By حسن بن محمد العمري - السبت يناير 08, 2011 10:52 pm
- السبت يناير 08, 2011 10:52 pm
#32245
عندما تفتقر السياسة الخارجية الواقعية إلى الواقعية
مايكل غيرسون
الخميـس 17 محـرم 1432 هـ 23 ديسمبر 2010 العدد 11713
جريدة الشرق الاوسط
الصفحة: الــــــرأي
خلال فترة عمله مستشارا للأمن القومي في عهد الرئيس نيكسون، زار هنري كيسنجر موطنه الأصلي. ولمحت حكومة ألمانيا الغربية للصحف بأن كيسنجر ينوي زيارة بعض أقاربه. وعلق كيسنجر على ذلك أمام مساعديه غاضبا بقوله: «ماذا ينشرون بحق الجحيم؟ لقد فني أقاربي».
وكان هذا قولا فظا، لكنه صحيح، ذلك أن كيسنجر رحل عن ألمانيا في أغسطس (آب) 1938 كلاجئ في الـ15 من عمره، وذلك قبل ثلاثة أشهر من حادثة كريستالنخت (هاجم النازيون خلالها اليهود وممتلكاتهم). ولقي عم والده وثلاث من عماته وأقارب آخرون حتفهم خلال المحارق النازية بحق اليهود.
لذا، كان من الصادم بشدة أن نسمع كيسنجر يخبر نيكسون بعد ذلك بسنوات خلال محادثة مسجلة بينهما جرت في 1 مارس (آذار) 1973، أنه: «دعنا نواجه الحقيقة، إن هجرة اليهود من الاتحاد السوفياتي ليست من أهداف السياسة الخارجية الأميركية. ولو وضعوا اليهود في غرف الغاز داخل الاتحاد السوفياتي، فإن هذا ليس شأنا أميركيا، لكن ربما يكون شأنا إنسانيا».
وقد حاول بعض المعلقين طرح تفسيرات نفسية لهذا الموقف، تتعلق بصراع يخوضه يهودي داخل بيت أبيض اتسم بمعاداة اليهود. إلا أن مثل هذه الجهود لا حاجة إليها، ذلك أن ما ذكره كيسنجر ليس تعبيرا عن محاولة مراوغة، وإنما عن حجة عقلية. عام 1969، أعلن كيسنجر أنه «سنحكم على الدول الأخرى، بما فيها الشيوعية، على أساس أفعالها، وليس آيديولوجياتها الداخلية». ويعد هذا القول واحدا من الآراء التي يشيع التأكيد عليها في مدرسة السياسة الخارجية المعروفة باسم «الواقعية»؛ ويدور حول فكرة أن السلوك الخارجي للأنظمة هو المهم، وأن سلوكها الداخلي لا شأن له بالمصالح الأميركية. ويحظى هذا الرأي حاليا بقبول متزايد بين المفكرين المعنيين بالسياسة الخارجية. كل ما في الأمر أن كيسنجر كان مفتقرا إلى الحساسية العاطفية في تطبيقه.
وردا على الكشف مؤخرا عن المحادثة المسجلة، قال كيسنجر إن كلماته «يجب النظر إليها في إطار زمانها». ويتمثل هذا الإطار في نقاش حول تعديل «جاكسون - فانيك» عام 1974. كان الاتحاد السوفياتي، الذي مارس العداء ضد السامية ومقت في الوقت ذاته نزف العقول عبر هجرة اليهود، قد فرض غرامات باهظة على المهاجرين. واستجاب السيناتور هنري جاكسون والنائب تشارلز فانيك، بدعم من منظمات يهودية أميركية، باقتراح تشريع يربط العلاقات التجارية الطبيعية مع الاتحاد السوفياتي (والدول الأخرى «غير السوقية») بحرية الهجرة.
من جانبه، اعتقد كيسنجر أن التفاهم مع الاتحاد السوفياتي يتميز بالأهمية الكبرى وأن قضايا حقوق الإنسان ينبغي تناولها في هدوء، على مسار دبلوماسي منفصل. وأخبر نيكسون أن «الجالية اليهودية في هذا البلد تجاه هذه القضية، تتصرف على نحو يفتقر للحكمة. إنهم يتصرفون على نحو خائن».
وعلى الرغم من ذلك، اتضح لاحقا أن تعديل «جاكسون - فانيك» شكل نقطة محورية في الحرب الباردة، فبعد التراجع الأولي في معدلات الهجرة، مارس القانون ضغوطا على الاتحاد السوفياتي طوال عقدين، مما أدى في النهاية لارتفاع معدلات الهجرة. وسلط القانون الضوء على واحدة من أقوى الميزات الآيديولوجية للغرب في مواجهة الاتحاد السوفياتي عبر فضح ضعف نظام يتحتم عليه بناء أسوار لمنع مواطنيه من الهرب. وشكل هذا التأكيد على حقوق الإنسان مصدر إلهام ليس لليهود السوفيات فحسب، وإنما أيضا جماعات وجنسيات أخرى كانت تحت مظلة الاتحاد السوفياتي.
وجاء تعديل «جاكسون - فانيك» بمثابة رفض لواقعية كيسنجر ومقدمة للتوجهات «الريغانية». وأكد التعديل على أن الأنظمة القمعية أكثر احتمالا لأن تهدد جيرانها، وأعلى شأن حقوق الإنسان بين أولويات المصالح الأميركية. كما أنه عزز معايير الكرامة الإنسانية التي شكلت تهديدا مباشرا للأنظمة التي اعتمدت على منعها.
ولا يعد كيسنجر شخصية شريرة بسيطة، ذلك أنه يبعد تماما عن البساطة في شتى مناحي حياته. في الواقع، إن التعقيد سمة أساسية لحياته. والملاحظ أنه في ظل ظروف أخرى، كان صديقا لإسرائيل. ونجح بمهارة في المرور عبر أوقات عصيبة أثناء الحرب الباردة. وفي كتابات لاحقة، اعترف بدور المثالية في تعزيز مكانة الولايات المتحدة عالميا.
إن العبارة سالفة الذكر التي نطقها كيسنجر منذ 37 عاما لا تختزل حياة مهنية بأكملها، لكنها تكشف ضيق أفق واقعية السياسة الخارجية، ذلك أنها تتمسك بوجهة نظر محدودة على نحو مؤسف للسلطة ولا تضع في اعتبارها المميزات الآيديولوجية الأميركية في الصراعات الآيديولوجية العالمية.
وغالبا ما يتبع الواقعيون وجهة نظر تتسم بالتبسيط للعلاقات بين القوى العظمى، مؤكدين أن أي ضغوط على روسيا أو الصين تتعلق بحقوق الإنسان ستسبب انهيار النظام العالمي بأسره. ويستبعد هذا الرأي إمكانية بناء علاقة ناضجة مع دول أخرى تقف أميركا في إطارها مدافعة عن قيمها وتسعى لتحقيق المصالح المشتركة في الوقت ذاته.
وعند النظر إلى هذه الحقبة التاريخية، يتضح لنا أن الجرعات المتكررة من الواقعية في السياسة الخارجية بإمكانها قتل الضمير. خلال فترة رئاسة نيكسون، جرى النظر لغياب المشاعر الإنسانية كمؤشر على الحزم العقلاني؛ وهو مناخ تسبب في انهيار الإدارة ذاتها. إن الواقعيين غالبا ما يرفضون التمييز المانوي بين الخير والشر، والنور والظلام. لكن في ما وراء الخير والشر، قد يجد البعض أنفسهم محشورين في غرف الغاز.
* خدمة «واشنطن بوست»
مايكل غيرسون
الخميـس 17 محـرم 1432 هـ 23 ديسمبر 2010 العدد 11713
جريدة الشرق الاوسط
الصفحة: الــــــرأي
خلال فترة عمله مستشارا للأمن القومي في عهد الرئيس نيكسون، زار هنري كيسنجر موطنه الأصلي. ولمحت حكومة ألمانيا الغربية للصحف بأن كيسنجر ينوي زيارة بعض أقاربه. وعلق كيسنجر على ذلك أمام مساعديه غاضبا بقوله: «ماذا ينشرون بحق الجحيم؟ لقد فني أقاربي».
وكان هذا قولا فظا، لكنه صحيح، ذلك أن كيسنجر رحل عن ألمانيا في أغسطس (آب) 1938 كلاجئ في الـ15 من عمره، وذلك قبل ثلاثة أشهر من حادثة كريستالنخت (هاجم النازيون خلالها اليهود وممتلكاتهم). ولقي عم والده وثلاث من عماته وأقارب آخرون حتفهم خلال المحارق النازية بحق اليهود.
لذا، كان من الصادم بشدة أن نسمع كيسنجر يخبر نيكسون بعد ذلك بسنوات خلال محادثة مسجلة بينهما جرت في 1 مارس (آذار) 1973، أنه: «دعنا نواجه الحقيقة، إن هجرة اليهود من الاتحاد السوفياتي ليست من أهداف السياسة الخارجية الأميركية. ولو وضعوا اليهود في غرف الغاز داخل الاتحاد السوفياتي، فإن هذا ليس شأنا أميركيا، لكن ربما يكون شأنا إنسانيا».
وقد حاول بعض المعلقين طرح تفسيرات نفسية لهذا الموقف، تتعلق بصراع يخوضه يهودي داخل بيت أبيض اتسم بمعاداة اليهود. إلا أن مثل هذه الجهود لا حاجة إليها، ذلك أن ما ذكره كيسنجر ليس تعبيرا عن محاولة مراوغة، وإنما عن حجة عقلية. عام 1969، أعلن كيسنجر أنه «سنحكم على الدول الأخرى، بما فيها الشيوعية، على أساس أفعالها، وليس آيديولوجياتها الداخلية». ويعد هذا القول واحدا من الآراء التي يشيع التأكيد عليها في مدرسة السياسة الخارجية المعروفة باسم «الواقعية»؛ ويدور حول فكرة أن السلوك الخارجي للأنظمة هو المهم، وأن سلوكها الداخلي لا شأن له بالمصالح الأميركية. ويحظى هذا الرأي حاليا بقبول متزايد بين المفكرين المعنيين بالسياسة الخارجية. كل ما في الأمر أن كيسنجر كان مفتقرا إلى الحساسية العاطفية في تطبيقه.
وردا على الكشف مؤخرا عن المحادثة المسجلة، قال كيسنجر إن كلماته «يجب النظر إليها في إطار زمانها». ويتمثل هذا الإطار في نقاش حول تعديل «جاكسون - فانيك» عام 1974. كان الاتحاد السوفياتي، الذي مارس العداء ضد السامية ومقت في الوقت ذاته نزف العقول عبر هجرة اليهود، قد فرض غرامات باهظة على المهاجرين. واستجاب السيناتور هنري جاكسون والنائب تشارلز فانيك، بدعم من منظمات يهودية أميركية، باقتراح تشريع يربط العلاقات التجارية الطبيعية مع الاتحاد السوفياتي (والدول الأخرى «غير السوقية») بحرية الهجرة.
من جانبه، اعتقد كيسنجر أن التفاهم مع الاتحاد السوفياتي يتميز بالأهمية الكبرى وأن قضايا حقوق الإنسان ينبغي تناولها في هدوء، على مسار دبلوماسي منفصل. وأخبر نيكسون أن «الجالية اليهودية في هذا البلد تجاه هذه القضية، تتصرف على نحو يفتقر للحكمة. إنهم يتصرفون على نحو خائن».
وعلى الرغم من ذلك، اتضح لاحقا أن تعديل «جاكسون - فانيك» شكل نقطة محورية في الحرب الباردة، فبعد التراجع الأولي في معدلات الهجرة، مارس القانون ضغوطا على الاتحاد السوفياتي طوال عقدين، مما أدى في النهاية لارتفاع معدلات الهجرة. وسلط القانون الضوء على واحدة من أقوى الميزات الآيديولوجية للغرب في مواجهة الاتحاد السوفياتي عبر فضح ضعف نظام يتحتم عليه بناء أسوار لمنع مواطنيه من الهرب. وشكل هذا التأكيد على حقوق الإنسان مصدر إلهام ليس لليهود السوفيات فحسب، وإنما أيضا جماعات وجنسيات أخرى كانت تحت مظلة الاتحاد السوفياتي.
وجاء تعديل «جاكسون - فانيك» بمثابة رفض لواقعية كيسنجر ومقدمة للتوجهات «الريغانية». وأكد التعديل على أن الأنظمة القمعية أكثر احتمالا لأن تهدد جيرانها، وأعلى شأن حقوق الإنسان بين أولويات المصالح الأميركية. كما أنه عزز معايير الكرامة الإنسانية التي شكلت تهديدا مباشرا للأنظمة التي اعتمدت على منعها.
ولا يعد كيسنجر شخصية شريرة بسيطة، ذلك أنه يبعد تماما عن البساطة في شتى مناحي حياته. في الواقع، إن التعقيد سمة أساسية لحياته. والملاحظ أنه في ظل ظروف أخرى، كان صديقا لإسرائيل. ونجح بمهارة في المرور عبر أوقات عصيبة أثناء الحرب الباردة. وفي كتابات لاحقة، اعترف بدور المثالية في تعزيز مكانة الولايات المتحدة عالميا.
إن العبارة سالفة الذكر التي نطقها كيسنجر منذ 37 عاما لا تختزل حياة مهنية بأكملها، لكنها تكشف ضيق أفق واقعية السياسة الخارجية، ذلك أنها تتمسك بوجهة نظر محدودة على نحو مؤسف للسلطة ولا تضع في اعتبارها المميزات الآيديولوجية الأميركية في الصراعات الآيديولوجية العالمية.
وغالبا ما يتبع الواقعيون وجهة نظر تتسم بالتبسيط للعلاقات بين القوى العظمى، مؤكدين أن أي ضغوط على روسيا أو الصين تتعلق بحقوق الإنسان ستسبب انهيار النظام العالمي بأسره. ويستبعد هذا الرأي إمكانية بناء علاقة ناضجة مع دول أخرى تقف أميركا في إطارها مدافعة عن قيمها وتسعى لتحقيق المصالح المشتركة في الوقت ذاته.
وعند النظر إلى هذه الحقبة التاريخية، يتضح لنا أن الجرعات المتكررة من الواقعية في السياسة الخارجية بإمكانها قتل الضمير. خلال فترة رئاسة نيكسون، جرى النظر لغياب المشاعر الإنسانية كمؤشر على الحزم العقلاني؛ وهو مناخ تسبب في انهيار الإدارة ذاتها. إن الواقعيين غالبا ما يرفضون التمييز المانوي بين الخير والشر، والنور والظلام. لكن في ما وراء الخير والشر، قد يجد البعض أنفسهم محشورين في غرف الغاز.
* خدمة «واشنطن بوست»