منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#32070
ووفق هذا التعريف، فإن العناصر الجغرافية والمؤسساتية لا تعد ضمن الأبعاد التكوينية الضرورية لمفهوم الأمة، ولكن ذلك لا يعني استبعادها كنتيجة أو هدف نهائي لتحقيق اكتمال فعاليات الأمة في الواقع.

فالأمة بهذا المفهوم هي كيان عقيدي حضاري، عقيدي من منطلق التفافها حول فكرة أو تصور معين للحياة قد يكون دينياً سماوياً وقد يكون وضعياً (لدى الأمم غير المؤمنة)، وهي حضارية بالضرورة كنتيجة لمكون الفعل والسعي والإنجاز الضروري لتحقيق تكاملها الوجودي، ما سينتج أثراً في الواقع حروباً وسلاماً ومدنية ونظماً... الخ.

الأمة كمستوى للتحليل

وتعتقد الباحثة أنه على رغم المشكلات التي يثيرها مفهوم الأمة (كغيره من المفاهيم)، إلا أنه يحمل، كمفهوم تحليلي في نطاق العلاقات الدولية، الكثير من المزايا، فهو بتركيزه على حركة الجماعة ودور العقيدة يصبح مفهوماً أكثر مرونة يتجنب كثيراً مؤثرات الانحياز النابعة من خبرة أدبيات الدولة - القومية، إذ يلقي بدائرة الضوء على منطقة بينية تتجاوز الطابع المؤسسي إلى الكيان الإنساني الاجتماعي المعبر عنه، كما تتجاوز الخطاب الرسمي الذي يكون في العادة خطاباً مظللاً وزائفاً - إلى تحليل العقيدة المسيطرة والخطابات المؤثرة، كما يتجاوز هذا التحليل بعض التصورات المثالية في العلاقات الدولية، مثل مفهوم (المصلحة القومية) الخالصة و (الرشادة) المطلقة، بتركيزه على العقيدة الجماعية التي تجمع في طياتها بين الحسابات الرشيدة والأبعاد القيمية - الوجدانية.

وترى الباحثة أن مفهوم الأمة يمتلك قدرة تنبؤية كبيرة كمستوى للتحليل، تنبع من قدرته على رصد اتجاهات السلوك في العلاقات الدولية وتفسيرها في إطار منظومة الأهداف، ما ينبئ بمسارات التوافق والصراع.

وتؤكد الباحثة أن مفهوم الأمة يستمد بنيته الأساسية وأكثر معانيه انفتاحاً وثراءً من النص القرآني، بحيث يمكن القول إن المصادر الأخرى لم تضف إليه غير أبعاد محدودة نظرياً أو أبعاد تكميلية، وترجع أهم تلك الإضافات إلى التطبيق النبوي، فقد قدمت الخبرة النبوية إضافات قيمة جداً على الصعيد التطبيقي لبناء الأمة من حيث ترجمة المفهوم القرآني عملاً ومواجهة المشكلات التطبيقية وحلها لبناء الأمة، وعلى صعيد نسج العلاقات والبنى الداخلية على أرض الواقع، سواءً ما يتصل بمنظومة علاقات الفرد والجماعات الأولية بالجماعة الكبرى (الأمة) أم بمنظومة العلاقات بين الأقلية والأكثرية.

النظرية القرآنية في نشأة الامم وتطورها:

وتلقي الباحثة الضوء على ما تسميه «النظرية القرآنية» في نشأة الأمم وتطورها، والتي من أهم ملامحها أن المساواة والوحدة هما القاعدتان اللتان انبثق منهما الوجود البشري ابتداءً. فقد كان الناس أمة واحدة عند بدء الخليقة. وأن الاختلاف والتنوع هما من أهم سنن الوجود البشري وقواعده وهما المسؤولان عن التطور التاريخي. وأن الأديان نزلت من أجل حل الخلافات التي نمت بين البشر في مختلف أمور حياتهم وإعادة ربطها مرة أخرى بتوجيه إلهي صحيح. إن تاريخ الاجتماع البشري وحركته شهدا نقلة نوعية نتيجة ظهور نمط جديد من تفاعلاته مع الإرادة الإلهية بدخوله مرحلة الأديان الكبرى، التي قامت على قاعدتين أساسيتين: الأولى الاعتراف بالاختلاف بين البشر والعمل على ترشيده، بل وجعله قوة إيجابية في حياة الإنسان وفي علاقته الأصيلة بالخالق، والثانية خلق إطارات وحدة وسياقات أممية أكبر تنهي حال التشرذم ما حقق وجوداً عبر - قومي، وعبر - قاري للأمم لأول مرة في التاريخ. وآخر تلك الملامح، تأكيد النصوص القرآنية قواعد مهمة للتعايش بين أبناء الأمم العقيدية الكبرى، أهمها تأكيد القواسم المشتركة، وتجنب إثارة الجدل حول الخلافات العقيدية كمنهج عقيم لن يؤدي إلا إلى مزيد من التناحر، مع العمل على إقامة العلاقات والمعاملات بين هذه الأمم وأفرادها على قاعدة العدل كقيمة دينية وإنسانية غير مختلف عليها.

وتختتم الباحثة بالتأكيد أن محاولتها طرح مفهوم الأمة في سياق جديد هو سياق العلم بدلاً من سياق الفكر، هي محاولة للخروج من اسر استخدامه كحال معينة لجماعة معينة (الأمة الإسلامية) إلى توظيفه كأداة لفهم بعض أبعاد ظاهرة الجماعة بصفة عامة في الوجود الإنساني وتفاعلاتها في نطاق العلاقات الدولية، كما تؤكد الباحثة أن هناك قابليات واسعة لدى الكثير من المفاهيم الإسلامية لهذا الاستخدام والتوظيف، إما كمفاهيم أصلية وبكر في نطاق العلوم الاجتماعية، وإما كمفاهيم ضابطة تحدث تعديلات أساسية في مفاهيم علمية ومنهجية وسياسية رائجة.

البعد الديني في العلاقات الدولية

في القسم الثاني من الكتاب، يناقش عبدالخبير عطا محروس، البعد الديني في إطار العلاقات الدولية، فأمام ما شهده العالم من تحولات وتطورات، أصبحت العلاقة بين الدين والحياة العامة إحدى أهم قضايا العلاقات الدولية، فمعظم الصراعات والحروب في الفترة الأخيرة، أصبح الدين يشغل موقعاً محورياً فيها، فالعودة إلى الدين تحولت إلى ظاهرة اجتماعية، وأصبح العالم المعاصر يشهد بعثاً دينياً يؤثر في الحياة العامة والثقافة، ويعيد تشكيل الدول والمجتمعات وصارت الحركة الدينية في معظم أنحاء العالم تطرح شعوراً جديداً بالهوية والانتماء، وإضافات العولمة وتقنيات الاتصال فرصاً وتحديات جديدة، وبدأت الدول تتخلى عن كثير من وظائفها وسيادتها لمصلحة الكثير من الأطراف الأخرى داخلياً وخارجياً.

وينقل الكاتب عن مارسيل ميرل أن الفكرة المحورية لدور الدين في العلاقات الدولية تنطلق من النتائج التي أفرزها صلح وستفاليا عام 1648، والذي وضع حداً لتلك الصراعات بين القوى الأوروبية، التي كانت قائمة على أسس دينية، وواكب ذلك ميلاد الدولة القومية القائمة على أسس علمانية، بيد أن الغرب الأوروبي، في إطار توسعه خارج حدوده، كان يوظف البعثات التبشيرية باعتبارها إحدى وسائل الهيمنة إلى جانب الاقتصاد والقوى العسكرية، وأنه في الوقت الذي تم فيه استبعاد دور الدين داخل النموذج الغربي، ظلت الصراعات الدينية والثقافية وسيلة لبقاء القوى الأوروبية مهيمنة على المستعمرات في آسيا وأفريقيا.

وعند رصد أدوار الدين وتوظيفاته في العلاقات الدولية، ينقل الباحث عن نبيل عبدالفتاح أن الدين يؤدي وظائف مهمة وحيوية في العملية السياسية، لجهة توظيفه في التعبئة السياسية، وكمصدر من مصادر الشرعية السياسية، وفي تبرير الخطاب السياسي والاجتماعي، كما تم استخدام الدين أداة في التغيرات السياسية الواسعة النطاق، ولتحقيق التوازن السياسي بين الجماعات المختلفة، وإطاراً أيديولوجياً وأداة لبعث الحيوية السياسية والاجتماعية للشعوب في إطار مناهضة التحلل والتفكك والفساد والانهيار، هذا بجانب حائط صد دفاعي.

ومع ما أفرزته التحولات الدولية التي شهدها العالم خلال القرن العشرين من تشظي المجتمعات وتفككها إلى تفريعات جديدة تدور حول نويات وهويات دينية ومذهبية وقومية ولغوية وعرقية، ترتب على ذلك دعم الدور الذي يقوم به الدين في العلاقات الدولية، باعتباره مكوناً في السياسية الخارجية لبعض البلدان، كمحور أو أداة من أدوات هذه السياسة، كما تزايدت عمليات توظيف الدين ورموزه وتفسيراته وتأويلاته في العلاقات الدولية، لا سيما النزاعات حول الهوية والمصالح والحدود وفي بناء التحالفات الدولية.

حدود الدور الديني ومستقبل العلاقات الدولية

ويرى الباحث أن ثمة حدوداً يقف عندها الدور الديني في العلاقات الدولية:

- عدم وجود تعريف مشترك لما هو (أخلاقي) كإطار عام للتحرك الدولي، أو حد أدنى من الاتفاق حول ماهية القيم التي يمكن أن تحكم العلاقات الدولية.

- يثير البعد الديني في العلاقات الدولية قضية العلاقة بين الأخلاق الفردية والأخلاق الجماعية الدولية، وإمكان قياس كل منها على الأخرى.

- مع اعتراف البعض بأهمية القيم في السياسة الخارجية إلا أنهم يؤكدون أن لا مبادئ مجردة وعالمية تحكم السياسة الخارجية.

- إن الانتقال المنهجي يكون مما هو قائم إلى ما يجب أن يكون وليس العكس، فأخلاقية صانع القرار هي أخلاقية مسؤولية وليست أخلاقية اقتناع، أي ما يقتنع أو يؤمن به السياسي يجب أن يخرج إلى حيز الواقع بعد مروره بحسابات التكلفة، فما هو جيد في الحسابات السياسية يرتبط بما هو ممكن.

أخيراً يرى الباحث أن الظهور الحالي لدور البعد الديني في العلاقات الدولية في مرحلتها الراهنة، لا يعني تجاهل تقدير الدور الحيوي للعناصر السياسية والعسكرية والاقتصادية في إيجاد الظروف التي تشجع صانعي القرار على البحث عن جهود المصالحة أو التفاوض المبني على أسس دينية، كما أن من الضروري عند تطبيق المداخل الدينية على العلاقات الدولية الحالية والمستقبلية، التأكيد أن أنماط الجماعات والمؤسسات الدينية يجب أن تؤخذ في الاعتبار، فهناك تنوع في التجارب والإمكانات والنطاق، كما أن استغلال العوامل الدينية في صنع السلام يتطلب إدخالاً جديداً لهذه العوامل، وجهوداً متزايدة من جانب مؤيديها.