تحولات النظام الدولي ومستقبل الهيمنةالأمريكية
مرسل: الأحد يناير 09, 2011 6:57 am
تحولات النظام الدولي ومستقبل الهيمنةالأمريكية
عمرو عبد العاطي *
وقد تمحور هذا الجدل حول جملة تساؤلات من قبيل :
هل ينزع النظام الدولي إلي التعددية القطبية أم يعود إلي الثنائية (هذه المرة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين)?، أم هل سيصير إلي حالة من 'اللاقطبية' تتساوي فيها نفوذ الدول الكبري مع المؤسسات الدولية والدول الإقليمية?، وكيف ستتعامل الولايات المتحدة مع هذا التغير الجوهري في بنية النظام الدولي الذي تتربع علي قمته منذ انهيار الاتحاد السوفيتي?، هل ستظل الولايات المتحدة فاعلا رئيسيا في هذا النظام أم سيتراجع دورها?، وهل يمكنها المحافظة علي انفرادها بقيادته وإعاقة تقدم القوي الأخري?. وقد زادت حدة هذا النقاش ما تزايد التأزم في السياسة الأمريكية دوليا خلال السنوات الثماني لحكم الرئيس الأمريكي الأسبق 'جورج دبليو بوش'، وعقب تفاقم حدة الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد الأمريكي، ومن ورائه العالمي في منتصف عام 2008 .
ومع اختلاف الرؤي حول شكل النظام الدولي الذي هو في طور التشكل، فإن هناك اتفاقا علي أن الصين تعد المنافس القوي والمحتمل للولايات المتحدة الأمريكية علي الصعيد الدولي. فيتوقع تقرير مجلس الاستخبارات الوطنية الأمريكي، المعنون ب- 'الاتجاهات العالمية لعام 2025: تحول العالم'، أن تكون الصين أكبر دول العالم اقتصادا، وأنها ستكون قوة عسكرية رائدة، في ظل سعيها واستعدادها لمزيد من التأثير في السياسة الدولية علي مدي العشرين سنة القادمة من أي بلد آخر(1).
الصين تتحدي الهيمنة الأمريكية :
يرجع كثير من المحللين صعود الصين كقطب دولي وتحديه للمكانة والهيمنة الأمريكية إلي النمو الاقتصادي الصيني، وتراجع نظيره الأمريكي، في ضوء الأزمات المتعددة التي سيظل النظام المالي الأمريكي يعانيها خلال العقود القادمة. فعلي سبيل المثال، أوضح مكتب الميزانية التابع للكونجرس الأمريكي Congressional Budget Office
أن الدين الأمريكي خلال العقد القادم سيصل إلي 90% من الناتج المحلي الإجمالي(GDP) للولايات المتحدة الأمريكية، وهي تقديرات يراها البعض متفائلة في ظل توقعات انخفاض معدل النمو الأمريكي. كما توقعت ورقة لصندوق النقد الدولي أن يتساوي الدين الأمريكي مع الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بحلول عام 2015، مما يشابه النسبة التقديرية لمديونية إيطاليا واليونان حاليا.
ونتيجة للسياسات التي اتبعتها إدارتا الرئيس السابق جورج بوش (الابن)، ارتفع نصيب الفرد من الدين العام بنسبة 50%، أي من 13 ألفا إلي 19 ألفا خلال تلك الفترة. ووصل العجز للسنة المالية 2009 إلي 1.6 تريليون دولار بنسبة 9%، ويتوقع مكتب ميزانية الكونجرس أن يزيد بمعدل تريليون دولار في العام حتي عام 2020(2). يصب كل ذلك - حسب عديد من الباحثين - في مصلحة الصين من جهة تفوقها اقتصاديا علي الولايات المتحدة وتصاعد دورها العالمي.
ويقلل جوزيف ناي من قدرة الصين علي تحدي الولايات المتحدة، فيري أن الطريق لا يزال أمامها طويلا حتي تنافس قوة الولايات المتحدة، نظرا للتحديات التي تواجهها علي صعيد التنمية، ومشكلات تدهور المناطق الريفية، والمشكلات الديموجرافية.
وبافتراض أن معدل نمو الناتج المحلي الصيني سوف يصل إلي نسبة 6%، ومعدل النمو الأمريكي لن يتعدي 2% بعد 2030، فإن ناي يري أن نصيب دخل الفرد في الصين أقل من نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية. بعبارة أخري، فإن الصين قد تصل إلي نفس حجم الاقتصاد الأمريكي في غضون بضع سنوات، ولكن مردود هذا النمو والتطور الاقتصادي لن يكون متساويا بين البلدين.
ويضيف أن الصين لم تحل مشكلة المشاركة السياسية التي تصاحب ارتفاع مستوي دخل الفرد. ويتساءل عما إذا كانت الصين لديها صيغة تدير بها التوسع في الطبقة الوسطي الحضرية، وعدم المساواة الإقليمية، والفقر في المناطق الحضرية، والاستياء بين الأقليات العرقية أم لا.
ويرد ناي علي من يري أن الصين تطمح في تحدي الولايات في منطقة شرق آسيا، ثم عالميا، بأنه من المشكوك فيه - حتي في حال توافر الرغبة الصينية - أن تكتسب الصين القدرة العسكرية علي تحقيق هذا الهدف في المدي المنظور. كما أن الصين لا ترغب في إثارة غضب جيرانها واستعداء دول خارجية، في ظل خوفها من غلق أسواقها أمام منتجاتها وحرمانها من مواردها. بالإضافة إلي أن أي تصرف صيني عسكري سيدفع جيرانها إلي تشكيل تحالفات، من شأنها إضعاف قوة بكين الصلدة والناعمة.
ويضيف ناي أن هناك معارضة من دول آسيوية، كالهند واليابان، لدور صيني فاعل في القارة الآسيوية، مما يصب في المصلحة الأمريكية في ظل التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة واليابان، وتحسن العلاقات الأمريكية - الهندية. ومن الموقف القوي الذي تشكله جبهة الولايات المتحدة والهند واليابان، يمكن إشراك الصين في القضايا الدولية، وتقديم الحوافز لها للعب دور مسئول، مع الاستعداد والتحوط من أي سلوك عدواني للصين كقوة صاعدة (3).
والجدير بالذكر أن الصين تعمل حاليا علي بناء أسطول بحري حديث من المدمرات والغواصات، فضلا عن إعادة صياغة العقيدة العسكرية لتفعيل قدرتها علي التحرك في جنوب وشرق الصين، بالإضافة إلي مد نفوذها في البحار والمحيطات. ويقول تقرير لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) إن الصين ستصبح أكثر الدول قدرة علي منافسة الولايات المتحدة عسكريا علي الصعيد الدولي(4).
مستقبل الدور والقيادة الأمريكية :
تتفق معظم الكتابات الأمريكية علي أن الولايات المتحدة ستظل القوة الفاعلة في النظام الدولي الذي لا يزال في طور التشكل، إلا أن اختلال موازين القوي بين الولايات المتحدة والقوي الصاعدة سيضيق. كما تتفق علي قدرة الولايات المتحدة علي الخروج من أزماتها، واستغلالها كفرصة لتعزز نفوذها الدولي(5).
ويرفض معظم الباحثين المقارنة بين ما تمر به الولايات المتحدة حاليا، والظروف التي سبقت انهيار الإمبراطورية البريطانية، نظرا لأن الولايات المتحدة تملك من مصادر القوة ما افتقدته بريطانيا في حينه. كما أنها تختلف عن بريطانيا في أنها غير محاطة جغرافيا بدول تهددها، مثلما كانت تهدد ألمانيا وروسيا بريطانيا.
ويري الفريق الدافع بقدرة الاقتصاد الأمريكي علي تجاوز التأزم الاقتصادي الحالي أن الأزمة لا ترتبط بخلل أو قصور في المنظومة الاقتصادية الأمريكية، ولكنها ترجع إلي سياسات يمكن إصلاحها بصورة سريعة وسهلة. وفي حال تعافي الولايات المتحدة من أزماتها الاقتصادية، فإنها ستضمن دورا فاعلا علي المستوي العالمي، خاصة في ظل عدم تمتع النموذجين الصيني والروسي بالجاذبية لدي الدول الأخري. وقد صاغت الإدارة الأمريكية بالفعل مجموعة من السياسات التي تساعد علي النهوض بالاقتصاد، منها: تشجيع زيادة المدخرات، وزيادة الدورات التدريبية في مجال العلوم والتكنولوجيا، وتطوير أساليب جيدة في استغلال الطاقة(6).
وفي عصر تكنولوجيا المعلومات، فإن قوة الدولة تكمن في ما تمتلكه من معرفة في مجال التكنولوجيا والبرمجة، والاختراعات، والتي تتفوق فيها واشنطن علي مثيلاتها من الدول الأخري. والولايات المتحدة هي مهد الصناعات النانوتكنولوجية (الصناعات التكنولوجية الدقيقة) والبيولوجية، وتحقق أرباحا طائلة منها. فقد حققت عائدات من الصناعات التقنية الحيوية بأكثر من 50 مليار دولار، وهو خمسة أضعاف ما حققته أوروبا. كما تحقق ما نسبته 76% من العائدات العالمية في مجال التقنية الحيوية، فضلا عن حفاظها علي مكانتها المتقدمة في مجالات العلم والثقافة والمعلومات.
ويؤكد زكريا أن الولايات المتحدة ستحتفظ بحيويتها لارتفاع نسبة الشباب فيها - وهي الشريحة الاجتماعية التي يعول عليها في تقدم الدول - وذلك نظرا للهجرة المتوافدة عليها من باقي دول العالم. تستمد الولايات المتحدة قدرتها علي جذب المهاجرين من أنها بلد الديمقراطية والحرية، ولنجاحها في دمج وصهر المهاجرين في بوتقة الثقافة والتاريخ الأمريكي. وقد ظهرت تجليات ذلك في منافسة أمريكي من أصل إفريقي لأمريكي أبيض علي منصب الرئاسة، بل ووصوله إلي البيت الأبيض كأول سابقة في التاريخ السياسي الأمريكي(7).
كما تتميز الولايات المتحدة بارتفاع نسبة الاستثمار الأمريكي في عمليات البحث والتطوير. ففي عام 2007، كانت الولايات المتحدة رائدة في الإنفاق علي البحث العلمي بما يقدر ب- 396 مليون دولار، تليها آسيا ب- 388 مليون دولار، ثم الاتحاد الأوروبي ب- 263 مليون دولار. وتنفق الولايات المتحدة 2.7% من الناتج المحلي الإجمالي علي البحث والتطوير، أي نحو ضعف ما تنفقه الصين، ناهيك عن تزايد تسجيل براءات الاختراع التي وصلت إلي 80 ألف براءة اختراع في عام 2007، وهو ما يفوق دول العالم مجتمعة(8).
وتتفوق الولايات المتحدة علي باقي الدول في الإنفاق علي التعليم العالي الذي يعد نجاحا اقتصاديا للولايات المتحدة في عصر ثورة المعلومات، فهي تنفق علي التعليم ضعف إنفاق فرنسا وألمانيا واليابان. وفي تقييم Times Higher Education
لعام 2009، جاءت ست جامعات أمريكية ضمن أفضل عشر جامعات في العالم. وفي دراسة Shanghai Jiao Tong University
لعام 2010 جاءت سبع عشرة جامعة أمريكية ضمن أفضل عشرين جامعة، بالإضافة إلي حصول مواطني الولايات المتحدة علي أكبر عدد من جوائز نوبل. كما أن معدل النشر العلمي أعلي من أي دولة أخري، وهو ما يعزز القوة الصلدة والناعمة للولايات المتحدة الأمريكية(9).
كيفية الحفاظ علي المكانة الدولية :
تنشغل الأوساط السياسية والأكاديمية الأمريكية بتساؤل رئيسي يتعلق بكيفية حفاظ الولايات المتحدة علي دورها كقائدة للنظام الدولي، في ظل صعود قوي جديدة تهدد هذه المكانة، وترغب في أن تحل محل الولايات المتحدة الأمريكية دوليا، لاسيما بعد تراجع الدور والنفوذ الأمريكيين خلال السنوات الثماني لحكم الرئيس بوش الابن.
وقد جاءت استراتيجية الأمن القومي(10) التي أعلنتها إدارة باراك أوباما في السابع والعشرين من مايو 2010، بعد ما يقرب من ستة عشر شهرا لها في البيت الأبيض، لتعكس رؤية الإدارة الأمريكية الحالية لمواجهة تراجع النفوذ الأمريكي عالميا. كما عكست مقالات عديد من المسئولين الأمريكيين بدورية الشئون الخارجية (Foreign Affairs) ذائعة الصيت هذه الرؤية أيضا، ومنهم وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس(11)، ووزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون(12). وقد عكست هذه المقالات الرؤية الأمريكية لكيفية التعامل مع النظام الدولي 'كما هو'، وليس من زاوية 'يجب أن يكون عليه'.
تهدف الاستراتيجية الأمريكية الجديدة إلي تدعيم القدرة الأمريكية علي لعب دور قيادي في النظام العالمي، لتحقيق مصالحها في القرن الحادي والعشرين، وذلك علي مسارين، يتمثل أولهما في بناء قوتها الداخلية. أما ثانيهما، فيتمثل في العمل علي صوغ نظام دولي يمكن من مواجهة التحديات الدولية. ينطلق ذلك من قناعة عبر عنها 'أوباما' في أكثر من محفل دولي، والتي أكدها في تقديمه للوثيقة، ومفادها: 'أنه ليست هناك دولة واحدة، بغض النظر عن قوتها، تستطيع التصدي لكل التحديات العالمية بمفردها'، وهو الأمر الذي يفرض إعادة صياغة المقاربات التعاونية أو التشاركية القادرة علي تحقيق نجاحات دولية.
ومن جانبها، تؤكد وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون، ضرورة تعزيز الولايات المتحدة الأمريكية الشراكة مع الحلفاء، وتوسيع تلك الشراكات وتعمقيها، فضلا عن البحث عن شركاء جدد. وهو ما أكدته وثيقة الأمن القومي الأمريكي الجديدة في أكثر من موضع. وتتفق مقالة 'هيلاري' الأخيرة في مجلة 'الشئون الخارجية' ووثيقة الأمن القومي الأمريكي في ضرورة تركيز الولايات المتحدة علي التعاون مع المؤسسات الدولية القائمة، مثل مجموعة العشرين، ومنظمة الأمم المتحدة، بعد فترة من تراجع التعاون الأمريكي خلال فترتي بوش الابن، وكذلك مع عديد من المؤسسات الإقليمية، كمؤسسة رابطة دول جنوب شرق آسيا، ومنظمة الدول الأمريكية. ولتفعيل تلك المؤسسات الدولية، دعا العديد من الباحثين إلي أن تكون أكثر فاعلية في تمثيلها للعالم في القرن الحادي والعشرين، بأن يكون هناك تمثيل وصوت ومسئوليات أكبر للقوي الناشئة والصاعدة علي المسرح الدولي(13).
ويصاحب ذلك إحداث تحول في الدبلوماسية الأمريكية، بحيث تكون هي عمود السياسة الخارجية الأمريكية. ولا يكون التركيز فقط علي العمل الدبلوماسي المحض، ولكن لابد أن يكون للدبلوماسية الأمريكية دور تنموي إنساني من خلال الوكالات الأمريكية التنموية والتابعة لوزارة الخارجية الأمريكية(14)، مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والتي تعمل جنبا إلي جنب مع العمل العسكري الأمريكي، وهو أيضا ما أكده وزير الدفاع الأمريكي في مقالته بدورية الشئون الخارجية. ومن جانبها، تؤكد هيلاري استمرار العلاقة والشراكة بين الدبلوماسيين والمدنيين الموكل إليهم العمل التنموي والإنساني وشركائهم في الجيش، لاسيما في مناطق الصراع والدول الهشة.
ويرتبط نجاح الولايات المتحدة الأمريكية في الحفاظ علي مكانتها ودورها عالميا في مدي قدرتها علي إحداث التوازن بين القوتين الصلدة والناعمة في استراتيجية واحدة ناجحة، أضحي يطلق عليها القوة الذكية (Smart Power)(15)، بحيث ترسم أفضل استراتيجية تستطيع من خلالها التعامل مع مظاهر تراجع فاعلية وتأثير الولايات عالميا، في ظل تعدد مراكز القوي وتعدد مصادر القوة. فلم تعد القوة في حد ذاتها محددا للقوة دوليا، وإنما كيفية إدماجها في استراتيجية ناجحة في تحقيق الهدف من امتلاكها واستخدامها، وبناء أسس قوية للقيادة الأمريكية دوليا تبدأ من الداخل الأمريكي. فأعظم المخاطر التي تهدد القوة الأمريكية تبدأ من الداخل وتنتهي في الداخل، لأن ما يحدث داخل حدودها يحدد قوتها ونفوذها خارج حدودها، لاسيما في عالم يتزايد ترابطا وتشابكا. وتربط الإستراتيجية بين استعادة قوة ومكانة الولايات المتحدة وقدرتها التنافسية وقدوتها الأخلاقية.
وتركز أولي خطوات واشنطن لاستعادة قوتها ومكانتها - حسبما ذهبت وثيقة الأمن القومي الأمريكي الجديدة - علي دفع الاقتصاد الأمريكي الذي مر بأزمة اقتصادية عاصفة لم يشهدها منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن المنصرم، فالاقتصاد الأمريكي بالنسبة للاستراتيجية هو منبع القوة الأمريكية. ولذا، فقد ركزت الاستراتيجية علي ضرورة تحقيق انتعاش اقتصادي واسع، وخفض العجز المالي، وخلق وظائف جديدة، وتخفيض تكاليف الرعاية الصحية للمواطنين الأمريكيين، وإعادة تشييد بنية تحتية جديدة أكثر أمنا وقادرة علي مواجهة التحديات الأمنية والكوارث الطبيعية.
كما أكدت الوثيقة ضرورة استعادة الولايات المتحدة قوتها علي الصعيد العلمي، وزيادة قدرة الأمريكيين علي المنافسة علي المدي الطويل. فقد كتب أوباما في مقدمته للاستراتيجية: 'يجب أن نعلم أبنائنا التنافس في عالم تكون فيه المعرفة هي رأس المال'. وانطلاقا من هذا، فقد ركزت علي أهمية رفع قدرات البحث العلمي وزيادة الاكتشافات العلمية، وتحقيق اختراقات علمية غير متوقعة. فيقول أوباما 'يجب أن ننظر إلي الابتكارات الأمريكية كأساس لقوة الولايات المتحدة'. ويضاف إلي ذلك العمل علي تطوير مصادر الطاقة النظيفة لتحل محل الوقود الأحفوري الذي تدار به المصانع الأمريكية، والذي يقود إلي فك الارتباط الأمريكي بالنفط الخارجي، وهو ما تبناه أوباما في برنامجه الانتخابي خلال عام 2008 .
من ناحية أخري، تذهب الاستراتيجية إلي ضرورة العمل علي إعادة الاعتبار لمجموعة القيم والمبادئ الأمريكية التي بنيت عليها السياسة الخارجية الأمريكية منذ عهد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، والتي تتمثل في تعزيز الحقوق الأساسية، وحكم القانون، ودعم التنمية، ومواجهة الفقر والفساد، ودفع عملية السلام بين الأمم والديمقراطية وحقوق الإنسان.
وهي قيم لا يمكن فرضها بالقوة، 'فالقيادة الأمريكية لن تتأتي من خلال زرع الخوف في قلوب الآخرين، ولكن من خلال مخاطبة آمالهم'. والطريقة المثلي لذلك، كما تذهب الاستراتيجية، تتمثل في قوة شرف واستقامة الشعب الأمريكي، وذلك مرتبط بالقوات المسلحة، والدبلوماسية، والقطاع الخاص، والمنظمات غير الحكومية، والمواطنين الأمريكيين العاديين، فكل منهم يلعب دورا في تحقيق أمن الولايات المتحدة ومخاطبة شعوب العالم(16).
خاتمة :
لم يتبلور النظام الدولي الجديد بعد، فهو نظام 'أحادي القطبية' علي صعيد القوة العسكرية، حيث يشير الإنفاق العسكري الأمريكي، مقارنة بالقوي الدولية الصاعدة، إلي أن الولايات المتحدة ستظل القوة العسكرية لردح طويل من الزمن. ولكن هذا النظام سيكون 'متعدد الأقطاب' علي الصعيد الاقتصادي، حيث تتعدد مراكز القوي الاقتصادية، وفي الوقت ذاته 'عديم الأقطاب'، حسب رؤية رئيس 'مجلس العلاقات الخارجية' الأمريكي ريتشارد هاس(17). فيشهد النظام الدولي الجديد صعود قوي إقليمية لا تقل أهمية ودورا عن القوي الدولية الصاعدة، وفاعلين ما دون الدولة(Non-State Actor) من شركات متعددة الجنسيات والجماعات والميليشيات المسلحة، والتي سيتزايد دورها، وهو ما يشكل تجسيدا لعالم العلاقات الدولية العابر للحدود، والواقع خارج سيطرة حكومات الدول القومية.
وسيرتبط مستقبل مكانة الولايات المتحدة ودورها الفاعل عالميا بمدي قدرتها علي التعامل مع مستجدات هذا النظام العالمي الجديد الذي يشهد صعود قوي جديدة، وجماعات، ومنظمات تملك من القوة ما يجعلها ذات قوة وتأثير يفوق بعض الدول القومية. فعلي الرغم من كونها القوة العسكرية الكبري في العالم، فإننا نجدها اليوم تتعثر بشدة في حروبها التوسعية، ونجد اقتصادها يضعف أكثر فأكثر بسبب المنافسة الشديدة التي يتعرض لها من قبل اقتصادات القوي الصاعدة، الأخري. وفي حال تكيف الولايات المتحدة مع تلك التحولات، وتعاونها بشكل أفضل مع القوي الصاعدة فإننا سنشهد انتقالا سلسا وسلميا إلي نظام تعددي جديد من دون كوارث وحروب، تكون الولايات المتحدة فاعلا رئيسيا فيه بجانب بعض القوي الأخري.