تطور الدبلوماسيه الاسلاميه عبر العصور
مرسل: الجمعة يناير 07, 2011 2:41 pm
الدبلوماسية: كلمة يونانية الأصل مشتقة من لفظة: دبلو(diplo)، ومعناها:الطوي والثني، ومنها جاء اسم تلك الوثيقة الرسمية التي كانت تطوى وتثنى،والتي عرفت فيما بعد بـ"الدبلوما" (diploma). وكان يبعث بها الحكام بعضهم إلى بعض في علاقاتهم الدولية الرسمية.
وقد تطور النشاط الدبلوماسي نسبيا بممارسة الرومان له،كما مارست المجتمعات القديمة العمل الدبلوماسي منذ آلاف السنين،وعرف به الصينيون، والهنود القدماء، والفراعنة،كما مارسه العرب في الجاهلية والإسلام.
صحيح أن مصطلح الدبلوماسية حديث العهد في العلاقات الدولية، بيد أن جوهر الدبلوماسية من حيث هو التفاوض والتعامل السلمي بين الدول[1]، وقد عرفت الدبلوماسية منذ أقدم العصور،حيث كانت العلاقات المتبادلة معروفة بين الدول، إنما لم تكن هذه العلاقات منتظمة في بادئ أمرها، بل كانت ترتب في مناسبات معينة بواسطة رسل أو مندوبين خصوصيين.
وقد نشأت الدبلوماسية كوسيلة اتصال وتفاهم بين الجماعات السياسية المتجاورة منذ التاريخ القديم[2]، ولكن مع نمو التعامل الدولي، سار العرف تدريجيا، واستمر على إرسال السفراء والممثلين الدبلوماسيين، ثم تثبت اعتمادهم بصورة دائمة منذ معاهدة "وستفاليا" لسنة 1648،وهكذا أصبح التمثيل الدبلوماسي والقنصلي ثابتا ودائما، وصار من مقومات العلاقات الخارجية بين الدول المستقلة، حيث مارسته الدول والأمم الأوربية الحديثة كالفرنسيين والإنجليز.
وقد صنف هؤلاء السفراء والممثلون في فئات متعددة، وفق مكانتهم ووظائفهم واختصاصاتهم، ووقعت المعاهدات، ووضعت التركيبات لتفصيل مهامهم، ولضبط المراسيم المخصوصة بمناسبة بداية عملهم ونهايته،، ولتعيين حصاناتهم،وامتيازاتهم،ومن أهم هذه المعاهدات الدولية اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة1961[3].
وكذلك أقر الشرع والعرف عند العرب كثيرا من هذه القواعد الدبلوماسية، فلم تكن العلاقات بين شبه الجزيرة العربية وجوارها قائمة على الحروب الدائمة، ولا على القطيعة والعزلة، ثمة علاقات سلمية بعد انتهاء الحرب، أو تجنبا لوقوعها فضلا عن العلاقات التجارية وتبادل الوفود و البعثات[4].
الرسول لغة وفي الأصل، هو صاحب الرسالة الذي يتابع أخبار الذي بعثه. والسفير هو الرسول والمصلح بين القوم[5].وقد استعملت الكلمتان، اصطلاحا، بمعنى واحد، للموفد الدبلوماسي، وإن غلب أحيانا المدلول الديني في استعمال كلمة الرسول، وغلب معنى الوساطة والإصلاح في استعمال كلمة السفير.
أولا: الدبلوماسية في العهد النبوي:
لم يخل الشرع الإسلامي من إبراز أهمية التمثيل الدبلوماسي كأحد الوسائل الأساسية للتواصل بين الشعوب. فالنظام الداخلي في خطوطه العريضة لدولة الإسلام قد وضع مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكتابته كتاب الموادعة بينه وبين اليهود والمشركين[6]، وأما النظام الخارجي لهذه الدولة الفتية فقد وضع في السنة السادسة حين انتزعت الجماعة الإسلامية الاعتراف بها في صلح الحديبية.
وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم السفراء والمبعوثين إلى ملوك البلاد المجاورة، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى "أكيدر دومة" وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى[7].
ويمكن تحديد التاريخ الذي انطلق فيه سفراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أخرجه ابن سعد في الطبقات من طريق شيخه الواقدي عن عدد شيوخه بأسانيدهم عن عدد من الصحابة قالوا: لمار رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة سنة ست، أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وكتب إليهم كتبا، فقيل يا رسول الله إن الملوك لا يقرؤون كتابا إلا مختوما، فاتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خاتما من فضة فصه منه نقشه ثلاثة أسطر( محمد رسول الله) وختم به الكتب فخرج ستة نفر منهم في يوم واحد، وذلك في المحرم سنة سبه، وأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم، فكان أول من بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي[8].
ثم ذكر ابن سعد الستة الذين أشار إليهم النص السابق وذكر غيرهم ممن أرسله عليه الصلاة والسلام: "دحية بن خليفة الكلبي" إلى هرقل ملك الروم، وعبد الله بن حذافة السهمي إلى "كسرى بن هرمز"، و"عمرو بن العاص" إلى جيفر وعبد، ابني الجلندي بن المستكبر الأزديين بعمان، و"شجاع بن وهب" إلى "الحارث بن أبي شمر الغساني" بدمشق، وسليط بن عمرو العامري إلى "هوذة بن علي الحنفي" صاحب اليمامة، والمهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن[9].
وقد كانت صيغة كتبه عليه السلام إلى هؤلاء تقريبا متقاربة[10]،وقد زود هؤلاء الرسل بكتب ووثائق تؤيد صحة انتدابهم كما توضح الغرض منه[11]، وكما اتضح كان الغرض من هذه الرسائل محددا بالمرحلة التي كانت تمر بها الدولة الإسلامية وكانت تهدف إلى الدعوة إلى الإسلام. وقد تباينت ردود هؤلاء الملوك والأمراء على الرسل بين الرد اللطيف مثل هرقل عظيم الروم[12] والمقوقس عظيم القبط والذي أرسل هدايا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم[13] وكذلك ملك الحبشة فعل، وبين الرد القبيح مثل كسرى ملك الفرس الذي مزق كتاب رسول الله.
إن الرسل الذين أوفدهم رسول الله وبعد الرجوع إلى تراجمهم ممن يملأ العين مهابة، والقلب شجاعة، والفكر معرفة، والمشاعر روية وثباتا، فدحية مثلا كان من أجمل الناس صورة، وكان جبريل ينزل أحيانا على صورته وقد قيل فيه كأن على وجهه مسحة ملك.
وأما "عمرو الضمري" فهو معدود في رجالات العرب جرأة وشجاعة ونجدة وله مواقف في السيرة عجيبة منها ذهابه لحمل خبيب بن عدي عندما صلبه القرشيون بمكة.
وأما عمرو بن العاص، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيه ويقربه لمعرفته وشجاعته، وقد ولاه غزوة ذات السلاسل وأمده بأبي بكر وأبي عبيدة بن الجراح، ثم ولاه عمان فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليها، وقد جاء في الحديث: إذا أبردتم إلى بريدا فابعثوه حسن الوجه، حسن الاسم[14] وقال عمر بن الخطاب: يؤذن لكم فيقدم أحسنكم اسما، فإذا دخلتم قدمنا أحسنكم وجها، فإذا نطقتم ميزتكم ألسنتكم"[15].
وقد تأكد من الناحية التاريخية والمادية صحة إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الكتب لبعض الملوك، وهذه الأدلة المادية تحسم أي شك أو نقاش في صحة إرسال هذه الكتب والرسائل خاصة من قبل المستشرقين وهو أنفسهم الذين عثروا على هذه الكتب. ومن بين هذه الكتب التي عثروا عليها: "كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس وجده المستشرق الفرنسي "بارتيملي"، وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى الذي عثر عليه المستشرق الألماني" فلابئير"، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي الذي نشره الأستاذ الانجليزي "دنلوب" [16].
ويطول بنا الحديث إن سقنا جميع النصوص الواردة في كتب السيرة والفقه حول الدبلوماسية النبوية، وما يمكن ملاحظته هو أن:
لأول مرة في تاريخ البشرية تتحول مسيرة السفارة ومهمتها إلى هداية ودعوة إلى مبادئ ومثل وقيم، فقد كان قبل الإسلام علاقات الدول الدبلوماسية مع بعضها مادية محضة، أو عاطفية تدخل في إطار المجاملة، أوفي مهمة إبرام عقد للصلح والسلام أو تجديد ما رث من معاهدة قديمة، وقد كان هذا معروفا قبل الإسلام، فقد كانت بعوث ملوك قدماء المصريين ووفودهم ترسل عبر البوادي والقفار إلى ملوك ورؤساء الدول المجاورة لعقد المعاهدات أو توثيق الروابط و الأواصر بالزواج والمعاهدة وكانت الوفود تذهب أحيانا لحضور أفراح الملوك الآخرين وحفلات تتويجهم نيابة عن ملوكهم،، وكان بعضهم يرسل السفراء لجلب ما هو نادر لا وجود له في بلاده، أو إهداء ماهو نادر وثمين لملك أو أمير يخطب وده وتطلب محالفته[17].
واستمرت الدبلوماسية تنحو هذا المنحى قورنا عديدة قبل الإسلام وبعد الإسلام وحتى اليوم،وقد قيل في وصف الدبلوماسي على الطريقة العربية: يتدرب وهو في أول الدرج في مطلع حياته الدبلوماسية على أن يكون في المساومة كثير الأخذ قليل العطاء[18]. ولكن هذا تغير تماما وزال مفهومه في الدبلوماسية الإسلامية من خلال النص القرآني الكريم، ومن خلال ما شرعه النبي الحكيم صلوات الله وسلامه عليه،أما النص القرآني، فقد بين أن اختلاف الأمم والشعوب ليس ظاهرة سيئة أو منكرة، بل على دليل على قدرة الله تعالى: " ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين"[19]، وهذه التعددية وهذا الاختلاف يجب أن يكون في إطار التعارف والتآلف " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" [20].
2- تعميم الرسل والسفراء لجميع الشعوب، وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأساس وفهمه منه صحابته الكرام بأن مهمة الهداية لا تنحصر في قوم أو شعب بل يجب أن تبلغ الآفاق، ولهذا أرسل صلوات الله عليه وسلم ستة سفراء في غداة واحدة، وأتبعهم بآخرين، فكانت رسله شاملة لجميع الأمم المحيطة بالعرب من جميع الجهات، وشاملة لجميع عظماء العرب، فالمقوقس في مصر وما وراءه و كسرى في الشرق وما وراءه وكان أعظم ملوك الشرق، وهرقل وما وراءه من الدولة الرومانية والنجاشي وما وراءه في إفريقيا وسطها وشرقها وجميع سادة العرب في اليمامة وتهامة ونجد وخليج عمان و حضرموت، وأطراف الشام و العراق، وأهل نجران واليمن وحمير وهمذان. ومن استقراء هذه البعثات ندرك أنها توجهت إلى جميع ذوي السلطة والسيادة في العالم آنذاك، ولهذا قال أنس بن مالك كما تقدم في الحديث قوله: كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر والنجاشي وأكيدر دومة وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى. وقد كانت هذه البعوث العديدة الشاملة منعطفا كبيرا ومعلما بارزا في تاريخ الإنسانية إذ جعلت الإسلام والأمة الإسلامية الشغل الشاغل لعالم، أي أن الإسلام حاضر في قلب وتفكير العالم على الدوام في جميع تقلباته وأحواله، وجعلت العالم في قلب وتفكير المسلم والعالم الإسلامي.
3- الاختيار المناسب للرسل الذين أوفدهم رسول الله إلى عظماء عصره لأداء رسالته فقد اختارهم من السابقين إلى الإسلام الراسخين في معرفته المشهود لهم بالفضل، ووفور العقل، وطلاقة اللسان، وقوة الحجة والبيان وقوة الجنان و المعرفة بمن أرسلوا إليهم. وقد جاء في أخبار هذه البعثات أن هؤلاء المبعوثين كانوا على معرفة بالبلاد التي أرسلوا إليها والتردد إليها قبل بعثهم، ولهذا جاء في خبرهم أنهم أصبحوا يعرفون لغات الأقوام التي بعثهم إليها قبل بعثهم، وكان لهم مواقف على غاية الأهمية تصلح مثلا يحتذى ودستورا يوضع أمام هذا الصنف من الناس.
4- إقراره صلى الله عليه وسلم للصفة التي منحتها الأمم والشعوب لقادتها ومخاطبتهم بها دون تحقير أو ازدراء، ومن استعراض الكتب النبوية وجدنا أنه قد خاطب هرقل بقوله صلى الله عليه وسلم: "من محمد رسول الله الى هرقل عظيم الروم" وخاطب كسرى بقوله صلى الله عليه وسلم: " من محمد بن عبد الله إلى كسرى عظيم الفرس" وإلى النجاشي بقوله: " من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة"، وإلى المقوقس بقوله: " من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط".
وقد حملهم مسؤولية شعوبهم، ونبههم إلى خطورة مكانتهم في الهداية والضلالة لمن يسوسونهم ويتولون أمرهم،وفي ذلك تنبيه واضح على أهمية فتح أبواب بالإسلام داخل الأمم والشعوب الأخرى سلما ودون إكراه، أو موانع تتخذها تلك الدول لا سيما والإسلام أباح وجود النصارى واليهود والمجوس في دولته وأعطاهم الأمان والحرية الفكرية والعقائدية و القيام بعبادتهم وأعمالهم الدينية ولهذا كانت تطلب الرسائل النبوية من عظماء تلك الدول وشعوبها أن تفتح الطريق أمام التعريف بالإسلام.
1- حافظ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان سائدا في عصره من معاني الخير والإنسانية في العلاقات والعهود والمواثيق أو البعثات فكان يستقبل الرسل وهم له مكذبون، ويؤمنهم على حياتهم ومتاعهم بل وينزلهم ويكرمهم في دار الضيافة، ويهتم بهم ويشرح له رسالة الإسلام ولا يقبل منهم البقاء عنده ولو أسلموا طالما هم رسل حتى يعودوا فيؤدوا رسالتهم،فمن بدا له أن يرجع فليرجع، وهذا من أهم ما يمكن أن يلاحظ وهو ما يسمى اليوم باللجوء السياسي لأراد البعثات الدبلوماسية وجاء في ذلك النص صريحا واضحا، فعن أبي رافع أنه أقبل بكتاب من قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله، إني والله لا أرجع إليهم أبدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إليهم، فإن كان في قلبك الذي في قلبك الآن، فارجع، قال أبو رافع: فرجعت إليهم، ثم إني أقبلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت[21].
2- أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفرائه ومبعوثيه صلاحية إبرام المعاهدات الدولية، وأكد على الوفاء بها في إطار توجيهات عامة تنطلق من روح الإسلام ونصوص القرآن، كقوله تعالى: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله". وجاء عنه صلى الله عليه وسلم عن عدد من الصاحبة قوله صلى الله عليه وسلم:
" ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم".وفي رواية: "يد المسلمين على من سواهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم"[22].
إن الدبلوماسية التي اتسم بها النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة شؤون الحكم، أو مارسها في خطاباته السياسية والإعلامية، أو في الاتصال بالناس، أو في الانفتاح على العالم، كانت وما زالت هي العين الصافي لكل من جاء بعده من الخلفاء والرؤساء والولاة والدعاة[23].
ثانيا: الدبلوماسية في العصر الأموي:
بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم،حافظ الخلفاء الراشدون على النهج الدبلوماسي الذي خطه رسول الله عليه وسلم، واستمرت البعثات الدبلوماسية والفتوحات الإسلامية.
وبعد أن صارت دمشق عاصمة الدولة الأموية وغدت أقوى الحواضر الإسلامية وأقربها الى القسطنطينية عاصمة دولة بيزنطة وريثة الدولة الرومانية، فنشطت الدبلوماسية الإسلامية في تقديم العديد من الخدمات الإنمائية والتجارية حال السلم،بل قامت أيضا في حال الحرب بجهود واضحة ضخمة للوصول الى فك الاشتباك والنزاع بين الطرفين في العديد من الحالات.
ومما يروى في هذا أن الخليفة عبد الملك بن مروان أوفد الشعبي التابعي سفيرا الى الإمبراطور جوستنيان الثاني في العام 70 للهجرة، وذلك لحل بعض المنازعات وتوطيد العلاقات بين الطرفين، وقد أثنى الإمبراطور في كتابه الى الخليفة على لباقة سفيره الشعبي، مهارته، وحنكته، وفصاحته، ونجاحه في إدارة الحوار والوصول إلى حلول مقبولة لدى الطرفين.
ثالثا: الدبلوماسية في العصر العباسي:
استمرت الدبلوماسية الإسلامية في أداء دورها الدعوي والإنساني وتطويره في العصر العباسي، ومن أشهر النشاطات إرسال هارون الرشيد وفدا من المبعوثين، معهم الكثير من الهدايا والابتكارات الإسلامية العلمية – ومنها الساعة الميكانيكية الدقاقة- إلى شارلمان ملك الفرنجة، الذي أبدى هو وحاشيته إعجابهم بتلك الهدايا القيمة وبما وصل إليه المسلمون- وقتذاك، من اختراعات وحضارة وتقدم.
كما أرسل الخليفة المتوكل نصر بن الأزهر سفيرا إلى إمبراطور الروم ميخائيل لدراسة موضوع تبادل الأسرى وقبول الفداء بين المسلمين ودولة الروم. وقد نجح هذا السفير في مهمته وافتدى 2300 أسير من المسلمين كانوا في بلاد الروم.
رابعا: الدبلوماسية الإسلامية في عصور لاحقة:
تابعت الدبلوماسية الإسلامية نشاطها حال السلم وحال الحرب بين الدولة الإسلامية والدول المجاورة، وذلك على أيدي الأمويين في الأندلس، ثم الفاطميين في مصر، ثم الأيوبيين في الشام، ثم العثمانيين في اسطنبول.
ومن هذه النشاطات الدبلوماسية المروية عن الفاطميين إرسال الخليفة المستنصر بالله عددا من المبعوثين إلى قسطنطين ملك الروم في عام 466هـ ، للتفاوض معه من أجل تزويد مصر بكميات كبيرة من القمح، بسبب ما حل بها من قحط وجفاف،فوافق الإمبراطور على ذلك، لكن المنية عاجلته قبل إنفاذ الصفقة، فخلفته في الحكم الإمبراطورة "تيودورا" واشترطت على المستنصر الدخول معها في تحالف عسكري ضد خصومها السياسيين فأبى ذلك، فامتنعت من تنفيذ الاتفاق وفشلت البعثة الدبلوماسية في تحقيق مهمتها[24].
وقد درج العرف في الدول الإسلامية على الاحتفال بالرسل والسفراء منذ استقبالهم، وعند توديعهم، وذلك بكثير من الحفاوة والإكرام والإجلال،فكانت تقام لهم الزينات السخية، والمراسم الرائعة، والمواكب الفخمة، مقرونة بمظاهر البذخ والترف، وإيقاع الرهبة في نفوس الوافدين، حتى ينقلوا انطباعاتهم هذه الى ملوكهم ودولهم، وهو ترتيب فيه كثير من حسن التبشير والدعاية السياسية.
وقد بالغ العباسيون في أمثال هذه المراسم والمظاهر، فكانوا أحيانا يوفدون من يستقبل الرسول قبل وصوله الى العاصمة الإسلامية، أو يكلفون باستقباله أحد قواد الجيش أو احد القضاة، وكانوا يحثون الناس على الخروج في المواكب الكبيرة لهذا الاستقبال[25].
وكانت العادة أحيانا أن ينزل الرسول في دار معينة يستريح فيها، ثم يقابل الوزير ليعين له موعدا لمقابلة الخليفة. وكان أثناء المقابلة يقدم له كتابا موجها إليه من مرسله، وكان يسمى الجواز، وهو شبيه بأوراق الاعتماد اليوم، وكثيرا ما كان الرسل يحملون الهدايا، ويتلقونه بالمبادلة.
وكانت سارية الأمم الغربية على نوع من هذا الترتيب، لا يزال متبعا في الوقت الحاضر، مع كثير من التنظيم والتبسيط، حسب مناهج مضبوطة ومحدودة، بما يسمى بالبروتوكول الدبلوماسي، فهذا البروتوكول يرتب طريقة الاستقبال، وتقديم أوراق الاعتماد، وما يتفرع عن كل ذلك من أصول وتفاصيل.
وقد تطور النشاط الدبلوماسي نسبيا بممارسة الرومان له،كما مارست المجتمعات القديمة العمل الدبلوماسي منذ آلاف السنين،وعرف به الصينيون، والهنود القدماء، والفراعنة،كما مارسه العرب في الجاهلية والإسلام.
صحيح أن مصطلح الدبلوماسية حديث العهد في العلاقات الدولية، بيد أن جوهر الدبلوماسية من حيث هو التفاوض والتعامل السلمي بين الدول[1]، وقد عرفت الدبلوماسية منذ أقدم العصور،حيث كانت العلاقات المتبادلة معروفة بين الدول، إنما لم تكن هذه العلاقات منتظمة في بادئ أمرها، بل كانت ترتب في مناسبات معينة بواسطة رسل أو مندوبين خصوصيين.
وقد نشأت الدبلوماسية كوسيلة اتصال وتفاهم بين الجماعات السياسية المتجاورة منذ التاريخ القديم[2]، ولكن مع نمو التعامل الدولي، سار العرف تدريجيا، واستمر على إرسال السفراء والممثلين الدبلوماسيين، ثم تثبت اعتمادهم بصورة دائمة منذ معاهدة "وستفاليا" لسنة 1648،وهكذا أصبح التمثيل الدبلوماسي والقنصلي ثابتا ودائما، وصار من مقومات العلاقات الخارجية بين الدول المستقلة، حيث مارسته الدول والأمم الأوربية الحديثة كالفرنسيين والإنجليز.
وقد صنف هؤلاء السفراء والممثلون في فئات متعددة، وفق مكانتهم ووظائفهم واختصاصاتهم، ووقعت المعاهدات، ووضعت التركيبات لتفصيل مهامهم، ولضبط المراسيم المخصوصة بمناسبة بداية عملهم ونهايته،، ولتعيين حصاناتهم،وامتيازاتهم،ومن أهم هذه المعاهدات الدولية اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة1961[3].
وكذلك أقر الشرع والعرف عند العرب كثيرا من هذه القواعد الدبلوماسية، فلم تكن العلاقات بين شبه الجزيرة العربية وجوارها قائمة على الحروب الدائمة، ولا على القطيعة والعزلة، ثمة علاقات سلمية بعد انتهاء الحرب، أو تجنبا لوقوعها فضلا عن العلاقات التجارية وتبادل الوفود و البعثات[4].
الرسول لغة وفي الأصل، هو صاحب الرسالة الذي يتابع أخبار الذي بعثه. والسفير هو الرسول والمصلح بين القوم[5].وقد استعملت الكلمتان، اصطلاحا، بمعنى واحد، للموفد الدبلوماسي، وإن غلب أحيانا المدلول الديني في استعمال كلمة الرسول، وغلب معنى الوساطة والإصلاح في استعمال كلمة السفير.
أولا: الدبلوماسية في العهد النبوي:
لم يخل الشرع الإسلامي من إبراز أهمية التمثيل الدبلوماسي كأحد الوسائل الأساسية للتواصل بين الشعوب. فالنظام الداخلي في خطوطه العريضة لدولة الإسلام قد وضع مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكتابته كتاب الموادعة بينه وبين اليهود والمشركين[6]، وأما النظام الخارجي لهذه الدولة الفتية فقد وضع في السنة السادسة حين انتزعت الجماعة الإسلامية الاعتراف بها في صلح الحديبية.
وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم السفراء والمبعوثين إلى ملوك البلاد المجاورة، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى "أكيدر دومة" وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى[7].
ويمكن تحديد التاريخ الذي انطلق فيه سفراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أخرجه ابن سعد في الطبقات من طريق شيخه الواقدي عن عدد شيوخه بأسانيدهم عن عدد من الصحابة قالوا: لمار رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة سنة ست، أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وكتب إليهم كتبا، فقيل يا رسول الله إن الملوك لا يقرؤون كتابا إلا مختوما، فاتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خاتما من فضة فصه منه نقشه ثلاثة أسطر( محمد رسول الله) وختم به الكتب فخرج ستة نفر منهم في يوم واحد، وذلك في المحرم سنة سبه، وأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم، فكان أول من بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي[8].
ثم ذكر ابن سعد الستة الذين أشار إليهم النص السابق وذكر غيرهم ممن أرسله عليه الصلاة والسلام: "دحية بن خليفة الكلبي" إلى هرقل ملك الروم، وعبد الله بن حذافة السهمي إلى "كسرى بن هرمز"، و"عمرو بن العاص" إلى جيفر وعبد، ابني الجلندي بن المستكبر الأزديين بعمان، و"شجاع بن وهب" إلى "الحارث بن أبي شمر الغساني" بدمشق، وسليط بن عمرو العامري إلى "هوذة بن علي الحنفي" صاحب اليمامة، والمهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن[9].
وقد كانت صيغة كتبه عليه السلام إلى هؤلاء تقريبا متقاربة[10]،وقد زود هؤلاء الرسل بكتب ووثائق تؤيد صحة انتدابهم كما توضح الغرض منه[11]، وكما اتضح كان الغرض من هذه الرسائل محددا بالمرحلة التي كانت تمر بها الدولة الإسلامية وكانت تهدف إلى الدعوة إلى الإسلام. وقد تباينت ردود هؤلاء الملوك والأمراء على الرسل بين الرد اللطيف مثل هرقل عظيم الروم[12] والمقوقس عظيم القبط والذي أرسل هدايا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم[13] وكذلك ملك الحبشة فعل، وبين الرد القبيح مثل كسرى ملك الفرس الذي مزق كتاب رسول الله.
إن الرسل الذين أوفدهم رسول الله وبعد الرجوع إلى تراجمهم ممن يملأ العين مهابة، والقلب شجاعة، والفكر معرفة، والمشاعر روية وثباتا، فدحية مثلا كان من أجمل الناس صورة، وكان جبريل ينزل أحيانا على صورته وقد قيل فيه كأن على وجهه مسحة ملك.
وأما "عمرو الضمري" فهو معدود في رجالات العرب جرأة وشجاعة ونجدة وله مواقف في السيرة عجيبة منها ذهابه لحمل خبيب بن عدي عندما صلبه القرشيون بمكة.
وأما عمرو بن العاص، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيه ويقربه لمعرفته وشجاعته، وقد ولاه غزوة ذات السلاسل وأمده بأبي بكر وأبي عبيدة بن الجراح، ثم ولاه عمان فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليها، وقد جاء في الحديث: إذا أبردتم إلى بريدا فابعثوه حسن الوجه، حسن الاسم[14] وقال عمر بن الخطاب: يؤذن لكم فيقدم أحسنكم اسما، فإذا دخلتم قدمنا أحسنكم وجها، فإذا نطقتم ميزتكم ألسنتكم"[15].
وقد تأكد من الناحية التاريخية والمادية صحة إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الكتب لبعض الملوك، وهذه الأدلة المادية تحسم أي شك أو نقاش في صحة إرسال هذه الكتب والرسائل خاصة من قبل المستشرقين وهو أنفسهم الذين عثروا على هذه الكتب. ومن بين هذه الكتب التي عثروا عليها: "كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس وجده المستشرق الفرنسي "بارتيملي"، وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى الذي عثر عليه المستشرق الألماني" فلابئير"، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي الذي نشره الأستاذ الانجليزي "دنلوب" [16].
ويطول بنا الحديث إن سقنا جميع النصوص الواردة في كتب السيرة والفقه حول الدبلوماسية النبوية، وما يمكن ملاحظته هو أن:
لأول مرة في تاريخ البشرية تتحول مسيرة السفارة ومهمتها إلى هداية ودعوة إلى مبادئ ومثل وقيم، فقد كان قبل الإسلام علاقات الدول الدبلوماسية مع بعضها مادية محضة، أو عاطفية تدخل في إطار المجاملة، أوفي مهمة إبرام عقد للصلح والسلام أو تجديد ما رث من معاهدة قديمة، وقد كان هذا معروفا قبل الإسلام، فقد كانت بعوث ملوك قدماء المصريين ووفودهم ترسل عبر البوادي والقفار إلى ملوك ورؤساء الدول المجاورة لعقد المعاهدات أو توثيق الروابط و الأواصر بالزواج والمعاهدة وكانت الوفود تذهب أحيانا لحضور أفراح الملوك الآخرين وحفلات تتويجهم نيابة عن ملوكهم،، وكان بعضهم يرسل السفراء لجلب ما هو نادر لا وجود له في بلاده، أو إهداء ماهو نادر وثمين لملك أو أمير يخطب وده وتطلب محالفته[17].
واستمرت الدبلوماسية تنحو هذا المنحى قورنا عديدة قبل الإسلام وبعد الإسلام وحتى اليوم،وقد قيل في وصف الدبلوماسي على الطريقة العربية: يتدرب وهو في أول الدرج في مطلع حياته الدبلوماسية على أن يكون في المساومة كثير الأخذ قليل العطاء[18]. ولكن هذا تغير تماما وزال مفهومه في الدبلوماسية الإسلامية من خلال النص القرآني الكريم، ومن خلال ما شرعه النبي الحكيم صلوات الله وسلامه عليه،أما النص القرآني، فقد بين أن اختلاف الأمم والشعوب ليس ظاهرة سيئة أو منكرة، بل على دليل على قدرة الله تعالى: " ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين"[19]، وهذه التعددية وهذا الاختلاف يجب أن يكون في إطار التعارف والتآلف " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" [20].
2- تعميم الرسل والسفراء لجميع الشعوب، وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأساس وفهمه منه صحابته الكرام بأن مهمة الهداية لا تنحصر في قوم أو شعب بل يجب أن تبلغ الآفاق، ولهذا أرسل صلوات الله عليه وسلم ستة سفراء في غداة واحدة، وأتبعهم بآخرين، فكانت رسله شاملة لجميع الأمم المحيطة بالعرب من جميع الجهات، وشاملة لجميع عظماء العرب، فالمقوقس في مصر وما وراءه و كسرى في الشرق وما وراءه وكان أعظم ملوك الشرق، وهرقل وما وراءه من الدولة الرومانية والنجاشي وما وراءه في إفريقيا وسطها وشرقها وجميع سادة العرب في اليمامة وتهامة ونجد وخليج عمان و حضرموت، وأطراف الشام و العراق، وأهل نجران واليمن وحمير وهمذان. ومن استقراء هذه البعثات ندرك أنها توجهت إلى جميع ذوي السلطة والسيادة في العالم آنذاك، ولهذا قال أنس بن مالك كما تقدم في الحديث قوله: كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر والنجاشي وأكيدر دومة وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى. وقد كانت هذه البعوث العديدة الشاملة منعطفا كبيرا ومعلما بارزا في تاريخ الإنسانية إذ جعلت الإسلام والأمة الإسلامية الشغل الشاغل لعالم، أي أن الإسلام حاضر في قلب وتفكير العالم على الدوام في جميع تقلباته وأحواله، وجعلت العالم في قلب وتفكير المسلم والعالم الإسلامي.
3- الاختيار المناسب للرسل الذين أوفدهم رسول الله إلى عظماء عصره لأداء رسالته فقد اختارهم من السابقين إلى الإسلام الراسخين في معرفته المشهود لهم بالفضل، ووفور العقل، وطلاقة اللسان، وقوة الحجة والبيان وقوة الجنان و المعرفة بمن أرسلوا إليهم. وقد جاء في أخبار هذه البعثات أن هؤلاء المبعوثين كانوا على معرفة بالبلاد التي أرسلوا إليها والتردد إليها قبل بعثهم، ولهذا جاء في خبرهم أنهم أصبحوا يعرفون لغات الأقوام التي بعثهم إليها قبل بعثهم، وكان لهم مواقف على غاية الأهمية تصلح مثلا يحتذى ودستورا يوضع أمام هذا الصنف من الناس.
4- إقراره صلى الله عليه وسلم للصفة التي منحتها الأمم والشعوب لقادتها ومخاطبتهم بها دون تحقير أو ازدراء، ومن استعراض الكتب النبوية وجدنا أنه قد خاطب هرقل بقوله صلى الله عليه وسلم: "من محمد رسول الله الى هرقل عظيم الروم" وخاطب كسرى بقوله صلى الله عليه وسلم: " من محمد بن عبد الله إلى كسرى عظيم الفرس" وإلى النجاشي بقوله: " من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة"، وإلى المقوقس بقوله: " من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط".
وقد حملهم مسؤولية شعوبهم، ونبههم إلى خطورة مكانتهم في الهداية والضلالة لمن يسوسونهم ويتولون أمرهم،وفي ذلك تنبيه واضح على أهمية فتح أبواب بالإسلام داخل الأمم والشعوب الأخرى سلما ودون إكراه، أو موانع تتخذها تلك الدول لا سيما والإسلام أباح وجود النصارى واليهود والمجوس في دولته وأعطاهم الأمان والحرية الفكرية والعقائدية و القيام بعبادتهم وأعمالهم الدينية ولهذا كانت تطلب الرسائل النبوية من عظماء تلك الدول وشعوبها أن تفتح الطريق أمام التعريف بالإسلام.
1- حافظ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان سائدا في عصره من معاني الخير والإنسانية في العلاقات والعهود والمواثيق أو البعثات فكان يستقبل الرسل وهم له مكذبون، ويؤمنهم على حياتهم ومتاعهم بل وينزلهم ويكرمهم في دار الضيافة، ويهتم بهم ويشرح له رسالة الإسلام ولا يقبل منهم البقاء عنده ولو أسلموا طالما هم رسل حتى يعودوا فيؤدوا رسالتهم،فمن بدا له أن يرجع فليرجع، وهذا من أهم ما يمكن أن يلاحظ وهو ما يسمى اليوم باللجوء السياسي لأراد البعثات الدبلوماسية وجاء في ذلك النص صريحا واضحا، فعن أبي رافع أنه أقبل بكتاب من قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله، إني والله لا أرجع إليهم أبدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إليهم، فإن كان في قلبك الذي في قلبك الآن، فارجع، قال أبو رافع: فرجعت إليهم، ثم إني أقبلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت[21].
2- أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفرائه ومبعوثيه صلاحية إبرام المعاهدات الدولية، وأكد على الوفاء بها في إطار توجيهات عامة تنطلق من روح الإسلام ونصوص القرآن، كقوله تعالى: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله". وجاء عنه صلى الله عليه وسلم عن عدد من الصاحبة قوله صلى الله عليه وسلم:
" ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم".وفي رواية: "يد المسلمين على من سواهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم"[22].
إن الدبلوماسية التي اتسم بها النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة شؤون الحكم، أو مارسها في خطاباته السياسية والإعلامية، أو في الاتصال بالناس، أو في الانفتاح على العالم، كانت وما زالت هي العين الصافي لكل من جاء بعده من الخلفاء والرؤساء والولاة والدعاة[23].
ثانيا: الدبلوماسية في العصر الأموي:
بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم،حافظ الخلفاء الراشدون على النهج الدبلوماسي الذي خطه رسول الله عليه وسلم، واستمرت البعثات الدبلوماسية والفتوحات الإسلامية.
وبعد أن صارت دمشق عاصمة الدولة الأموية وغدت أقوى الحواضر الإسلامية وأقربها الى القسطنطينية عاصمة دولة بيزنطة وريثة الدولة الرومانية، فنشطت الدبلوماسية الإسلامية في تقديم العديد من الخدمات الإنمائية والتجارية حال السلم،بل قامت أيضا في حال الحرب بجهود واضحة ضخمة للوصول الى فك الاشتباك والنزاع بين الطرفين في العديد من الحالات.
ومما يروى في هذا أن الخليفة عبد الملك بن مروان أوفد الشعبي التابعي سفيرا الى الإمبراطور جوستنيان الثاني في العام 70 للهجرة، وذلك لحل بعض المنازعات وتوطيد العلاقات بين الطرفين، وقد أثنى الإمبراطور في كتابه الى الخليفة على لباقة سفيره الشعبي، مهارته، وحنكته، وفصاحته، ونجاحه في إدارة الحوار والوصول إلى حلول مقبولة لدى الطرفين.
ثالثا: الدبلوماسية في العصر العباسي:
استمرت الدبلوماسية الإسلامية في أداء دورها الدعوي والإنساني وتطويره في العصر العباسي، ومن أشهر النشاطات إرسال هارون الرشيد وفدا من المبعوثين، معهم الكثير من الهدايا والابتكارات الإسلامية العلمية – ومنها الساعة الميكانيكية الدقاقة- إلى شارلمان ملك الفرنجة، الذي أبدى هو وحاشيته إعجابهم بتلك الهدايا القيمة وبما وصل إليه المسلمون- وقتذاك، من اختراعات وحضارة وتقدم.
كما أرسل الخليفة المتوكل نصر بن الأزهر سفيرا إلى إمبراطور الروم ميخائيل لدراسة موضوع تبادل الأسرى وقبول الفداء بين المسلمين ودولة الروم. وقد نجح هذا السفير في مهمته وافتدى 2300 أسير من المسلمين كانوا في بلاد الروم.
رابعا: الدبلوماسية الإسلامية في عصور لاحقة:
تابعت الدبلوماسية الإسلامية نشاطها حال السلم وحال الحرب بين الدولة الإسلامية والدول المجاورة، وذلك على أيدي الأمويين في الأندلس، ثم الفاطميين في مصر، ثم الأيوبيين في الشام، ثم العثمانيين في اسطنبول.
ومن هذه النشاطات الدبلوماسية المروية عن الفاطميين إرسال الخليفة المستنصر بالله عددا من المبعوثين إلى قسطنطين ملك الروم في عام 466هـ ، للتفاوض معه من أجل تزويد مصر بكميات كبيرة من القمح، بسبب ما حل بها من قحط وجفاف،فوافق الإمبراطور على ذلك، لكن المنية عاجلته قبل إنفاذ الصفقة، فخلفته في الحكم الإمبراطورة "تيودورا" واشترطت على المستنصر الدخول معها في تحالف عسكري ضد خصومها السياسيين فأبى ذلك، فامتنعت من تنفيذ الاتفاق وفشلت البعثة الدبلوماسية في تحقيق مهمتها[24].
وقد درج العرف في الدول الإسلامية على الاحتفال بالرسل والسفراء منذ استقبالهم، وعند توديعهم، وذلك بكثير من الحفاوة والإكرام والإجلال،فكانت تقام لهم الزينات السخية، والمراسم الرائعة، والمواكب الفخمة، مقرونة بمظاهر البذخ والترف، وإيقاع الرهبة في نفوس الوافدين، حتى ينقلوا انطباعاتهم هذه الى ملوكهم ودولهم، وهو ترتيب فيه كثير من حسن التبشير والدعاية السياسية.
وقد بالغ العباسيون في أمثال هذه المراسم والمظاهر، فكانوا أحيانا يوفدون من يستقبل الرسول قبل وصوله الى العاصمة الإسلامية، أو يكلفون باستقباله أحد قواد الجيش أو احد القضاة، وكانوا يحثون الناس على الخروج في المواكب الكبيرة لهذا الاستقبال[25].
وكانت العادة أحيانا أن ينزل الرسول في دار معينة يستريح فيها، ثم يقابل الوزير ليعين له موعدا لمقابلة الخليفة. وكان أثناء المقابلة يقدم له كتابا موجها إليه من مرسله، وكان يسمى الجواز، وهو شبيه بأوراق الاعتماد اليوم، وكثيرا ما كان الرسل يحملون الهدايا، ويتلقونه بالمبادلة.
وكانت سارية الأمم الغربية على نوع من هذا الترتيب، لا يزال متبعا في الوقت الحاضر، مع كثير من التنظيم والتبسيط، حسب مناهج مضبوطة ومحدودة، بما يسمى بالبروتوكول الدبلوماسي، فهذا البروتوكول يرتب طريقة الاستقبال، وتقديم أوراق الاعتماد، وما يتفرع عن كل ذلك من أصول وتفاصيل.