الفكر السياسي الأشعري
مرسل: الاثنين يناير 10, 2011 11:54 am
2الفكر السياسي الأشعري
يشير ظهور المذهب الأشعري في القرن الهجري الرابع ، وتطوره في القرن الهجري الموالي على الخصوص، إلى حصول جملة من التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية في بلاد المشرق العربي وهي التحولات التي كانت الأشعرية تعبيرا عنها. وإذا كان الإسهاب في الحديث عن هذه التحولات مما لا يحتمله المقام فإن الإشارة الخفيفة إلى ذلك، على النحو الضروري لفهم الأشعرية، مما يستعيد حسن الفهم مع ذلك. ولعل ما نريد قوله في هذه الإشارة هو أن الأشعرية لا يمكن تحديدها في معارضتها بالأقوال الاعتزالية وأنه لا يكفي في تفسير نشأتها أن نرجع إلى رواية أبي الحسن الأشعري الشهيرة في انفصاله عن مذهب الجبائي، الزعيم المعتزلي، وسعيه لتأسيس قول جديد في الذات والصفات، والإرادة والأفعال البشرية وما إلى ذلك. ذلك أنه مهما يكن من شأن التعارض الموجود بين الأشعرية والاعتزال، ومهما يكن من الاختلاف بينهما في القضايا الكلامية المحورية، أحيانا كثيرة، فإن الاختلاف الحقيقي والعميق أو التناقض الرئيسي، كما يقال في اللغة السياسية اليوم، هو ذلك الذي يقوم بين الأشعرية وبين الشيعة الباطنية . وهذا ما أدركه الغزالي وعبر عنه في جملة من كتبه الشـهيرة مثل "فضائح الباطنية"، و "القسطاس المستقيم"، "فيصل التفرقةبين الإسلام والزندقة "، فضلا عن" الاقتصاد في الاعتقاد" و" مقدمات تهافت الفلاسفة". وذلك ما بينه أبو منصور البغدادي في " الفرق بين الفرق ". فإذا كان القول يصدق بأن الأشياء تتوضح بأضدادها، فإن ذلك يصدق في حق الأشعرية ، متى عارضناها بالأقاويل الباطنية. ولكن هذا التناقض والتصارع الذي قام بين الفريقين ( ولا يزال قائما حتى اليوم ) إنما هو تعبير عن تاريخ طويل وحافل من الصراع بين أهل السنة وخصومهم من جهة أولى وبين الخلافة العباسية وخصومها من جهة ثانية. فالخلفاء العباسيون، ابتداء من المأمون، وانتهاء إلى القادر بالله عمدوا، تحت ضغط الأحداث السياسية، إلى اتخاذ عدد من المواقف السياسية والإعلان عن عدد من العقائد (أو "السياسات الدينية" كما يدعوها أحد المؤرخين المختصين في التاريخ العباسي)- وقد اختلفت تلك المواقف، في زمان قوة الخلافة العباسية، بين تبني الاعتزال مذهبا رسميا للدولة( وتلك هي السياسة التي سار عليها كل من المأمون، والواثق ، والمعتصم)، ثم الأخد بالمذهب المناقض له حقيقة، وهو المذهب الحنبلي (وذلك ما قام به المتوكل بالفعل، فوصف المؤرخون عمله بأنه " انقلاب سني"). وأخيرا عمدت الخلافة العباسية، وقد انتعشت بل وابتعتث بعثا جديدا في اأيام القادر، إلى اعتناق العقيدة التي أعلنها أبو الحسن الأشعري وعمل على تطويرها، بعد ذلك، ثلة من الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة الذين تم على يدهم تطوير المذهب الأشعري في شتى مناحية الكلامية، والأصولية، والأخلاقية، والسياسية -( والماوردي في عدادهم بطبيعة الحال) . ظلت الأشعرية، وكما هو طبيعي وضروري في المذاهب السنية جميعا، تأخذ عن الحنبلية والحنابلة بشرط غير يسير، وظل زعماء الحنابلة يعتبرون ما أقره الإمام أحمد في العقائد أساسا في الاعتقاد وعمادا للرأي المختار في القضايا الكلامية، ولكن الأشعرية استطاعت أن تتمثل وتستوعب من "علوم الأوائل" شيئا غير يسير، وأن تقتبس، في مجال الأخلاق والسياسة، ما اغتنت به مما انتهى إلى الثقافة العربية الإسلامية من آداب الفرس، وحكمة الهند، ومنطق اليونان. وبالتالي فقد كانت الأشعرية تعبر عن ثلاثة حقائق. أولاها هي ما انتهى إليه التطور الداخلي للمذهب السني وقد اغتنى وتطور بفعل الصراعات السياسية مع الشيعة الباطنية. فالأشعرية هي التعبير الأمثل عن أهل السنة ابتداء من القرن الهجري الرابع، وذلك بفضل ما اقتدرت على احتوائه من أقوالهم في العقيدة والسلوك. وثانيهما ، وهي صادرة عن الأولى ونتيجة لها ، هي أن الأشعرية كمذهب فكري كان له قول واضح في الكلام ، وآخر في أصول الفقه، وثالث في الأخلاق، ورابع في السياسة، وخامس في التصوف... وهكذا ، إنما هي تعبير عن الثقافة العربية الإسلامية في المنظور السني . وثالث هذه الحقائق ، هي أن الأشعرية أمكنها أن تقدم للخلافة العباسية الصيغة الإديولوجية المناسبة لها، والشكل التعبيري الملائم لطبيعة تطور الدولة في الإسلام وما انتهى إليه البحث عن الصيغة الملائمة في السلطة والحكم . ومن مجمل هذه الحقائق نخلص إلى أن الصلة بين الأشعري والسياسة تمتد لأكثر من سبب وتقوم لأكثر من علة وطريق، وإذ تبين هذا علينا الآن أن نتوقف ، برهة أخرى، فنجمل القول في مبادئ النظر السياسي الأشعري وكلياته.
والمبادئ العامة للفكر السياسي عند الأشاعرة تتقرر في أصول الدين فهو "العلم الكلي من العلوم الدينية" وهو "المتكلف بإقبات العلوم الدينية كلها" كما يقول زعيم الأشاعرة أبو حامد الغزالي في مقدمة "المستصفى" .ووجه الصلة بين الدين والفكر السياسي هو ما تعكسه الصلة بين الفقه والسياسة على نحو ما أشرنا إليه أعلاه، وهو ما يعبر عنه عموم الأشاعرة في قولهم عن الإمامة العظمى (أو الخلافة) إنها خلافة النبوة في أمور الدين والدنيا معا. وأولى الكليات أو المبادئ العامة التي يقررها علم الكلام الأشعري هي أن معرفة الله إذا كانت تحصل، حقيقة، بالفعل إلا أنها لا تجب إلا بالشرع. فمعرفة الله لا تحصل إلا عن طريق النظر والاستلال ولذلك فإن تلك المعرفة تفيد القطع وتنفي كل احتمال وظن ، والأشاعرة يوافقون كلا من المعتولة والحنابلة في القول، بأن " النظر المؤدي إلى معرفو الله هو أول ما أوجبه الله على العاقل ". ولكن الوجوب الشرعي وما يتبعه من عمل وواجبات لا يكون إلا مع ورود الشرائع وعلى النحو الواضح الذي يقره القرآن الكريم{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ( الإسراء: 15) . ولذلك فإن القول بالحسن والقبح العقليين قول لا يتوافق مع العقيدة الأشعرية . والتأويل السياسي لهذا المبدأ الكلي عند الأشاعرة هو أن الإمامة ، وإن كان العقل يقر بوجوبها، إلا أن مدرك وجوبها الحقيقي هو الشرع " قد وردت الشريعة بأحكام لا يتولاها إلا إمام أو حاكم من قبله كإقامة الحدود على الأحرار..." وحقيقة الإمامة أنها " شريعة من الشرائع يعلم جواز ورد التعبد بها بالعقل ويعلم وجوبها بالسمع" (7) وثاني الكليات التي تتقرر في أصول الدين هي اعتبار ان ما يصله إلينا من خبر متواثر يفيد فيها المعرفة القطعية التي لا سبيل إلى التشكك فيها. إذ بالخبر المتواتر يتقرر المنقول وتثبت أحكام الشريعة. وعن طريق الخبر المتواثر والقول بسلطته العملية المطلقة يتقرر، في أصول الفقه وجوب القول بالإجماع والعمل بموجب أحكامه في المرتبة الثالثة مباشرة، بعد الكتابة والسنة- وأما التأويل العملي للقول بأن الخبر المتواتر يفيد العلم القطعي ويوجب العمل به بالتالي فهو ما نجدع لاحقا من أن القوانين السياسية "والأحكام السلطانية " تقوم كلها في الرجوع إلى سلطة الإجماع.
فالأشعرية تحكم سلطة الخبر المتواتر وتقول، تبعا لذلك، بقوة الإجماع وحجيته حين تذهب إلى القول بأن نصبة الإمام تكون بالاختيار الذي يحصل عن طريق الإجماع . وكل الحجج التي تسعى بها إلى إبطال آراء الشيعة ( الباطنية خصوصا) في القول بالعهد أو الوصية، عهد الإمام إلى شخص آخر من بعده( وبالتالي إبطال القول بالاختيار) ، وكذا آراؤها في القول بعصمة الإمام، هي في الواقع حجج يؤسسها، من الناحية المنطقية، ما يفيده العمل بموجب مبدأ الإجماع. والأشعرية عندما تعرض لآرائها في باقي العناصر التي تتكون منها نظرية الإمامة ( جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، منع قيام أكثر من إمام واحد في الوقت الواحد، القول بصحة خلافة الخلفاء بعد النبي حسب الترتيب الذي وردوا فيه) فهي تقوم في الواقع بقراءة لتاريخ الإسلام قراءة يحكمها مبدأ الاجماع وسلطته من جهة أولى كما أنها تمارس، في المستوى النظري الكلي، مستوى " العلوم أن الأعلى في الرتبة" أو علم أصول الدين. ولذلك فإنه لأمر طبيعي أن يجد الدارس اليوم أن كبار من عرضوا للمسألة السياسية في المذهب الأشعري، بل في المذاهب السنية إجمالا، كانوا من كبار المتكلمين ( الأشعري، الباقلاني، البغدادي).
نعم، كان من ذكرنا من كبار المتكلمين حقا ولكن هذا الأمر كانت له نتيجته الحتمية وهي أن معالجة المسألة لم تمكن من مجاوزة دائرة الكلام والجدل، تقرير المبادئ والكليات العامة التي تلزم الفكرة السياسية، على نحو ما نبهنا عليه في الفقرة السابقة. اعتبار مبحث الإمامة قسما من أقسام علوم الدين، على نحو ما فعله أبو منصور البغدادي إذ اعتبرها أصلا من أصول الدين، وعلى نحو ما صنعه أبو بكر الباقلاني حيث جعل من القول في الإمامة خاتمة لكتابه الشهير " التمهيد في الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة"
وأخيرا فإن القول في الإمامة ، عن طريق إبطال أقوال الباطنية وإظهار فساد حججها، هو السبيل لا إلى الإعلان عن المعتقد السياسي الأشعري بل إنه الإبانة عن العقيدة الأشعرية برمتها من حيث هي تتحدد في صور الضد والخصم المطلق على نحو ما سيحسن الغزالي الإبانة عنه زمانا بعد ذلك . ولهذه الأسباب كلها فإن التفكير السياسي الأشعري لم يتمكن من مجاوزة دائرة الكلام وما يستلزمه من جدل وخصومة من جهة أولى، وما يقف به عند حدود المطلقات والكليات من جهة ثانية وبالتالي فقد ظل يدور حول نفسه ولم يقدر على تحقيق قفزة نوعية أو الخطو خطوة إيجابية إلى الأمام . ولكي يخلص من إسار الخصومة والجدل كلن لابد له من أن يخوض مغامرة التشريع والتقنين. كان لابد للنظر السياسي المجرد أن يلتقي مع عمل الفقه والتشريع، وكان لابد للمفكر السياسي أن يزاوج ، في الشخص الواحد، بين الفقيه الشرع والمفكر. وهذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الفكر الأشعري السياسي، لابل من تاريخ النظر السياسي في الإسلام هي التي يعبر عنها فقيهنا الشافعي : أبو الحسن الماوردي . ولكن هذا القول لا يفيد، بالضرورة ، انتساب صاحب" الأحكامالسلطانية" إلى المذهب الأشعري ولذلك فإنه لابد لنا من وقفة أخرى نفحص فيها بحسب ما التزمنا، ما يكشف أشعرية الفقيه الشافعي وكل ذلك في الواقع مزيد من التأهب والاستيعداد لمعرفة الرجل وقراءة فكره.
يشير ظهور المذهب الأشعري في القرن الهجري الرابع ، وتطوره في القرن الهجري الموالي على الخصوص، إلى حصول جملة من التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية في بلاد المشرق العربي وهي التحولات التي كانت الأشعرية تعبيرا عنها. وإذا كان الإسهاب في الحديث عن هذه التحولات مما لا يحتمله المقام فإن الإشارة الخفيفة إلى ذلك، على النحو الضروري لفهم الأشعرية، مما يستعيد حسن الفهم مع ذلك. ولعل ما نريد قوله في هذه الإشارة هو أن الأشعرية لا يمكن تحديدها في معارضتها بالأقوال الاعتزالية وأنه لا يكفي في تفسير نشأتها أن نرجع إلى رواية أبي الحسن الأشعري الشهيرة في انفصاله عن مذهب الجبائي، الزعيم المعتزلي، وسعيه لتأسيس قول جديد في الذات والصفات، والإرادة والأفعال البشرية وما إلى ذلك. ذلك أنه مهما يكن من شأن التعارض الموجود بين الأشعرية والاعتزال، ومهما يكن من الاختلاف بينهما في القضايا الكلامية المحورية، أحيانا كثيرة، فإن الاختلاف الحقيقي والعميق أو التناقض الرئيسي، كما يقال في اللغة السياسية اليوم، هو ذلك الذي يقوم بين الأشعرية وبين الشيعة الباطنية . وهذا ما أدركه الغزالي وعبر عنه في جملة من كتبه الشـهيرة مثل "فضائح الباطنية"، و "القسطاس المستقيم"، "فيصل التفرقةبين الإسلام والزندقة "، فضلا عن" الاقتصاد في الاعتقاد" و" مقدمات تهافت الفلاسفة". وذلك ما بينه أبو منصور البغدادي في " الفرق بين الفرق ". فإذا كان القول يصدق بأن الأشياء تتوضح بأضدادها، فإن ذلك يصدق في حق الأشعرية ، متى عارضناها بالأقاويل الباطنية. ولكن هذا التناقض والتصارع الذي قام بين الفريقين ( ولا يزال قائما حتى اليوم ) إنما هو تعبير عن تاريخ طويل وحافل من الصراع بين أهل السنة وخصومهم من جهة أولى وبين الخلافة العباسية وخصومها من جهة ثانية. فالخلفاء العباسيون، ابتداء من المأمون، وانتهاء إلى القادر بالله عمدوا، تحت ضغط الأحداث السياسية، إلى اتخاذ عدد من المواقف السياسية والإعلان عن عدد من العقائد (أو "السياسات الدينية" كما يدعوها أحد المؤرخين المختصين في التاريخ العباسي)- وقد اختلفت تلك المواقف، في زمان قوة الخلافة العباسية، بين تبني الاعتزال مذهبا رسميا للدولة( وتلك هي السياسة التي سار عليها كل من المأمون، والواثق ، والمعتصم)، ثم الأخد بالمذهب المناقض له حقيقة، وهو المذهب الحنبلي (وذلك ما قام به المتوكل بالفعل، فوصف المؤرخون عمله بأنه " انقلاب سني"). وأخيرا عمدت الخلافة العباسية، وقد انتعشت بل وابتعتث بعثا جديدا في اأيام القادر، إلى اعتناق العقيدة التي أعلنها أبو الحسن الأشعري وعمل على تطويرها، بعد ذلك، ثلة من الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة الذين تم على يدهم تطوير المذهب الأشعري في شتى مناحية الكلامية، والأصولية، والأخلاقية، والسياسية -( والماوردي في عدادهم بطبيعة الحال) . ظلت الأشعرية، وكما هو طبيعي وضروري في المذاهب السنية جميعا، تأخذ عن الحنبلية والحنابلة بشرط غير يسير، وظل زعماء الحنابلة يعتبرون ما أقره الإمام أحمد في العقائد أساسا في الاعتقاد وعمادا للرأي المختار في القضايا الكلامية، ولكن الأشعرية استطاعت أن تتمثل وتستوعب من "علوم الأوائل" شيئا غير يسير، وأن تقتبس، في مجال الأخلاق والسياسة، ما اغتنت به مما انتهى إلى الثقافة العربية الإسلامية من آداب الفرس، وحكمة الهند، ومنطق اليونان. وبالتالي فقد كانت الأشعرية تعبر عن ثلاثة حقائق. أولاها هي ما انتهى إليه التطور الداخلي للمذهب السني وقد اغتنى وتطور بفعل الصراعات السياسية مع الشيعة الباطنية. فالأشعرية هي التعبير الأمثل عن أهل السنة ابتداء من القرن الهجري الرابع، وذلك بفضل ما اقتدرت على احتوائه من أقوالهم في العقيدة والسلوك. وثانيهما ، وهي صادرة عن الأولى ونتيجة لها ، هي أن الأشعرية كمذهب فكري كان له قول واضح في الكلام ، وآخر في أصول الفقه، وثالث في الأخلاق، ورابع في السياسة، وخامس في التصوف... وهكذا ، إنما هي تعبير عن الثقافة العربية الإسلامية في المنظور السني . وثالث هذه الحقائق ، هي أن الأشعرية أمكنها أن تقدم للخلافة العباسية الصيغة الإديولوجية المناسبة لها، والشكل التعبيري الملائم لطبيعة تطور الدولة في الإسلام وما انتهى إليه البحث عن الصيغة الملائمة في السلطة والحكم . ومن مجمل هذه الحقائق نخلص إلى أن الصلة بين الأشعري والسياسة تمتد لأكثر من سبب وتقوم لأكثر من علة وطريق، وإذ تبين هذا علينا الآن أن نتوقف ، برهة أخرى، فنجمل القول في مبادئ النظر السياسي الأشعري وكلياته.
والمبادئ العامة للفكر السياسي عند الأشاعرة تتقرر في أصول الدين فهو "العلم الكلي من العلوم الدينية" وهو "المتكلف بإقبات العلوم الدينية كلها" كما يقول زعيم الأشاعرة أبو حامد الغزالي في مقدمة "المستصفى" .ووجه الصلة بين الدين والفكر السياسي هو ما تعكسه الصلة بين الفقه والسياسة على نحو ما أشرنا إليه أعلاه، وهو ما يعبر عنه عموم الأشاعرة في قولهم عن الإمامة العظمى (أو الخلافة) إنها خلافة النبوة في أمور الدين والدنيا معا. وأولى الكليات أو المبادئ العامة التي يقررها علم الكلام الأشعري هي أن معرفة الله إذا كانت تحصل، حقيقة، بالفعل إلا أنها لا تجب إلا بالشرع. فمعرفة الله لا تحصل إلا عن طريق النظر والاستلال ولذلك فإن تلك المعرفة تفيد القطع وتنفي كل احتمال وظن ، والأشاعرة يوافقون كلا من المعتولة والحنابلة في القول، بأن " النظر المؤدي إلى معرفو الله هو أول ما أوجبه الله على العاقل ". ولكن الوجوب الشرعي وما يتبعه من عمل وواجبات لا يكون إلا مع ورود الشرائع وعلى النحو الواضح الذي يقره القرآن الكريم{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ( الإسراء: 15) . ولذلك فإن القول بالحسن والقبح العقليين قول لا يتوافق مع العقيدة الأشعرية . والتأويل السياسي لهذا المبدأ الكلي عند الأشاعرة هو أن الإمامة ، وإن كان العقل يقر بوجوبها، إلا أن مدرك وجوبها الحقيقي هو الشرع " قد وردت الشريعة بأحكام لا يتولاها إلا إمام أو حاكم من قبله كإقامة الحدود على الأحرار..." وحقيقة الإمامة أنها " شريعة من الشرائع يعلم جواز ورد التعبد بها بالعقل ويعلم وجوبها بالسمع" (7) وثاني الكليات التي تتقرر في أصول الدين هي اعتبار ان ما يصله إلينا من خبر متواثر يفيد فيها المعرفة القطعية التي لا سبيل إلى التشكك فيها. إذ بالخبر المتواتر يتقرر المنقول وتثبت أحكام الشريعة. وعن طريق الخبر المتواثر والقول بسلطته العملية المطلقة يتقرر، في أصول الفقه وجوب القول بالإجماع والعمل بموجب أحكامه في المرتبة الثالثة مباشرة، بعد الكتابة والسنة- وأما التأويل العملي للقول بأن الخبر المتواتر يفيد العلم القطعي ويوجب العمل به بالتالي فهو ما نجدع لاحقا من أن القوانين السياسية "والأحكام السلطانية " تقوم كلها في الرجوع إلى سلطة الإجماع.
فالأشعرية تحكم سلطة الخبر المتواتر وتقول، تبعا لذلك، بقوة الإجماع وحجيته حين تذهب إلى القول بأن نصبة الإمام تكون بالاختيار الذي يحصل عن طريق الإجماع . وكل الحجج التي تسعى بها إلى إبطال آراء الشيعة ( الباطنية خصوصا) في القول بالعهد أو الوصية، عهد الإمام إلى شخص آخر من بعده( وبالتالي إبطال القول بالاختيار) ، وكذا آراؤها في القول بعصمة الإمام، هي في الواقع حجج يؤسسها، من الناحية المنطقية، ما يفيده العمل بموجب مبدأ الإجماع. والأشعرية عندما تعرض لآرائها في باقي العناصر التي تتكون منها نظرية الإمامة ( جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، منع قيام أكثر من إمام واحد في الوقت الواحد، القول بصحة خلافة الخلفاء بعد النبي حسب الترتيب الذي وردوا فيه) فهي تقوم في الواقع بقراءة لتاريخ الإسلام قراءة يحكمها مبدأ الاجماع وسلطته من جهة أولى كما أنها تمارس، في المستوى النظري الكلي، مستوى " العلوم أن الأعلى في الرتبة" أو علم أصول الدين. ولذلك فإنه لأمر طبيعي أن يجد الدارس اليوم أن كبار من عرضوا للمسألة السياسية في المذهب الأشعري، بل في المذاهب السنية إجمالا، كانوا من كبار المتكلمين ( الأشعري، الباقلاني، البغدادي).
نعم، كان من ذكرنا من كبار المتكلمين حقا ولكن هذا الأمر كانت له نتيجته الحتمية وهي أن معالجة المسألة لم تمكن من مجاوزة دائرة الكلام والجدل، تقرير المبادئ والكليات العامة التي تلزم الفكرة السياسية، على نحو ما نبهنا عليه في الفقرة السابقة. اعتبار مبحث الإمامة قسما من أقسام علوم الدين، على نحو ما فعله أبو منصور البغدادي إذ اعتبرها أصلا من أصول الدين، وعلى نحو ما صنعه أبو بكر الباقلاني حيث جعل من القول في الإمامة خاتمة لكتابه الشهير " التمهيد في الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة"
وأخيرا فإن القول في الإمامة ، عن طريق إبطال أقوال الباطنية وإظهار فساد حججها، هو السبيل لا إلى الإعلان عن المعتقد السياسي الأشعري بل إنه الإبانة عن العقيدة الأشعرية برمتها من حيث هي تتحدد في صور الضد والخصم المطلق على نحو ما سيحسن الغزالي الإبانة عنه زمانا بعد ذلك . ولهذه الأسباب كلها فإن التفكير السياسي الأشعري لم يتمكن من مجاوزة دائرة الكلام وما يستلزمه من جدل وخصومة من جهة أولى، وما يقف به عند حدود المطلقات والكليات من جهة ثانية وبالتالي فقد ظل يدور حول نفسه ولم يقدر على تحقيق قفزة نوعية أو الخطو خطوة إيجابية إلى الأمام . ولكي يخلص من إسار الخصومة والجدل كلن لابد له من أن يخوض مغامرة التشريع والتقنين. كان لابد للنظر السياسي المجرد أن يلتقي مع عمل الفقه والتشريع، وكان لابد للمفكر السياسي أن يزاوج ، في الشخص الواحد، بين الفقيه الشرع والمفكر. وهذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الفكر الأشعري السياسي، لابل من تاريخ النظر السياسي في الإسلام هي التي يعبر عنها فقيهنا الشافعي : أبو الحسن الماوردي . ولكن هذا القول لا يفيد، بالضرورة ، انتساب صاحب" الأحكامالسلطانية" إلى المذهب الأشعري ولذلك فإنه لابد لنا من وقفة أخرى نفحص فيها بحسب ما التزمنا، ما يكشف أشعرية الفقيه الشافعي وكل ذلك في الواقع مزيد من التأهب والاستيعداد لمعرفة الرجل وقراءة فكره.