المبحث الثالث
أساليب نشأة الدستور وتطوره في العصر الحديث
يرى بعض ( ) فقهاء القانون الدستوري أن نشأة الدساتير تنحصر في طرق ثلاثة، هي:
1 - طريق المنحة، كـالدستور الفرنسي لسنة 1814م حينما منح لويس الثامن عشر ذلك الدستور للأمة الفرنسية عقب سقوط نابليون، والدستور الروسي الصادر سنة 1906م، والدستور الياباني الصادر سنة 1889 م.
2 - طريق جمعية وطنية منتخبة من الشعب، تصدر الدستور كما هو الحال في الدستور البلجيكي سنة 1875م، ودستور الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1787م، والدستور الألماني سنة 1919م.
3 - طريق وسط بين الطريقين السابقين، بحيث يكون الدستور نتيجـة تعاقد بين الملك وشعبه، كما حدث ( ) في إنجلترا عند صدور العهد الكبير سنة 1215م، وإعلان الحقوق سنة 1688م ( ) .
ويرى آخرون أن نشأة الدساتير محصورة في طريقتين، هما:
1 - الأساليب الملكية، وتنقسم إلى أسلوبي المنحة والتعاقد.
2 - الأساليب الديمقراطيـة، وتنقسم إلى أسلوبين، همـا الجـمـعـية التأسيسية، والاستفتاء التأسيسي.
وقد تضمنت هاتان الطريقتان أربعة أساليب، يضيف إليها البعض ( ) أسلوبا خامسا، وهو الاستفتاء السياسي.
والحقيقة أن حصر طرق نشأة الدساتير في أساليب معينة أمر غير مسلم به لأنه يمكن أن تتنوع هذه الطرق تبعا لتنوع أنظمة الحكم وأن تتطور بتطورها؛ وأن هذه الطرق التي حددها الفقهاء القانونيون، والتي عرفت حتى الآن، إنما تعكس في نشأتها المراحل الرئيسية التي مرت بها أنظمة الحكم، وهذا ما يرجحه بعض ( ) فقهاء القانون، وعليه فإنه يمكن تحديد المراحل التي مر بها هذا التطور، وحصرها في ثلاث مراحل، هي:
المرحلة الأولى:
اتسمت بوجود تيارات في الدول الأوربية تطالب بوجود الدستور، فـوجـد الدستـور عن طريق المنحـة من قـبل ملوك الدول الأوربيـة إلى شعوبهم.
المرحلة الثانية:
تميزت بازدياد قوة تلك التيارات بحيث وجدت الدساتير عن طريق مشاركة الشعب في السلطة التأسيسية، وهي الطريقة التي تسمى طريقة التعاقد.
المرحلة الثالثة:
تميزت بتغلب تلك التيارات، وذلك بصدور الدساتير عن طريق سلطة تأسيسية منتخبة من الشعب، وأول ما نشأ من ذلك، أسلوب الجمعية التأسيسية في الولايات المتحدة الأمريكية وذلك عند استقلالها عن إنجلترا سنة 1776م، والدستور الاتحادي الذي وضعه مؤتمر فـلادلفيا سنة 1787م، ثم أخذ هذا الأسلوب في الانتشار حيث لقي إقـبالا كبيرا في فرنسا، إلا أنه ساعد على إقرار الفكرة التي كانت قـائمة وقـتها في فرنسـا والمتضمنة التفريق بين القوانين الدستورية والعادية، عن طريق وجود سلطتين، إحداهما تأسيسية، والأخرى تشريعية، وبعد انتشار مبدأ الديمقراطية لجـأ كثير من الدول لهذا الأسلوب في وضع دسـاتيرها، وخاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كما في دستور ألبانيا لسنة 1946م، ويوغسلافيا لسنة 1946م، وإيطاليا لسنة 1947م ( ) .
ومما تقدم يتبين أن أساليب نشأة الدساتير تتنوع تبعا للظروف التي يوجد فـيها كل دستور، ولا ينبغي للباحث أن يعالج هذه الأساليب بصورة توحي بأنها قابلة للحصر، وإنما يجدر به أن يردها إلى اتجاهات رئيسة تبرز السلطة التي تولت إنشاء الدساتير على النحو الذي سبق، لأنه يمكن أن تنشأ أساليب أخرى غير هذه الأساليب التي يحددها رجال القانون، وفق ظروف وبيئات معينة تكون لها سمات فكرية وحضارية تختلف كثيرا أو قليـلا عن تلك الملامح الفكرية والحـضارية والتاريخية لهذه الدول التي نشأت فيها الأساليب التي يحددها فقهاء القانون الدستوري، وبالتالي فإنه لن يكون هناك أي حرج على الباحث، في اعتبار هذه الأساليب من أساليب نشأة الدساتير وبالعكس في حالة الالتزام بطرائق معينة لنشأة الدساتير، فـإن الباحث يلزم نفسه بإقـحـام الأساليب غير المحـصورة، بالأساليب المحـصورة، بشكل أو بآخر، وينتج عن ذلك خلط في المفاهيم والأساليب، وعدم اعتبار للظروف التي صاحبت وجود أسلوب أو أساليب معينة، علما بأن هذه الظروف والمتغيرات هي الأساس الذي ينبغي أن يركز عليه الباحث، باعتبارها متغيرات رئيسة لإقرار الفكرة التي يهدف إليها في بحثه.
* * *
يتبع