام.
ثمن الانتصار
من جهة أخرى، كانت سياسات ريجان في المجال الاقتصادي مغايرة للسياق العام في البلاد لدى توليه منصبه، فقد تعهد الرجل خلال حملته الانتخابية بتقليص الضرائب وزيادة الإنفاق العسكري وإعادة الاتزان إلى الميزانية، وقد تمكن ريجان من الوفاء بالتعهدين الأولين على حساب الثالث. فبينما مرت البلاد بفترة انتعاش بعد حالة الركود التي سادت خلال عامي 1981 و1982، أدت الميزانيات التي تم وضعها خلال فترة حكم ريجان إلى حدوث عجز قياسي في الميزانية وإلى زيادة الدين العام بمقدار ثلاثة أضعاف تقريبا، وقد وصف الرئيس الأمريكي الراحل زيادة هذا الدين بأنه يمثل أحد أكبر الإحباطات التي عانى منها في فترة وجوده في البيت الأبيض، وأنحى باللائمة على الكونجرس لأنه تقاعس عن خفض الإنفاق الداخلي، على الرغم من أن الميزانية التي صدق عليها ريجان وقدمها للكونجرس لم تكن متوازنة في الأساس. ولكن هذا العجز لم يبد بهذا السوء بالنسبة للكثيرين الذين نظروا للأمر من زاوية أخرى فيما بعد، وكان من بينهم المحلل (ديفيد فروم) ذو الاتجاه المحافظ، والذي وصف هذه المشكلات الاقتصادية باعتبارها ثمنا رخيصا تكبدته الولايات المتحدة لإنهاء الحرب الباردة.
وفي أعقاب انتهاء فترة الحرب الباردة هبط معدل الإنفاق العسكري بشكل سريع مما جعل من اليسير على من تولوا رئاسة أمريكا بعد ريجان النجاح في إعادة التوازن إلى الميزانية، التي شهدت فائضا في النصف الثاني من الفترة الرئاسية الثانية للرئيس السابق (بيل كلينتون).
خطيب مثالي
في الوقت نفسه، لا يستطيع أحد حتى من بين منتقدي ريجان سوى الاعتراف بأن هذا الرجل كان مؤديا سياسيا بارعا، أعاد إلى الأذهان القدرات الخطابية التي كان يتمتع بها رؤساء مثل تيودور روزفلت وفرانكلين روزفلت، ونجح في أن يكيف هذه القدرات المميزة لتتماشى مع وسائل الإعلام العصرية كالتليفزيون، وكان ريجان الديموقراطي السابق في بعض الأحيان يقتبس عبارات بعينها مباشرة من (فرانكلين روزفلت) مثل تساؤله (هل أنت الآن أفضل حالا منك قبل أربع سنوات) والذي كان أحد الأركان الأساسية لخطابات (ريجان) خلال حملته الانتخابية الأولى عام 1980، وهو التساؤل الذي يمثل تنويعا على أحد العبارات التي كان روزفلت يرددها عام 1934.
وبدت قدرات ريجان في التواصل مع الأمريكيين عبر الإذاعة والتليفزيون واضحة من خلال الكلمة الإذاعية الذي اعتاد توجيهها يوم السبت من كل أسبوع والتي سار خلفاؤه على دربه بشأنها، وكذلك في خطاباته التليفزيونية التي كان يلقيها من المكتب البيضاوي واستخدم فيها مهاراته التي صقلتها فترة عمله في الإذاعة والسينما والتليفزيون. وعلى الرغم من أن عمر (ريجان) كان يناهز الثامنة والسبعين عندما أكمل فترة رئاسته الثانية، وهو ما يزيد بثماني سنوات كاملة عن عمر أكبر رئيس سبقه وهو (داويت إيزنهاور) الذي ترك البيت الأبيض عام 1961 وهو في عمر لم يتجاوز السبعين عاما إلا أن هذا الرجل ظل حتى إصابته بالزهايمر محتفظا بمظهره الجذاب خاصة بسبب بنيته الرياضية وروحه الآسرة التي جعلته يبدو أصغر من عمره الحقيقي والتي خففت كثيرا من حدة رؤاه الإيديولوجية.
وتميز الرئيس الأمريكي الراحل بدعاباته العفوية والتي كان يسخر فيها عادة من عمره المتقدم، ومن عاداته التي يحرص عليها، وكذلك من إصراره على العمل الشاق.
إيران جيت
وقد تمكن (رونالد ريجان) من الحفاظ على نسبة تأييد مرتفعة طيلة فترة رئاسته خاصة بعد أن تجاوزت الولايات المتحدة فترة الركود التي شهدتها عامي 81 و82، ولكن شعبيته هبطت في نوفمبر من عام 1986 عندما كشف عن أنه وافق سرا على بيع أسلحة أمريكية إلى إيران وذلك في محاولة لإطلاق سراح رهائن أمريكيين كانوا محتجزين وقتذاك في لبنان. وكان مرجع الانتقادات التي وجهت للرجل آنذاك أنه انتهك التعهد الخاص بعدم التفاوض مع إرهابيين، ولكن ريجان دافع عن نفسه بالقول إنه تفاوض مع وسطاء إيرانيين وليس مع الإرهابيين أنفسهم، إلا أن مبيعات الأسلحة هذه شكلت في نهاية المطاف إحراجا دبلوماسيا قوض جهود الولايات المتحدة في ذلك الوقت لوقف إمدادات الأسلحة لإيران التي كانت حينذاك تخوض غمار حرب طويلة الأمد مع العراق.
وقد أدت تداعيات هذه الفضيحة وما تلاها من كشف النقاب عن أن عائدات صفقات الأسلحة قد تم توجيهها لتمويل مقاتلي الكونترا الذين كانوا يسعون آنذاك لإسقاط النظام الحاكم في نيكارجوا إلى إقالة جون بويندكستر مستشار الأمن القومي وكذلك الكولونيل أوليفر نورث الموظف المساعد في مجلس الأمن القومي والذي اتهم بتدبير عملية تحويل الأموال إلى متمردي الكونترا.
وقد اعترف ريجان بمسؤوليته عن مبيعات الأسلحة وذلك بعد أن حثته على ذلك السيدة الأولى نانسي ريجان وعدد من كبار مستشاريه، إلا أنه أنكر علمه بتحويل عائدات هذه المبيعات إلى المقاتلين في نيكارجوا، ولم تثبت التحقيقات المكثفة التي أجراها الكونجرس وجود دليل قاطع على ضلوع ريجان في هذا الأمر، على الرغم من المؤشرات المتعددة التي كانت ترجح ذلك.
وجاءت هذه الأزمة في أعقاب انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشيوخ عام 1986 التي استعاد الديموقراطيون خلالها السيطرة على المجلس بعد أن كان يسيطر عليه الجمهوريون منذ وصول ريجان إلى البيت الأبيض وهو ما دفع الرئيس الراحل إلى إجراء تغيير شامل في طاقم مجلس الأمن القومي وموظفي البيت الأبيض من أجل تجاوز هذا المأزق.
نجاحات خارجية
وفي السنوات التالية استطاع ريجان استعادة شعبيته المفقودة خاصة في ظل النجاحات التي تحققت على صعيد السياسة الخارجية، ومن بينها انسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان وإبرام الاتفاق الخاص بتقليص الترسانتين النوويتين للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي إلى جانب التوصل إلى تسوية طال انتظارها في ناميبيا انسحبت بمقتضاها القوات الأجنبية من البلاد. وقبل انتهاء فترة رئاسته الثانية أجرى ريجان تحولا على السياسة الثابتة التي انتهجتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدار سنوات طويلة حيال منظمة التحرير الفلسطينية من خلال موافقته على فتح حوار حقيقي ودائم مع المنظمة بعد أن نبذت العنف وأعلنت اعترافها بشرعية وجود دولة إسرائيل.
وبعد كل ذلك يمكن القول إن ما يمكن أن نسميه (مذهب ريجان) على الساحة السياسية الدولية،والذي قدمت أمريكا بمقتضاه الدعم للحركات المسلحة المناهضة للشيوعية في العالم كانت له نتائج مختلطة، فبينما نجحت هذه الرؤية في تحقيق أهدافها بشكل كامل في أفغانستان، ولاقت نجاحاً جزئياً في بعض البلدان الواقعة في جنوب القارة الإفريقية بالإضافة إلى كمبوديا، إلا أنها فشلت تماما في نيل الدعم الداخلي من قبل الكونجرس لتقديم الدعم للحركات المناوئة للنظام الشيوعي في نيكارجوا، وهو ما خلف خيبة أمل مريرة في نفس ريجان تفاقمت بعدما أدت العقوبات الأمريكية والضغوط العسكرية التي شكلها مقاتلو الكونترا بعد ما ترك الرجل منصبه إلى إجبار النظام في نيكارجوا على إجراء انتخابات حرة أدت إلى سقوطه من سدة السلطة فيما بعد.
إلا أن ريجان حقق نجاحاً أكبر على صعيد تعزيز التحالفات التقليدية للولايات المتحدة على قاعدة الالتزام بالقيم الغربية سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، وكان الحليف الأقرب له في هذا الشأن هو رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر التي ظهر دعمها ومؤازرتها لإدارة ريجان في أجلى صوره عندما سمحت باستخدام القواعد الجوية البريطانية في الهجوم الذي شنته الولايات المتحدة على ليبيا انتقاما لتفجير تعرض له ملهى ليلي كان يتردد عليه عسكريون أمريكيون في ألمانيا الغربية.
حرب النجوم
أما على صعيد السياسات الدفاعية فقد كان من أبرز ملامح هذه السياسات الخطة التي أعلنها الرجل عام 1983 باسم مبادرة الدفاع الاستراتيجي أو ما عرفت على نطاق واسع باسم ( حرب النجوم).
واستهدفت هذه المبادرة تطوير نظام فعال للدفاع الصاروخي، وعرض الرئيس الأمريكي الراحل على الاتحاد السوفيتي المشاركة في هذا البرنامج، إلا أن السوفيت تشككوا في الأمر، وأعربوا عن رفضهم للمبادرة برمتها خشية أن يؤدي التعاون بين واشنطن وموسكو في مجال الأبحاث الخاصة بتطوير نظام دفاعي مضاد للصواريخ إلى تسرب الأسرار العسكرية السوفيتية. وقد تم بحث هذه القضية في قمة عقدت بين ريجان وجورباتشوف في أيسلندا عام 1986 إلا أنهما لم يتوصلا إلى اتفاق إزاءها.
ويظل برنامج (حرب النجوم) أحد النقاط الخلافية في الإرث السياسي الذي تركه ريجان، إذ أن مؤيدي هذا البرنامج يرونه خطوة ملهمة أما معارضيه فيعتبرونه برنامجا مشكوكا في جدواه.
الطريق إلى البيت الأبيض
على صعيد آخر، كان ريجان يصر دوما على أن نجاحه السياسي يرجع إلى تعاطف الأمريكيين البسطاء معه، مؤكدا أنه يرى نفسه واحدا من بين هؤلاء الأمريكيين وجزءا منهم. ولم تتغير هذه الرؤية حتى بعد أن قضى فترتين رئاسيتين في البيت الأبيض إذ كان يطلق على نفسه لقب( السياسي المواطن) وهو نفس اللقب الذي أطلقه على نفسه عندما انتخب حاكما لولاية كاليفورنيا عام 1966، في تجربته الأولى مع العمل العام، والتي برر إقدامه عليها بقوله إنه كان يسعى لأن يكون أحد أفراد الحكومة حتى يتسنى له الإسهام في الجهود الرامية إلى تقليص معدل التضخم المرتفع في البلاد.
ولم يستطع ريجان في السنوات الأولى من عمله في مجال السياسة جذب الانتباه كسياسي قدير وربما كان ذلك يرجع لاهتمامه بالحديث خلال الاجتماعات التي كان يحضرها عن ذكرياته حينما كان ممثلا في هوليوود وذلك في الوقت الذي كان فيه الآخرون يناقشون الأمور السياسية، مما دعا البعض لوصفه بأنه (شخص أبله ولكنه حبوب)، ولكن هذه الرؤية دحضها ما قاله المسؤولون السوفيت الذين تفاوضوا معه فيما بعد حيث أكدوا أنه مفاوض شديد المراس.
وقد برز اسم ريجان على الساحة السياسية عام 1964 من خلال خطاب ألقاه لحشد التأييد للمرشح الجمهوري باري جولد ووتر، وأدى النجاح الكبير لهذا الخطاب الذي بثته شبكات التليفزيون الأمريكية إلى ضخ الدماء في شرايين الحملة الانتخابية المتواضعة لجولد ووتر مما رفع أسهم ريجان كثيرا كبطل جديد للمحافظين في الولايات المتحدة، وهو ما ساعده على اكتساح انتخابات حاكم كاليفورنيا للمرة الثانية عام 1970، ليصبح السياسي المحافظ الأبرز في ذلك الوقت على مستوى البلاد. في عام 1974 خاض (ريجان ) الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الجمهوري للحصول على ترشيح الحزب لانتخابات الرئاسة وذلك في مواجهة الرئيس جيرالد فورد إلا أن ريجان الذي كان ديموقراطيا متحمسا في شبابه خسر هذه الانتخابات، إلا أنه نجح بعد أربعة أعوام فحسب من خوض الانتخابات الرئاسية وإلحاق الهزيمة بالرئيس الديموقراطي جيمي كارتر الذي كان قد نجح في إخراج فورد من البيت الأبيض.
وكان من بين أبرز العوامل التي ساعدت ريجان على الفوز في هذه الانتخابات معدلات التضخم المرتفعة آنذاك، وحالة الإحباط التي سادت المواطنين الأمريكيين بسبب أزمة الرهائن المحتجزين في السفارة الأمريكية في طهران. وبعد أربعة أعوام أخرى اكتسح ريجان انتخابات الرئاسة للمرة الثانية متغلبا على منافسه الديموقراطي وولتر مونديل.
رجل المتناقضات
وقد كانت حياة هذا الرجل السياسية حافلة بالمتناقضات، فبينما اعتبر أكبر الرؤساء الذين تولوا حكم أمريكا، إلا أنه كان يعكس في أحيان كثيرة رؤى شابة لمستقبل البلاد،التي كان يؤكد أنها يجب أن تصل بقدراتها إلى النجوم. ومن بين هذه التناقضات أنه الرئيس الأمريكي الوحيد الذي تولى السلطة وهو مطلق حيث كان قد طلق زوجته الأولى قبل أن يرتبط بزوجته الثانية نانسي إلا أنه كان ينادي دائما خلال فترة حكمه بإحياء القيم الأخلاقية والدينية، تناقض ثالث يكمن في أنه كان يتحدث بفخر واعتزاز عن بطولات الجيش الأمريكي، بالرغم من أنه قضى فترة الحرب العالمية الثانية في استوديوهات هوليوود !.
ولكن بطولة ريجان الحقيقية تبدت عندما واجه بشجاعة محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها في الثلاثين من مارس عام 1981 على يد مواطن أمريكي يدعى جون هينكلي وكانت هذه الشجاعة هي ما دعت العديد من الصحفيين الأمريكيين إلى التأكيد على أن ريجان قد تحول في ذلك اليوم إلى أسطورة حقيقية تضارع أسطورة الرئيس الراحل جون كيندي، خاصة بعدما ظهر رابط الجأش بعد إصابته جراء هذه المحاولة إلى درجة أنه داعب الأطباء الذين كانوا يشرفون على علاجه قائلا (أتمنى أن تكونوا كلكم من الجمهوريين)!.
كما نجا ريجان أيضا من مرض سرطان القولون في عام 1985 وخضع للعديد من العمليات الجراحية في ذلك الوقت.
حياة شاقة
وقد ولد رونالد ريجان في السادس من فبراير من عام 1911 في مدينة تامبكو بولاية إلينوي، حيث كان الابن الثاني والأخير لأب يعمل بائعا متجولا للأحذية وأم نصحها الأطباء بعدم الإنجاب بعد طفلها الثاني لضعف حالتها الصحية. قضى ريجان الصغير طفولة متواضعة خاصة وأن والده كان مدمنا للخمور، فيما سعت والدته إلى إعادة الأمور إلى نصابها في الأسرة فحرصت على اصطحاب طفليها إلى الحفلات والمسرحيات وغير ذلك مما جعلها صاحبة التأثير الأكبر في ابنها الأصغر الذي أظهر نبوغا مبكرا وذاكرة حديدية.
وكان ريجان متعدد المواهب فقد عمل في فترة من فترات حياته حارسا لأحد الشواطئ، وتمكن في ذلك الوقت من إنقاذ 77 شخصا من الغرق، وكان أيضا يحلم بأن يكون رساما، بجانب تميزه كلاعب لكرة القدم في مدرسته العليا.
وقد التحق ريجان الشاب بكلية للفنون الجميلة ولكنه لم يكن طالبا مميزا في ذلك الوقت بقدر ما كان لاعب كرة قدم بارعا حتى تخرج عام 1932. عمل ريجان معلقا رياضيا في إحدى الإذاعات في ولاية أيوا وصارت له شهرة واسعة في هذا المجال، حيث أتاح له هذا العمل استعراض مهاراته الخطابية، وذلك قبل أن تجذبه أضواء هوليوود عام 1937 خلال تغطيته لأحد تدريبات البيسبول في لوس أنجلوس ليترك العمل الإذاعي.
وعلى الرغم من أن ريجان لم ينل شهرة واسعة كممثل إلا أنه شارك في نحو خمسين فيلما، وأصبح في عام 1947 رئيس نقابة الممثلين الأمريكيين، ومارس خلال هذه الفترة أدواراً سياسية حيث حمل على عاتقه مهمة التصدي للعناصر الشيوعية الموجودة في مدينة السينما الأمريكية قبل أن ينخرط خلال الستينيات من القرن الماضي في العمل السياسي بشكل كامل.
وبعد خروجه من البيت الأبيض عانى (ريجان) في سنواته الأخيرة من مرض التلف الدماغي المعروف باسم (الزهايمر)، وقد أعلن بنفسه عن مرضه هذا في الخامس من نوفمبر من عام 1994 خلال كلمة مؤثرة وجهها للمواطنين الأمريكيين شكرهم خلالها لمنحهم إياه (الشرف العظيم لأن أكون رئيسا لكم).
وعلى الرغم من أن ريجان الذي كان يوصف غالبا بأنه محاور عظيم اعتبر رمزا لأصحاب الفكر المحافظ في الولايات المتحدة، الذين قادهم للخروج من دائرة العزلة السياسية، إلا أن ما تركه من إرث سياسي قد أشاع مناخا من الحيرة في صفوف هؤلاء ممن يسعون دائما إلى تصنيف الساسة إيديولوجيا بشكل تقليدي ومبسط.
وفي هذا الإطار، لاحظ (هوارد بيكر) زعيم الجمهوريين السابق في مجلس الشيوخ والذي عمل كبيرا لموظفي البيت الأبيض خلال عهد ريجان أنه على الرغم من ثبات هذا الرجل على مبادئه إلا أنه كانت لديه أيضا القدرة على مباغتة الجماهير.
وتظهر الدلائل على هذا الأمر بشكل خاص من خلال السياسة التي انتهجها الرئيس الأمريكي الأسبق مع الزعيم السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، فعلى الرغم من أن ريجان كان معاديا بشكل واضح وصريح للشيوعية بل ووصف الاتحاد السوفيتي السابق بأنه ( إمبراطورية الشر)، إلا أنه أقام علاقات بناءة مع جورباتشوف ذي العقلية الإصلاحية والذي وصل إلى سدة السلطة في موسكو في منتصف الفترة التي حكم فيها ريجان الولايات المتحدة.
وعقد الزعيمان خمس قمم، عقدت أولاها عام 1985 في مدينة جنيف السويسرية، ووقعا خلال إحداها تلك التي جمعت بينهما في واشنطن عام 1987 اتفاقا كان الأول من نوعه لتقليص الترسانة النووية لكل من البلدين، وبعد عام من تلك القمة كان الموعد مع قمة مماثلة عقدها الرئيسان في موسكو لمتابعة ما تم الاتفاق عليه في العام السابق وهي تلك التي أعلن ريجان بعدها بداية عصر جديد في العلاقات الأمريكية السوفيتية.
وجاء ذوبان جليد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق بعد فترة طويلة الأمد من التوتر الشديد بينهما، تفاقمت خلال الفترة الرئاسية الأولى لريجان وبلغت ذروتها في سبتمبر من عام 1983 عندما أسقطت مقاتلة سوفيتية طائرة ركاب كورية جنوبية دخلت المجال الجوي السوفيتي بطريق الخطأ وهو ما أسفر عن مقتل 269 شخصا كانوا على متن الطائرة من بينهم 61 أمريكيا، وفي أعقاب هذا الحادث وضعت القوات الأمريكية والسوفيتية في حالة تأهب.
وقد أشار منتقدو ريجان إلى أنه أسهم في نشوب مثل هذه الأزمات من خلال تصريحاته النارية ضد الاتحاد السوفيتي واتباعه سياسة ترمي إلى تعزيز القدرات العسكرية لأمريكا بشكل كبير وذلك وفاء للتعهدات التي قطعها على نفسه خلال حملته الانتخابية عام 1980، حيث أكد ريجان في ذلك العام في تصريحات أدلى بها لل(واشنطن بوست) أن تعزيز القدرات العسكرية للبلاد سيكون مفيدا للغاية بالنسبة للولايات المتحدة، قائلا إن السوفيت لديهم اقتصاد ضعيف للغاية وهو ما لن يمكنهم من الدخول في سباق تسلح واسع النطاق مما سيدفعهم إلى بدء مسيرة المساومات والتنازلات.
النبوءة
وقد تنبأ الرجل بانهيار الاتحاد السوفيتي، وجاء ذلك بشكل خاص في خطاب ألقاه أمام أعضاء البرلمان البريطاني في لندن في الثامن من يونيو عام 1982، وهو الخطاب الذي أكد فيه ريجان أن الاتحاد السوفيتي يواجه (أزمة جذرية هائلة ( وأنه في سبيله للاندثار، وفي خطاب تاريخي آخر ألقاه ريجان في يونيو أيضا ولكن من عام 1987 أمام بوابة براندبورج الواقعة بالقرب من سور برلين، حث الرئيس الأمريكي الأسبق الزعيم السوفيتي جورباتشوف على فتح هذه البوابة وتحطيم السور.
ولم تمض أكثر من عشرة أشهر على نهاية فترة الرئاسة الثانية لريجان حتى قام المواطنون الألمان بتفكيك هذا السور الذي كان رمزا لتقسيم بلادهم، وفي عام 1991 وبالتحديد في ليلة عيد الميلاد ترك جورباتشوف منصبه وأصبح الاتحاد السوفيتي والحرب الباردة برمتها في ذمة التاريخ.
وبينما يرى بعض المؤرخين أن لريجان نصيبا كبيرا في هذه الأحداث أو على الأقل في تعجيل وقوعها، يقول آخرون إن أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي ترجع في الأساس لعوامل داخلية، في حين يطرح فريق ثالث من المؤرخين رؤية مؤداها أن انهيار هذه الدولة يرجع إلى تضافر عوامل الضعف الداخلية والضغوط الخارجية.
ولكن على الرغم من هذا الاختلاف في الرؤى إلا أن هناك اتفاقا على أن القمم التي عقدها ميخائيل جورباتشوف مع ريجان ومن بعده الرئيس جورج بوش الأب أسهمت في تسهيل عملية الانتقال من مناخ الحرب الباردة إلى مناخ السلام.
ثمن الانتصار
من جهة أخرى، كانت سياسات ريجان في المجال الاقتصادي مغايرة للسياق العام في البلاد لدى توليه منصبه، فقد تعهد الرجل خلال حملته الانتخابية بتقليص الضرائب وزيادة الإنفاق العسكري وإعادة الاتزان إلى الميزانية، وقد تمكن ريجان من الوفاء بالتعهدين الأولين على حساب الثالث. فبينما مرت البلاد بفترة انتعاش بعد حالة الركود التي سادت خلال عامي 1981 و1982، أدت الميزانيات التي تم وضعها خلال فترة حكم ريجان إلى حدوث عجز قياسي في الميزانية وإلى زيادة الدين العام بمقدار ثلاثة أضعاف تقريبا، وقد وصف الرئيس الأمريكي الراحل زيادة هذا الدين بأنه يمثل أحد أكبر الإحباطات التي عانى منها في فترة وجوده في البيت الأبيض، وأنحى باللائمة على الكونجرس لأنه تقاعس عن خفض الإنفاق الداخلي، على الرغم من أن الميزانية التي صدق عليها ريجان وقدمها للكونجرس لم تكن متوازنة في الأساس. ولكن هذا العجز لم يبد بهذا السوء بالنسبة للكثيرين الذين نظروا للأمر من زاوية أخرى فيما بعد، وكان من بينهم المحلل (ديفيد فروم) ذو الاتجاه المحافظ، والذي وصف هذه المشكلات الاقتصادية باعتبارها ثمنا رخيصا تكبدته الولايات المتحدة لإنهاء الحرب الباردة.
وفي أعقاب انتهاء فترة الحرب الباردة هبط معدل الإنفاق العسكري بشكل سريع مما جعل من اليسير على من تولوا رئاسة أمريكا بعد ريجان النجاح في إعادة التوازن إلى الميزانية، التي شهدت فائضا في النصف الثاني من الفترة الرئاسية الثانية للرئيس السابق (بيل كلينتون).
خطيب مثالي
في الوقت نفسه، لا يستطيع أحد حتى من بين منتقدي ريجان سوى الاعتراف بأن هذا الرجل كان مؤديا سياسيا بارعا، أعاد إلى الأذهان القدرات الخطابية التي كان يتمتع بها رؤساء مثل تيودور روزفلت وفرانكلين روزفلت، ونجح في أن يكيف هذه القدرات المميزة لتتماشى مع وسائل الإعلام العصرية كالتليفزيون، وكان ريجان الديموقراطي السابق في بعض الأحيان يقتبس عبارات بعينها مباشرة من (فرانكلين روزفلت) مثل تساؤله (هل أنت الآن أفضل حالا منك قبل أربع سنوات) والذي كان أحد الأركان الأساسية لخطابات (ريجان) خلال حملته الانتخابية الأولى عام 1980، وهو التساؤل الذي يمثل تنويعا على أحد العبارات التي كان روزفلت يرددها عام 1934.
وبدت قدرات ريجان في التواصل مع الأمريكيين عبر الإذاعة والتليفزيون واضحة من خلال الكلمة الإذاعية الذي اعتاد توجيهها يوم السبت من كل أسبوع والتي سار خلفاؤه على دربه بشأنها، وكذلك في خطاباته التليفزيونية التي كان يلقيها من المكتب البيضاوي واستخدم فيها مهاراته التي صقلتها فترة عمله في الإذاعة والسينما والتليفزيون. وعلى الرغم من أن عمر (ريجان) كان يناهز الثامنة والسبعين عندما أكمل فترة رئاسته الثانية، وهو ما يزيد بثماني سنوات كاملة عن عمر أكبر رئيس سبقه وهو (داويت إيزنهاور) الذي ترك البيت الأبيض عام 1961 وهو في عمر لم يتجاوز السبعين عاما إلا أن هذا الرجل ظل حتى إصابته بالزهايمر محتفظا بمظهره الجذاب خاصة بسبب بنيته الرياضية وروحه الآسرة التي جعلته يبدو أصغر من عمره الحقيقي والتي خففت كثيرا من حدة رؤاه الإيديولوجية.
وتميز الرئيس الأمريكي الراحل بدعاباته العفوية والتي كان يسخر فيها عادة من عمره المتقدم، ومن عاداته التي يحرص عليها، وكذلك من إصراره على العمل الشاق.
إيران جيت
وقد تمكن (رونالد ريجان) من الحفاظ على نسبة تأييد مرتفعة طيلة فترة رئاسته خاصة بعد أن تجاوزت الولايات المتحدة فترة الركود التي شهدتها عامي 81 و82، ولكن شعبيته هبطت في نوفمبر من عام 1986 عندما كشف عن أنه وافق سرا على بيع أسلحة أمريكية إلى إيران وذلك في محاولة لإطلاق سراح رهائن أمريكيين كانوا محتجزين وقتذاك في لبنان. وكان مرجع الانتقادات التي وجهت للرجل آنذاك أنه انتهك التعهد الخاص بعدم التفاوض مع إرهابيين، ولكن ريجان دافع عن نفسه بالقول إنه تفاوض مع وسطاء إيرانيين وليس مع الإرهابيين أنفسهم، إلا أن مبيعات الأسلحة هذه شكلت في نهاية المطاف إحراجا دبلوماسيا قوض جهود الولايات المتحدة في ذلك الوقت لوقف إمدادات الأسلحة لإيران التي كانت حينذاك تخوض غمار حرب طويلة الأمد مع العراق.
وقد أدت تداعيات هذه الفضيحة وما تلاها من كشف النقاب عن أن عائدات صفقات الأسلحة قد تم توجيهها لتمويل مقاتلي الكونترا الذين كانوا يسعون آنذاك لإسقاط النظام الحاكم في نيكارجوا إلى إقالة جون بويندكستر مستشار الأمن القومي وكذلك الكولونيل أوليفر نورث الموظف المساعد في مجلس الأمن القومي والذي اتهم بتدبير عملية تحويل الأموال إلى متمردي الكونترا.
وقد اعترف ريجان بمسؤوليته عن مبيعات الأسلحة وذلك بعد أن حثته على ذلك السيدة الأولى نانسي ريجان وعدد من كبار مستشاريه، إلا أنه أنكر علمه بتحويل عائدات هذه المبيعات إلى المقاتلين في نيكارجوا، ولم تثبت التحقيقات المكثفة التي أجراها الكونجرس وجود دليل قاطع على ضلوع ريجان في هذا الأمر، على الرغم من المؤشرات المتعددة التي كانت ترجح ذلك.
وجاءت هذه الأزمة في أعقاب انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشيوخ عام 1986 التي استعاد الديموقراطيون خلالها السيطرة على المجلس بعد أن كان يسيطر عليه الجمهوريون منذ وصول ريجان إلى البيت الأبيض وهو ما دفع الرئيس الراحل إلى إجراء تغيير شامل في طاقم مجلس الأمن القومي وموظفي البيت الأبيض من أجل تجاوز هذا المأزق.
نجاحات خارجية
وفي السنوات التالية استطاع ريجان استعادة شعبيته المفقودة خاصة في ظل النجاحات التي تحققت على صعيد السياسة الخارجية، ومن بينها انسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان وإبرام الاتفاق الخاص بتقليص الترسانتين النوويتين للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي إلى جانب التوصل إلى تسوية طال انتظارها في ناميبيا انسحبت بمقتضاها القوات الأجنبية من البلاد. وقبل انتهاء فترة رئاسته الثانية أجرى ريجان تحولا على السياسة الثابتة التي انتهجتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدار سنوات طويلة حيال منظمة التحرير الفلسطينية من خلال موافقته على فتح حوار حقيقي ودائم مع المنظمة بعد أن نبذت العنف وأعلنت اعترافها بشرعية وجود دولة إسرائيل.
وبعد كل ذلك يمكن القول إن ما يمكن أن نسميه (مذهب ريجان) على الساحة السياسية الدولية،والذي قدمت أمريكا بمقتضاه الدعم للحركات المسلحة المناهضة للشيوعية في العالم كانت له نتائج مختلطة، فبينما نجحت هذه الرؤية في تحقيق أهدافها بشكل كامل في أفغانستان، ولاقت نجاحاً جزئياً في بعض البلدان الواقعة في جنوب القارة الإفريقية بالإضافة إلى كمبوديا، إلا أنها فشلت تماما في نيل الدعم الداخلي من قبل الكونجرس لتقديم الدعم للحركات المناوئة للنظام الشيوعي في نيكارجوا، وهو ما خلف خيبة أمل مريرة في نفس ريجان تفاقمت بعدما أدت العقوبات الأمريكية والضغوط العسكرية التي شكلها مقاتلو الكونترا بعد ما ترك الرجل منصبه إلى إجبار النظام في نيكارجوا على إجراء انتخابات حرة أدت إلى سقوطه من سدة السلطة فيما بعد.
إلا أن ريجان حقق نجاحاً أكبر على صعيد تعزيز التحالفات التقليدية للولايات المتحدة على قاعدة الالتزام بالقيم الغربية سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، وكان الحليف الأقرب له في هذا الشأن هو رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر التي ظهر دعمها ومؤازرتها لإدارة ريجان في أجلى صوره عندما سمحت باستخدام القواعد الجوية البريطانية في الهجوم الذي شنته الولايات المتحدة على ليبيا انتقاما لتفجير تعرض له ملهى ليلي كان يتردد عليه عسكريون أمريكيون في ألمانيا الغربية.
حرب النجوم
أما على صعيد السياسات الدفاعية فقد كان من أبرز ملامح هذه السياسات الخطة التي أعلنها الرجل عام 1983 باسم مبادرة الدفاع الاستراتيجي أو ما عرفت على نطاق واسع باسم ( حرب النجوم).
واستهدفت هذه المبادرة تطوير نظام فعال للدفاع الصاروخي، وعرض الرئيس الأمريكي الراحل على الاتحاد السوفيتي المشاركة في هذا البرنامج، إلا أن السوفيت تشككوا في الأمر، وأعربوا عن رفضهم للمبادرة برمتها خشية أن يؤدي التعاون بين واشنطن وموسكو في مجال الأبحاث الخاصة بتطوير نظام دفاعي مضاد للصواريخ إلى تسرب الأسرار العسكرية السوفيتية. وقد تم بحث هذه القضية في قمة عقدت بين ريجان وجورباتشوف في أيسلندا عام 1986 إلا أنهما لم يتوصلا إلى اتفاق إزاءها.
ويظل برنامج (حرب النجوم) أحد النقاط الخلافية في الإرث السياسي الذي تركه ريجان، إذ أن مؤيدي هذا البرنامج يرونه خطوة ملهمة أما معارضيه فيعتبرونه برنامجا مشكوكا في جدواه.
الطريق إلى البيت الأبيض
على صعيد آخر، كان ريجان يصر دوما على أن نجاحه السياسي يرجع إلى تعاطف الأمريكيين البسطاء معه، مؤكدا أنه يرى نفسه واحدا من بين هؤلاء الأمريكيين وجزءا منهم. ولم تتغير هذه الرؤية حتى بعد أن قضى فترتين رئاسيتين في البيت الأبيض إذ كان يطلق على نفسه لقب( السياسي المواطن) وهو نفس اللقب الذي أطلقه على نفسه عندما انتخب حاكما لولاية كاليفورنيا عام 1966، في تجربته الأولى مع العمل العام، والتي برر إقدامه عليها بقوله إنه كان يسعى لأن يكون أحد أفراد الحكومة حتى يتسنى له الإسهام في الجهود الرامية إلى تقليص معدل التضخم المرتفع في البلاد.
ولم يستطع ريجان في السنوات الأولى من عمله في مجال السياسة جذب الانتباه كسياسي قدير وربما كان ذلك يرجع لاهتمامه بالحديث خلال الاجتماعات التي كان يحضرها عن ذكرياته حينما كان ممثلا في هوليوود وذلك في الوقت الذي كان فيه الآخرون يناقشون الأمور السياسية، مما دعا البعض لوصفه بأنه (شخص أبله ولكنه حبوب)، ولكن هذه الرؤية دحضها ما قاله المسؤولون السوفيت الذين تفاوضوا معه فيما بعد حيث أكدوا أنه مفاوض شديد المراس.
وقد برز اسم ريجان على الساحة السياسية عام 1964 من خلال خطاب ألقاه لحشد التأييد للمرشح الجمهوري باري جولد ووتر، وأدى النجاح الكبير لهذا الخطاب الذي بثته شبكات التليفزيون الأمريكية إلى ضخ الدماء في شرايين الحملة الانتخابية المتواضعة لجولد ووتر مما رفع أسهم ريجان كثيرا كبطل جديد للمحافظين في الولايات المتحدة، وهو ما ساعده على اكتساح انتخابات حاكم كاليفورنيا للمرة الثانية عام 1970، ليصبح السياسي المحافظ الأبرز في ذلك الوقت على مستوى البلاد. في عام 1974 خاض (ريجان ) الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الجمهوري للحصول على ترشيح الحزب لانتخابات الرئاسة وذلك في مواجهة الرئيس جيرالد فورد إلا أن ريجان الذي كان ديموقراطيا متحمسا في شبابه خسر هذه الانتخابات، إلا أنه نجح بعد أربعة أعوام فحسب من خوض الانتخابات الرئاسية وإلحاق الهزيمة بالرئيس الديموقراطي جيمي كارتر الذي كان قد نجح في إخراج فورد من البيت الأبيض.
وكان من بين أبرز العوامل التي ساعدت ريجان على الفوز في هذه الانتخابات معدلات التضخم المرتفعة آنذاك، وحالة الإحباط التي سادت المواطنين الأمريكيين بسبب أزمة الرهائن المحتجزين في السفارة الأمريكية في طهران. وبعد أربعة أعوام أخرى اكتسح ريجان انتخابات الرئاسة للمرة الثانية متغلبا على منافسه الديموقراطي وولتر مونديل.
رجل المتناقضات
وقد كانت حياة هذا الرجل السياسية حافلة بالمتناقضات، فبينما اعتبر أكبر الرؤساء الذين تولوا حكم أمريكا، إلا أنه كان يعكس في أحيان كثيرة رؤى شابة لمستقبل البلاد،التي كان يؤكد أنها يجب أن تصل بقدراتها إلى النجوم. ومن بين هذه التناقضات أنه الرئيس الأمريكي الوحيد الذي تولى السلطة وهو مطلق حيث كان قد طلق زوجته الأولى قبل أن يرتبط بزوجته الثانية نانسي إلا أنه كان ينادي دائما خلال فترة حكمه بإحياء القيم الأخلاقية والدينية، تناقض ثالث يكمن في أنه كان يتحدث بفخر واعتزاز عن بطولات الجيش الأمريكي، بالرغم من أنه قضى فترة الحرب العالمية الثانية في استوديوهات هوليوود !.
ولكن بطولة ريجان الحقيقية تبدت عندما واجه بشجاعة محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها في الثلاثين من مارس عام 1981 على يد مواطن أمريكي يدعى جون هينكلي وكانت هذه الشجاعة هي ما دعت العديد من الصحفيين الأمريكيين إلى التأكيد على أن ريجان قد تحول في ذلك اليوم إلى أسطورة حقيقية تضارع أسطورة الرئيس الراحل جون كيندي، خاصة بعدما ظهر رابط الجأش بعد إصابته جراء هذه المحاولة إلى درجة أنه داعب الأطباء الذين كانوا يشرفون على علاجه قائلا (أتمنى أن تكونوا كلكم من الجمهوريين)!.
كما نجا ريجان أيضا من مرض سرطان القولون في عام 1985 وخضع للعديد من العمليات الجراحية في ذلك الوقت.
حياة شاقة
وقد ولد رونالد ريجان في السادس من فبراير من عام 1911 في مدينة تامبكو بولاية إلينوي، حيث كان الابن الثاني والأخير لأب يعمل بائعا متجولا للأحذية وأم نصحها الأطباء بعدم الإنجاب بعد طفلها الثاني لضعف حالتها الصحية. قضى ريجان الصغير طفولة متواضعة خاصة وأن والده كان مدمنا للخمور، فيما سعت والدته إلى إعادة الأمور إلى نصابها في الأسرة فحرصت على اصطحاب طفليها إلى الحفلات والمسرحيات وغير ذلك مما جعلها صاحبة التأثير الأكبر في ابنها الأصغر الذي أظهر نبوغا مبكرا وذاكرة حديدية.
وكان ريجان متعدد المواهب فقد عمل في فترة من فترات حياته حارسا لأحد الشواطئ، وتمكن في ذلك الوقت من إنقاذ 77 شخصا من الغرق، وكان أيضا يحلم بأن يكون رساما، بجانب تميزه كلاعب لكرة القدم في مدرسته العليا.
وقد التحق ريجان الشاب بكلية للفنون الجميلة ولكنه لم يكن طالبا مميزا في ذلك الوقت بقدر ما كان لاعب كرة قدم بارعا حتى تخرج عام 1932. عمل ريجان معلقا رياضيا في إحدى الإذاعات في ولاية أيوا وصارت له شهرة واسعة في هذا المجال، حيث أتاح له هذا العمل استعراض مهاراته الخطابية، وذلك قبل أن تجذبه أضواء هوليوود عام 1937 خلال تغطيته لأحد تدريبات البيسبول في لوس أنجلوس ليترك العمل الإذاعي.
وعلى الرغم من أن ريجان لم ينل شهرة واسعة كممثل إلا أنه شارك في نحو خمسين فيلما، وأصبح في عام 1947 رئيس نقابة الممثلين الأمريكيين، ومارس خلال هذه الفترة أدواراً سياسية حيث حمل على عاتقه مهمة التصدي للعناصر الشيوعية الموجودة في مدينة السينما الأمريكية قبل أن ينخرط خلال الستينيات من القرن الماضي في العمل السياسي بشكل كامل.