منظومة القيم الإسلامية في العلاقات الدولية
مرسل: الأربعاء يناير 05, 2011 3:52 am
لكي يجد السلام الإسلامي Pax Islamica طريقه إلى التطبيق وفقًا للرؤية الإسلامية للعالم - التي شرحناها في القسم السابق - فإن كافة السياسات والمواقف والقرارات والإجراءات التي تتخذها السلطات الإسلامية على المستوى الدولي يجب أن تأتي في إطار الالتزام بمنظومة من القيم والمبادئ المعيارية، التي تضمن الوصول إلى هدف السلام العالمي، ويمكن تطبيقها على هذه السياسة أو على ذلك الموقف أو القرار بطريقة تجريبية؛ لمعرفة ما إذا كان العمل يصب في الاتجاه الصحيح أم لا، فليس كل سلام يمكن تحقيقه هو سلام مقبول في النظرية الإسلامية ما لم تأت جميع خطواته متسقة مع رؤية العالم من المنظور الإسلامي، ومنضبطة وفقًا لقيم هذا المنظور ومبادئه العليا.
ولتوضيح هذه المقدمة -وقبل الدخول في تفاصيل منظومة القيم الإسلامية في العلاقات الدولية- نقول: إن النظرية الإسلامية ترفض سلامًا عالميًّا من نمط السلام الروماني Pax Romana القديم؛ لأنه كان قائمًا على فلسفة مؤداها أن القوة تخلق الحق وتحميه، وأن البشر ينقسمون إلى أحرار وعبيد، كما ترفض النظرية الإسلامية سلامًا عالميًّا من نمط السلام الأمريكي Pax Americana الذي تسعى إليه الولايات المتحدة في ظل العولمة الراهنة؛ لأنه ينطوي على كثير من المظالم والفساد، ويعتمد في تحقيقه على القوة العارية من الأخلاق.
إن السلام الإسلامي يمر عبر نظام للعلاقات الدولية تحكمه قيم العدالة والمساواة والحرية، وتحوطه أخلاقيات الوفاء بالعهود، والأمانة والصدق، وتقوده مبادئ التعاون والاعتماد المتبادل والعمل المشترك، وبيان هذه المنظومة من القيم والمبادئ كما يأتي :
العدالة:
تعني العدالة في أبسط معانيها إعطاء كل ذي حق حقه، دون تأثر بمشاعر الحب لصديق، أو الكراهية لعدو، وقد أمر الله المؤمنين أن يلتزموا بهذا المعنى للعدالة وأن يطبقوه، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون}[19].
ويقتضي تطبيق العدالة في مجال العلاقات الدولية أن تُبنى كافة العهود والمواثيق والاتفاقات الدولية على أساس كفالة العدالة لكافة الأطراف، وعدم الجور على طرف فيها، فضلاً عن تحريم إلحاق الظلم بجماعة، أو فئة، أو أقلية ما، من جراء هذا الاتفاق، أو تلك المعاهدة.
كذلك فإن القوانين المنظمة للشئون الدولية وللعلاقات بين أشخاص القانون الدولي -دولاً ومنظمات وهيئات وأفرادًا- يجب أن يكون أساسها وهدفها هو تحقيق العدالة.
إن إقرار العدالة -النافية للظلم والاستغلال والقهر- يوفر ضمانة كبرى لكل مظلوم، فردًا كان أو جماعة أو أقلية أو شعبًا؛ بأن حقه لم يذهب سُدى، وأن بإمكانه المطالبة به واسترداده، ومن ثم يبقى الأمل قائمًا والسعي مستمرًّا من أجل إعادة الحق إلى نصابه؛ سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي.
وثمة علاقة وثيقة بين إقرار العدالة، وإقرار السلام؛ فإذا اختلت العدالة فإن السلام يصبح بطريقة تلقائية في خطر، الأمر الذي يتطلب اتخاذ كافة التدابير الكفيلة بإزالة مصدر الخلل بكل وسيلة مشروعة؛ ومنها استخدام الجهاد الذي يعني في المجال الدولي بذل ما في وسع الدولة الإسلامية -بما في ذلك استخدام القوة المسلحة- للقضاء على الظلم والبغي، والإكراه، أو أي مصدر آخر من مصادر الخلل؛ دفعًا للضرر وجلبًا للمصلحة على قاعدة العدالة التي تعطي كل ذي حق حقه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الجهاد هو وسيلة لإقرار العدالة والسلام، وليس غاية في ذاته؛ سواء كان هذا الجهاد حربًا دفاعية أو هجومية[20]؛ تقوم بها الدولة الإسلامية في سياق ممارستها لسياستها الخارجية.
أما عن التساؤلات عما يشكل وجه العدالة إزاء أمر معين، وكيف يمكن الوصول إلى حكم محدد أو الفصل فيه على نحو عادل في ظل نظام دولي سائد، وأية سياسات يجب على الدولة الإسلامية اتخاذها حتى تحقق العدالة في علاقاتها الخارجية؛ فالإجابة على هذه التساؤلات وأمثالها متروكة للنظر فيها والاجتهاد من خلال معطيات ذلك النظام والظروف والملابسات المحيطة بكل مرحلة من المراحل، أو قضية من القضايا[21].
المساواة في الأخوة الإنسانية:
سبق أن رأينا أن النظرة الإسلامية للعالم تؤكد على وحدة البشرية من حيث انتماؤها إلى أصل واحد، وفي ظل هذه الرؤية المبدئية تأتي قيمة المساواة بتطبيقاتها المتعددة؛ التي يجب أن تلتزم بها الدولة الإسلامية في سياستها الداخلية وفي علاقاتها الخارجية.
إن وحدة الجنس البشري تقتضي في نظر الإسلام المساواة التامة بين كافة أفراده وجماعاته وشعوبه، من حيث إتاحة فرص متساوية للحصول على الحقوق الأساسية للإنسان وللتمتع بها؛ فإذا توفرت الفرص المتساوية أمام الجميع يكون التفاوت النسبـي بينهم بعد ذلك راجعًا إلى ما يبذلونه من جهد وعمل، وإلى ما يحققونه من إنتاجية متميزة، وإلى ما يملكونه من قدرات على التحصيل العلمي والتقدم الحضاري.
وفي ضوء ذلك؛ لا تعترف النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية بأية نزعة أو سياسة عنصرية تميز بين الشعوب على أساس الانتماء العرقي أو على أساس الاختلاف في حجم الجمجمة أو لون البشرة[22]، إن مبدأ المساواة يفرض على الدولة الإسلامية في سياستها الخارجية ألا تقبل أي وضع ينتقص من الحقوق الأساسية لشعبها، وأن تبادر بتقديم الأفكار واقتراح الحلول والسياسات التي تسهم في إزالة كافة أشكال التمييز العنصري أو العرقي، وألا تدخل أو تشارك في أية علاقة دولية -في صورة معاهدة أو تحالف، أو اتفاقية... إلخ- تستهدف الإخلال بمبدأ المساواة، أو يكون من شأنها تكريس وضع ما من أوضاع التفرقة العنصرية، أو مساعدة جماعة أو دولة على ممارسة سياسة التطهير العرقي، أو الاضطهاد المذهبي أو الطائفي أو الديني.
وتدلنا وقائع التاريخ وتجارب الأمم والشعوب الخاصة بعلاقاتها الدولية على أنه ما من مرة حدث فيها الإخلال بمبدأ المساواة بين البشر -بالمعنى السابق شرحه- إلا وتعرض السلم والأمن للخطر، على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وقد يصل الأمر إلى حد نشوب الصراعات والحروب المدمرة.
ومما يؤسف له أنه تمت في العصر الحديث صياغة إيديولوجيات ومعتقدات دوغمائية تستند على أصول وهمية من دعاوى التفوق العنصري أو الديني أو السلالي، وتدعي أن شعبًا ما هو شعب الله المختار، أو أن جنسًا من الأجناس فوق الجميع، وكل هذه الادعاءات ظهرت من قلب حضارة الغرب، وذاق العالم منها ويلات كثيرة من المنازعات والصراعات والحروب، وما يزال يعاني منها في مواضع شتى.
الحرية:
ينبع مبدأ الحرية -في أحد أبعاده الرئيسية- من قيمة المساواة بين بني البشر التي قررها الإسلام؛ فانتماؤهم إلى أصل واحد يقتضي السواسية بينهم، وهذه بدورها تقتضي أن الناس جميعًا يولدون أحرارًا، ويظلون كذلك ما داموا على قيد الحياة، ومن ثَم فاستعباد الإنسان لأخيه الإنسان أمر طارئ؛ لا هو من إرادة الله، ولا من الطبيعة السوية للبشر.
ولما كان هذا الاستعباد واردًا بحكم النزعات العدوانية والرغبة في السيطرة على الآخرين وتحقيق مصالح اقتصادية محددة، فقد جاء الإسلام لإزالة كافة صوره، وأشملها وأكثرها سوءًا هو أن يكون الإنسان عبدًا لغير الله تعالى؛ ولذلك كانت كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" هي نفسها الإعلان الإسلامي للحرية، أو لفك الرقبة؛ وهي إسقاط لكافة أشكال القهر والإكراه والاستتباع القسري لفرد، أو لجماعة، أو لطائفة أو لشعب أو لأمة، وكثيرًا ما ردد الفاتحون المسلمون الأوائل عبارة "جئنا لنخرجكم من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد"، وبعبارة أخرى: جئنا لاستعادة الحرية.
ليست "الحرية" في النظرية الإسلامية بابًا للفوضى أو لممارسة العدوان؛ وإلا انقلبت إلى "حرب الجميع ضد الجميع" على حد تعبير فيلسوف الحداثة توماس هوبز، وإنما هي الحرية المسئولة والمنضبطة بضوابط "العدالة" وحدود "المساواة"، وفضائل "الأخلاق"، وهي قيم مرتكزة في فطرة الإنسان التي فطره الله عليها[23]، وليست مجهولة المصدر أو بنت الطبيعة كما يذهب كثير من الفلاسفة الطبيعيين والماديين.
وفي ضوء هذا المضمون الإسلامي للحرية يمكننا متابعة تطبيقاتها العملية على صعيد العلاقات الدولية - وأيضًا في العلاقات الداخلية الفردية والاجتماعية -ولكننا نقتصر هنا على موضوعنا-، ومن أهم هذه التطبيقات ما يأتي :
أ - الإقرار بسياسة الأبواب المفتوحة في محيط العلاقات الدولية، ورفض سياسة العزلة والانغلاق إلا لضرورة قهرية "والضرورة تقدر بقدرها"؛ ذلك لأن سياسة الباب المفتوح هي التي تتيح فرصًا متساوية وعلاقات متكافئة للأفراد والجماعات والشعوب لكي تمارس حريات التنقل، والإقامة، والدخول والخروج، والعمل، والتملك... إلخ، أما سياسة العزلة والانغلاق فإنها تتضمن بالضرورة قيودًا على ممارسة مثل هذه الحريات إلى حد الحرمان منها في بعض الحالات.
ب- الاعتراف "بالتعددية" الحضارية والثقافية والسـياسية والعقائدية[24]؛ ذلك لأن التنوع والاختلاف من سنة الحياة الاجتماعية، وأن محاولة طمس الاختلافات وتنميطها في قالب واحد أمر لا يأتي إلا عن طريق الجبر والإكراه، وهما والحرية ضدان لا يجتمعان.
جـ- بطلان الأوضاع التي تنشأ نتيجة للقسر والإكراه؛ حتى لو تكرست عبر اتفاقيات أو معاهدات أو بحكم الأمر الواقع، فهذه كلها تتنافى مع قيمة الحرية، ولا بد للسياسة الإسلامية الدولية أن تعمل لتصحيح الأوضاع بما يتفق مع هذه القيمة.
وثمة تطبيقات أخرى لقيمة الحرية في النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية، ولكنها ليست محل جدل كبير شأنها شأن النماذج الثلاثة السابق ذكرها.
والواقع أن ما أثار الخلاف الكبير والجدل الفكري والفقهي الواسع -ولا يزال في هذا المجال- هو تطبيق مبدأ الحرية في موضوع العقيدة الدينية، والسؤال الأساسي هنا عن موقف النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية من حرية العقيدة؟.
ولسنا بصدد استعراض ومناقشة الرؤى الفقهية المختلفة حول هذه المسألة، ولكننا نود التأكيد فقط على أن الموقف الأساسي فيما يتعلق بحرية العقيدة الدينية واضح تمام الوضوح في القرآن الكريم في قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي}[25]، وقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُـكُمْ وَلِيَ دِين}[26].
إن "الحرية" -في بعدها العقيدي الديني- لا تعتبر فقط موضوعًا داخليًّا في المجتمعات الإسلامية، ولكنها تتصل اتصالاً مباشرًا بجوانب مهمة من علاقاتهم الدولية مع الشعوب والأمم الأخرى[27]، أو بالأحرى مع الهيئات والمؤسسات والسلطات التي تمثلها وتعبر عن مصالحها، وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما تمليه الرؤية الإسلامية للعالم، مع ما تأمر به منظومة القيم والمبادئ النابعة منها -وفي مقدمتها قيم العدالة والمساواة- فإن النتيجة الصحيحة لذلك هي أن السياسة الإسلامية الدولية ليس من أهدافها إجبار الأفراد ولا الشعوب الأخرى على الدخول في الإسلام، كما أنه ليس من أهدافها إكراه أحد على تغيير معتقده الديني، حتى إن كان من غير أتباع الديانات السماوية، والله تعالى يقول: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ }[28]، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[29].
إن الإسلام يعتبر الرقابة الروحية، والوصاية على الضمير والمعتقد الديني إهانة لكرامة الإنسان، وإهدارًا لحقه في الحرية؛ بل وتعديًّا على إرادة الله سبحانه وتعالى[30]، وعليه فإن سياسة خارجية تتبنى شيئًا من ذلك تكون فاقدة للشرعية، ويجب مقاومتها من المنظور الإسلامي؛ سواء كان ذلك على الصعيد المحلي الداخلي، أو على الصعيد الخارجي الدولي.
الوفاء بالعهود والمواثيق:
حتى لا تظل قيم العدالة والمساواة والحرية مجرد أمنيات فإنه من الضروري ترجمتها إلى ممارسات فعلية على أرض الواقع: في التصرفات الفردية، والسلوكيات الاجتماعية، وفي السياسات والعلاقات الدولية كذلك، وتتم هذه الممارسات في الأحوال العادية بطريقة تلقائية لتحكم وتنظم مختلف العلاقات الاجتماعية في كافة المجالات، وعلى كل المستويات، ويكون الالتزام الطوعي بمعايير العدل والمساواة والحرية وفاء لتلك القيم العليا وللفضائل الإنسانية في مجملها.
ولكن كثيرًا ما تقتضي المعاملات -فيما بين الأفراد وبين الدول والهيئات والمنظمات المختلفة أيضا- أن توضع هذه القيم في صورة عقود أو عهود ومواثيق تمليها اعتبارات عملية ونفسية وأخلاقية متعددة ومتغيرة حسب ظروف الزمان والمكان، وفي مثل هذه الحالات جاء الأمر صريحًا ومباشرًا -بأكثر من صيغة وفي أكثر من موضع في آيات القرآن الكريم- باحترام العهود والوفاء بالعقود والالتزامات على أكمل وجه، كما وردت آيات قرآنية كثيرة تحذر من الغدر والخيانة ونقض العهد.
وفي بعض الآيات نجد تأصيلاً معرفيًّا وعقيديًّا لقيمة الوفاء بالعهد ولأخلاقيات الالتزام به، وإشارة إلى النتائج المترتبة على الالتزام بها أو عدمه، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الرعد: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) إلى قوله تعالى: {... أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِـكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[31]، ومن هذه الآيات يمكننا أن نتعرف على النموذج الأساسي للوفاء بالعهد والميثاق، وهو الوفاء بالعهد مع الله تعالى، وما يترتب عليه من بلوغ أفضل النتائج: {عُقْبَى الدَّار}، واستحقاق نعمة السلام وهي من أعظم النعم: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ).
وعندما يتعلق الأمر بالمعاملات والعلاقات بين البشر -وينطبق ذلك على الأفراد والجماعات والهيئات والدول- فإن مبدأ الوفاء يتجه الأمر به مباشرة إلى المعاهدات والعقود المبرمة بين أطراف العلاقة؛ ومن ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُـــوا أَوْفُوا بِالْعُقُود}[32].
والحاصل أن المرجعية الشرعية الإسلامية تؤكد بقوة وبوضوح على أن الوفاء بالعهود والمواثيق يعد عاملاً أساسيًّا وحاسمًا في عملية التفاعل المنظم[33] في العلاقات الداخلية والخارجية على السواء. كما توضح لنا هذه المرجعية أن قاعدة الوفاء والأخلاقيات المرتبطة بها لا تقتصر فقط على الجوانب الشكلية أو القانونية، وإنما تمتد لتصبح أداة من أدوات ترسيخ مبادئ التعاون والتعايش[34]، وعاملاً أساسيًّا لترسيخ ثقافة السلام، حيث إن الإخلال بالتعهدات ونقض المواثيق هو أحد الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى الحرب وتجدد النزاعات، ومتى نشبت الحرب فإن معظم المعاهدات والاتفاقيات تسقط تلقائيًّا إلى أن تضع الحرب أوزارها، ويتم الاتفاق من جديد من أجل إقرار السلام، وهكذا إلى أن يتم الالتزام بالعهود والوفاء بالعقود على أسس العدالة والمساواة والحرية.
التعاون والاعتماد المتبادل:
جاء الأمر في القرآن الكريم "بالتعاون" المبني على فضائل الأخلاق؛ الهادف إلى تحقيق الخير الإنساني العام والقرب من الله تعالى، كما جاء فيه أيضا النهي عن "التعاون" المؤدي إلى انتهاك تلك الفضائل؛ الهادف إلى الاعتداء أو إلحاق الأذى بالآخرين، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[35].
ويتضمن الأمر "بالتعاون" تقرير الاعتماد المتبادل كسياسة عامة في تسيير العلاقات بين مختلف أطراف الوجود الاجتماعي -الأفراد والجماعات والدول- ذلك لأن التعاون لا يكون إلا بين أكثر من طرف، واللجوء إليه يعني أن كل طرف لا يستطيع بمفرده القيام بأداء مهمة ما، أو تحقيق هدف معين، ومن ثم فإن كلاًّ منهما يعتمد على الآخر في تحقيق بعض أهدافه، وإذا قام هذا التعاون أو "الاعتماد المتبادل" على أسس البر والتقوى، فإن الحصيلة النهائية له ستصب في الصالح الإنساني العام، أو بالأقل لن تلحق الضرر بالأطراف الأخرى غير الداخلة في هذا التعاون بعينه.
ونفهم من ذلك أن التعاون الذي تنشده النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية يجب أن يكون منضبطًا بمقتضيات قيم "العدالة" و"المساواة في الأخوة الإنسانية" و"الحرية" و"الوفاء" بالعهود والالتزامات، وإن أي إخلال بهذه القيم حتى لو أخذ شكل علاقة تعاونية معناه الحكم ببطلان هذه العلاقة وفقدانها للشرعية؛ حيث إن "القيم" في -النظرية الإسلامية- لا تتجزأ "ولا ينفي بعضها بعضًا"[36].
إن هذا النمط من "التعاون" ضمن -النظرية الإسلامية العامة للعلاقات الدولية- هو أحد عوامل التطور الاجتماعي والحضاري العام، وهو الذي يؤسس لبناء السلام الحقيقي بين مختلف الأمم والشعوب، ويحد من إمكانيات حدوث النزاعات أو نشوب الحروب والصراعات فيما بينها، وذلك بفضل شبكة المصالح المتبادلة، التي يؤدي التعاون المستمر إلى تكثيفها بين مختلف أطراف العلاقات الدولية في كافة المجالات؛ وفقًا لمعايير تمتزج فيها القيم والأخلاقيات المجردة مع المنافع والمصالح المادية من جهة، ويلتزم بها الجميع من جهة أخرى.
وتدلنا الوقائع التاريخية في مجال العلاقات الدولية على أن مبدأ التعاون قد يتخذ وسيلة للعدوان أو لممارسة سياسات الاستغلال والظلم؛ ذلك عندما يقوم - في جوهره - على أسس نفعية أو مصلحية بحتة، أو مجردة من القيم والمبادئ الأخلاقية.
ونعرف من أدبيات العلاقات الدولية أن هناك أنماطًا متنوعة لمثل هذا النوع من التعاون: منها "الأحلاف العسكرية"، و"التكتلات الإيديولوجية والسياسية"، و"المحاور الإقليمية والدولية"، وقد ذاق العالم منها ويلات كثيرة -قديمًا وحديثًا- ومثل هذه الأنماط هي التي ترفضها النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية؛ لأنها تقع ضمن النهي الوارد في قوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان).
التناسق والتصاعد في منظومة القيم الإسلامية:
من البيان السابق لمنظومة القيم الإسلامية نلحظ بسهولة ويسر أن مكوناتها تتسم بالتناسق والانسجام التام فيما بينها، كما أنها تتسم بالتدرج من حيث الشمول والأولوية، إذا تصورناها مرتبة على درجات سلم يصعد إلى أعلى.
فالتناسق - أو الانسجام - واضح حيث تمهد كل قيمة للتي تليها وتؤدي إليها، ومن ذلك على سبيل المثال: نجد أن "قيمة العدالة" تتسق تمامًا مع قيمة المساواة، وتؤدي إلى الإقرار بها وحمايتها بالضرورة، وهذه تتسق مع "الحرية" و"الوفاء" و"التعاون"، وتؤدي إليها كذلك، وتكفل حمايتها وصيانتها من الاضطراب ومن عوامل الخلل.
وإذا طبقنا هذا التصور النظري على موقف عملي على صعيد العلاقات الدولية يتضح لنا -مثلاً- أن مراعاة العدالة في إبرام معاهدة ما، يعني بالضرورة مراعاة قيمة المساواة بمعناها الإنساني العميق، ويعني أيضا احترام الحرية النابعة من هذه المساواة والمركوزة في أصل التكوين الإنساني؛ مهما اختلفت الأجناس أو تعددت الألوان أو تباينت المصالح، فإذا ما تتوج ذلك كله بالوفاء بالالتزامات وأداء ما تم الاتفاق عليه، كانت هناك فرصة حقيقية لممارسة علاقات تعاونية بناءة وفعالة ومثمرة لصالح التقدم الإنساني، وعلى طريق التطور الحضاري العام، وخلاف هذا التناسق لابد أن تنتج آثار في الاتجاه المعاكس للتعاون، وللتطور، وللسلام.
أما بالنسبة لخاصية التصاعد في هذه المنظومة القيمية - التي تناولناها - فهي ترتبط بأصول رؤية العالم من المنظور الإسلامي على النحو السالف ذكره، ومؤداها أن مفردات هذه المنظومة القيمية تتدرج من حيث مدى الشمول ومن حيث الأولوية؛ بما يعني أنها ليست كلها على مستوى واحد؛ فالعدالة هي القيمة العليا، وفي الوقت نفسه هي الأشمل والأولى من حيث مراعاة التطبيق، وتليها المساواة ثم الحرية، فالوفاء بالعهد، فالتعاون، وهكذا يكون الترتيب والتدرج النظري من الأشمل والأولى (الأعلى) إلى الأقل شمولاً والأدنى.
أما على المستوى التجريبي العملي فإن البحث عن هذه القيم يبدأ بفحص أسس علاقات التعاون والاعتماد المتبادل، وبيان مدى الالتزام أو عدم الالتزام بالعهود والاتفاقات عبر استقراء أوضاع أطراف هذه العلاقات من حيث تمتعها بالإرادة الحرة وبعدها عن عوامل الضغط والإكراه، ومن ثم يمكن التحقق من مراعاة قيمة المساواة في أصل الأخوة الإنسانية، واحترام قواعد العدالة التي تقضي بإعطاء كل ذي حق حقه.
وبالتأمل في خاصيتي التناسق والتصاعد في منظومة قيم النظرية الإسلامية - في مجال العلاقات الدولية - نلحظ بسهولة ويسر كذلك أن "السلام" هدف أصيل ومتغلغل في جميع مفردات هذه المنظومة، وفي كل مواقفها العملية وسياساتها الفعلية.
Read more: http://www.islamonline.net/servlet/Sate ... z1A7bHbEUS
ولتوضيح هذه المقدمة -وقبل الدخول في تفاصيل منظومة القيم الإسلامية في العلاقات الدولية- نقول: إن النظرية الإسلامية ترفض سلامًا عالميًّا من نمط السلام الروماني Pax Romana القديم؛ لأنه كان قائمًا على فلسفة مؤداها أن القوة تخلق الحق وتحميه، وأن البشر ينقسمون إلى أحرار وعبيد، كما ترفض النظرية الإسلامية سلامًا عالميًّا من نمط السلام الأمريكي Pax Americana الذي تسعى إليه الولايات المتحدة في ظل العولمة الراهنة؛ لأنه ينطوي على كثير من المظالم والفساد، ويعتمد في تحقيقه على القوة العارية من الأخلاق.
إن السلام الإسلامي يمر عبر نظام للعلاقات الدولية تحكمه قيم العدالة والمساواة والحرية، وتحوطه أخلاقيات الوفاء بالعهود، والأمانة والصدق، وتقوده مبادئ التعاون والاعتماد المتبادل والعمل المشترك، وبيان هذه المنظومة من القيم والمبادئ كما يأتي :
العدالة:
تعني العدالة في أبسط معانيها إعطاء كل ذي حق حقه، دون تأثر بمشاعر الحب لصديق، أو الكراهية لعدو، وقد أمر الله المؤمنين أن يلتزموا بهذا المعنى للعدالة وأن يطبقوه، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون}[19].
ويقتضي تطبيق العدالة في مجال العلاقات الدولية أن تُبنى كافة العهود والمواثيق والاتفاقات الدولية على أساس كفالة العدالة لكافة الأطراف، وعدم الجور على طرف فيها، فضلاً عن تحريم إلحاق الظلم بجماعة، أو فئة، أو أقلية ما، من جراء هذا الاتفاق، أو تلك المعاهدة.
كذلك فإن القوانين المنظمة للشئون الدولية وللعلاقات بين أشخاص القانون الدولي -دولاً ومنظمات وهيئات وأفرادًا- يجب أن يكون أساسها وهدفها هو تحقيق العدالة.
إن إقرار العدالة -النافية للظلم والاستغلال والقهر- يوفر ضمانة كبرى لكل مظلوم، فردًا كان أو جماعة أو أقلية أو شعبًا؛ بأن حقه لم يذهب سُدى، وأن بإمكانه المطالبة به واسترداده، ومن ثم يبقى الأمل قائمًا والسعي مستمرًّا من أجل إعادة الحق إلى نصابه؛ سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي.
وثمة علاقة وثيقة بين إقرار العدالة، وإقرار السلام؛ فإذا اختلت العدالة فإن السلام يصبح بطريقة تلقائية في خطر، الأمر الذي يتطلب اتخاذ كافة التدابير الكفيلة بإزالة مصدر الخلل بكل وسيلة مشروعة؛ ومنها استخدام الجهاد الذي يعني في المجال الدولي بذل ما في وسع الدولة الإسلامية -بما في ذلك استخدام القوة المسلحة- للقضاء على الظلم والبغي، والإكراه، أو أي مصدر آخر من مصادر الخلل؛ دفعًا للضرر وجلبًا للمصلحة على قاعدة العدالة التي تعطي كل ذي حق حقه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الجهاد هو وسيلة لإقرار العدالة والسلام، وليس غاية في ذاته؛ سواء كان هذا الجهاد حربًا دفاعية أو هجومية[20]؛ تقوم بها الدولة الإسلامية في سياق ممارستها لسياستها الخارجية.
أما عن التساؤلات عما يشكل وجه العدالة إزاء أمر معين، وكيف يمكن الوصول إلى حكم محدد أو الفصل فيه على نحو عادل في ظل نظام دولي سائد، وأية سياسات يجب على الدولة الإسلامية اتخاذها حتى تحقق العدالة في علاقاتها الخارجية؛ فالإجابة على هذه التساؤلات وأمثالها متروكة للنظر فيها والاجتهاد من خلال معطيات ذلك النظام والظروف والملابسات المحيطة بكل مرحلة من المراحل، أو قضية من القضايا[21].
المساواة في الأخوة الإنسانية:
سبق أن رأينا أن النظرة الإسلامية للعالم تؤكد على وحدة البشرية من حيث انتماؤها إلى أصل واحد، وفي ظل هذه الرؤية المبدئية تأتي قيمة المساواة بتطبيقاتها المتعددة؛ التي يجب أن تلتزم بها الدولة الإسلامية في سياستها الداخلية وفي علاقاتها الخارجية.
إن وحدة الجنس البشري تقتضي في نظر الإسلام المساواة التامة بين كافة أفراده وجماعاته وشعوبه، من حيث إتاحة فرص متساوية للحصول على الحقوق الأساسية للإنسان وللتمتع بها؛ فإذا توفرت الفرص المتساوية أمام الجميع يكون التفاوت النسبـي بينهم بعد ذلك راجعًا إلى ما يبذلونه من جهد وعمل، وإلى ما يحققونه من إنتاجية متميزة، وإلى ما يملكونه من قدرات على التحصيل العلمي والتقدم الحضاري.
وفي ضوء ذلك؛ لا تعترف النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية بأية نزعة أو سياسة عنصرية تميز بين الشعوب على أساس الانتماء العرقي أو على أساس الاختلاف في حجم الجمجمة أو لون البشرة[22]، إن مبدأ المساواة يفرض على الدولة الإسلامية في سياستها الخارجية ألا تقبل أي وضع ينتقص من الحقوق الأساسية لشعبها، وأن تبادر بتقديم الأفكار واقتراح الحلول والسياسات التي تسهم في إزالة كافة أشكال التمييز العنصري أو العرقي، وألا تدخل أو تشارك في أية علاقة دولية -في صورة معاهدة أو تحالف، أو اتفاقية... إلخ- تستهدف الإخلال بمبدأ المساواة، أو يكون من شأنها تكريس وضع ما من أوضاع التفرقة العنصرية، أو مساعدة جماعة أو دولة على ممارسة سياسة التطهير العرقي، أو الاضطهاد المذهبي أو الطائفي أو الديني.
وتدلنا وقائع التاريخ وتجارب الأمم والشعوب الخاصة بعلاقاتها الدولية على أنه ما من مرة حدث فيها الإخلال بمبدأ المساواة بين البشر -بالمعنى السابق شرحه- إلا وتعرض السلم والأمن للخطر، على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وقد يصل الأمر إلى حد نشوب الصراعات والحروب المدمرة.
ومما يؤسف له أنه تمت في العصر الحديث صياغة إيديولوجيات ومعتقدات دوغمائية تستند على أصول وهمية من دعاوى التفوق العنصري أو الديني أو السلالي، وتدعي أن شعبًا ما هو شعب الله المختار، أو أن جنسًا من الأجناس فوق الجميع، وكل هذه الادعاءات ظهرت من قلب حضارة الغرب، وذاق العالم منها ويلات كثيرة من المنازعات والصراعات والحروب، وما يزال يعاني منها في مواضع شتى.
الحرية:
ينبع مبدأ الحرية -في أحد أبعاده الرئيسية- من قيمة المساواة بين بني البشر التي قررها الإسلام؛ فانتماؤهم إلى أصل واحد يقتضي السواسية بينهم، وهذه بدورها تقتضي أن الناس جميعًا يولدون أحرارًا، ويظلون كذلك ما داموا على قيد الحياة، ومن ثَم فاستعباد الإنسان لأخيه الإنسان أمر طارئ؛ لا هو من إرادة الله، ولا من الطبيعة السوية للبشر.
ولما كان هذا الاستعباد واردًا بحكم النزعات العدوانية والرغبة في السيطرة على الآخرين وتحقيق مصالح اقتصادية محددة، فقد جاء الإسلام لإزالة كافة صوره، وأشملها وأكثرها سوءًا هو أن يكون الإنسان عبدًا لغير الله تعالى؛ ولذلك كانت كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" هي نفسها الإعلان الإسلامي للحرية، أو لفك الرقبة؛ وهي إسقاط لكافة أشكال القهر والإكراه والاستتباع القسري لفرد، أو لجماعة، أو لطائفة أو لشعب أو لأمة، وكثيرًا ما ردد الفاتحون المسلمون الأوائل عبارة "جئنا لنخرجكم من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد"، وبعبارة أخرى: جئنا لاستعادة الحرية.
ليست "الحرية" في النظرية الإسلامية بابًا للفوضى أو لممارسة العدوان؛ وإلا انقلبت إلى "حرب الجميع ضد الجميع" على حد تعبير فيلسوف الحداثة توماس هوبز، وإنما هي الحرية المسئولة والمنضبطة بضوابط "العدالة" وحدود "المساواة"، وفضائل "الأخلاق"، وهي قيم مرتكزة في فطرة الإنسان التي فطره الله عليها[23]، وليست مجهولة المصدر أو بنت الطبيعة كما يذهب كثير من الفلاسفة الطبيعيين والماديين.
وفي ضوء هذا المضمون الإسلامي للحرية يمكننا متابعة تطبيقاتها العملية على صعيد العلاقات الدولية - وأيضًا في العلاقات الداخلية الفردية والاجتماعية -ولكننا نقتصر هنا على موضوعنا-، ومن أهم هذه التطبيقات ما يأتي :
أ - الإقرار بسياسة الأبواب المفتوحة في محيط العلاقات الدولية، ورفض سياسة العزلة والانغلاق إلا لضرورة قهرية "والضرورة تقدر بقدرها"؛ ذلك لأن سياسة الباب المفتوح هي التي تتيح فرصًا متساوية وعلاقات متكافئة للأفراد والجماعات والشعوب لكي تمارس حريات التنقل، والإقامة، والدخول والخروج، والعمل، والتملك... إلخ، أما سياسة العزلة والانغلاق فإنها تتضمن بالضرورة قيودًا على ممارسة مثل هذه الحريات إلى حد الحرمان منها في بعض الحالات.
ب- الاعتراف "بالتعددية" الحضارية والثقافية والسـياسية والعقائدية[24]؛ ذلك لأن التنوع والاختلاف من سنة الحياة الاجتماعية، وأن محاولة طمس الاختلافات وتنميطها في قالب واحد أمر لا يأتي إلا عن طريق الجبر والإكراه، وهما والحرية ضدان لا يجتمعان.
جـ- بطلان الأوضاع التي تنشأ نتيجة للقسر والإكراه؛ حتى لو تكرست عبر اتفاقيات أو معاهدات أو بحكم الأمر الواقع، فهذه كلها تتنافى مع قيمة الحرية، ولا بد للسياسة الإسلامية الدولية أن تعمل لتصحيح الأوضاع بما يتفق مع هذه القيمة.
وثمة تطبيقات أخرى لقيمة الحرية في النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية، ولكنها ليست محل جدل كبير شأنها شأن النماذج الثلاثة السابق ذكرها.
والواقع أن ما أثار الخلاف الكبير والجدل الفكري والفقهي الواسع -ولا يزال في هذا المجال- هو تطبيق مبدأ الحرية في موضوع العقيدة الدينية، والسؤال الأساسي هنا عن موقف النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية من حرية العقيدة؟.
ولسنا بصدد استعراض ومناقشة الرؤى الفقهية المختلفة حول هذه المسألة، ولكننا نود التأكيد فقط على أن الموقف الأساسي فيما يتعلق بحرية العقيدة الدينية واضح تمام الوضوح في القرآن الكريم في قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي}[25]، وقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُـكُمْ وَلِيَ دِين}[26].
إن "الحرية" -في بعدها العقيدي الديني- لا تعتبر فقط موضوعًا داخليًّا في المجتمعات الإسلامية، ولكنها تتصل اتصالاً مباشرًا بجوانب مهمة من علاقاتهم الدولية مع الشعوب والأمم الأخرى[27]، أو بالأحرى مع الهيئات والمؤسسات والسلطات التي تمثلها وتعبر عن مصالحها، وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما تمليه الرؤية الإسلامية للعالم، مع ما تأمر به منظومة القيم والمبادئ النابعة منها -وفي مقدمتها قيم العدالة والمساواة- فإن النتيجة الصحيحة لذلك هي أن السياسة الإسلامية الدولية ليس من أهدافها إجبار الأفراد ولا الشعوب الأخرى على الدخول في الإسلام، كما أنه ليس من أهدافها إكراه أحد على تغيير معتقده الديني، حتى إن كان من غير أتباع الديانات السماوية، والله تعالى يقول: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ }[28]، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[29].
إن الإسلام يعتبر الرقابة الروحية، والوصاية على الضمير والمعتقد الديني إهانة لكرامة الإنسان، وإهدارًا لحقه في الحرية؛ بل وتعديًّا على إرادة الله سبحانه وتعالى[30]، وعليه فإن سياسة خارجية تتبنى شيئًا من ذلك تكون فاقدة للشرعية، ويجب مقاومتها من المنظور الإسلامي؛ سواء كان ذلك على الصعيد المحلي الداخلي، أو على الصعيد الخارجي الدولي.
الوفاء بالعهود والمواثيق:
حتى لا تظل قيم العدالة والمساواة والحرية مجرد أمنيات فإنه من الضروري ترجمتها إلى ممارسات فعلية على أرض الواقع: في التصرفات الفردية، والسلوكيات الاجتماعية، وفي السياسات والعلاقات الدولية كذلك، وتتم هذه الممارسات في الأحوال العادية بطريقة تلقائية لتحكم وتنظم مختلف العلاقات الاجتماعية في كافة المجالات، وعلى كل المستويات، ويكون الالتزام الطوعي بمعايير العدل والمساواة والحرية وفاء لتلك القيم العليا وللفضائل الإنسانية في مجملها.
ولكن كثيرًا ما تقتضي المعاملات -فيما بين الأفراد وبين الدول والهيئات والمنظمات المختلفة أيضا- أن توضع هذه القيم في صورة عقود أو عهود ومواثيق تمليها اعتبارات عملية ونفسية وأخلاقية متعددة ومتغيرة حسب ظروف الزمان والمكان، وفي مثل هذه الحالات جاء الأمر صريحًا ومباشرًا -بأكثر من صيغة وفي أكثر من موضع في آيات القرآن الكريم- باحترام العهود والوفاء بالعقود والالتزامات على أكمل وجه، كما وردت آيات قرآنية كثيرة تحذر من الغدر والخيانة ونقض العهد.
وفي بعض الآيات نجد تأصيلاً معرفيًّا وعقيديًّا لقيمة الوفاء بالعهد ولأخلاقيات الالتزام به، وإشارة إلى النتائج المترتبة على الالتزام بها أو عدمه، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الرعد: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) إلى قوله تعالى: {... أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِـكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[31]، ومن هذه الآيات يمكننا أن نتعرف على النموذج الأساسي للوفاء بالعهد والميثاق، وهو الوفاء بالعهد مع الله تعالى، وما يترتب عليه من بلوغ أفضل النتائج: {عُقْبَى الدَّار}، واستحقاق نعمة السلام وهي من أعظم النعم: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ).
وعندما يتعلق الأمر بالمعاملات والعلاقات بين البشر -وينطبق ذلك على الأفراد والجماعات والهيئات والدول- فإن مبدأ الوفاء يتجه الأمر به مباشرة إلى المعاهدات والعقود المبرمة بين أطراف العلاقة؛ ومن ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُـــوا أَوْفُوا بِالْعُقُود}[32].
والحاصل أن المرجعية الشرعية الإسلامية تؤكد بقوة وبوضوح على أن الوفاء بالعهود والمواثيق يعد عاملاً أساسيًّا وحاسمًا في عملية التفاعل المنظم[33] في العلاقات الداخلية والخارجية على السواء. كما توضح لنا هذه المرجعية أن قاعدة الوفاء والأخلاقيات المرتبطة بها لا تقتصر فقط على الجوانب الشكلية أو القانونية، وإنما تمتد لتصبح أداة من أدوات ترسيخ مبادئ التعاون والتعايش[34]، وعاملاً أساسيًّا لترسيخ ثقافة السلام، حيث إن الإخلال بالتعهدات ونقض المواثيق هو أحد الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى الحرب وتجدد النزاعات، ومتى نشبت الحرب فإن معظم المعاهدات والاتفاقيات تسقط تلقائيًّا إلى أن تضع الحرب أوزارها، ويتم الاتفاق من جديد من أجل إقرار السلام، وهكذا إلى أن يتم الالتزام بالعهود والوفاء بالعقود على أسس العدالة والمساواة والحرية.
التعاون والاعتماد المتبادل:
جاء الأمر في القرآن الكريم "بالتعاون" المبني على فضائل الأخلاق؛ الهادف إلى تحقيق الخير الإنساني العام والقرب من الله تعالى، كما جاء فيه أيضا النهي عن "التعاون" المؤدي إلى انتهاك تلك الفضائل؛ الهادف إلى الاعتداء أو إلحاق الأذى بالآخرين، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[35].
ويتضمن الأمر "بالتعاون" تقرير الاعتماد المتبادل كسياسة عامة في تسيير العلاقات بين مختلف أطراف الوجود الاجتماعي -الأفراد والجماعات والدول- ذلك لأن التعاون لا يكون إلا بين أكثر من طرف، واللجوء إليه يعني أن كل طرف لا يستطيع بمفرده القيام بأداء مهمة ما، أو تحقيق هدف معين، ومن ثم فإن كلاًّ منهما يعتمد على الآخر في تحقيق بعض أهدافه، وإذا قام هذا التعاون أو "الاعتماد المتبادل" على أسس البر والتقوى، فإن الحصيلة النهائية له ستصب في الصالح الإنساني العام، أو بالأقل لن تلحق الضرر بالأطراف الأخرى غير الداخلة في هذا التعاون بعينه.
ونفهم من ذلك أن التعاون الذي تنشده النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية يجب أن يكون منضبطًا بمقتضيات قيم "العدالة" و"المساواة في الأخوة الإنسانية" و"الحرية" و"الوفاء" بالعهود والالتزامات، وإن أي إخلال بهذه القيم حتى لو أخذ شكل علاقة تعاونية معناه الحكم ببطلان هذه العلاقة وفقدانها للشرعية؛ حيث إن "القيم" في -النظرية الإسلامية- لا تتجزأ "ولا ينفي بعضها بعضًا"[36].
إن هذا النمط من "التعاون" ضمن -النظرية الإسلامية العامة للعلاقات الدولية- هو أحد عوامل التطور الاجتماعي والحضاري العام، وهو الذي يؤسس لبناء السلام الحقيقي بين مختلف الأمم والشعوب، ويحد من إمكانيات حدوث النزاعات أو نشوب الحروب والصراعات فيما بينها، وذلك بفضل شبكة المصالح المتبادلة، التي يؤدي التعاون المستمر إلى تكثيفها بين مختلف أطراف العلاقات الدولية في كافة المجالات؛ وفقًا لمعايير تمتزج فيها القيم والأخلاقيات المجردة مع المنافع والمصالح المادية من جهة، ويلتزم بها الجميع من جهة أخرى.
وتدلنا الوقائع التاريخية في مجال العلاقات الدولية على أن مبدأ التعاون قد يتخذ وسيلة للعدوان أو لممارسة سياسات الاستغلال والظلم؛ ذلك عندما يقوم - في جوهره - على أسس نفعية أو مصلحية بحتة، أو مجردة من القيم والمبادئ الأخلاقية.
ونعرف من أدبيات العلاقات الدولية أن هناك أنماطًا متنوعة لمثل هذا النوع من التعاون: منها "الأحلاف العسكرية"، و"التكتلات الإيديولوجية والسياسية"، و"المحاور الإقليمية والدولية"، وقد ذاق العالم منها ويلات كثيرة -قديمًا وحديثًا- ومثل هذه الأنماط هي التي ترفضها النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية؛ لأنها تقع ضمن النهي الوارد في قوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان).
التناسق والتصاعد في منظومة القيم الإسلامية:
من البيان السابق لمنظومة القيم الإسلامية نلحظ بسهولة ويسر أن مكوناتها تتسم بالتناسق والانسجام التام فيما بينها، كما أنها تتسم بالتدرج من حيث الشمول والأولوية، إذا تصورناها مرتبة على درجات سلم يصعد إلى أعلى.
فالتناسق - أو الانسجام - واضح حيث تمهد كل قيمة للتي تليها وتؤدي إليها، ومن ذلك على سبيل المثال: نجد أن "قيمة العدالة" تتسق تمامًا مع قيمة المساواة، وتؤدي إلى الإقرار بها وحمايتها بالضرورة، وهذه تتسق مع "الحرية" و"الوفاء" و"التعاون"، وتؤدي إليها كذلك، وتكفل حمايتها وصيانتها من الاضطراب ومن عوامل الخلل.
وإذا طبقنا هذا التصور النظري على موقف عملي على صعيد العلاقات الدولية يتضح لنا -مثلاً- أن مراعاة العدالة في إبرام معاهدة ما، يعني بالضرورة مراعاة قيمة المساواة بمعناها الإنساني العميق، ويعني أيضا احترام الحرية النابعة من هذه المساواة والمركوزة في أصل التكوين الإنساني؛ مهما اختلفت الأجناس أو تعددت الألوان أو تباينت المصالح، فإذا ما تتوج ذلك كله بالوفاء بالالتزامات وأداء ما تم الاتفاق عليه، كانت هناك فرصة حقيقية لممارسة علاقات تعاونية بناءة وفعالة ومثمرة لصالح التقدم الإنساني، وعلى طريق التطور الحضاري العام، وخلاف هذا التناسق لابد أن تنتج آثار في الاتجاه المعاكس للتعاون، وللتطور، وللسلام.
أما بالنسبة لخاصية التصاعد في هذه المنظومة القيمية - التي تناولناها - فهي ترتبط بأصول رؤية العالم من المنظور الإسلامي على النحو السالف ذكره، ومؤداها أن مفردات هذه المنظومة القيمية تتدرج من حيث مدى الشمول ومن حيث الأولوية؛ بما يعني أنها ليست كلها على مستوى واحد؛ فالعدالة هي القيمة العليا، وفي الوقت نفسه هي الأشمل والأولى من حيث مراعاة التطبيق، وتليها المساواة ثم الحرية، فالوفاء بالعهد، فالتعاون، وهكذا يكون الترتيب والتدرج النظري من الأشمل والأولى (الأعلى) إلى الأقل شمولاً والأدنى.
أما على المستوى التجريبي العملي فإن البحث عن هذه القيم يبدأ بفحص أسس علاقات التعاون والاعتماد المتبادل، وبيان مدى الالتزام أو عدم الالتزام بالعهود والاتفاقات عبر استقراء أوضاع أطراف هذه العلاقات من حيث تمتعها بالإرادة الحرة وبعدها عن عوامل الضغط والإكراه، ومن ثم يمكن التحقق من مراعاة قيمة المساواة في أصل الأخوة الإنسانية، واحترام قواعد العدالة التي تقضي بإعطاء كل ذي حق حقه.
وبالتأمل في خاصيتي التناسق والتصاعد في منظومة قيم النظرية الإسلامية - في مجال العلاقات الدولية - نلحظ بسهولة ويسر كذلك أن "السلام" هدف أصيل ومتغلغل في جميع مفردات هذه المنظومة، وفي كل مواقفها العملية وسياساتها الفعلية.
Read more: http://www.islamonline.net/servlet/Sate ... z1A7bHbEUS