الاستقرار الإقليمي علي محك الأزمة الكورية
مرسل: الأحد يناير 09, 2011 6:52 am
الاستقرار الإقليمي علي محك الأزمة الكورية
د. أحمد قنديل *
عاد شبح الحرب ليخيم من جديد علي منطقة شبه الجزيرة الكورية، بعد أن تصاعدت حدة التوتر بشدة في نهاية شهر نوفمبر 2010، إثر أزمة الهجوم المدفعي الذي شنته كوريا الشمالية علي جزيرة 'دايونبيونجدو' التابعة لكوريا الجنوبية بالقرب من الحدود البحرية المشتركة في البحر الأصفر، مما أسفر عن مقتل أربعة كوريين جنوبين، نصفهم من المدنيين، والنصف الآخر من العسكريين.
وبعد أيام قليلة من اندلاع هذه الأزمة، التي تعد الأخطر منذ انتهاء الحرب الكورية في عام 1953، ألقي رئيس كوريا الجنوبية، لي ميونج باك، خطابا حزينا ومؤثرا علي شعبه، بدأه بالاعتذار عن رد حكومته 'الضعيف' تجاه هذه الأزمة، مشيرا إلي أنه يتحمل 'المسئولية الكاملة' للفشل في حماية أرواح وممتلكات شعبه. ومن جهة أخري، استنكر الرئيس باك أيضا بشدة تصرفات كوريا الشمالية، مشيرا إلي أنها قابلت مساعدات بلاده الانسانية المتواصلة وحرصها علي الحوار والتعايش بمجموعة من الأعمال الاستفزازية، شملت تطوير برامجها النووية والصاروخية، وإغراق مدمرتها البحرية 'تشيونان' في مارس 2010، مما أسفر عن مقتل 46 بحارا، ثم قيامها أخيرا بالقصف المدفعي لجزيرة 'دايونبيونجدو'.
وفي ضوء ذلك، استبعد الرئيس باك أن تقوم بيونج يانج بالتخلي الطوعي عن برامجها النووية والصاروخية، متعهدا ب- 'الانتقام القاسي' من كوريا الشمالية، في حال ارتكابها المزيد من الاستفزازات.
وبعد هذا الخطاب بساعات، تم تعيين الجنرال كيم كوان جين وزيرا جديدا للدفاع، خلفا لكيم تاي يونج الذي استقال، أو أقيل، بعد القصف المدفعي لكوريا الشمالية. وتعهد وزير الدفاع الجديد بأن ترد سول بشن غارات جوية مدمرة، إذا نفذت بيونج يانج مزيدا من أعمالها الاستفزازية.
ومن أجل ردع كوريا الشمالية عن القيام بأية أعمال عدوانية في المستقبل، أجرت كوريا الجنوبية مناورات عسكرية مشتركة ضخمة مع الولايات المتحدة في البحر الأصفر، شاركت فيها حاملة الطائرات الأمريكية العملاقة جورج واشنطن.
وبعد ذلك بعدة أيام، زاد لهيب المناورات العسكرية في المنطقة، عندما دخلت قوات الدفاع الذاتي اليابانية (الاسم الرسمي للجيش الياباني) في أكبر مناورات عسكرية مشتركة علي الإطلاق مع الولايات المتحدة في عدة مواقع في اليابان وحولها لمدة ثمانية أيام في بداية شهر ديسمبر 0102. وهي المناورات التي شارك فيها للمرة الأولي ضباط من كوريا الجنوبية لإظهار التضامن والتنسيق بين الدول الثلاث في التعامل مع كوريا الشمالية.
ومن ناحيتها، ألقت كوريا الشمالية بمسئولية الأزمة الأخيرة في شبه الجزيرة الكورية علي الشطر الجنوبي لقيامه بإطلاق الذخيرة الحية في المنطقة الحدودية المشتركة بين البلدين.
كما أعلنت بيونج يانج أيضا عن عزمها بناء مفاعل نووي جديد يعمل بالماء الخفيف لتلبية احتياجاتها المتزايدة من الطاقة الكهربائية، في إشارة علي عزمها المضي قدما في تطوير برامجها النووية، بما في ذلك إجراء تجربة نووية ثالثة.
وفي الوقت نفسه، زادت حدة الأزمة بعدما نصبت كوريا الشمالية أيضا صواريخ أرض/أرض علي منصات إطلاق في البحر الأصفر، والذي هددت بتحويله إلي بحر من نار في حال تعرضها لاعتداء أو لأي انتهاك لمياهها الإقليمية، محذرة من عواقب لا يمكن التكهن بها بسبب الخطط الهوجاء التي تتبنها الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، مستهدفة الشعب الكوري الشمالي.
لا حرب ولا سلم :
رغم تصاعد وتيرة التوتر بين الكوريتين علي النحو السالف ذكره، وما قد يترتب علي ذلك من زيادة احتمالات عدم الاستقرار في منطقة شرق آسيا، لا يتوقع كثير من المراقبين، الذين قابلهم كاتب هذه السطور في طوكيو، أن تتصاعد الأزمة في شبه الجزيرة الكورية باتجاه الحرب الشاملة في الوقت الراهن. فالتوتر الدائم، والتصريحات النارية، والمناورات العسكرية الصاخبة، وأحيانا الاشتباكات المحدودة، هي سمات مميزة للوضع في هذه المنطقة من العالم، منذ نهاية الحرب الكورية في عام 3591.
ومع ذلك، يبدو في الوقت نفسه أن الحل السلمي والدبلوماسي لهذه الأزمة ليس ميسورا أو سهل المنال، نتيجة اختلاف رؤي القوي الفاعلة في المنطقة (الولايات المتحدة والصين واليابان وروسيا) حول طبيعة وشكل التسوية السلمية، الأمر الذي يدفع معظم المهتمين بالشأن الكوري إلي ترجيح استمرار هذه الأزمة وتداعياتها السلبية علي أمن واستقرار منطقة شرق آسيا في المدي المنظور.
ففي الوقت الذي تدافع فيه واشنطن، وحلفاؤها في طوكيو وسول، عن اتباع منهج أكثر صرامة وتشددا مع بيونج يانج، من خلال التلويح بفرض عقوبات اقتصادية جديدة، والقيام برد عسكري قوي إذا ما تكررت الاستفزازات من الشطر الشمالي، تتمسك بكين، وتؤيدها في ذلك موسكو، باتباع منهج التهدئة والتعاون مع كوريا الشمالية عبر المحادثات السداسية.
ويؤكد الخبراء أنه ما دام هذا الاختلاف قائما في الرؤي بين القوي الرئيسية ذات العلاقة بشبه الجزيرة الكورية، فسيكون من الصعوبة بمكان اتخاذ أية خطوات إيجابية ملموسة للحل السلمي والدبلوماسي للأزمة.
ويضيف هؤلاء بالقول إن الصين والولايات المتحدة هما الدولتان الوحيدتان القادرتان علي قيادة دفة التطورات في شبه الجزيرة الكورية نحو شاطئ الاستقرار، مشيرين إلي أن التعاون الأمريكي - الصيني هو السبيل الوحيد لوضع نهاية الأزمة المستعصية علي الحل في شبه الجزيرة الكورية.
الصين الحليف الأول :
الصين هي اللاعب الأكثر أهمية في حل أزمة شبه الجزيرة الكورية، من وجهة نظر العديد من المتابعين للشأن الكوري. فهي تعتبر الحليف الأول، وربما الأوحد، لكوريا الشمالية منذ فترة طويلة، بعد أن أصبحت المصدر الرئيس للغذاء والوقود اللازمين لعدم انهيار النظام الحاكم في بيونج يانج، في ضوء العقوبات الاقتصادية الصارمة المفروضة عليها من جانب مجلس الأمن الدولي وعدد من الدول المهمة في المجتمع الدولي. ومن ثم، تملك الصين نفوذا اقتصاديا وسياسيا هائلا علي قادة كوريا الشمالية.
ومن جهة أخري، يثق صانعو القرار في بيونج يانج في أن نظراءهم في بكين لديهم حرص شديد علي عدم انهيار النظام الحاكم في كوريا الشمالية، باعتبار أن ذلك من شأنه أن يتعارض مع المصالح الصينية القومية العليا، التي تؤكد الأهمية القصوي لعدم خسارة كوريا الشمالية بوصفها حاجزا عازلا بين القوات الصينية من جهة والقوات العسكرية الأمريكية المتمركزة في كوريا الجنوبية من جهة أخري.
فضلا عن أن المصالح الصينية العليا تشير أيضا إلي تفضيل الصينيين التعامل مع كوريا الشمالية، وربما اليابان وكوريا الجنوبية، وهي مسلحة نوويا، بدلا من التعامل مع دولة منهارة علي حدودها المباشرة. حيث يقدر مسئولون صينيون أن بلدهم سيتدفق عليه نحو 300 ألف نازح من الكوريين الشماليين في حالة حدوث حالة خطيرة من الفوضي وعدم الاستقرار هناك.
وهذه المصالح الصينية الجوهرية ربما تنجح في تفسير عدم قيام بكين بإدانة كوريا الشمالية طوال العام الماضي (سواء بعد اتهام سول لها بإغراق المدمرة 'تشيونان' في مارس 2010 التابعة لكوريا الجنوبية، أو بعد القصف المدفعي للجزيرة الجنوبية في نهاية نوفمبر الماضي) رغم الضغوط الأمريكية واليابانية والكورية الجنوبية عليها في هذا الاتجاه.
وبدلا من ذلك، بادرت بكين في نهاية شهر نوفمبر 2010، وبمجرد وقوع الأزمة الأخيرة في شبه الجزيرة الكورية مباشرة، باقتراح عقد اجتماع طارئ للمحادثات السداسية. وهي المحادثات التي تشارك فيها ست دول (الصين واليابان والولايات المتحدة وروسيا والكوريتان) من أجل بحث نزع السلاح النووي لدي كوريا الشمالية، وتطبيع العلاقات بينها من جهة، والولايات المتحدة واليابان من جهة أخري.
إلا أن المبادرة الصينية وجدت ردود فعل فاترة من جانب كوريا الجنوبية والولايات المتحدة واليابان، حيث سارعت سول إلي تأكيد أن الوقت 'غير مناسب' لعقد هذه المحادثات. وقالت واشنطن أيضا إن كوريا الشمالية عليها أولا تغيير توجهاتها الاستفزازية الحالية. واتبعت طوكيو الخط نفسه، مؤكدة ضرورة قيام بيونج يانج أولا بالاعتراف بمسئولياتها عن أفعالها الاستفزازية.
وذهبت إدارة الرئيس الأمريكي أوباما خطوة أبعد في الرد علي المبادرة الصينية، في إطار ضغوطها الدبلوماسية علي بكين، حيث اتهمت الخارجية الأمريكية قادة الصين بأنهم 'يساعدون' كوريا الشمالية في تطوير برنامج تخصيب اليوارنيوم، وشن الهجمات العسكرية علي كوريا الجنوبية، مشيرة إلي أن بكين تغض الطرف عن انتهاكات بيونج يانج لقرارات مجلس الأمن الدولي واتفاق الهدنة لوقف الحرب الكورية في 3591. بل إن المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية لوحت بأن بلادها ربما تحتاج إلي إنشاء 'حلف مضاد للصين' في منطقة شرق آسيا، لأن سلوكيات بكين المهادنة تشجع قادة كوريا الشمالية علي التمادي في تصرفاتهم الاستفزازية.
تسريبات ويكيليكس :
الانتقادات الأمريكية العلنية في الآونة الأخيرة للموقف الصيني المهادن تجاه كوريا الشمالية تتجاهل بوضوح المعلومات الواردة في الوثائق الأمريكية التي تسربت عبر موقع ويكيليكس في نهاية شهر نوفمبر 0102. حيث تشير هذه الوثائق إلي أن التأثير الصيني في كوريا الشمالية 'أقل كثيرا مما هو متصور'، خاصة بعد أن تراجع النفوذ السياسي الصيني لدي كوريا الشمالية بدرجة ملحوظة منذ التجارب النووية والصاروخية التي أجرتها الأخيرة في عام 9002.
بل إن الصينيين أصبحوا يعتقدون أن الكرة الآن أصبحت في الملعب الأمريكي لتحقيق التقدم في المباحثات مع كوريا الشمالية عن طريق المفاوضات الثنائية المباشرة. فبحسب برقية دبلوماسية أمريكية، أكد نائب وزير الخارجية الصيني لمسئولين أمريكيين أن بيونج يانج كانت تتصرف مثل 'الطفل المدلل' لتجذب انتباه واشنطن للمفاوضات المباشرة بإجرائها تجارب صاروخية في أبريل عام 9002.
تشدد أمريكي غير متوقع :
علي خلاف الموقف الصيني المهادن تجاه بيونج يانج من أجل تهدئة الأوضاع المتوترة في شبه الجزيرة الكورية، تميل الولايات المتحدة بشكل عام إلي اتباع منهج أكثر تشددا وصرامة تجاه كوريا الشمالية.
فعقب تبادل القصف المدفعي بين الكوريتين في نوفمبر 2010، أكد المسئولون الأمريكيون رسالة مفادها أن 'التصرفات السيئة' من جانب كوريا الشمالية لابد من التعامل معها بحزم وقوة من الآن فصاعدا، وأن تكرار قيام بيونج يانج لهذه التصرفات في المستقبل لن يمر دون عواقب وخيمة عليها.
كما سارعت واشنطن أيضا إلي مطالبة حلفائها بفرض عقوبات اقتصادية شاملة علي الكورييين الشماليين، والتخلي عن المحادثات السداسية الرامية إلي تفكيك البرنامج النووي الخاص بهم.
ودعا مجلس الشيوخ الأمريكي الصين إلي استخدام نفوذها لوقف جميع الأنشطة النووية لدي كوريا الشمالية، وتحجيم تصرفاتها الاستفزازية، التي وصفها المجلس بأنها 'لا تخدم إلا زعزعة الاستقرار والأمن في شبه الجزيرة الكورية.'
وفي ظل هذه التوجهات العامة، أجرت واشنطن مناورات عسكرية ضخمة مع سول، استمرت أربعة أيام، بدأت في 28 نوفمبر 0102، وشاركت فيها حاملة الطائرات الأمريكية (يو إس إس جورج واشنطن)، وفرقاطات وطائرات لمحاربة الغواصات، وطرادات قاذفة للصواريخ، ومجهزة بنظام 'إيجيس' المضاد للصواريخ الباليستية، بحسب قيادة القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية، حيث يتمركز 28500 جندي أمريكي.
ومن ناحية ثانية، استقبلت واشنطن، ومعها سول وطوكيو، الاقتراح الصيني الداعي إلي إحياء المحادثات السداسية بحذر وتردد، حسبما أوضحنا في السطور السابقة.
الموقف الأمريكي المتشدد من كوريا الشمالية جاء علي عكس توقعات بعض المراقبين القائلة إن واشنطن ستسعي بكل جهدها لتهدئة الأوضاع في شبه الجزيرة الكورية حتي تتجنب بدء حرب جديدة في منطقة شرق آسيا، خاصة أن الإدارة الأمريكية الحالية تسعي جاهدة للخروج بماء الوجه من حربيها في العراق وأفغانستان. فضلا عن أن مشكلات واشنطن الاقتصادية الداخلية، وامتلاك كوريا الشمالية للسلاح النووي من شأنهما -في حال وقوع أية مواجهة عسكرية مع كوريا الشمالية- تعقيد الأمور بشدة أمام إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما.
ومن جهة أخري، رأي عدد من المراقبين أن تشدد واشنطن تجاه كوريا الشمالية غير منطقي أو مطلوب علي الأقل في الفترة الحالية، لأن هذا التشدد قد يدفع بالعلاقات بين الولايات المتحدة من ناحية وكل من الصين وروسيا من ناحية أخري، نحو توترات لا تنسجم مع حاجة الأمريكيين لتأييدهما في مجلس الأمن بخصوص عدد من الملفات الأكثر إلحاحا وأهمية للمصالح الأمريكية، مثل الملف النووي الإيراني. فما هي دوافع وأهداف هذا الموقف المتشدد وغير المتوقع من جانب واشنطن تجاه بيونج يانج?
دوافع الموقف الأمريكي :
في محاولة للرد علي هذا التساؤل، يري عدد من المراقبين أن الإدارة الأمريكية لديها أكثر من دافع لهذا الموقف المتصلب تجاه الكوريين الشماليين، بعضها يتعلق بحسابات دولية وإقليمية، وبعضها الآخر يتعلق بحسابات داخلية.
الدافع الأول: هو رغبة الإدارة الأمريكية الحالية في المحافظة علي صورتها كقوة مهيمنة علي الساحة العالمية، وتعميق تحالفها الأمني والاستراتيجي مع اليابان وكوريا الجنوبية، عن طريق لفت نظرهما إلي وجود عدو خطير (يتمثل في كوريا الشمالية ومن خلفه الصين) في منطقة البحر الأصفر، مما يبرر وجودها العسكري المكثف في منطقة شرق آسيا. ويأتي تنامي هذه الرغبة في وقت تتصاعد فيه المطالبة الشعبية، والرسمية أحيانا، بتصفية القواعد العسكرية الأمريكية في كل من كوريا الجنوبية واليابان، لما تمثله من أعباء مالية وسياسية باهظة.
الدافع الثاني: هو رغبة واشنطن في توجيه رسالة تحذير قوية للصين، التي تزايدت قوتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية بوضوح في الآونة الأخيرة، مما شجعها علي اتخاذ مواقف أكثر تصلبا تجاه منازعاتها الإقليمية مع الدول المجاورة، خاصة مع اليابان بشأن الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي. فالولايات المتحدة رأت في الموقف المتشدد تجاه كوريا الشمالية، وإجراء المناورات العسكرية مع كوريا الجنوبية واليابان في البحر الأصفر وبحر اليابان علي التوالي، وعلي بعد مئات الكيلو مترات من الحدود الصينية، لفتا لأنظار قادة الصين إلي حقيقة أنهم لن يكونوا آمنين، إذا ما استمرت محاولاتهم لتغيير الوضع القائم في بحر الصين الشرقي.
الدافع الثالث: حاجة الرئيس الأمريكي، بعد هزيمة الديمقراطيين في الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكي، للحصول علي تأييد عدد من أعضاء الحزب الجمهوري لبعض ملفاته الإصلاحية الداخلية، مقابل إحداث نوع من التوافق مع الحزب الجمهوري في مجال السياسة الخارجية، خاصة في مجال التعامل مع الصين وكوريا الشمالية.
ومن جهة أخري، يري البعض أن التشدد الأمريكي تجاه بيونج يانج يهدف أيضا إلي الاستجابة إلي متطلبات صناعة السلاح الأمريكية، عبر اجتذاب حلفائها في شرق آسيا (كوريا الجنوبية، اليابان، تايوان، وصولا إلي الفلبين ..) إلي مشاريع دروع صاروخية دفاعية مشابهة لتلك التي يتم إنشاؤها في أوروبا الشرقية، لمواجهة 'الخطر الداهم' من جانب كوريا الشمالية.
رؤية كارتر لحل الأزمة :
وبعيدا عن دوافع وأهداف السياسة الأمريكية تجاه الأوضاع المتفجرة في شبه الجزيرة الكورية، يري عدد من المراقبين، ومن بينهم كاتب هذه السطور، أن السياسة الأمريكية المتصلبة، والهادفة لخنق النظام الحاكم في كوريا الشمالية، أو دفعه نحو الهاوية بفرض مزيد من العزلة الاقتصادية والدبلوماسية عليه، هي سياسة محدودة النتائج وغير فعالة في تحقيق الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية، بل إنها تؤدي في معظم الأحيان إلي نتائج عكسية من شأنها أن تؤجج الأزمة هناك بدلا من حلها.
وتأكيدا علي وجهة النظر هذه، نشر الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر، في 30 نوفمبر 2010، مقالة مهمة في صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، أكد فيها أن حل أزمة شبه الجزيرة الكورية يتطلب الاستجابة لمطالب بيونج يانج، مشيرا إلي أن تصرفاتها الأخيرة، سواء إعلانها عن امتلاك الآلاف من أجهزة الطرد المركزي في منشأة لتخصيب اليورانيوم، أو قصفها المدفعي لجزيرة 'دايونبيونجدو' التابعة لكوريا الجنوبية، ما هي إلا رغبة منها في لفت نظر العالم إلي أنها تستحق اهتماما أكثر واحتراما أكبر في المفاوضات السياسية التي تجري حاليا بين الدول الست لتشكيل الملامح الرئيسية لمستقبل كوريا الشمالية.
وشدد كارتر أيضا، في مقالته المهمة، علي أن الإدارة الأمريكية الحالية لن يكون أمامها سوي التهدئة الدبلوماسية، وتجنب وقوع صدام كارثي مع كوريا الشمالية، عن طريق إجراء مفاوضات مباشرة معها، علي غرار تلك التي جرت بين البلدين في ظل إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في جنيف عام 1994، والتي أسفرت عن إيقاف بيونج يانج لدورة معالجة الوقود النووي، وإعادة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة النووية إلي كوريا الشمالية لمدة ثماني سنوات.
وقال كارتر إن قيام إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في عام 2000 باعتبار كوريا الشمالية إحدي دول 'محور الشر'، بعد ظهور مؤشرات علي مساعيها الرامية لامتلاك اليورانيوم المخصب في انتهاك صارخ لاتفاق 1994، أدي إلي طرد بيونج يانج لمفتشي الوكالة، واستئناف برنامجها النووي من جديد لتصبح قادرة علي صنع سبعة رءوس نووية، حسب أحدث التقديرات المتاحة حول قدراتها النووية.
وأشار كارتر أيضا إلي أن المفاوضات السداسية، التي استمرت عدة سنوات، قد نجحت في التوصل إلي تسوية مقبولة من جميع الأطراف علي اتفاق جديد لوقف البرنامج النووي لدي كوريا الشمالية في عام 5002. وهو الاتفاق الذي أكد المبادئ الأساسية التي قام عليها اتفاق 1994، مثل ضرورة إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، وتعهد الولايات المتحدة بعدم الاعتداء علي كوريا الشمالية، واتخاذ الخطوات اللازمة للتوصل إلي اتفاق سلام شامل يحل محل اتفاق وقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية والصين، الذي تم التوصل إليه في عام 3591.
ويوضح كارتر أيضا أن كوريا الشمالية ستصر علي موقفها الرامي إلي إجراء مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة لنزع فتيل الأزمة في شبه الجزيرة الكورية، لأن قادتها يعتقدون أن واشنطن هي التي تتحكم في المواقف العسكرية والسياسية لكوريا الجنوبية.
وأكد كارتر، في نهاية مقالته، ضرورة استجابة واشنطن لرغبة كوريا الشمالية في إجراء مفاوضات مباشرة معها للحصول علي اعتراف دبلوماسي ومساعدات اقتصادية، مقابل موافقة بيونج يانج علي عودة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة النووية إليها، وإخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، والتوصل إلي اتفاق نهائي لوقف إطلاق النار، بناء علي اتفاق 1994 والمبادئ التي أسفرت عنها المحادثات السداسية في عام 5002.
وحذر كارتر من أن البديل لهذه الرؤية سيكون قيام بيونج يانج باتخاذ كافة الخطوات، التي تراها ضرورية، للدفاع عن نفسها ضد الهواجس التي تنتابها من وقوع هجوم عسكري عليها، من أجل تغيير النظام الحاكم فيها بدعم ومساندة الولايات المتحدة.
المعضلة الكورية :
لا أحد يستطيع تأكيد أن الحل الأمثل لأزمة شبه الجزيرة الكورية المزمنة يتمثل في رؤية كارتر والمواقف الصينية المهادنة تجاه كوريا الشمالية، أو في الموقف الأمريكي المتشدد حيالها. ولا أحد يعلم أيضا ما إذا كان استمرار النظام الحالي في بيونج يانج أو السعي لإسقاطه والقضاء عليه هو الأفضل لتحقيق الأمن والاستقرار في منطقة شرق آسيا أم لا.
وفي ضوء ذلك، يؤكد العديد من الخبراء أن الوضع لا يزال خطيرا في شبه الجزيرة الكورية، محذرين من أن الانتظار لعدة سنوات أخري، دون إحداث تقدم ملموس لتحقيق الامن والاستقرار في المنطقة، سيؤدي إلي عواقب وخيمة، من أبرزها مزيد من التطوير في القدرات النووية والصاروخية لدي كوريا الشمالية، فضلا عن مزيد من التصرفات العسكرية الاستفزازية من جانب بيونج يانج. ومن ثم يبدو للكثيرين أن الانتظار لن يكون الحل الأمثل لضمان الاستقرار والأمن في شبه الجزيرة الكورية.
وسيكون البديل، في المدي القصير، هو ضرورة التعاون الأمريكي - الصيني لتجميد البرامج النووية والصاروخية لدي كوريا الشمالية، مقابل دفع 'ثمن' مناسب بالطبع.
ولكن في المدي الطويل، ستظل أزمة شبه الجزيرة الكورية بلا نهاية، ما دامت أسرة كيم تسيطر علي السلطة السياسية في بيونج يانج. حيث تشير إحدي الوثائق الأمريكية التي سربها موقع ويكيليكس أخيرا إلي تخوف صانعي السياسة في سول وواشنطن من انهيار كوريا الشمالية بحلول عام 2018، نتيجة للأزمات الاقتصادية والسياسية التي تمر بها. حيث أكد دبلوماسي كوري جنوبي هذا التقدير للسفيرة الأمريكية في سول، كاثلين ستيفين، علي غداء عمل في شهر فبراير 2010، مشيرا إلي أن هذا الانهيار سيحدث بعد سنتين أو ثلاث من رحيل كيم جونج إيل المتوقع في عام 2015 علي الأكثر.
وفي ظل هذا السيناريو، يمكن أن نتخيل حجم الفوضي وعدم الاستقرار الذي يمكن حدوثه في المنطقة، بعد رحيل الزعيم الحالي لكوريا الشمالية كيم جونج إيل، نتيجة ضعف خبرة خليفته المحتمل، وهو ابنه الأصغر ذو الثمانية والعشرين ربيعا، أو كنتيجة لوقوع انقلاب عسكري، أو لأي سبب آخر.
ولا شك في أن جميع الدول الفاعلة في شبه الجزيرة الكورية (خاصة الصين والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، واليابان وروسيا)، ستكون في حالة من القلق الشديد إزاء الأسلحة النووية التي تمتلكها كوريا الشمالية. وستتجه كل الأنظار إلي بكين وواشنطن من أجل التعامل مع هذا الوضع بالغ الخطورة. وهنا، سيثور عدد هائل من الأسئلة، من أبرزها:
هل ستثق واشنطن في الصين للسيطرة علي البلوتونيوم واليورانيوم المخصب لدي كوريا الشمالية? وهل ستقبل بكين بفكرة قيام قوات كوريا الجنوبية بمحاولة استعادة النظام والأمن بالقوة في كوريا الشمالية? بل وهل ستسمح الصين بتوحيد كوريا عن طريق استخدام القوة من جانب سول? وإذا ما تحققت الوحدة الكورية، فهل ستوافق واشنطن علي خفض أو سحب قواتها من شبه الجزيرة الكورية واليابان أم لا? وهل يمكن أن يدفع تدهور الأوضاع في كوريا الشمالية إلي تسامح بكين وواشنطن مع امتلاك كل من اليابان وكوريا الجنوبية للسلاح النووي?
أسئلة مهمة يصعب الإجابة عليها في الوقت الراهن. ولكن يمكن توقع أن تحاول الولايات المتحدة، وحلفاؤها في اليابان وكوريا الجنوبية، التدخل المباشر للسيطرة علي الأوضاع في كوريا الشمالية. وهو الأمر الذي سيواجه علي الأرجح بالرفض الشديد من جانب الصينيين الذين لا يرغبون في رؤية الجنود الأمريكيين علي حدودهم.
بل إن عددا من المراقبين يرجح فكرة أن بكين قد تحاول في المدي البعيد، نسبيا، استعادة هيمنتها التاريخية علي شبه الجزيرة الكورية، باعتبار أن الصين هي القوة الرئيسية في هذه المنطقة منذ فجر التاريخ.
وفي ظل كل هذه التوقعات والترجيحات، يمكن القول إن التوتر وعدم الاستقرار في هذه المنطقة المضطربة سيستمران لفترة طويلة مقبلة.