صفحة 1 من 1

الدين والسياسة وشمولية الإسلام

مرسل: السبت يناير 08, 2011 7:45 pm
بواسطة محمد السهلي 8 4
قلما تجد إنسانًا يتحدث إليك عن السياسة والإسلام إلا وجدته يفصل بينهما فصلاً، ويضع كل واحد من المعنيين في جانب فهما عند الناس لا يلتقيان ولا يجتمعان، ومن هنا سميت هذه جمعية إسلامية لا سياسية، وذلك اجتماع ديني لا سياسة فيه، ورأيت في صدر قوانين الجمعيات الإسلامية ومناهجها (لا تتعرض الجمعية للشؤون السياسية).

وقبل أن أعرض إلى هذه النظرة بتزكية أو تخطئة أحب أن ألفت النظر إلى أمرين مهمين:

أولهما: أن الفارق بعيد بين الحرية والسياسة، وقد يجتمعان وقد يفترقان، فقد يكون الرجل سياسيًا بكل ما في الكلمة من معان، وهو لا يتصل بحزب ولا يمت إليه، وقد يكون حزبيًا، ولا يدري من أمر السياسة شيئًا، وأنا حين أتكلم عن السياسة في هذه الكلمة فإنما أريد السياسة المطلقة، وهي النظر في شؤون الأمة الداخلية والخارجية غير مقيدة الحزبية بحال.. هذا أمر.

والثاني: أن غير المسلمين حينما جهلوا هذا الأمر، أو حينما أعياهم أمره وثباته في نفوس أتباعه، ورسوخه في قلوب المؤمنين به، واستعداد كل مسلم لتفديته بالنفس والمال، ولم يحاولوا أن يجرحوا في نفوس المسلمين اسم الإسلام ولا مظاهره وشكلياته، ولكنهم حاولوا أن يحصروا معناه في دائرة ضيقة تذهب بكل ما فيه من نواح قوية عملية، وإن تركت للمسلمين بعد ذلك قشورًا من الألقاب والأشكال والمظهريات لا تسمن ولا تغني من جوع... فأفهموا المسلمين أن الإسلام شيء ومسائل الاقتصاد لا تتصل به، وأن الإسلام شيء والثقافة العامة سواه، وأن الإسلام شيء يجب أن يكون بعيداً عن السياسة.

فحدثوني بربكم أيها الإخوان، إذا كان الإسلام شيئًا غير السياسة وغير الاجتماع، وغير الاقتصاد، وغير الثقافة، فما هو إذن؟.. أهو هذه الركعات الخالية من القلب الحاضر، أم هذه الألفاظ التي هي كما تقول رابعة العدوية استغفار يحتاج إلى استغفار، ألهذا أيها الإخوان نزل القرآن نظامًا كاملاً محكمًا مفصلاً ﴿تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين﴾ سورة النحل: الآية 89.

هذا المعنى المتضائل لفكرة الإسلام، وهذه الحدود الضيقة التي حدد بها معنى الإسلام ، هي التي حاول خصوم الإسلام أن يحصروا فيها المسلمين، وأن يضحكوا عليهم بأن يقولوا لهم لقد تركنا لكم حرية الدين، وأن الدستور ينص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام.

الإسلام الشامل

أنا أعلن أيها الإخوان من فوق هذا المنبر بكل صراحة ووضوح وقوة، أن الإسلام شيء غير هذا المعنى الذي أراد خصومه والأعداء من أبنائه أن يحصروه فيه ويقيدوه به، وأن الإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، وسماحة وقوة، وخلق ومادة، وثقافة وقانون، وأن المسلم مطالب بحكم إسلامه أن يعني بكل شؤون أمته، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

وأعتقد أن أسلافنا رضوان الله عليهم ما فهموا للإسلام معنى غير هذا، فبه كانوا يحكمون، وله كانوا يجاهدون، وعلى قواعده كانوا يتعاملون، وفي حدوده كانوا يسيرون في كل شأن من شؤون الحياة الدنيا العملية قبل شؤون الآخرة الروحية، ورحم الله الخليفة الأول إذ يقول: "لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله".

بعد هذا التحديد العام لمعنى الإسلام الشامل، ولمعنى السياسة المجردة عن الحزبية، أستطيع أن أجهر في صراحة بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسياً، بعيد النظر في شؤون أمته، مهتمًا بها غيورًا عليها، واستطيع كذلك أن أقول إن هذا التحديد والتجريد أمر لا يقره الإسلام، وأن على كل جمعية إسلامية أن تضع في رأس برنامجها الاهتمام بشؤون أمتها السياسية وإلا كانت تحتاج هي نفسها إلى أن تفهم معنى الإسلام.

دعوني أيها الأخوة أسترسل معكم قليلاً في تقرير هذا المعنى الذي قد يبدوا مفاجأة غريبة على قوم تعودوا أن يسمعوا دائمًا نغمة التفريق بين الإسلام والسياسة والذي قد يدع بعض الناس يقولون بعد انصرافنا من هذا الحفل، إن جماعة الإخوان المسلمين قد تركت مبادئها، وخرجت على صفتها، وصارت جماعة سياسية بعد أن كانت جمعية دينية، ثم يذهب كل متأول في ناحية من نواحي التأويل متلمسًا أسباب هذا الانقلاب في نظره، وعلم الله أيها السادة أن الإخوان ما كانوا يومًا من الأيام غير سياسيين، ولن يكونوا يومًا من الأيام غير سياسيين، ولن يكونوا يومًا من الأيام غير مسلمين، وما فرقت دعوتهم أبدًا بين السياسة والدين، ولن يراهم الناس في ساعة من نهار حزبيين ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِين﴾ سورة القصص: الآية 55.

ومحال أن يسيروا لغاية غير غايتهم أو يعملوا لفكرة سوى فكرتهم أو يتلونوا بلون غير الإسلام الحنيف: ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُون﴾ سورة البقرة: آية 138.

السياسة الداخلية

دعوني أيها الأخوة استرسل معكم في تقرير هذا المعنى، فأقول إن كان يراد بالسياسة معناها الداخلي من حيث تنظيم أمر الحكومة وبيان مهماتها وتفصيل حقوقها وواجباتها ومراقبة الحاكمين والإشراف عليهم ليطاعوا إذا أحسنوا وينقدوا إذا أساؤوا... فالإسلام قد عنى بهذه الناحية، ووضع لها القواعد والأصول وفصل حقوق الحاكم والمحكوم، وبين مواقف الظالم والمظلوم،ن ووضع لكل حداً لا يعدوه ولا يتجاوزه.

فالدساتير والقوانين المدنية والجنائية بفروعها المختلفة عرض لها الإسلام، ووضع نفسه منها بالموضع الذي يجعله أول مصادرها وأقدس منابعها، وهو حين فعل هذا إنما وضع الأصول الكلية، والقواعد العامة، والمقاعد الجامعة، وفرض على الناس تحقيقها، وترك لهم الجزئيات والتفاصيل والمقاصد الجامعة، وفرض على الناس تحقيقها، وترك لهم الجزئيات والتفاصيل يطبقونها بحسب ظروفهم وعصورهم، ويجتهدون في ذلك ما وسعتهم المصلحة، وواتاهم الاجتهاد.

وقد قرر الإسلام سلطة الأمة وأكدها، وأوصى بأن يكون كل مسلم مشرفًا تمام الإشراف على تصرفات حكومته، يقدم لها النصح والمعونة ويناقشها الحساب، وهو كما فرض على الحاكم أن يعمل لمصلحة المحكومين بإحقاق الحق وإبطال الباطل فرض على المحكومين كذلك أن يسمعوا ويطيعوا للحاكم ما كان كذلك، فإذا انحرف فقد وجب عليهم أن يقوموه على الحق ويلزموه حدود القانون ويعيدوه إلى نصاب العدالة، هذه تعاليم كلها من كتاب الله تبارك وتعالى ومن أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم نتقولها ولم نخترعها، وإلى حضراتكم قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُون﴾ سورة المائدة: الآية 48-50، إلى عشرات من الآيات الكريمة التي تناولت كل ما ذكرنا بالبيان والتفصيل.

ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في تقرير سلطة الأمة وتقرير الرأي العام فيها: "الدين النصيحة. قالوا : لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" رواه مسلم: ويقول أيضاً: "إن من أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" رواه الترمذي وابن ماجه، ويقول كذلك: "سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" مجمع الزوائد، وعزاه إلى الطبراني في المعجم الأوسط. وإلى مئات الأحاديث التي تفصل هذا المعنى وتوضحه، وتوجب على المسلمين أن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر، وأن يراقبوا حكامهم ويشرفوا على مبلغ احترامهم للحق وإنقاذهم لأحكام الله.

فهل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يأمر بهذا التدخل، أو الإشراف أو التناصح، أو سمة ما شئت، وحين يحض عليه، ويبين أنه الدين وأنه الجهاد الأكبر، وأن جزاءه الشهادة العظمى.. يخالف تعاليم الإسلام فيخلط السياسة بالدين، أم أن هذه هي طبيعة الإسلام الذي بعث الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأننا في الوقت الذي نعدل فيه بالإسلام عن هذا المعنى نصور لأنفسنا إسلاماً خاصاً غير الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه.

لقد تقرر هذا المعنى الفسيح للإسلام الصحيح في نفوس السلف الصالح لهذه الأمة، وخالط أرواحهم وعقولهم، وظهر في كل أدوار حياتهم الاستقلالية قبل ظهور هذا الإسلام الاستعماري الخانع الذليل.

ومن هنا أيها الإخوان كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتكلمون في نظم الحكم، ويجاهدون في مناصرة الحق، ويحتملون عبء سياسة الأمة، ويظهرون على الصفة التي وصفوا أنفسهم بها "رهبان بالليل فرسان بالنهار" حتى كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الصديقة تخطب الناس في دقائق السياسة، وتصور لهم مواقف الحكومات في بيان رائع وحجة قوية، ومن هنا كانت الكتيبة التي شقت عصا الطاعة على الحجاج وحاربته وأنكرت عليه بقيادة ابن الأشعث تسمى كتيبة الفقهاء إذا كان فيها سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأضرابهما من فقهاء التابعين وجلة علمائهم.

ومن هنا رأينا من مواقف الأئمة رضوان الله عليهم في مناصحة الملوك ومواجهة الأمراء والحكام بالحق ما يضيق بذكر بعضه – فضلاً عن كله – المقام.

ومن هنا كذلك كانت كتب الفقه الإسلامي قديماً وحديثاً فياضة بأحكام الإمارة والقضاء والشهادة الدعاوى والبيوع والمعاملات والحدود والتعزيرات، ذلك إلى أن الإسلام أحكام عملية وروحية، إن قررتها السلطة التشريعية فإنما تقوم على حراستها وإنقاذها السلطة التنفيذية والقضائية ولا قيمة لقول الخطيب كل جمعة على المنبر: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾ سورة المائدة: الآية 90)، في الوقت الذي يجيز فيه القانون السكر وتحمي الشرطة السكيرين وتحمي الشرطة السكرين وتقودهم إلى بيوتهم أمنين مطمئنين، ولهذا كانت تعاليم القرآن لا تنفك عن سطوة السلطان، ولهذا كانت السياسة الحكومية جزءاً من الدين، وكان من واجبات المسلم أن يعني بعلاج الناحية الحكومية كما يعني بعلاج الناحية الروحية. وذلك مواقف الإسلام من السياسة الداخلية.

السياسة الخارجية

فإن أريد بالسياسة معناها الخارجي، وهو المحافظة على استقلال الأمة وحريتها وإشعارها كرامتها وعزتها، والسير بها إلى الأهداف المجيدة التي تحتل بها مكانتها بين الأمم ومنزلتها الكريمة في الشعوب والدول، وتخليصها من استبداد غيرها بها وتدخله في شؤونها، مع تحديد الصلة بينها وبين سواها تحديدًا يفصل حقوقها جميعاً، ويوجه الدولة كلها إلى السلام العالمي العام وهو ما يسمونه (القانون الدولي).. فإن الإسلام قد عنى بذلك كل العناية وأفنى فيه بوضوح وجلاء، وألزم المسلمين أن يأخذوا بهذه الأحكام في السلم والحرب على السواء، ومن قصر في ذلك وأهمله فقد جهل الإسلام أو خرج عليه.

قرر الإسلام سيادة الأمة الإسلامية وأستاذيتها للأمم في آيات كثيرة من القرآن منها قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ سورة آل عمران الآية: 110، وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (سورة البقرة: آية 143). وقوله تعالى: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُون﴾ (سورة المنافقون آية 8) وأكد قوامتها وأرشدها إلى طريق صيانتها وإلى ضرر تدخل غيرها في شؤونها بمثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتِّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُون﴾ (سورة آل عمران: آية 118)، وأشار إلى مضار الاستعمار وسوء أثره في الشعوب فقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُون﴾ (سورة النمل: آية 27).

ثم أوجب على الأمة المحافظة على هذه السيادة، وأمرها بإعداد العدة واستكمال القوة، حتى يسير الحق محفوفاً بجلال السلطة كما هو مشرق بأنوار الهداية ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة﴾ (سورة الأنفال: آية 6)، ولم يغفل التحذير من سورة النصر ونشوة الاعتزاز وما تجلبه من مجانبة للعدالة وهضم للحقوق، فحذر المسلمين العدوان على أية حال في قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (سورة المائدة: آية 8)، مع قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُو﴾ (سورة الحج: آية 41).

ومن هنا أيها الإخوة رأينا أخلاء المسجد، وأنضاء العبادة، وحفظة الكتاب الكريم، بل وأبناء الربط والزوايا من السلف رضوان الله عليهم، لا يقنعون باستقلال بلادهم، ولا بعزة قومهم، ولا بتحرير شعوبهم، ولكنهم ينسابون في الأرض، ويسيحون في آفاق البلاد فاتحين معلمين، يحررون الأمم كما تحرروا، ويهدونها بنور الله الذي اهتدوا به، ويرشدونها إلى سعادة الدنيا والآخرة، لا يغلون ولا يظلمون ولا يعتدون، ولا يستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.

ومن هنا رأينا عقبة بن نافع يخوض الأطلسي بلبة جواده قائلاً: اللهم لو علمت وراء هذا البحر أرضاً لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك، في الوقت الذي يكون فيه أبناء العباس الأشقاء قد دفن أحدهم بالطائف إلى جوار مكة، والثاني بأرض الترك من أقصى الشرق، والثالث بأفريقيا من أقصى المغرب، جهاداً في سبيل الله وابتغاء لمرضاته. وهكذا فهم الصحابة والتابعون بهم بإحسان أن السياسة الخارجية من صميم الإسلام.

الحقوق الدولية

وأحب قبل أن أختم هذا الاسترسال أن أؤكد لحضراتكم تأكيداً قاطعاً أن سياسة الإسلام داخلية أو خارجية تكفل تمام الكفالة حقوق غير المسلمين، سواء أكانت حقوقاً دولية أم كانت حقوقاً وطنية للأقليات غير المسلمة، وذلك لأن شرف الإسلام الدولي أقدس شرف عرفه التاريخ، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِين﴾ (سورة الأنفال: آية 58).

ويقول: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين﴾ (سورة التوبة: آية4) ويقول تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم﴾ (سورة الأنفال: آية 61).

ولئن كانت إيطاليا المتمدنة قد غزت الحبشة حتى استولت عليها ولم تعلن عليها حرباً ولم تسبق إلى ذلك بإنذار، وحذت حذوها اليابان الراقية فهي تحارب الصين، ولم تخطرها ولم تعلنها، فإن التاريخ لم يؤثر عن رسول الله صلى الله لعيه وسلم، ولا عن صحابته أنهم قاتلوا قوماً أو غزوا قبيلاً دون أن يوجهوا الدعوة ويتقدموا بالإنذار وينبذوا إليها على سواء.

وقد كفل الإسلام حقوق الأقليات بنص قرآن هو قول الله تبارك وتعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين﴾ (سورة الممتحنة: آية8).

كما أن هذه السياسة الإسلامية نفسها لا تنافي أبداً الحكم الدستوري الشورى، وهي واضعة أصله ومرشدة الناس إليه في قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم﴾ (سورة الشورى: آية: 42) وقوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ (سورة آل عمران: آية 153). وقد كان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه وينزل على رأي الفرد منهم متى وضح له صوابه كما فعل ذلك مع الحباب بن المنذر في غزوة بدر، ويقول لأبي بكر وعمر: "لو اجتمعتما ما خالفتكما"، وكذلك ترك عمر الأمر شورى بين المسلمين، وما زال المسلمون بخير ما كان أمرهم شورى بينهم.

سعة التشريع الإسلامي

كما أن تعاليم الإسلام وسياسته ليس فيها معنى رجعي أبداً، بل هي على أدق قواعد التشريع الصالح، وقد اعترف التشريع لكثير منها، وسيكشف الزمن للناس على جلاله ما لم يعرفوا – بأنها قد سبقته في دقة الأحكام وتصوير الأمور وسعة النظر، وشهد بذلك كثير من غير المسلمين كما ورد كثيراً في كلام المسيو لامبير وأضرابه، وأكدت ذلك مؤتمرات التشريع الدولية على أن الإسلام قد وضع من القواعد الكلية ما يترك للمسلم باباً واسعاً في الانتفاع بكل تشريع نافع مفيد لا يتعارض مع أصول الإسلام ومقاصده، وأثاب على الاجتهاد بشروطه، وقرر قاعدة المصالح المرسلة، واعتبر العرف، واحترم رأي الإمام، كل هذه القواعد تجعل التشريع الإسلامي في الذروة السامية بين الشرائع والقوانين والأحكام.

هذه معان أحب أيها السادة أن تذيع بيننا وأن نذيعها في الناس، فإن كثيرين لازالوا يفهمون من معنى النظام الإسلامي ما لا يتفق بحال مع الحقيقة، وهم لهذا ينفرون منه ويحاربون الدعوة إليه، ولو فقهوه على وجه لرجعوا به ولكانوا من أوائل أنصاره وأشدهم تحمساً له وأعلاهم صوتاً في الدعوة إليه.