منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
By مشاري الشيباني( 6)
#32403
عندما أنشيء حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1949/ كان هدفه مواجهة الاتحاد السوفيتي السابق، ومواجهة (حلف وارسو)، وتطور الحلف من حيث التنظيم والاستعدادات الفنية خلال مدة "الحرب الباردة"، بحيث تم نشر صواريخ (بولارس) النووية في بلدان أوروبا الغربية لمواجهة الصواريخ السوفيتية، وقد ثار جدل واسع حول إمكانات الحلفين النووية، وعقدت لقاءات ثنائية بين قادة ومسؤولي الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة، وقد توصل الطرفان إلى اتفاق للحد من انتشار الأسلحة النووية، وخفض ترسانة كل منهما من الأسلحة النووية، وخاصة الصواريخ التي تحمل رؤوسا نووية.

وعندما انهار الاتحاد السوفيتي لمنظومة سياسية وبشرية واقتصادية، وتفككت جمهورياته ونالت استقلالها، ظلت روسيا الاتحادية هي الوريث الشرعي لتركة الاتحاد المنهار، وبالذات ترسانته النووية، وانحل حلف وارسو من جملة الأحداث الدراماتيكية التي حصلت عام 1991، وبالمقابل كان المفروض أن يتم حل حلف شمال الأطلسي (الناتو) لانتقاء السبب والدافع الذي انشأ بسببه ولمواجهته.

ولكن الولايات المتحدة التي تشكل عصب الحلف العسكري، حرصت على إبقائه وتعزيزه وتطوير مهماته الدفاعية والهجومية، وتجاوز ما تم الاتفاق عليه في معاهدة الحلف الموقع عليها في واشنطن عام 1949، وإذ نصت المادة "الخامسة" من المعاهدة على أن "كل هجوم ضد أي دولة أو عدد من الدول الأعضاء هجوماً موجهاً ضد الحلف، الذي يجب أن يتخذ كل الإجراءات التي يعتبرها ضرورية، بما فيها القوة العسكرية من أجل إعادة وضمان الأمن في منطقة الأطلسي".

والواضح أن المادة الخامسة من المعاهدة قد حددت مهمات الحلف العسكرية في منطقة الأطلسي، وقد حددت المادة "السادسة" من المعاهدة حدود المنطقة أو الإقليم الذي ينبغي للحلف أن يتحرك في مجالها أو في حدودها كلما اقتضت الضرورة الأمنية، وقد تحددت منطقة الإقليم في أوروبا الغربية ولم تشمل منطقة البلقان أو "الشرق الأوسط" أو شمال أفريقيا، وأي تحرك للحلف في إطار الحدود التي نصت عليها المادة السادسة، لا بد وأن يتم اطلاع مجلس الأمن الدولي على أي تحرك عسكري للحلف، واطلاع مجلس الأمن وليس لأخذ موافقته على القيام بأي تحرك عسكري، وبالتالي فأن المجلس لا يملك سلطة على تحركات الحلف، لأن غالبية أعضاء مجلس الأمن الدائمين هم قادة حلف الناتو "الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا".

مسيرة الحلف:

لم تكن مسيرة حلف الناتو خلال نصف قرن ونيف، خالية من المشكلات والاحتكاكات والتعارضات في السياسات الخاصة بالحلف، وخاصة بسبب المسائل المتعلقة بالسياسة العسكرية الاستراتيجية العليا، كما شهد الحلف صراعات بين الولايات المتحدة وبين فرنسا خلال حكم الجنرال شارل ديغول، حيث أحس ديغول أن الأسس الاستراتيجية التي ارتكز عليها الحلف منذ بداية تكوينه لم تعد قادرة على الاستجابة لمتطلبات الوضع الدولي في عقد الستينات، ولذلك دعا ديغول إلى تأكيد استقلال أوروبا في السياسة الدولية، وقد استند ديغول في موقفه - الذي عد في حينه تمرداً وسابقة في العلاقات الأوروبية - الأمريكية - على ما وصلت إليه فرنسا من امتلاك السلاح النووي.

وخطا ديغول خطوات عملية في الاتجاه اللامنحاز للولايات المتحدة، بأن رفض عرض الإدارة الأمريكية –آنذاك - تزويد فرنسا بصواريخ (بولارس) مثل بريطانيا، ورداً على العرض الأمريكي أغلق ديغول مقر (حلف الناتو) في باريس 1966 ورحل القواعد الأمريكية من الأراضي الفرنسية، وسعى إلى تحسين علاقات فرنسا مع ألمانيا ومع الاتحاد السوفيتي، وأقام علاقات دبلوماسية مع الصين الشعبية، وطالب بأن تأخذ الصين موقعها في الأمم المتحدة بدل الصين الوطنية "تايوان" وأخيراً انسحبت فرنسا من القيادة العسكرية المشتركة للحلف، وظلت فرنسا تحتفظ بقرارها السياسي بعد ديغول، ولم تشارك الولايات المتحدة في هجماتها العسكرية خارج حدود الإقليم، وبالذات تلك التي لم تنل موافقة الأمم المتحدة، فقد شاركت فرنسا في الحرب على العراق عام 1991 ولكنها رفضت المشاركة في الحرب على العراق عام 2003 لأنها شنت بإرادة أمريكية خارج رضا وموافقة الأمم المتحدة، وقد تميزت فرنسا خلال المدة التي سبقت عهد ساركوزي بالتعارض مع سياسة بريطانيا التي كانت وما زالت تابعة للسياسة الأمريكية بغير شروط.

وخلال مسيرة الحلف برز عدم التطابق في وجهات النظر بين دوله، وبالذات حول دور الأسلحة النووية وشروط استخداماتها المحتملة، وقد قامت "الترويكا" الأوروبية بدور بارز في موضوع الملف النووي الإيراني، في مسعى أوروبي لإنهاء الأزمة التي تلتهب تارة وتخبو تارة أخرى بين إيران والولايات المتحدة.

وخارج نطاق الحلف فأن الشركاء الأوروبيين والأمريكيين يختلفون في وجهات النظر حول مسائل تجارية وزراعية ومسائل الطاقة ومراكز المال، وهذا الاختلاف أو التباين في وجهات النظر بين الحلفاء لم يؤثر على تضامنهم داخل الحلف، وهو ما برز في قضايا البلقان، وبالذات ما حدث في البوسنة والهرسك ثم في إقليم كوسوفو، وفي عام 1995 توصل الحلف إلى اتفاق لوقف المذابح في البوسنة والهرسك وقاد عمليات حفظ السلام الدولية متعددة الجنسيات "IFOR" و"SFOR" التي نالت موافقة من الأمم المتحدة.

وعندما اشتعلت الحرب الأهلية في إقليم كوسوفو بين الصرب والألبان وجه (الناتو) إنذاراً إلى الحكومة الصربية بضرب بلغراد والمدن الأخرى من دون الاستناد إلى قرار خاص من الأمم المتحدة، لأن أطراف الحلف الرئيسية والأعضاء في مجلس الأمن يدركون أن بحث أي هجوم على صربيا سوف يواجه بالرفض "الفيتو" من روسيا أو من الصين.

وفي الذكرى الخمسين لتأسيس الحلف عقد مؤتمر واشنطن في 15 حزيران 1999 لبحث المهمات الجديدة للحلف بعد أن وافق الكونغرس الأمريكي على بقاء عضوية الولايات المتحدة في الحلف، وبعد أن تم توسيع عضوية الحلف بضم دول أوروبا الشرقية، وأبرز المهمات الجديدة التي أقرها مؤتمر واشنطن هي:

1 - حماية حرية وأمن أعضائه بالوسائل السياسية والعسكرية.

2 - الإسهام في تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.

3 - ردع التهديدات والعدوان ضد أي بلد من أعضاء الحلف.

4 - المشاركة في إدارة الأزمات والمشاركة في الحوار واتخاذ القرارات الخاصة بالأمن الأوروبي.

وقد جاءت أزمة إقليم كوسوفو كي يدخل الحلف في حرب عسكرية مدمرة ضد صربيا، حيث أنهت تلك الحرب نظام ميلوزوفيتش ومن ثم اقتياده إلى محكمة لاهاي الدولية، حيث توفي قبل أن تنتهي محاكمته.

ومنذ ذاك الوقت وضع الحلف لنفسه أعداء محتملين، يعتقد قادة الحلف أن مجموعة من الدول في العالم قد تكون مهيأة لتهديد الأمن والسلام في إقليم الحلف.

هذا الاعتقاد هو اعتقاد افتراضي، تقتنع به الإدارة الأمريكية وعدد من مفكريه.

(2)

أثار تجديد مهمات (حلف الناتو) مخاوف روسيا، لاسيما بعد أن توسع الحلف وضم في عضويته الدول التي كانت تشكل (حلف وارسو) مع الاتحاد السوفييتي السابق، وزاد من مخاوف روسيا، عندما انضمت دول مثل دول البلطيق إلى الحلف (استونيا، لتوانيا، لاتفيا) فاقتراب الحلف من حدود روسيا، بات يهدد أمنها على المدى البعيد، لاسيما الانقلاب "البرتقالي" في أوكرانيا، والنفوذ الأمريكي في جورجيا والجمهوريات الآسيوية.

إن القائمين على (حلف الناتو) يأخذون بعين الاعتبار التطورات التي حصلت في العالم بعد انتهاء الحرب الباردة، وزوال هيمنة نظام القطبية الثنائية في العالم، وأولى هذه الاعتبارات: بروز اتجاهات دولية ترفض الانسياق وراء السياسة الأمريكية التي تعتمد أسلوب القوة في التعامل مع المشكلات والأزمات في العالم، ورغم معاناة روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتحملها التبعات الاقتصادية والاجتماعية والعلاقات بين الجمهوريات المتحدة في روسيا، خاصة الجمهوريات التي فيها غالبية مسلمة، وما رافق ذلك من فساد مالي وأداري، بعد تحول مكونات الاقتصاد الروسي من النظام الاشتراكي الشيوعي الشمولي، إلى النظام الرأسمالي الحر.

ورغم كل ذلك فإن روسيا - لاسيما خلال عهد بوتين - تجاوزت العديد من الأزمات وخاصة الاقتصادية، لاسيما بعد ارتفاع أسعار النفط والغاز، حيث وفر هذا الارتفاع مليارات الدولارات للخزينة المركزية، كما تم إعادة النظر بالهيكل الإداري المترهل في المؤسسات الحكومية، والقضاء نسبيا على إمراض البيروقراطية، كما تمكنت المؤسسة العسكرية من إعادة هيكلتها وفق أسس فنية مهنية تعتمد التقنيات الجديدة في حقول الاتصالات وخاصة الكمبيوتر والبحوث العلمية، فطورت المؤسسة العسكرية أنواعاً جديدة من الطائرات، مثل طائرة (ميغ - 31) التي تضاهي طائرة "الشبح" الأمريكية، وتطوير طائرات "السوخوي" والصواريخ المضادة للطائرات والصواريخ البعيدة المدى، وصارت الأسلحة الروسية رائجة في الأسواق العالمية، وتأتي روسيا في مقدمة الدول المصدرة للسلاح، كما تميزت روسيا في الآونة الأخيرة بالإرادة الحرة في اتخاذ القرار السياسي بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، كموقفها من "أزمة الملف النووي الإيراني"، ومسألة مشروع استقلال إقليم كوسوفا، ومسألة الدرع الصاروخي الأمريكي ونشر صواريخ في بلدان أوروبا الشرقية (بولندا، تشيكا).

وإضافة إلى روسيا فأن الصين صارت قوة عالمية معتبرة، نظراً لثقلها السكاني الذي يتجاوز ملياراً وربع المليار فرد، ولقدرتها الاقتصادية المتميزة، حيث تجاوزت نسبة النمو الاقتصادي 13%، وقدرتها العسكرية المتنامية في كل التشكيلات خاصة السفن والغواصات والصواريخ، وكذلك الحال مع الهند والبرازيل حيث تسيران بخطى متصاعدة في النمو الاقتصادي الصناعي، والقدرات العسكرية، ولا ننسى النزوع المشروع لدى بعض الدول الرأسمالية مثل اليابان وألمانيا وفرنسا، لكي تكون ذات شأن في صناعة القرارات الأممية نظرا لما تتمتع به كل منها بقدرات اقتصادية وعلمية عالية.

إن الانتخابات التي جرت في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، أفرزت قيادات معجبة بالولايات المتحدة، ومستعدة للسير معها، وتأييد سياساتها، وبالتالي ستكون عوناً لها في (حلف الناتو).

ورغم سيطرة الولايات المتحدة على (حلف الناتو)، وإقرار الدول الأوروبية بقدرات أمريكا العسكرية، تلك القدرات التي ظهرت أثناء الحرب الأطلسية على صربيا، رغم ذلك فأن الكثير من الساسة والمفكرين الأمريكيين يبدون تخوفهم من تكّون أوروبا متحدة لاسيما بعد إقرار (اليورو) والتعامل به، وصارت قيمته في الأسواق أكبر من الدولار.

وعليه فأن القيادات الأمريكية التي تتخوف من قيام اتحاد أوروبي موحد في الاقتصاد وفي السياسة، يصرون على إبقاء الهيمنة الأمريكية على أوروبا من خلال (حلف الناتو)، فالحضور الأمريكي العسكري في أوروبا من خلال القواعد الثابتة فوق الأرض أو في الموانئ، ومن خلال التميز العسكري الفني في قوات الحلف، هو حضور لضمان أكبر قوة عسكرية في العالم، ولكي يتم استخدامها خارج مجالها الإقليمي عندما تقتضي الضرورة أو المصلحة الأمريكية.

ولما كانت الإدارة الأمريكية تعتبر نفسها زعيمة العالم، ومسؤولة عن الأمن والسلم الدوليين، وفق مقاساتها، فأنها بحاجة إلى قوة عسكرية هائلة لمواجهة أية مخاطر محتملة من أي طرف في العالم، خاصة الدول النائية في عالم الجنوب، وتحسب الولايات المتحدة ومعها دول الاتحاد الأوروبي حسابات جادة للمشكلات والتحديات التي تواجه البشرية في العالم، ومن أبرزها:

1 - التوترات والحروب الأهلية لأسباب إثنية ودينية وطائفية كالتي في العراق وأفغانستان والصومال والسودان، أو الحروب بين الدول المتجاورة كما حصل بين العراق وإيران، والعراق والكويت، ومن قبل الهند وباكستان ومن بعد بين الصومال وأثيوبيا.

2 - أسلحة الدمار الشامل باتت مشكلة تؤرق الدول النووية الرئيسية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، حيث انحصر النادي النووي في الخمسة الكبار، الولايات المتحدة وروسيا وريثة الاتحاد السوفييتي، بريطانيا وفرنسا والصين، ثم انضاف إلى هذه الدول الخمس الهند وباكستان والكيان الصهيوني، وأخيراً كوريا الشمالية التي تخلت عن برنامجها النووي مقابل رفع الحصار عنها، ومعونتها اقتصادياً، أما الملف النووي الإيراني فما زال موضع جدل وحوار بين إيران والمجموعة الأوروبية، وبين إيران ووكالة الطاقة الذرية.

3 - الانفجار السكاني المخيف، حيث وصل تعداد سكان العالم ستة مليارات عام 2000م ومعظم هذه الزيادة تقع في قارة آسيا، حيث يتجاوز عدد سكان الصين والهند وحدهما مليارين وثلاثمائة مليون نسمة، وهذا الانفجار الذي يتركز في آسيا وفي أفريقيا، يشكل قنبلة مخيفة للغرب، حيث تسعى دول الغرب لعقد المؤتمر تلو المؤتمر في محاولة للحد من النمو السكاني الكبير في عالم الجنوب، فالسكان يشكلون قنبلة باتجاه التغيير الايجابي أو السلبي، ومادة للحروب والفتن.

4 - مشكلات البيئة وفي مقدمتها انتشار الغازات السامة الناتجة من المصانع وعوادم السيارات والطائرات والقطارات، وما زالت هذه المشكلة مثار جدل واسع بين الدول الصناعية الغربية وبين الولايات المتحدة، التي ترفض التوقيع على اتفاق (كيوتو) للاحتباس الحراري.

5 - مشكلات الطاقة واضطرابات الأسواق المالية والنقدية، فاستهلاك الدول الصناعية الزائد للنفط جعل الطلب يزداد عليه خاصة من قبل الولايات المتحدة التي تُعد الدولة الأولى في استهلاك النفط، وبالتالي ارتفاع سعر برميل النفط الذي وصل إلى 72 دولاراً.

أما الأسواق المالية فصارت مكاناً للسرقة من خلال غسيل الأموال، والمضاربات في البورصات العالمية، والصفقات الوهمية فيها.

أضف إلى ذلك مشكلات أمراض البشر المستعصية وأمراض الحيوانات، وكذلك المخدرات وتهريب الأسلحة وبيعها إلى جماعات الإرهاب المسلحة.

إن هذه المشكلات وغيرها، ترى الإدارة الأمريكية أن التدخل فيها يحتاج إلى قوة عسكرية كبيرة قادرة على الحركة بأقصى سرعة وقادرة على توجيه ضربات استباقية، سواء "لدوافع إنسانية" أو لضرورات استراتيجية، ولهذا عمدت إلى تطوير مهمات (حلف الناتو) لتشمل مناطق خارج إقليم الحلف الذي جاء في اتفاق عام 1949، فلا نستبعد أن نرى "قوات الناتو" تغزو بلادنا مجدداً تحت تسميات مختلفة أو دوافع متعددة.


--------------------------------------------------------------------------------