By فهد الدوسري 8 - الأربعاء يناير 05, 2011 5:11 pm
- الأربعاء يناير 05, 2011 5:11 pm
#31705
والعدل في الإسلام قيمة مطلقة ذات ميزان واحد يلتزم به المسلم كواجب أساسي في المنشط والمكره، وفي حالة الصداقة والعداوة، في القول والعمل، وفي الفعل والترك. قال تعالى: (( يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهدآء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون )) (المائدة: 8
بقلم معالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين
الفصل الثانيالعلاقات الدولية في الإسلام
(العدل) هو القاعدة الأساسية في تنظيم علاقة المسلم بغيره، ويشمل ذلك العلاقات الدولية - كما سنرى. والعدل في هذا المجال - وكما تظهر نصوص القرآن والسنة - هو القيمة الأولى بين القيم الإسلامية، وفي القرآن ورد الأمر بالعدل والإشادة بالمتَّصفين به، والنهي عن الظلم والتشنيع على مرتكبيه في أكثر من 350 موضعاً. ويعبر عن العدل أحياناً بالقسط وإقامة الميزان أو بما يدل على هذا المعنى، كما يعبر عن الظلم بالبغي والعدوان والبخس والطغيان.والعدل في الإسلام قيمة مطلقة ذات ميزان واحد يلتزم به المسلم كواجب أساسي في المنشط والمكره، وفي حالة الصداقة والعداوة، في القول والعمل، وفي الفعل والترك. قال تعالى: (( يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهدآء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون )) (المائدة: .قال المفسرون: المعنى: لا يحملكم بغض قوم يقاتلونكم في الدين على أن لا تعدلوا في معاملتهم.ويشهد لهذا التفسير الآية الأخرى: (( ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب )) (المائدة: 2).ولم يكن أحد أعدى للمسلمين من الذين صدوهم عن المسجد الحرام وقاتلوهم وأخرجوهم من ديارهم. (انظر أيضاً الآية 135 من سورة النساء).والعدل مطلوب في القول والعمل: (( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا )) (الأنعام: 152).العدل هو الحد الأدنى في معاملة المسلم لغيره، ولكن المسلم مدعو وراء العدل إلى درجات أعلى: فإذا كان العدل يتحقق بالمقابلة بالمثل، فالمسلم مدعو في القرآن والسنة إلى الصبر والعفو ومقابلة السيئة بالحسنة والبر والإحسان.قال تعالى: (( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور )) (آل عمران: 18).وقال تعالى: (( والذين إذآ أصابهم البغى هم ينتصرون (39) وجزاؤا سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (40) ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (41) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم (42) ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور )) (الشورى: 39-43).وقال تعالى: (( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير )) (البقرة: 109).وقال تعالى: (( ادفع بالتي هي أحسن السيئة )) (المؤمنون: 96).وقال تعالى: (( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبيمه عداوة كأنه ولي حميم (34) وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم )) (فصلت: 34-35).وفي وصف عباد الرحمن قال تعالى: (( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما )) (الفرقان: 63).
وعلى القاعدة الأساسية - العدل تبنى أحكام العلاقات الدولية في الإسلام، سواء في حالة الحرب وفي حالة السلم، على التفصيل الآتي.أولاً: في حالة الحرب:يلاحظ في البداية من نصوص القرآن دلالتها على أن أشنع عمل للإنسان في علاقته بغيره (سفك الدماء، وإرادة العلو في الأرض، والفساد فيها).قال تعالى: ((قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )) (البقرة: 30).وقال تعالى: (( من أجل ذلك كتبنا على بني إسراءيل ظظانه من قتل نفسا بغير نفس ظاو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا )) (المائدة: 32).وقال تعالى: (( وقضينا إلى بني إسراءيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتبن ولتعلن علواً كبيراً )) (الإسراء: 4).وقال تعالى: (( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الرحث والنسل والله لا يحب الفساد )) (البقرة: 205).وقال تعالى: (( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا )) (الإسراء: 33).وفي وصف المستحقين للجزاء الأخروي الحسن: (( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فدساداً والعاقبة للمتقين )) (القصص: 83).وقال تعالى: (( ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين )) (هود: 85 والشعراء: 183).وفي التشنيع على فرعون قال تعالى: (( وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين )) (يونس: 83 والدخان: 31).وقال تعالى: (( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهله شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين )) (القصص: 4).وقال تعال: (( ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض )) (البقرة: 27 والرعد:25).وفي ذم اليهود قال تعالى: ((كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين )) (المائدة: 64).وبالجملة فإن ذم القتل بغير حق والعلو في الأرض والفساد فيها ورد في القرآن في أكثر من 120 موضعاً.لكل ما سبق كان من الطبيعي أن تكون الحرب في الإسلام مكروهة في الجملة، ينبغي ما أمكن تفاديها، وفي المعنى جاء الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (( لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاثْبُتُوا )) (متفق عليه). وكان من الطبيعي أن لا يسمح الإسلام بالحرب إلا في حالة الضرورة الشرعية، وفي هذه الحال تحكم الحرب مبادئ ترتكز على القيمة الأساسية (العدل).تتخلص المبادئ التي تحكم الحرب في ثلاثة مبادئ تضمنها الآية الكريمة: (( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )) (البقرة: 190).
المبدأ الأول: أن يكون القتال في سبيل اللهبأن يخلص القصد منه إلى أن تكون كلمة الله هي العليا، فالمصلحة الشخصية أو القومية لا يبرر الحرب، بل تجعل الحرب غير شرعية في حكم الإسلام.وأهمية هذا المبدأ تظهر من أن القتال أو الجهاد نادراً ما يرد في القرآن دون تقييده بأن يكون في سبيل الله، وأحياناً يكون مقروناً بالأمر بالتقوى.و(التقوى) اصطلاح قرآني لا يوجد له مرادف في اللغة العربية، وربما لا يوجد في غيرها من اللغات، فهو يعني درجة عالية من الحساسية الخلقية، بأن يتصرَّف الإنسان وأوامر الله ونواهيه بين عينيه وأن يشعر بأن الله يراقبه في تصرفه ويراه، وأن الله إليه المآب والمصير.
ولكن من الناحية العملية متى يكون القتال في سبيل الله؟لقد عرضت الآيات الآتية صوراً يمكن الاهتداء بها لتحديد (ما هو في سبيل الله)، وما يوجد به شرط إباحة الحرب على النحو التالي:(أ) - رد العدوان:قال تعالى: (( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين )) (البقرة: 194).وقال تعالى: (( الا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة )) (التوبة: 13).وقال تعالى: (( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون )) (الشورى: 39).وقال تعالى: (( وجزاؤا سيئة سيئة مثلها )) (الشورى: 40).وقال تعالى: (( ولمن إنتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل )) (الشورى: 41).وقال تعالى: (( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين )) (التوبة: 36).وقال تعالى: (( فإن قاتلوكم فاقتلوهم )) (البقرة: 191).
(ب) - الدفاع ضد الظلم وحماية المظلومين:قال تعالى: (( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير (39) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلآ أن يقولوا ربنا الله )) (الحج: 39-40).وقال تعالى: (( قالوا ما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا ديارنا وأبنائنا )) (البقرة: 24).وقال تعالى : (( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم )) (الممتحنة: 9).وقال تعالى: (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله )) (الحجرات: 9).وقال تعالى: (( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وأجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا )) (النساء: 75).وقال تعالى: (( وإن إستنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق )) (الأنفال: 72 ).
(جـ) - الدفاع ضد الإفساد في الأرض:قال تعالى: (( إنما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا في الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم(33) إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم )) (المائدة: 33-34).وقال تعالى: (( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض )) (البقرة: 251).وقال تعالى: (( ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره )) (الحج: 40).(د) - القتال لحماية حق الإنسان في اختيار أن يكون الله هو إلهه، لا إله سواه.وهذا الحق يقع على رأس حقوق الإنسان في الإسلام، لأنه الغاية من الحياة.قال تعالى: (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )) (الذريات: 56).وقال تعالى: (( قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءً بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله وأن لا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله )) (آل عمران: 64).وفد فهم المسلمون في القرون الأولى أن مهمتهم الكبرى إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، كما عبَّر عن ذلك الصحابي الجليل ربعي بن عامر في مفاوضات المسلمين مع الفرس، في حرب القادسية.قال تعالى: (( يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا )) (البقرة: 217).وقال تعالى : (( واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم )) (البقرة: 191).قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: (( والفتنة أشد من القتل )) : (( يعني الشرك بالله أشدُّ من القتل … وقد بينت أن أصل الفتنة الابتلاء والاختبار، فتأويل الكلام: وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركاً بالله من بعد إسلامه أشدُّ عليه وأضرُّ من أن يقتل مقيماً على دينه متمسكا عليه محقا فيه )).وقال الإمام القرطبي في تفسيرها: (( أي: الفتنة التي حملوكم عليها وراموا رجوعكم بها إلى الكفر أشدُّ من القتل )). وقال في تفسير (( والفتنة أكبر من القتل )): (( قال مجاهد وغيره: الفتنة هنا الكفر… وقال الجمهور: معنى الفتنة هنا فتنة المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا، أي: إن ذلك أشدُّ اجتراماً من قتلكم في الشهر الحرام )).ويلاحظ أنه لا خلاف بين التفسيرين، فمن فسَّر (( الفتنة )) بالشرك أو الكفر عنى النتيجة، ومن فسَّرها بتعذيب المسلم حتى يكفر عنى السبب.وقال تعالى: (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله )) (البقرة: 193).أخرج البخاري في تفسير هذه الآية عن نافع أنَّ رجلاً أتى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله )) ؟ قال: فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الإسلام قليلاً فكان الرجل يُفتن عن دينه، إما قتلوه وإما يعذبونه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة.
المبدأ الثاني: أن يكون القتال ضدَّ من يقاتلقال تعالى: (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (60) وإن حنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم )) (الأنفال: 60-61).وقال تعالى: (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين )) (البقرة: 193).قال الإمام الطبري: عن مجاهد (( فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين )) يقول: (( لا تقاتلوا إلا من يقاتلكم )).وقال في تفسير قوله تعالى: (( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )) (البقرة: 190): عن سعيد بن عبد العزيز قال: (( كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: إني وجدت آية في كتاب الله: (( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )) ، أي: لا تقاتل من لا يقاتلك )). وردَّ الطبري على من قال بنسخ الآية بقوله: (( وأولى هذين القولين بالصواب القول الذي قاله عمر بن عبد العزيز، لأنَّ دعوى المدَّعي نسخ آية يحتمل أن تكون غير منسوخة بغير دلالة على صحة دعواه تحكُّمٌ، والتحكُّم لا يعجز عنه أحدٌ )).وقال تعالى: (( فإن إعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليها سبيلا )) (النساء: 90).قال ابن كثير: (( أي: فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك )).وقال تعالى: (( فإن لم يعتزلوكم وياقوا إليكم السلام ويكفوا أيديهم فخذزهم واقتلوهم حيث ثقفتوهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا )) (النساء: 91).فسَّر ابن كثير (( السلم )) بالمسالمة والمهادنة والمصالحة.وقال تعالى: (( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم )) (الممتحنة: 8-9).
المبدأ الثالث: عدم تجاوز ضرورات الحربوهذا المبدأ قيد على قاعدة "المعاملة بالمثل"، فلا خيار للمسلم في عدم الالتزام بالمعايير الأخلاقية الإسلامية في معاملة العدو، وإن كان العدو لم يلتزم بها. ولا خيار للمسلم في عدم الوقوف عند حدود الله، وإن كان عدوه المحارب تجاوز هذه الحدود، فإذا مثَّل محاربو المسلمين بقتلى المسلمين فلا يجوز للمسلمين معاملتهم بالمثل، وإذا قتل الأعداء نساء المسلمين وصبيانهم أو غير المقاتلين منهم فلا يجوز للمسلمين أن يقتلوا نساء الأعداء أو صبيانهم أو غير المقاتلين منهم.وقد أفاض المفسرون عند تفسيرهم للآية السابقة: ((وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)) في ذكر ما ورد من النصوص عن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه تطبيقاً لهذه الآية.من ذلك ما روى مسلم عن بريدة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان [ إذا بعث جيشاً ] يقول: (( اغْزُوا وَلاَ تغلوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع )).وروى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر الصديق بعث جيوشاً إلى الشام فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان … فقال: (( إنَّك ستجد قوماً زعموا أنَّهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا، إنهم حبسوا أنفسهم له … وإني موصيك بعشر: لا تقتلنَّ امرأةً ولا صبياًّ ولا كبيرا هرماً، ولا تقطعنَّ شجراً مثمراً، ولا تخربنَّ عامراً، ولا تعقرنَّ شاةً ولا بعيراً إلا لمأكلةٍ، ولا تحرقنَّ نحلاً ولا تفرقنَّه ولا تغلل، ولا تجبن )).قال الطبري: عن يحيى الغساني قال: كتبت إلى عمر بن عبد العزيز أسأله عن قوله تعالى: (( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )) قال: فكتب إليَّ أنَّ ذلك في النساء والذرية، ومن لم ينصب لك الحرب منهم.وعن ابن عباس في تفسير الآية: (( يقول: لا تقتلوا النساء ولا الصبيان ولا الشيخ الكبير، ولا من ألقى إليكم السلم وكفَّ يده، فإن فعلتم ذلك فقد اعتديتم )).وروى الطبري عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلى على الظالمين )) قال: (( يقول: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم )).وقال ابن كثير في تفسير الآية الكريمة (( ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا )) (المائدة: 2): (( معناها ظاهر، أي: لا يحملكم بغض قوم قد كانوا صدُّوكم عن المسجد الحرام … عن أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتقتصوا منهم ظلما وعدواناً، بل احكموا بما أمركم الله من العدل في حق كل أحد … وهذه الآية كما سيأتي في قوله: (( ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا )) أي: لا يحملكم بغض قوم على ترك العدل، فإنَّ العدل واجبٌ على كلِّ أحدٍ لكلِّ أحدٍ في كلِّ حال )).وقال الإمام القرطبي في تفسير الآية الكريمة (( ولا يجرمنكم شنئان قوم على إلا تعدلوا )): (( دلَّت الآية أيضاً على أنَّ كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه … وأنَّ المثلة بهم غير جائزةٍ، وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمُّونا بذلك فليس لنا أن نقتلَهم بمثله، قصداً لإيصال الهمِّ والحزن إليهم )).وقال في تفسير قوله تعالى: (( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا )) : (( قال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد: هي محكمةٌ، أي: قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم )).وقال عمر بن الخطاب: (( اتقوا الله في الذرية والفلاَّحين الذين لا ينصبون لكم الحرب )).وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حرَّاثاً.ويدلُّ تاريخ الإسلام في كل العصور على أنَّ المسلمين الملتزمين طبَّقوا هذا المبدأ دون استثناء.
ثانياً: في حالة السلمأبرز مظهر للعلاقات الدولية في حالة السلم المعاهدات.وقد عني القرآن في زهاء 30 موضعا منه بالتأكيد على وجوب وفاء المسلم بالعهد وتحريم الإخلال به.على سبيل المثال قال تعالى: (( يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود )) (المائدة: 1).قال ابن كثير: (( (( أوفوا بالعقود )) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني بالعقود العهود. وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك )).قال: (( (والعقود) ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره )).وعن ابن عباس [ في تفسيرها ]: (( لا تغدروا ولا تنكثوا )).وقال تعالى: (( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا )) (الإسراء: 34).وقال تعالى: (( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين )) (التوبة: 7).وقال تعالى - في ذكر صفات الناجين -: (( والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون )) (المؤمنون: 8، والمعارج: 32).وقال تعالى: (( بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين )) (آل عمران: 76).وقال تعالى: (( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا )) (البقرة: 177).وقال تعالى: (( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق )) (الرعد: 20).وقال تعالى - عن الناكثين -: (( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار )) (الرعد: 25).وأكد القرآن أنه حتى في حالة ظهور شواهد نقض العهد من الطرف الثاني، واضطرار المسلمين الذين أبرموا العهد اضطرارهم بسبب ذلك إلى إنهاء العهد، فإنه لا يجوز لهم استغلال هذا الإنهاء لتحقيق مصلحة لهم على حساب الطرف الثاني، بل يجب أن يتم إنهاء العقد في وضع من التوازن بين الطرفين. قال تعالى: (( وإما تخافن من قوم خيانة فنبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين )) (الأنفال: 58).وروى الترمذي وأبو داود عن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية والروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب حتى إذا انقضى العهد غزاهم. فجاء رجل على فرسٍ أو برذونٍ وهو يقول: (( الله أكبر، الله أكبر، وفاءٌ لا غدر ))، فنظروا فإذا هو عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال: (( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَن كان بينه وبين قومٍ عهدٌ فلا يشُدَّ عُقْدَةً ولا يحُلَّها حتى ينقضي أمدُهُ، أو ينبِذَ إليهم على سواءٍ) )). فرجع معاوية بالناس.والعقود في الإسلام على العموم واجبة الاحترام، ويجب الدخول فيها بنية الوفاء بشروطها مهما تغيَّرت الظروف. ولكنَّ المعاهدات الدولية في الإسلام لها تميُّزٌ في هذا، فقد روى مسلمٌ في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن النبيَّ r قال: (( لكلِّ غادرٍ لواءٌ يوم القيامة، يُرْفَعُ له بقدر غدره، ولا غادرَ أعظمُ غدراً مِن أميرِ عامَّة )).والفقهاء وهم يرون أن الجهاد يكون مع الأمير الصالح والفاسق، يذهب أكثرُهم إلى أنَّ الجهادَ لا يكون مع الأمير الذي لا يلتزم الوفاء بالعهود.وعلى خلاف القانون الدولي في الحضارة المعاصرة فإن تغير الظروف لا يبرِّر نكث العهد، وحتى إذا عجز المسلمون في ظروف معينة عن الوفاء بالتزاماتهم يجب عليهم مراعاة التزامات الطرف الثاني.ومن هذا الباب القصة المشهورة أيضاً عندما استولى القائد المسلم أبو عبيدة بن الجراح على حمص ثم اضطر إلى الانسحاب منها فردَّ الجزية التي أخذها من السكَّان، وقال: إننا أخذنا الجزية مقابل حمايتكم، وما زلنا الآن لا نستطيع أن نحميكم فقد وجب أن نردَّها.والأمثلة كثيرة من هذا النوع في التاريخ الإسلامي.فتغيُّر الظروف، والمصلحة القومية لا تبرِّر في الإسلام نقض العهد، كما لا يُبرِّره أن يرى المسلمون أنفسهم في مركز القوة تجاه الطرف الثاني. وقد ورد النص الصريح في القرآن يؤكِّد ذلك، قال تعالى:)) وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون (91) ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة أربى من أمة إنما يبلوكم الله به )) (النحل: 91-92).ثم يقول بعد ذلك: )) ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون )) (النحل: 95).مما له دلالة أن نتذكَّر أن الآيات القرآنية نزلت بالتشديد على المسلمين بالوفاء بالعهد في وقت وفي بيئة لم تكن القاعدة فيهما الوفاء بالعهود، يقدم لنا القرآن صوراً لهذه البيئة في قوله: (( إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون (55) الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون )) (الأنفال: 55-56).وقال تعالى: (( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين (7) كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون (8) اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون (8) لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون )) (التوبة: 7-10).وقال عن اليهود: (( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم )) (البقرة: 100).
وبالرغم من إيقان المسلمين بأنه لا خيار لهم في عدم الوفاء بالعهد تحت أي ظرف، وبالرغم من معرفتهم أن الطرف المقابل لا يحمل مثل هذا الالتزام، إلا أنهم كانوا - كما يظهر ذلك تاريخ الإسلام - يقبلون على إبرام العهد تفادياً للحرب كلما كان ذلك ممكناً بصرف النظر عن عدم تعادل الشروط.ومعاهدة الحديبية (( بالرغم مما تضمنته من شروط تبدو للوهلة الأولى مجحفة في حق المسلمين ))، مثل بارز في هذا.ومثل آخر بارز في العهد العمري بين المسلمين والفلسطينيين سكان إيلياء. فبعد انتصار المسلمين على الروم في معركة اليرموك الفاصلة، وهزيمة جيش أرطبون كانت فلسطين مفتوحة أمام جيش المسلمين ولم يكن شيء يحول بينهم وبين الاستيلاء على إيلياء عنوة، فلما عرض السكان إبرام معاهدة الصلح لم يتردَّد المسلمون في قبولها، بالرغم من اشتراط الفلسطينيين شرطاً غير عادي، وهو أن يحضر الخليفة نفسه - في سفر لمدة شهر - ليوقع المعاهدة، والذي يقرأ المعاهدة الآن خالي الذهن من ظروف إبرامها لا يتوقع أبداً أن تكون معاهدة بين جيش منتصر وجيش مهزوم.ومن المناسب ذكر جزء من المعاهدة، فهي تجري هكذا: (( هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها أن لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم … وعليهم أن يخرجوا الروم واللصوت، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن … ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله إلى الروم ويخلي بينهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم… ومن أراد من الروم أن يبقى في إيلياء فله ما لأهلها، وعليه ما عليهم، وإن أراد أن يلحق بالروم فإنَّ له الأمان على نفسه وماله حتى يبلغ مأمنه )).ليتذكر القارئ انه وقت كتابة العهد المشار إليه كانت الحرب لا تزال قائمة وعلى أشدها بين المسلمين والروم.هل منهج الإسلام في العلاقات الدولية واقعي؟قد يخيَّل لشخص يعيش في هذا العصر أن منهج الإسلام في العلاقات الدولية وما يقتضيه من مبادئ حاكمة، منهج مثالي ليس قابلاً للتطبيق في عالم الواقع، ولكن يرد هذا أنه بالرغم من أن هذا المنهج كان يطبق من جانب واحد فقد طبقه المسلمون كما يشهد تاريخهم على مساحة واسعة من الزمان والمكان. صحيح أن تطبيق المبدأ الثاني من مبادئ الحرب لم يظهر بالوضوح الكافي بسبب أن حالة الحرب الدائمة في العالم كانت هي القاعدة. وصحيح أن المبدأ الأول وجد الإخلال به عدة مرات بخاصة في الحروب بين الجماعات أو الدويلات الإسلامية، ولكن هذه الحروب لم تعتبر قط جهاداً ولا حروباً مشروعة لا من قبل الفقهاء الذين عاصروها ولا من قبل كتاب التاريخ اللاحقين.ولكن المبدأ الثالث طبق باستمرار من قبل المسلمين، وربما لا يذكر التاريخ حالة واحدة تم الإخلال فيها من قبل المسلمين الملتزمين بأحكام الإسلام.يوضح ما سبق ذكر بعض الأمثلة والمقارنات:(1) - كما سبق أن ذكر كان المسلمون بعد وقعة اليرموك الحاسمة وهزيمة جيش أرطبون قادرين على الاستيلاء عنوةً على القدس. واستيلاؤهم عليها عنوة يعطيهم مزايا مادية أهم وأكثر مما لو فتحوها صلحا، ومع ذلك رغبة منهم في فتحها صلحاً فضَّلوا حصارها - وتكبَّدوا في ذلك خسائر مادية وبشرية - حتَّى قبل سكَّانها الصلح، وأبرمت معاهدةُ الصلح، بشروطٍ لا تُنبئ أبداً أنَّها كانت معاهدة صلح بين جيشٍ منتصرٍ وجيشٍ منهزمٍ.فمثلاً تضمَّنت هذه المعاهدةُ - والمسلمون لا يزالون في حرب مع الرومان - تخييرَ قادة وجنود جيش الرومان بين أن يبقوا في القدس ويكون لهم ما لسكانها الفلسطينيين وعليهم ما عليهم، أو أن يلحقوا بجيش الروم. وفي هذا الحالة يضمن المسلمون حياتهم وأموالهم حتى يبلغوا مأمنهم.ودخل جيش المسلمين القدس فلم يهرق دم، ولم ينهب مال، ولم يهدم معبدٌ. بل إنَّ النصارى حينما دعوا الخليفة للصلاة في كنيسة القيامة تكريماً له، امتنع عن ذلك معلِّلاً امتناعَهُ بخوفه مِن أن يمثل سابقةً فيعتاد المسلمون الصلاة في الكنيسة حتى يغلبوا النصارى عليها.قبل انتصار المسلمين على الرومان وفتحهم القدس على النحو الذي ذكرنا بعشرين عاماً تقريباً انتصر الفرس على الرومان واستولوا على القدس. فكيف تمَّ ذلك، يذكر كتب التاريخ للمؤرخين الغربيين أنَّ المدينة أحرقت ونهبت، وجرت دماء النصارى السكان في مذابح مروعة، وأحرقت الكنائس، وأهين المكان الذي يعتقد النصارى أنَّ المسيح دُفِن فيه، وحملت النفائس والمقدَّسات، ومن بينها الصليب الكبير (True cross) الذي يعتقد النصارى أنَّ المسيح صُلب عليه. وقد احتفل رجالُ الدين الفرسُ ابتهاجاً بانتصارهم على رجالِ الدين النصارى. وساعد اليهودُ الفرسَ في النهب والمذابح بسبب عدمِ رضاهم عن سيطرةِ النصارى، ممَّا أوجب نقمة النصارى عليهم عندما انتصر الرومان على الفرسِ بعد بضعِ سنواتٍ.(2) - تعتبر المستشرقة الألمانية الراحلة زيجريد هونكه من أوسعِ المستشرقين اطِّلاعاً على تاريخ الإسلام، وقد وصفت بعباراتٍ مؤثِّرةٍ انتصارَ الصليبيين على المسلمين، واستيلاءهم على القدس، فقالت: (( عقب وصول [ الصليبيين ] إلى هدفهم المنشود (( بيت المقدس )) طغت حماستهم فجرفت أمامها كلَّ السدود، وانطلقوا سيلاً بشعاً بربريا يأتي على الأخضر واليابس، وقد أجَّج ذلك صيامُهم ثلاثين يوماً حماسةً متعصبة ونذرا للرب تقربا. ولقي هذا كله ردَّ فعلٍ لدى سفاكي الدماء … من فرسان "الفرنجة" من فرنسيين ونورمان وجموعهم التي انحدرت في طرقات بيت المقدس تحصد الأرواح حصداً، لا تقع على إنسان إلا قتلته … رجالاً ونساءً وشيوخاً وولدانا. وتذكر مصادرُنا الغربيةُ ذاتها أن ذلك الحصاد الوحشي بلغ عشرة آلاف ذبيح. ويصف المؤرخ الأوروبي ميشائيل دارسيرر كيف كان البطريرك نفسه يعدو في زقاق بيت المقدس وسيفه يقطر دماً حاصداً به كلَّ من وجد في طريقه، ولم يتوقَّف حتى بلغ كنيسة القيامة وقبر المسيح، فأخذ في غسل يديه تخلصاً من الدماء اللاصقة بها، مردِّداً كلمات المزمور التالي: (( يفرح الأبرار حين يرون عقاب الأشرار، ويغسلون أقدامهم بدمهم، فيقول الناس: حقا، إنَّ للصديق مكافأة، وإن في الأرض إلها يقضي )) [ المزمور 58: 10-11 ]. أما الميدان الذي يتحلَّق قبة الصخرة والمسجد الأقصى الذي لجأ إليه معظم الأهالي المسلمين الهاربين هلعاً واحتماءً به، فقد تحوَّل تحت زحف الفرنجة المدمر … إلى حمام دماء خاض فيه مهاجمو النصارى حتى الكعبين، مواصلين الإجهاض على المسلمين. لقد كانت الحملة الصليبية الأولى … (1095م) بمثابة المقدمة الموسيقية الحزينة لواحدةٍ من كبريات مآسي العبث في تاريخ الإنسانية. لقد حفر ذلك اليوم حفراً يتأبى على المحو أبداً في ذاكرة التاريخ … ولئن كانت الحملة الصليبية الأولى قد انتهت لوقت مؤقت معلوم بالغلبة الساحقة لمقاتلي النصارى دفاعاً عن المسيح!، فإنَّها كانت في الوقت نفسه هزيمةً أخلاقيةً مهولة سجَّلها تاريخ الإنسانية بحروفٍ من الخزي … ولقد أيقظت تلك الحملة البربرية ما أيقظت في نفوس المسلمين في شتى بقاع العالم الإسلامي … ولن تزال تلك الحملة الصليبية الأولى بقعة عارٍ وخزيٍ لاصقةً بالغرب مشيرةً إليه بإصبع الاتهام )) (ص 21-22).كتب جود فرى قائد الحملة على (القدس) إلى البابا يبشِّره بأنَّ خيولَ جيشِهِ ظلَّت تخوض الدماءَ التي كانت تسيل من أجسام الكفار (المسلمين).وبعدَ عدَّة عقودٍ من السنين هزم صلاح الدين الأيوبي الصليبيين في موقعة حطين الحاسمة، وفتحت أمامه (القدس) فدخلها المسلمون منتصرين وأظهروا من ضروب السماحة والإنسانية وأخلاق الفروسية ما أجبر حتى المتعصِّبين من مؤرخي الغرب على الاعتراف به.وفي سبيل المقارنة بين سلوك الصليبيين والمسلمين بهذه المناسبة كتبت زيجريد هونكه: (( نذكر هنا الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد، الذي نشأ في الغرب تنشئة الملوك الشرفاء. فقد مرغ تلك السمعة الطيبة في العار، ودأب على تلويثها بشكلٍ مخزٍ دائماً أبداً، فبينما أقسم بشرفه لثلاثة آلاف أسير عربي أنَّ حياتهم آمنة فإذا هو فجأة منقلب المزاج، فيأمر بذبحهم جميعاً، ويحذو قائد الجيش الفرنسي حذوه سريعاً. وهكذا لطخ بفعلته النكراء وسفكه تلك الدماء سمعتَه إلى الأبد، وضيَّع ثمرة انتصاره في أذيال الخزيِ والعار. وعلى العكس من هذا عرفنا صلاح الدين الذي أخزى قوَّاد جيوش النصارى، فلم ينتقم قطُّ من أسراهم النصارى الذين كانوا تحت رحمته، رداًّ على خيانتهم وغدرهم وفظاعتهم الوحشية، التي ليس لها حدٌّ. ولقد أخزاهم صلاح الدين مرةً أخرى حين تمكَّن من استرداد بيت المقدس، التي كان الصليبيون قد انتزعوها من قبلُ بعد أن سفكوا دماء أهلها في مذبحةٍ لا تدانيها مذبحةٌ وحشية وقسوةً، فإنَّه لم يسفك دمَ سكَّانها من النصارى انتقاماً لسفك دم المسلمين، بل إنه شملهم بمروءته وأسبغ عليهم من جوده ورحمته، ضارباً المثل في التخلُّقِ بروح الفروسية العالية. على العكس من المسلمين لم تعرف الفروسية النصرانية أي التزامٍ خلقي يفرض عليها أن تسمح لأولئك (( الكفار )) بممارسةِ حقوقهم الطبيعية … كما شعرت تلك الفروسية النصرانية بأنَّه ليس لزاماً عليها أن تلتزم بكلمة الشرف التي تعطيها لغير النصراني … والحقُّ أنَّ الفروق الحاسمة مع أتباع الملَّة الأخرى راسخةٌ في تفهُّم كلٍّ من الإسلام والنصرانية لطبيعته وفي اختلاف تفهُّم كلٍّ منهما للبشر )) (ص 34-35).(3) - عقدت زيجريد مقارنة بين سلوك الصليبيين وسلوك المسلمين بمناسبة استيلاء الصليبيين على دمياط، ثم هزيمتهم على يد السلطان الكامل، فكتبت:(( ليس الخيال وحده إذن هو الحافل بالشهادات القيمة في معاملة الخصم معاملة تخلو من التجني الظالم، وتقيمه موضوعيا، وتقدم له ما يستحق من احترام وتقدير، وتتيح للصداقة أن تنمو وتترعرع بين الخصوم … ومن الشواهد الدالة على هذا الموقف الأخلاقي أن أحد الألمان الذين شاركوا في الحروب الصليبية بعد عودته إلى وطنه على نهر الراين لم يجد بداًّ من تحرير رسالة إلى سلطان مصر الملك الكامل يعبر فيها عن مشاعره تعبيراً مؤثِّراً، وقد ترسَّخت في مخيلته المذابح الفظيعة التي أبيد فيها أهل دمياط بمصر جميعهم بناءً على أوامر البابا ومبعوثيه الكرادلة ورجال الكنيسة، وذلك بعد الاستيلاء على حصن دمياط بعد حصار طال.لم يكن ذلك الألماني سوى عالم الفلسفة اللاهوتية (( اوليفروس )) من كولونيا على نهر الراين بألمانيا الذي بهره ما اكتشفه من المروءة والفروسية العربية التي أثبتها في شخصية السلطان الكامل، على الرغم من جميع الأهوال والفظائع التي اعتادها السلطان من قبل النصارى.ولقد سجَّل ذلك الشاهد ما لمسه بعينه كما لو كان ذلك حدثاً سعيداً لا يمكن للعقل أن يتصوره. فقام بكتابة الرسالة التالية إلى السلطان الكامل عام 1221 … إذ أنه لم يقتص من الصليبيين العين بالعين والسن بالسن، وإنما أطعمهم في مسغبتهم مرسلاً إلى جيشهم المتضور جوعا كل يوم ثلاثين ألف رغيف ومواد غذائية أخرى، وكتب يقول:(( منذ تقادم العهود لم يسمع المرء بمثل هذا الترفق والجود، خاصة إزاء أسرى العدو اللدود، ولما شاء الله أن نكون أسراك لم نعرفك مستبداًّ طاغية، ولا سيداً داهية، وإنما عرفناك أباً رحيماً شملنا بالإحسان والطيبات، وعوناً منقذاً في كل النوائب والملمات. ومن ذا الذي يمكن أن يشكَّ لحظةً في أن مثل هذا الجود والتسامح والرحمة من عند الله … إن الرجال الذين قتلنا آباءهم وأبناءهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم وأذقناهم مر العذاب، لما غدونا أسراهم وكدنا نموت جوعاً راحوا يؤثروننا على أنفسهم على ما بهم من خصاصة، وأسدوا إلينا كلَّ ما استطاعوا من إحسان، بينما كنا تحت رحمتهم لا حول لنا ولا سلطان )).هنا كان ينبغي أن يقرع ناقوس، وأن تتجاوب لرنينه نواقيس أخرى، وإذا كان عربي قد قدم مثل هذا البرهان على السمو الإنساني والمروءة المتناهية، فإن ذلك ليس بدعاً ولا حدثاً مفرداً، فثمَّة شواهد أخرى في هذا الصدد )) (ص32-34).(4) - وتعقد زيجريد هونكه مقارنة أخرى بين فتح المسلمين للأندلس وحكمهم لها، ثم استيلاء النصارى الكاثوليك عليها واضطهادهم للمسلمين واليهود والمذاهب الأخرى في المسيحية، فتقول:(( ولا مراء أنَّ تاريخ الغرب نفسه يثبت بالبراهين العكسية الدامغة التي تدحض وتفند التشويهات التي ألصقت بالإسلام زورا، والتي تحفل بها كتب التاريخ، حيث تسم الإسلام ظلماً وعدوانا بأنه يشكل خطراً يهدد البشرية والحضارة الإنسانية. وحسبُك مثل واحد فريد في نوعه إبان تلك العصور، لتفنيد تلك التخرصات. ولك أن تقول: الوجه المشرق لتلك الميدالية الحالكة السواد، والذي أشرق على البشرية حقبة مباركة لم تكن بالقصيرة، وإنما قرابة ثمانية قرون، نعنى إسبانيا.إن إسبانيا تحت حكم العرب مثال يبين أنه بينما كانت أوروبا الكاثوليكية دون جبال البرانس تقضي قضاءً مبرماً على كلِّ دينٍ آخر يجرؤ على الظهور إلى جانب دينها الكاثوليكي - بصفته الدين الأوحد للخلاص -، وذلك باتباعها سياسة التفرقة الصارمة إزاءَ غير النصارى، نرى أن النصرانية لم تُسْتَأصل ولم تَضِعْ تحت حكم العرب … كذلك اليهودية … تمتَّعت في ظلال الحكم العربي … لأول مرة بعد الشتات بمطلق الحرية إلى أن استعادت النصرانية الحكم في إسبانيا وطردت اليهود … فوق هذا كله، يبين مثال إسبانيا هذا أن تلك البلاد التي كانت قبل الحكم العربي تتسم بالفقر والخراب والاستعباد، قد استحالت إلى إسبانيا أخرى يرفرف الثراء والرخاء على كلِّ سكَّانها وتميزت بارتفاع مستوى كل طبقات الشعب وازدهار الحضارة والتمدُّن فيها وتقدُّمها في كافة العلوم والفنون … واستمرَّ ذلك خمسمائة عام، كما هو ثابت في تاريخنا بلا جدال، إلى أن زحفت إسبانيا النصرانية من الخارج فقوضت كل ذلك وحطمته تحطيماً … إن سماحة النفس العربية وتسامحها … تلك السماحة التي يراها الإسلام شيئاً مفهوماً بداهةً جعله يرتضي ويتقبل وجود النصرانية مطلقاً … إن تلك الحضارة الزاهرة التي غمرت بأشعتها أوروبا لمدة قرون تجعلنا نعجب أشدَّ العجب، إذ هي لم تكن امتداداً حضارياً لبقايا حضارات غابرة … أو أخذاً لنمط حضاري موجود، كما نعرف في الأقطار الأخرى … على أن التربة التي فوقها نمت أغصان الحضارة وبراعمها فجأة تحت حكم العرب أقفرت وظلت عقيماً، استشرى فيها الجدب الجدب ولم تتعهدها بالرعاية منذ ذلك الحين قوى حضارية خلاقة تذكر. إن العرب هم الذين أبدعوا إبداعاً يكاد يكون من العدم، هذه الروعة الحضارية الشامخة في إسبانيا تلك الجنة الفريدة الجمال لأساتذة فنِّ المعمار، والمغنِّين والمغنِّيات، والشعراء والشاعرات، والعلماء، بل جنة المرأة التي نسج الغرب حولها صوراً خيالية … غاية في الوحشية دون أن يكون له أدنى معرفة أو حتى إلهام طفيف ضحل بها )) (ص 52-54).(( إن الشيء الذي يتأبى على فهم الكنيسة فهو دخول شعوب الأقطار المفتوحة في الإسلام أفواجاً بمحض إرادتها، دون مساعي إرساليات التبشير، ودون الإكراه في الدين. أجل، لقد كانت السماحة العربية والروح العربي وأسلوب الحياة العربي مما استحوذ على نصارى إسبانيا، وليس كما يزعم المبطلون زوراً عظيماً … بأنهم أرغموا على الإسلام خشية السيف … أما الإجهاز على السماحة والتسامح نهائيا في إسبانيا فقد تمَّ على أيدي الدويلات النصرانية التي اعتصمت في شمال إسبانيا، والتي أقصت العرب شيئاً فشيئاً إلى أن تمكَّنت من صدِّهم وطردهم، متوجة انتصارها باستعادتها عام 1492 ميلادية الدرَّتَين العربيتين غرناطة والحمراء. إذ لم يكن انتصار النصرانية يعني سوى طرد اليهود والمسلمين واضطهادهم وإكراههم على التنصير واستئناف نشاط محاكم التفتيش التي قامت بتعقب كل من يتخذ سوى الكاثوليكية دينا، والحرق العلني في احتفالات رسمية تحفُّها الطقوس والشعائر الكنسية لكلِّ من اعتنق الإسلام أو اليهودية.وما إن دالت دولة العرب في إسبانيا حتى اندثرت معهم أزهى وأخصب حضارة ملكتها أوروبا في العصور الوسطى، وغرقت في بحر من الرعب وأتت فيه أمواج التعصب الديني على كل شيء وابتلعته ابتلاعاً. ولم تلغ محاكم التفتيش إلا في 1834 )) (44-45).(5) - مثال حديث للمقارنة: سلوك المحاربين الصرب في البوسنة والهرسك الذين ارتكبوا أفظع الجرائم التي لم يستطع حتى الإعلام الغربي المتحيِّز أن يتجاهلَها. وقد تمَّ ذلك بالمعونة اللوجستية الإيجابية للصرب من بعض دول أوربا، وبحجب الإمداد اللوجستي عن المسلمين من قبل دول غربية أخرى، بل لقد تمَّ ارتكاب الجرائم بمعونة أو تواطؤ عناصر غربية في قوة حفظ السلام.وبالعكس فإن المجاهدين المسلمين في البوسنة والهرسك، وإن كانوا محاربين أقوياء إلا أن التزامهم الخلقي حال دون أن يجد الإعلام الغربي من سلوكهم ما يخالف قواعد الشرف العسكري. ولقد حقَّقوا في النهاية انتصاراتٍ ربما كانت عاملا في مبادرة الغرب بوضع اتفاقية دايتون التي تضمن أحد نصوصها وجوب إخراج المجاهدين المسلمين من البوسنة والهرسك، وكذلك وقع.وسلوك المجاهدين الملتزمين بالإسلام في الشيشان في حربيه الماضية والجارية مثال آخر.(6) - أما المثال الطازج فهو ما أظهرته المعلومات التي أفلتت من الحصار الإعلامي من سلوكيات القوات البرية والجوية في التحالف الدولي في حرب أفغانستان الجارية. لقد أظهرت المعلومات المشار إليها صوراً من السلوك لو نسبت لغير قوات التحالف الدولي المتحضِّر لوصفت بأنَّها همجيَّةٌ ووحشية وجرائم حرب.ولو لم يكن الإعلام هالوكستيًّا بيد الدجال، ولو وجد إعلامٌ غير متحيِّز لربما صلحت صورة طالبان لتكون هي الصورة المقابلة، وعلى كل فإنه حتى الإعلام المتحيِّز لم يتَّهم جيوش طالبان في أوقات انتصارها باغتصاب النساء أو إحراق أسراهم بالديزل، أو إغراقهم، أو قصفهم إستراتيجيا بقاذفات القنابل أو تصيُّدهم بطائرات الهيلكوبتر أو العجن الإستراتيجي لقرى بكاملها حيث تختلط أجسام البشر بأجسام حيواناتهم وأنقاض بيوتهم وأثاثهم وتمسح من على الأرض مسحاً.على أنَّ طالبان لو ارتكبت مخالفاتٍ لقواعد القانون الدولي أو المعاهدات الدولية لكان من السهل افتراض أنَّ هذه القواعد لم تخطر لها ببال وربما لم تسمع بها.ولكن القادة العسكريين والمدنيين على السواء لا يجهلون هذه القواعد، وربما كان هذا ما أدى بجرمياه يورك أن يضع هذا السؤال:The biggest [whopper] is that the vast majority of those who understand what the Geneva Conventions are, and what they say, just don't care anymore. So who are the barbarians now? Are they those who don't know better, or who do, and choose not to care?مَن البرابرة الآن، الذين لا يعلمون عن اتفاقيات جنيف أو الذين يعلمون ثم لا يأبهون بانتهاكها؟
فيما سبق كان الحديث عن منهج الإسلام في التطبيق في حالة الحرب، أما في حالة السلم فإن المسلمين الملتزمين بالإسلام في كل زمان وكان قد اعتبروا القوة الإلزامية للمعاهدات قوة مطلقة، وهذا بالطبع يختلف تماماً مع المنهج الغربي للعلاقات الدولية، إذ يحكم المعاهدة كما يحكم غيرها المصلحة القومية والقوة. فإذا كانت المصلحة القومية للدولة الحديثة انتهاك المعاهدة وكانت قادرة على ذلك بحيث لا تتوقع أيَّ جزاءٍ، فإنها لا تتردَّد في تلبية ما تقتضيه المصلحة الوطنية:( أ ) - على سبيل المثال والمقارنة، كلا الدولتين إسرائيل والمملكة العربية السعودية وقعا الاتفاقية الدولية الخاصة بالملكية الفنية. ومع ذلك لا تضج الشركات الأمريكية من انتهاك حقوقها بموجب الاتفاق في أي دولةٍ بقدر ما تضجُّ من انتهاكها في إسرائيل. إسرائيل بالطبيعة صديقة لأمريكا وشريكة إستراتيجية. ولكنها كدولةٍ حديثةٍ لا تهتمُّ أجهزتها التنفيذية بحماية حقوق الملكية لدولةٍ أجنبيةٍ على حساب مصلحتها القومية في حدود استطاعتها. وبالعكس فإن الأجهزة التنفيذية في المملكة العربية السعودية تطبيقاً للاتفاق الدولية لا تحمي الحقوق الأمريكية الفنية بأكثر من حماية الولايات المتحدة الأمريكية لحقوق المملكة العربية السعودية فحسب، بل أكثر من حماية الأجهزة التنفيذية الأمريكية نفسها حقوق المواطنين الأمريكيين.وبصرف النظر عن حكمة أو عدم حكمة سلوك الأجهزة التنفيذية السعودية في الالتزام بما لا يلزمها قانوناً، إلا أنَّ المقصود (وهو المطلوب) الدلالة على الروح التي تحكم المسلم تجاه المعاهدات.(ب) - وللمقارنة أيضاً، في حرب الخليج وقعت مجندة أمريكية أسيرة في يد العراقيين، فاهتمَّت إذاعة B.B.C. بالسؤال عن قواعد الإسلام التي تحكم الأسرى، بالطبع السؤال لا محلَّ له، لأنَّ حكومة العراق حكومة بعثيَّة علمانية، وعقيدة البعث لا محلَّ فيها لتحكيم الدين أي دين. فحكومة العراق بمقتضى الحال لن تبحث عن أحكام الإسلام لتطبقها على أسراها، ولا أدري بماذا كان الجواب على سؤال الإذاعة. ولكن الجواب الصحيح في حالة الدولة المسلمة التي وقعت على اتفاقيات جنيف الدولية التي تحكم معاملة الأسرى، سوف تلتزم كحد أدنى بما تنص عليه هذه الاتفاقيات، ثم من وراء ذلك ومن فوقه ستعامل الأسير وفق المعايير الخلقية التي يهدي إليها القرآن والسنة الصحيحة، وهي بالطبع أوفى من الحد الأدنى الذي تلزم به الاتفاقيات الدولية.نقارب هذا المثل بمثل (( طازج ))، هو معاملة قوات التحالف الدولي لأسرى الحرب في أفغانستان. بالطبع لا نتوقع من اتفاقيات جنيف أن تسمح بقصف الأسرى، أو حرقهم بالديزل، أو إغراقهم بالماء المجمد، أو رميهم بالرصاص وهم مكتوفو الأيدي من الخلف، أو وهم يصلون، أو المعاملات اللاإنسانية الأخرى.ولكن الأسوأ من ذلك أن الأمر لم يقتصر على انتهاك أحكام الاتفاقيات، بل تعدى إلى الجناية على نصوصها، إذ لكي يفر التحالف الدولي من نسبته إلى انتهاك الاتفاقيات الدولية أو نسبته إلى ارتكاب جرائم الحرب سمى المحاربين الذين أسروا وهم في حالة الدفاع الحقيقي عن النفس في المعركة الحربية إرهابيين ومعتقلين، مقرِّراً سابقة خطيرةً لإلغاء الالتزام كلياًّ بقواعد القانون الدولي والمعاهدات الدولية عن طريق تغيير الاسم والتلاعب بالألفاظ.بالطبع ليس المقصود هجاء أحد، وليست هذه المقالة مجال هجاء، وإنما كان المقصود رد الحقائق المقلوبة والمشوَّهة إلى وضعها الصحيح.
الحقيقة أن المعاهدات محور ارتكاز في منهج العلاقات الدولية في الإسلام.لقد طبق المسلمون الملتزمون بالإسلام منهج الإسلام في العلاقات الدولية في حالة الحرب وفي حالة السلم، في كل وقت، وفي كل مكان - بالرغم من أن هذا المنهج كان دائماً يطبق من جانب واحد -. وذلك أكبر دليل على إمكانية تطبيقه عملياً.لو تحوَّلت الدول الغربية إلى دول متحضِّرةٍ فعلاً، لارتضت الالتزام بتطبيق القانون ومعايير الأخلاق الإنسانية.تذييل:لا يفوت التنبيه إلى أن التأثير الثقافي الطاغي للحضارة الغربية على العالم الإسلامي جعل دول العالم الإسلامي في كثير من الأحيان تطبِّق المنهج الغربي في العلاقات الدولية، سواء فيما بينها وبين الغرب، أو ما بين بعضها البعض، وغابت في كثير من الأحيان عن الفكر الإسلامي المعاصر مبادئ المنهج الإسلامي، ولم يسلم من ذلك حتى الحركات والجماعات الداعية لتطبيق الإسلام منهج حياة.والمجال لا يتَّسع للتفصيل وإيراد الأمثلة، وإنما المقصود التنبيه ليتذكَّر من تنفعه الذكرى.
بقلم معالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين
الفصل الثانيالعلاقات الدولية في الإسلام
(العدل) هو القاعدة الأساسية في تنظيم علاقة المسلم بغيره، ويشمل ذلك العلاقات الدولية - كما سنرى. والعدل في هذا المجال - وكما تظهر نصوص القرآن والسنة - هو القيمة الأولى بين القيم الإسلامية، وفي القرآن ورد الأمر بالعدل والإشادة بالمتَّصفين به، والنهي عن الظلم والتشنيع على مرتكبيه في أكثر من 350 موضعاً. ويعبر عن العدل أحياناً بالقسط وإقامة الميزان أو بما يدل على هذا المعنى، كما يعبر عن الظلم بالبغي والعدوان والبخس والطغيان.والعدل في الإسلام قيمة مطلقة ذات ميزان واحد يلتزم به المسلم كواجب أساسي في المنشط والمكره، وفي حالة الصداقة والعداوة، في القول والعمل، وفي الفعل والترك. قال تعالى: (( يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهدآء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون )) (المائدة: .قال المفسرون: المعنى: لا يحملكم بغض قوم يقاتلونكم في الدين على أن لا تعدلوا في معاملتهم.ويشهد لهذا التفسير الآية الأخرى: (( ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب )) (المائدة: 2).ولم يكن أحد أعدى للمسلمين من الذين صدوهم عن المسجد الحرام وقاتلوهم وأخرجوهم من ديارهم. (انظر أيضاً الآية 135 من سورة النساء).والعدل مطلوب في القول والعمل: (( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا )) (الأنعام: 152).العدل هو الحد الأدنى في معاملة المسلم لغيره، ولكن المسلم مدعو وراء العدل إلى درجات أعلى: فإذا كان العدل يتحقق بالمقابلة بالمثل، فالمسلم مدعو في القرآن والسنة إلى الصبر والعفو ومقابلة السيئة بالحسنة والبر والإحسان.قال تعالى: (( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور )) (آل عمران: 18).وقال تعالى: (( والذين إذآ أصابهم البغى هم ينتصرون (39) وجزاؤا سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (40) ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (41) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم (42) ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور )) (الشورى: 39-43).وقال تعالى: (( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير )) (البقرة: 109).وقال تعالى: (( ادفع بالتي هي أحسن السيئة )) (المؤمنون: 96).وقال تعالى: (( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبيمه عداوة كأنه ولي حميم (34) وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم )) (فصلت: 34-35).وفي وصف عباد الرحمن قال تعالى: (( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما )) (الفرقان: 63).
وعلى القاعدة الأساسية - العدل تبنى أحكام العلاقات الدولية في الإسلام، سواء في حالة الحرب وفي حالة السلم، على التفصيل الآتي.أولاً: في حالة الحرب:يلاحظ في البداية من نصوص القرآن دلالتها على أن أشنع عمل للإنسان في علاقته بغيره (سفك الدماء، وإرادة العلو في الأرض، والفساد فيها).قال تعالى: ((قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )) (البقرة: 30).وقال تعالى: (( من أجل ذلك كتبنا على بني إسراءيل ظظانه من قتل نفسا بغير نفس ظاو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا )) (المائدة: 32).وقال تعالى: (( وقضينا إلى بني إسراءيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتبن ولتعلن علواً كبيراً )) (الإسراء: 4).وقال تعالى: (( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الرحث والنسل والله لا يحب الفساد )) (البقرة: 205).وقال تعالى: (( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا )) (الإسراء: 33).وفي وصف المستحقين للجزاء الأخروي الحسن: (( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فدساداً والعاقبة للمتقين )) (القصص: 83).وقال تعالى: (( ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين )) (هود: 85 والشعراء: 183).وفي التشنيع على فرعون قال تعالى: (( وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين )) (يونس: 83 والدخان: 31).وقال تعالى: (( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهله شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين )) (القصص: 4).وقال تعال: (( ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض )) (البقرة: 27 والرعد:25).وفي ذم اليهود قال تعالى: ((كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين )) (المائدة: 64).وبالجملة فإن ذم القتل بغير حق والعلو في الأرض والفساد فيها ورد في القرآن في أكثر من 120 موضعاً.لكل ما سبق كان من الطبيعي أن تكون الحرب في الإسلام مكروهة في الجملة، ينبغي ما أمكن تفاديها، وفي المعنى جاء الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (( لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاثْبُتُوا )) (متفق عليه). وكان من الطبيعي أن لا يسمح الإسلام بالحرب إلا في حالة الضرورة الشرعية، وفي هذه الحال تحكم الحرب مبادئ ترتكز على القيمة الأساسية (العدل).تتخلص المبادئ التي تحكم الحرب في ثلاثة مبادئ تضمنها الآية الكريمة: (( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )) (البقرة: 190).
المبدأ الأول: أن يكون القتال في سبيل اللهبأن يخلص القصد منه إلى أن تكون كلمة الله هي العليا، فالمصلحة الشخصية أو القومية لا يبرر الحرب، بل تجعل الحرب غير شرعية في حكم الإسلام.وأهمية هذا المبدأ تظهر من أن القتال أو الجهاد نادراً ما يرد في القرآن دون تقييده بأن يكون في سبيل الله، وأحياناً يكون مقروناً بالأمر بالتقوى.و(التقوى) اصطلاح قرآني لا يوجد له مرادف في اللغة العربية، وربما لا يوجد في غيرها من اللغات، فهو يعني درجة عالية من الحساسية الخلقية، بأن يتصرَّف الإنسان وأوامر الله ونواهيه بين عينيه وأن يشعر بأن الله يراقبه في تصرفه ويراه، وأن الله إليه المآب والمصير.
ولكن من الناحية العملية متى يكون القتال في سبيل الله؟لقد عرضت الآيات الآتية صوراً يمكن الاهتداء بها لتحديد (ما هو في سبيل الله)، وما يوجد به شرط إباحة الحرب على النحو التالي:(أ) - رد العدوان:قال تعالى: (( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين )) (البقرة: 194).وقال تعالى: (( الا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة )) (التوبة: 13).وقال تعالى: (( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون )) (الشورى: 39).وقال تعالى: (( وجزاؤا سيئة سيئة مثلها )) (الشورى: 40).وقال تعالى: (( ولمن إنتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل )) (الشورى: 41).وقال تعالى: (( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين )) (التوبة: 36).وقال تعالى: (( فإن قاتلوكم فاقتلوهم )) (البقرة: 191).
(ب) - الدفاع ضد الظلم وحماية المظلومين:قال تعالى: (( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير (39) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلآ أن يقولوا ربنا الله )) (الحج: 39-40).وقال تعالى: (( قالوا ما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا ديارنا وأبنائنا )) (البقرة: 24).وقال تعالى : (( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم )) (الممتحنة: 9).وقال تعالى: (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله )) (الحجرات: 9).وقال تعالى: (( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وأجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا )) (النساء: 75).وقال تعالى: (( وإن إستنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق )) (الأنفال: 72 ).
(جـ) - الدفاع ضد الإفساد في الأرض:قال تعالى: (( إنما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا في الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم(33) إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم )) (المائدة: 33-34).وقال تعالى: (( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض )) (البقرة: 251).وقال تعالى: (( ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره )) (الحج: 40).(د) - القتال لحماية حق الإنسان في اختيار أن يكون الله هو إلهه، لا إله سواه.وهذا الحق يقع على رأس حقوق الإنسان في الإسلام، لأنه الغاية من الحياة.قال تعالى: (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )) (الذريات: 56).وقال تعالى: (( قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءً بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله وأن لا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله )) (آل عمران: 64).وفد فهم المسلمون في القرون الأولى أن مهمتهم الكبرى إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، كما عبَّر عن ذلك الصحابي الجليل ربعي بن عامر في مفاوضات المسلمين مع الفرس، في حرب القادسية.قال تعالى: (( يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا )) (البقرة: 217).وقال تعالى : (( واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم )) (البقرة: 191).قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: (( والفتنة أشد من القتل )) : (( يعني الشرك بالله أشدُّ من القتل … وقد بينت أن أصل الفتنة الابتلاء والاختبار، فتأويل الكلام: وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركاً بالله من بعد إسلامه أشدُّ عليه وأضرُّ من أن يقتل مقيماً على دينه متمسكا عليه محقا فيه )).وقال الإمام القرطبي في تفسيرها: (( أي: الفتنة التي حملوكم عليها وراموا رجوعكم بها إلى الكفر أشدُّ من القتل )). وقال في تفسير (( والفتنة أكبر من القتل )): (( قال مجاهد وغيره: الفتنة هنا الكفر… وقال الجمهور: معنى الفتنة هنا فتنة المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا، أي: إن ذلك أشدُّ اجتراماً من قتلكم في الشهر الحرام )).ويلاحظ أنه لا خلاف بين التفسيرين، فمن فسَّر (( الفتنة )) بالشرك أو الكفر عنى النتيجة، ومن فسَّرها بتعذيب المسلم حتى يكفر عنى السبب.وقال تعالى: (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله )) (البقرة: 193).أخرج البخاري في تفسير هذه الآية عن نافع أنَّ رجلاً أتى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله )) ؟ قال: فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الإسلام قليلاً فكان الرجل يُفتن عن دينه، إما قتلوه وإما يعذبونه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة.
المبدأ الثاني: أن يكون القتال ضدَّ من يقاتلقال تعالى: (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (60) وإن حنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم )) (الأنفال: 60-61).وقال تعالى: (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين )) (البقرة: 193).قال الإمام الطبري: عن مجاهد (( فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين )) يقول: (( لا تقاتلوا إلا من يقاتلكم )).وقال في تفسير قوله تعالى: (( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )) (البقرة: 190): عن سعيد بن عبد العزيز قال: (( كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: إني وجدت آية في كتاب الله: (( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )) ، أي: لا تقاتل من لا يقاتلك )). وردَّ الطبري على من قال بنسخ الآية بقوله: (( وأولى هذين القولين بالصواب القول الذي قاله عمر بن عبد العزيز، لأنَّ دعوى المدَّعي نسخ آية يحتمل أن تكون غير منسوخة بغير دلالة على صحة دعواه تحكُّمٌ، والتحكُّم لا يعجز عنه أحدٌ )).وقال تعالى: (( فإن إعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليها سبيلا )) (النساء: 90).قال ابن كثير: (( أي: فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك )).وقال تعالى: (( فإن لم يعتزلوكم وياقوا إليكم السلام ويكفوا أيديهم فخذزهم واقتلوهم حيث ثقفتوهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا )) (النساء: 91).فسَّر ابن كثير (( السلم )) بالمسالمة والمهادنة والمصالحة.وقال تعالى: (( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم )) (الممتحنة: 8-9).
المبدأ الثالث: عدم تجاوز ضرورات الحربوهذا المبدأ قيد على قاعدة "المعاملة بالمثل"، فلا خيار للمسلم في عدم الالتزام بالمعايير الأخلاقية الإسلامية في معاملة العدو، وإن كان العدو لم يلتزم بها. ولا خيار للمسلم في عدم الوقوف عند حدود الله، وإن كان عدوه المحارب تجاوز هذه الحدود، فإذا مثَّل محاربو المسلمين بقتلى المسلمين فلا يجوز للمسلمين معاملتهم بالمثل، وإذا قتل الأعداء نساء المسلمين وصبيانهم أو غير المقاتلين منهم فلا يجوز للمسلمين أن يقتلوا نساء الأعداء أو صبيانهم أو غير المقاتلين منهم.وقد أفاض المفسرون عند تفسيرهم للآية السابقة: ((وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)) في ذكر ما ورد من النصوص عن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه تطبيقاً لهذه الآية.من ذلك ما روى مسلم عن بريدة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان [ إذا بعث جيشاً ] يقول: (( اغْزُوا وَلاَ تغلوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع )).وروى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر الصديق بعث جيوشاً إلى الشام فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان … فقال: (( إنَّك ستجد قوماً زعموا أنَّهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا، إنهم حبسوا أنفسهم له … وإني موصيك بعشر: لا تقتلنَّ امرأةً ولا صبياًّ ولا كبيرا هرماً، ولا تقطعنَّ شجراً مثمراً، ولا تخربنَّ عامراً، ولا تعقرنَّ شاةً ولا بعيراً إلا لمأكلةٍ، ولا تحرقنَّ نحلاً ولا تفرقنَّه ولا تغلل، ولا تجبن )).قال الطبري: عن يحيى الغساني قال: كتبت إلى عمر بن عبد العزيز أسأله عن قوله تعالى: (( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )) قال: فكتب إليَّ أنَّ ذلك في النساء والذرية، ومن لم ينصب لك الحرب منهم.وعن ابن عباس في تفسير الآية: (( يقول: لا تقتلوا النساء ولا الصبيان ولا الشيخ الكبير، ولا من ألقى إليكم السلم وكفَّ يده، فإن فعلتم ذلك فقد اعتديتم )).وروى الطبري عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلى على الظالمين )) قال: (( يقول: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم )).وقال ابن كثير في تفسير الآية الكريمة (( ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا )) (المائدة: 2): (( معناها ظاهر، أي: لا يحملكم بغض قوم قد كانوا صدُّوكم عن المسجد الحرام … عن أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتقتصوا منهم ظلما وعدواناً، بل احكموا بما أمركم الله من العدل في حق كل أحد … وهذه الآية كما سيأتي في قوله: (( ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا )) أي: لا يحملكم بغض قوم على ترك العدل، فإنَّ العدل واجبٌ على كلِّ أحدٍ لكلِّ أحدٍ في كلِّ حال )).وقال الإمام القرطبي في تفسير الآية الكريمة (( ولا يجرمنكم شنئان قوم على إلا تعدلوا )): (( دلَّت الآية أيضاً على أنَّ كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه … وأنَّ المثلة بهم غير جائزةٍ، وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمُّونا بذلك فليس لنا أن نقتلَهم بمثله، قصداً لإيصال الهمِّ والحزن إليهم )).وقال في تفسير قوله تعالى: (( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا )) : (( قال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد: هي محكمةٌ، أي: قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم )).وقال عمر بن الخطاب: (( اتقوا الله في الذرية والفلاَّحين الذين لا ينصبون لكم الحرب )).وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حرَّاثاً.ويدلُّ تاريخ الإسلام في كل العصور على أنَّ المسلمين الملتزمين طبَّقوا هذا المبدأ دون استثناء.
ثانياً: في حالة السلمأبرز مظهر للعلاقات الدولية في حالة السلم المعاهدات.وقد عني القرآن في زهاء 30 موضعا منه بالتأكيد على وجوب وفاء المسلم بالعهد وتحريم الإخلال به.على سبيل المثال قال تعالى: (( يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود )) (المائدة: 1).قال ابن كثير: (( (( أوفوا بالعقود )) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني بالعقود العهود. وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك )).قال: (( (والعقود) ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره )).وعن ابن عباس [ في تفسيرها ]: (( لا تغدروا ولا تنكثوا )).وقال تعالى: (( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا )) (الإسراء: 34).وقال تعالى: (( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين )) (التوبة: 7).وقال تعالى - في ذكر صفات الناجين -: (( والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون )) (المؤمنون: 8، والمعارج: 32).وقال تعالى: (( بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين )) (آل عمران: 76).وقال تعالى: (( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا )) (البقرة: 177).وقال تعالى: (( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق )) (الرعد: 20).وقال تعالى - عن الناكثين -: (( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار )) (الرعد: 25).وأكد القرآن أنه حتى في حالة ظهور شواهد نقض العهد من الطرف الثاني، واضطرار المسلمين الذين أبرموا العهد اضطرارهم بسبب ذلك إلى إنهاء العهد، فإنه لا يجوز لهم استغلال هذا الإنهاء لتحقيق مصلحة لهم على حساب الطرف الثاني، بل يجب أن يتم إنهاء العقد في وضع من التوازن بين الطرفين. قال تعالى: (( وإما تخافن من قوم خيانة فنبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين )) (الأنفال: 58).وروى الترمذي وأبو داود عن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية والروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب حتى إذا انقضى العهد غزاهم. فجاء رجل على فرسٍ أو برذونٍ وهو يقول: (( الله أكبر، الله أكبر، وفاءٌ لا غدر ))، فنظروا فإذا هو عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال: (( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَن كان بينه وبين قومٍ عهدٌ فلا يشُدَّ عُقْدَةً ولا يحُلَّها حتى ينقضي أمدُهُ، أو ينبِذَ إليهم على سواءٍ) )). فرجع معاوية بالناس.والعقود في الإسلام على العموم واجبة الاحترام، ويجب الدخول فيها بنية الوفاء بشروطها مهما تغيَّرت الظروف. ولكنَّ المعاهدات الدولية في الإسلام لها تميُّزٌ في هذا، فقد روى مسلمٌ في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن النبيَّ r قال: (( لكلِّ غادرٍ لواءٌ يوم القيامة، يُرْفَعُ له بقدر غدره، ولا غادرَ أعظمُ غدراً مِن أميرِ عامَّة )).والفقهاء وهم يرون أن الجهاد يكون مع الأمير الصالح والفاسق، يذهب أكثرُهم إلى أنَّ الجهادَ لا يكون مع الأمير الذي لا يلتزم الوفاء بالعهود.وعلى خلاف القانون الدولي في الحضارة المعاصرة فإن تغير الظروف لا يبرِّر نكث العهد، وحتى إذا عجز المسلمون في ظروف معينة عن الوفاء بالتزاماتهم يجب عليهم مراعاة التزامات الطرف الثاني.ومن هذا الباب القصة المشهورة أيضاً عندما استولى القائد المسلم أبو عبيدة بن الجراح على حمص ثم اضطر إلى الانسحاب منها فردَّ الجزية التي أخذها من السكَّان، وقال: إننا أخذنا الجزية مقابل حمايتكم، وما زلنا الآن لا نستطيع أن نحميكم فقد وجب أن نردَّها.والأمثلة كثيرة من هذا النوع في التاريخ الإسلامي.فتغيُّر الظروف، والمصلحة القومية لا تبرِّر في الإسلام نقض العهد، كما لا يُبرِّره أن يرى المسلمون أنفسهم في مركز القوة تجاه الطرف الثاني. وقد ورد النص الصريح في القرآن يؤكِّد ذلك، قال تعالى:)) وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون (91) ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة أربى من أمة إنما يبلوكم الله به )) (النحل: 91-92).ثم يقول بعد ذلك: )) ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون )) (النحل: 95).مما له دلالة أن نتذكَّر أن الآيات القرآنية نزلت بالتشديد على المسلمين بالوفاء بالعهد في وقت وفي بيئة لم تكن القاعدة فيهما الوفاء بالعهود، يقدم لنا القرآن صوراً لهذه البيئة في قوله: (( إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون (55) الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون )) (الأنفال: 55-56).وقال تعالى: (( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين (7) كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون (8) اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون (8) لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون )) (التوبة: 7-10).وقال عن اليهود: (( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم )) (البقرة: 100).
وبالرغم من إيقان المسلمين بأنه لا خيار لهم في عدم الوفاء بالعهد تحت أي ظرف، وبالرغم من معرفتهم أن الطرف المقابل لا يحمل مثل هذا الالتزام، إلا أنهم كانوا - كما يظهر ذلك تاريخ الإسلام - يقبلون على إبرام العهد تفادياً للحرب كلما كان ذلك ممكناً بصرف النظر عن عدم تعادل الشروط.ومعاهدة الحديبية (( بالرغم مما تضمنته من شروط تبدو للوهلة الأولى مجحفة في حق المسلمين ))، مثل بارز في هذا.ومثل آخر بارز في العهد العمري بين المسلمين والفلسطينيين سكان إيلياء. فبعد انتصار المسلمين على الروم في معركة اليرموك الفاصلة، وهزيمة جيش أرطبون كانت فلسطين مفتوحة أمام جيش المسلمين ولم يكن شيء يحول بينهم وبين الاستيلاء على إيلياء عنوة، فلما عرض السكان إبرام معاهدة الصلح لم يتردَّد المسلمون في قبولها، بالرغم من اشتراط الفلسطينيين شرطاً غير عادي، وهو أن يحضر الخليفة نفسه - في سفر لمدة شهر - ليوقع المعاهدة، والذي يقرأ المعاهدة الآن خالي الذهن من ظروف إبرامها لا يتوقع أبداً أن تكون معاهدة بين جيش منتصر وجيش مهزوم.ومن المناسب ذكر جزء من المعاهدة، فهي تجري هكذا: (( هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها أن لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم … وعليهم أن يخرجوا الروم واللصوت، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن … ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله إلى الروم ويخلي بينهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم… ومن أراد من الروم أن يبقى في إيلياء فله ما لأهلها، وعليه ما عليهم، وإن أراد أن يلحق بالروم فإنَّ له الأمان على نفسه وماله حتى يبلغ مأمنه )).ليتذكر القارئ انه وقت كتابة العهد المشار إليه كانت الحرب لا تزال قائمة وعلى أشدها بين المسلمين والروم.هل منهج الإسلام في العلاقات الدولية واقعي؟قد يخيَّل لشخص يعيش في هذا العصر أن منهج الإسلام في العلاقات الدولية وما يقتضيه من مبادئ حاكمة، منهج مثالي ليس قابلاً للتطبيق في عالم الواقع، ولكن يرد هذا أنه بالرغم من أن هذا المنهج كان يطبق من جانب واحد فقد طبقه المسلمون كما يشهد تاريخهم على مساحة واسعة من الزمان والمكان. صحيح أن تطبيق المبدأ الثاني من مبادئ الحرب لم يظهر بالوضوح الكافي بسبب أن حالة الحرب الدائمة في العالم كانت هي القاعدة. وصحيح أن المبدأ الأول وجد الإخلال به عدة مرات بخاصة في الحروب بين الجماعات أو الدويلات الإسلامية، ولكن هذه الحروب لم تعتبر قط جهاداً ولا حروباً مشروعة لا من قبل الفقهاء الذين عاصروها ولا من قبل كتاب التاريخ اللاحقين.ولكن المبدأ الثالث طبق باستمرار من قبل المسلمين، وربما لا يذكر التاريخ حالة واحدة تم الإخلال فيها من قبل المسلمين الملتزمين بأحكام الإسلام.يوضح ما سبق ذكر بعض الأمثلة والمقارنات:(1) - كما سبق أن ذكر كان المسلمون بعد وقعة اليرموك الحاسمة وهزيمة جيش أرطبون قادرين على الاستيلاء عنوةً على القدس. واستيلاؤهم عليها عنوة يعطيهم مزايا مادية أهم وأكثر مما لو فتحوها صلحا، ومع ذلك رغبة منهم في فتحها صلحاً فضَّلوا حصارها - وتكبَّدوا في ذلك خسائر مادية وبشرية - حتَّى قبل سكَّانها الصلح، وأبرمت معاهدةُ الصلح، بشروطٍ لا تُنبئ أبداً أنَّها كانت معاهدة صلح بين جيشٍ منتصرٍ وجيشٍ منهزمٍ.فمثلاً تضمَّنت هذه المعاهدةُ - والمسلمون لا يزالون في حرب مع الرومان - تخييرَ قادة وجنود جيش الرومان بين أن يبقوا في القدس ويكون لهم ما لسكانها الفلسطينيين وعليهم ما عليهم، أو أن يلحقوا بجيش الروم. وفي هذا الحالة يضمن المسلمون حياتهم وأموالهم حتى يبلغوا مأمنهم.ودخل جيش المسلمين القدس فلم يهرق دم، ولم ينهب مال، ولم يهدم معبدٌ. بل إنَّ النصارى حينما دعوا الخليفة للصلاة في كنيسة القيامة تكريماً له، امتنع عن ذلك معلِّلاً امتناعَهُ بخوفه مِن أن يمثل سابقةً فيعتاد المسلمون الصلاة في الكنيسة حتى يغلبوا النصارى عليها.قبل انتصار المسلمين على الرومان وفتحهم القدس على النحو الذي ذكرنا بعشرين عاماً تقريباً انتصر الفرس على الرومان واستولوا على القدس. فكيف تمَّ ذلك، يذكر كتب التاريخ للمؤرخين الغربيين أنَّ المدينة أحرقت ونهبت، وجرت دماء النصارى السكان في مذابح مروعة، وأحرقت الكنائس، وأهين المكان الذي يعتقد النصارى أنَّ المسيح دُفِن فيه، وحملت النفائس والمقدَّسات، ومن بينها الصليب الكبير (True cross) الذي يعتقد النصارى أنَّ المسيح صُلب عليه. وقد احتفل رجالُ الدين الفرسُ ابتهاجاً بانتصارهم على رجالِ الدين النصارى. وساعد اليهودُ الفرسَ في النهب والمذابح بسبب عدمِ رضاهم عن سيطرةِ النصارى، ممَّا أوجب نقمة النصارى عليهم عندما انتصر الرومان على الفرسِ بعد بضعِ سنواتٍ.(2) - تعتبر المستشرقة الألمانية الراحلة زيجريد هونكه من أوسعِ المستشرقين اطِّلاعاً على تاريخ الإسلام، وقد وصفت بعباراتٍ مؤثِّرةٍ انتصارَ الصليبيين على المسلمين، واستيلاءهم على القدس، فقالت: (( عقب وصول [ الصليبيين ] إلى هدفهم المنشود (( بيت المقدس )) طغت حماستهم فجرفت أمامها كلَّ السدود، وانطلقوا سيلاً بشعاً بربريا يأتي على الأخضر واليابس، وقد أجَّج ذلك صيامُهم ثلاثين يوماً حماسةً متعصبة ونذرا للرب تقربا. ولقي هذا كله ردَّ فعلٍ لدى سفاكي الدماء … من فرسان "الفرنجة" من فرنسيين ونورمان وجموعهم التي انحدرت في طرقات بيت المقدس تحصد الأرواح حصداً، لا تقع على إنسان إلا قتلته … رجالاً ونساءً وشيوخاً وولدانا. وتذكر مصادرُنا الغربيةُ ذاتها أن ذلك الحصاد الوحشي بلغ عشرة آلاف ذبيح. ويصف المؤرخ الأوروبي ميشائيل دارسيرر كيف كان البطريرك نفسه يعدو في زقاق بيت المقدس وسيفه يقطر دماً حاصداً به كلَّ من وجد في طريقه، ولم يتوقَّف حتى بلغ كنيسة القيامة وقبر المسيح، فأخذ في غسل يديه تخلصاً من الدماء اللاصقة بها، مردِّداً كلمات المزمور التالي: (( يفرح الأبرار حين يرون عقاب الأشرار، ويغسلون أقدامهم بدمهم، فيقول الناس: حقا، إنَّ للصديق مكافأة، وإن في الأرض إلها يقضي )) [ المزمور 58: 10-11 ]. أما الميدان الذي يتحلَّق قبة الصخرة والمسجد الأقصى الذي لجأ إليه معظم الأهالي المسلمين الهاربين هلعاً واحتماءً به، فقد تحوَّل تحت زحف الفرنجة المدمر … إلى حمام دماء خاض فيه مهاجمو النصارى حتى الكعبين، مواصلين الإجهاض على المسلمين. لقد كانت الحملة الصليبية الأولى … (1095م) بمثابة المقدمة الموسيقية الحزينة لواحدةٍ من كبريات مآسي العبث في تاريخ الإنسانية. لقد حفر ذلك اليوم حفراً يتأبى على المحو أبداً في ذاكرة التاريخ … ولئن كانت الحملة الصليبية الأولى قد انتهت لوقت مؤقت معلوم بالغلبة الساحقة لمقاتلي النصارى دفاعاً عن المسيح!، فإنَّها كانت في الوقت نفسه هزيمةً أخلاقيةً مهولة سجَّلها تاريخ الإنسانية بحروفٍ من الخزي … ولقد أيقظت تلك الحملة البربرية ما أيقظت في نفوس المسلمين في شتى بقاع العالم الإسلامي … ولن تزال تلك الحملة الصليبية الأولى بقعة عارٍ وخزيٍ لاصقةً بالغرب مشيرةً إليه بإصبع الاتهام )) (ص 21-22).كتب جود فرى قائد الحملة على (القدس) إلى البابا يبشِّره بأنَّ خيولَ جيشِهِ ظلَّت تخوض الدماءَ التي كانت تسيل من أجسام الكفار (المسلمين).وبعدَ عدَّة عقودٍ من السنين هزم صلاح الدين الأيوبي الصليبيين في موقعة حطين الحاسمة، وفتحت أمامه (القدس) فدخلها المسلمون منتصرين وأظهروا من ضروب السماحة والإنسانية وأخلاق الفروسية ما أجبر حتى المتعصِّبين من مؤرخي الغرب على الاعتراف به.وفي سبيل المقارنة بين سلوك الصليبيين والمسلمين بهذه المناسبة كتبت زيجريد هونكه: (( نذكر هنا الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد، الذي نشأ في الغرب تنشئة الملوك الشرفاء. فقد مرغ تلك السمعة الطيبة في العار، ودأب على تلويثها بشكلٍ مخزٍ دائماً أبداً، فبينما أقسم بشرفه لثلاثة آلاف أسير عربي أنَّ حياتهم آمنة فإذا هو فجأة منقلب المزاج، فيأمر بذبحهم جميعاً، ويحذو قائد الجيش الفرنسي حذوه سريعاً. وهكذا لطخ بفعلته النكراء وسفكه تلك الدماء سمعتَه إلى الأبد، وضيَّع ثمرة انتصاره في أذيال الخزيِ والعار. وعلى العكس من هذا عرفنا صلاح الدين الذي أخزى قوَّاد جيوش النصارى، فلم ينتقم قطُّ من أسراهم النصارى الذين كانوا تحت رحمته، رداًّ على خيانتهم وغدرهم وفظاعتهم الوحشية، التي ليس لها حدٌّ. ولقد أخزاهم صلاح الدين مرةً أخرى حين تمكَّن من استرداد بيت المقدس، التي كان الصليبيون قد انتزعوها من قبلُ بعد أن سفكوا دماء أهلها في مذبحةٍ لا تدانيها مذبحةٌ وحشية وقسوةً، فإنَّه لم يسفك دمَ سكَّانها من النصارى انتقاماً لسفك دم المسلمين، بل إنه شملهم بمروءته وأسبغ عليهم من جوده ورحمته، ضارباً المثل في التخلُّقِ بروح الفروسية العالية. على العكس من المسلمين لم تعرف الفروسية النصرانية أي التزامٍ خلقي يفرض عليها أن تسمح لأولئك (( الكفار )) بممارسةِ حقوقهم الطبيعية … كما شعرت تلك الفروسية النصرانية بأنَّه ليس لزاماً عليها أن تلتزم بكلمة الشرف التي تعطيها لغير النصراني … والحقُّ أنَّ الفروق الحاسمة مع أتباع الملَّة الأخرى راسخةٌ في تفهُّم كلٍّ من الإسلام والنصرانية لطبيعته وفي اختلاف تفهُّم كلٍّ منهما للبشر )) (ص 34-35).(3) - عقدت زيجريد مقارنة بين سلوك الصليبيين وسلوك المسلمين بمناسبة استيلاء الصليبيين على دمياط، ثم هزيمتهم على يد السلطان الكامل، فكتبت:(( ليس الخيال وحده إذن هو الحافل بالشهادات القيمة في معاملة الخصم معاملة تخلو من التجني الظالم، وتقيمه موضوعيا، وتقدم له ما يستحق من احترام وتقدير، وتتيح للصداقة أن تنمو وتترعرع بين الخصوم … ومن الشواهد الدالة على هذا الموقف الأخلاقي أن أحد الألمان الذين شاركوا في الحروب الصليبية بعد عودته إلى وطنه على نهر الراين لم يجد بداًّ من تحرير رسالة إلى سلطان مصر الملك الكامل يعبر فيها عن مشاعره تعبيراً مؤثِّراً، وقد ترسَّخت في مخيلته المذابح الفظيعة التي أبيد فيها أهل دمياط بمصر جميعهم بناءً على أوامر البابا ومبعوثيه الكرادلة ورجال الكنيسة، وذلك بعد الاستيلاء على حصن دمياط بعد حصار طال.لم يكن ذلك الألماني سوى عالم الفلسفة اللاهوتية (( اوليفروس )) من كولونيا على نهر الراين بألمانيا الذي بهره ما اكتشفه من المروءة والفروسية العربية التي أثبتها في شخصية السلطان الكامل، على الرغم من جميع الأهوال والفظائع التي اعتادها السلطان من قبل النصارى.ولقد سجَّل ذلك الشاهد ما لمسه بعينه كما لو كان ذلك حدثاً سعيداً لا يمكن للعقل أن يتصوره. فقام بكتابة الرسالة التالية إلى السلطان الكامل عام 1221 … إذ أنه لم يقتص من الصليبيين العين بالعين والسن بالسن، وإنما أطعمهم في مسغبتهم مرسلاً إلى جيشهم المتضور جوعا كل يوم ثلاثين ألف رغيف ومواد غذائية أخرى، وكتب يقول:(( منذ تقادم العهود لم يسمع المرء بمثل هذا الترفق والجود، خاصة إزاء أسرى العدو اللدود، ولما شاء الله أن نكون أسراك لم نعرفك مستبداًّ طاغية، ولا سيداً داهية، وإنما عرفناك أباً رحيماً شملنا بالإحسان والطيبات، وعوناً منقذاً في كل النوائب والملمات. ومن ذا الذي يمكن أن يشكَّ لحظةً في أن مثل هذا الجود والتسامح والرحمة من عند الله … إن الرجال الذين قتلنا آباءهم وأبناءهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم وأذقناهم مر العذاب، لما غدونا أسراهم وكدنا نموت جوعاً راحوا يؤثروننا على أنفسهم على ما بهم من خصاصة، وأسدوا إلينا كلَّ ما استطاعوا من إحسان، بينما كنا تحت رحمتهم لا حول لنا ولا سلطان )).هنا كان ينبغي أن يقرع ناقوس، وأن تتجاوب لرنينه نواقيس أخرى، وإذا كان عربي قد قدم مثل هذا البرهان على السمو الإنساني والمروءة المتناهية، فإن ذلك ليس بدعاً ولا حدثاً مفرداً، فثمَّة شواهد أخرى في هذا الصدد )) (ص32-34).(4) - وتعقد زيجريد هونكه مقارنة أخرى بين فتح المسلمين للأندلس وحكمهم لها، ثم استيلاء النصارى الكاثوليك عليها واضطهادهم للمسلمين واليهود والمذاهب الأخرى في المسيحية، فتقول:(( ولا مراء أنَّ تاريخ الغرب نفسه يثبت بالبراهين العكسية الدامغة التي تدحض وتفند التشويهات التي ألصقت بالإسلام زورا، والتي تحفل بها كتب التاريخ، حيث تسم الإسلام ظلماً وعدوانا بأنه يشكل خطراً يهدد البشرية والحضارة الإنسانية. وحسبُك مثل واحد فريد في نوعه إبان تلك العصور، لتفنيد تلك التخرصات. ولك أن تقول: الوجه المشرق لتلك الميدالية الحالكة السواد، والذي أشرق على البشرية حقبة مباركة لم تكن بالقصيرة، وإنما قرابة ثمانية قرون، نعنى إسبانيا.إن إسبانيا تحت حكم العرب مثال يبين أنه بينما كانت أوروبا الكاثوليكية دون جبال البرانس تقضي قضاءً مبرماً على كلِّ دينٍ آخر يجرؤ على الظهور إلى جانب دينها الكاثوليكي - بصفته الدين الأوحد للخلاص -، وذلك باتباعها سياسة التفرقة الصارمة إزاءَ غير النصارى، نرى أن النصرانية لم تُسْتَأصل ولم تَضِعْ تحت حكم العرب … كذلك اليهودية … تمتَّعت في ظلال الحكم العربي … لأول مرة بعد الشتات بمطلق الحرية إلى أن استعادت النصرانية الحكم في إسبانيا وطردت اليهود … فوق هذا كله، يبين مثال إسبانيا هذا أن تلك البلاد التي كانت قبل الحكم العربي تتسم بالفقر والخراب والاستعباد، قد استحالت إلى إسبانيا أخرى يرفرف الثراء والرخاء على كلِّ سكَّانها وتميزت بارتفاع مستوى كل طبقات الشعب وازدهار الحضارة والتمدُّن فيها وتقدُّمها في كافة العلوم والفنون … واستمرَّ ذلك خمسمائة عام، كما هو ثابت في تاريخنا بلا جدال، إلى أن زحفت إسبانيا النصرانية من الخارج فقوضت كل ذلك وحطمته تحطيماً … إن سماحة النفس العربية وتسامحها … تلك السماحة التي يراها الإسلام شيئاً مفهوماً بداهةً جعله يرتضي ويتقبل وجود النصرانية مطلقاً … إن تلك الحضارة الزاهرة التي غمرت بأشعتها أوروبا لمدة قرون تجعلنا نعجب أشدَّ العجب، إذ هي لم تكن امتداداً حضارياً لبقايا حضارات غابرة … أو أخذاً لنمط حضاري موجود، كما نعرف في الأقطار الأخرى … على أن التربة التي فوقها نمت أغصان الحضارة وبراعمها فجأة تحت حكم العرب أقفرت وظلت عقيماً، استشرى فيها الجدب الجدب ولم تتعهدها بالرعاية منذ ذلك الحين قوى حضارية خلاقة تذكر. إن العرب هم الذين أبدعوا إبداعاً يكاد يكون من العدم، هذه الروعة الحضارية الشامخة في إسبانيا تلك الجنة الفريدة الجمال لأساتذة فنِّ المعمار، والمغنِّين والمغنِّيات، والشعراء والشاعرات، والعلماء، بل جنة المرأة التي نسج الغرب حولها صوراً خيالية … غاية في الوحشية دون أن يكون له أدنى معرفة أو حتى إلهام طفيف ضحل بها )) (ص 52-54).(( إن الشيء الذي يتأبى على فهم الكنيسة فهو دخول شعوب الأقطار المفتوحة في الإسلام أفواجاً بمحض إرادتها، دون مساعي إرساليات التبشير، ودون الإكراه في الدين. أجل، لقد كانت السماحة العربية والروح العربي وأسلوب الحياة العربي مما استحوذ على نصارى إسبانيا، وليس كما يزعم المبطلون زوراً عظيماً … بأنهم أرغموا على الإسلام خشية السيف … أما الإجهاز على السماحة والتسامح نهائيا في إسبانيا فقد تمَّ على أيدي الدويلات النصرانية التي اعتصمت في شمال إسبانيا، والتي أقصت العرب شيئاً فشيئاً إلى أن تمكَّنت من صدِّهم وطردهم، متوجة انتصارها باستعادتها عام 1492 ميلادية الدرَّتَين العربيتين غرناطة والحمراء. إذ لم يكن انتصار النصرانية يعني سوى طرد اليهود والمسلمين واضطهادهم وإكراههم على التنصير واستئناف نشاط محاكم التفتيش التي قامت بتعقب كل من يتخذ سوى الكاثوليكية دينا، والحرق العلني في احتفالات رسمية تحفُّها الطقوس والشعائر الكنسية لكلِّ من اعتنق الإسلام أو اليهودية.وما إن دالت دولة العرب في إسبانيا حتى اندثرت معهم أزهى وأخصب حضارة ملكتها أوروبا في العصور الوسطى، وغرقت في بحر من الرعب وأتت فيه أمواج التعصب الديني على كل شيء وابتلعته ابتلاعاً. ولم تلغ محاكم التفتيش إلا في 1834 )) (44-45).(5) - مثال حديث للمقارنة: سلوك المحاربين الصرب في البوسنة والهرسك الذين ارتكبوا أفظع الجرائم التي لم يستطع حتى الإعلام الغربي المتحيِّز أن يتجاهلَها. وقد تمَّ ذلك بالمعونة اللوجستية الإيجابية للصرب من بعض دول أوربا، وبحجب الإمداد اللوجستي عن المسلمين من قبل دول غربية أخرى، بل لقد تمَّ ارتكاب الجرائم بمعونة أو تواطؤ عناصر غربية في قوة حفظ السلام.وبالعكس فإن المجاهدين المسلمين في البوسنة والهرسك، وإن كانوا محاربين أقوياء إلا أن التزامهم الخلقي حال دون أن يجد الإعلام الغربي من سلوكهم ما يخالف قواعد الشرف العسكري. ولقد حقَّقوا في النهاية انتصاراتٍ ربما كانت عاملا في مبادرة الغرب بوضع اتفاقية دايتون التي تضمن أحد نصوصها وجوب إخراج المجاهدين المسلمين من البوسنة والهرسك، وكذلك وقع.وسلوك المجاهدين الملتزمين بالإسلام في الشيشان في حربيه الماضية والجارية مثال آخر.(6) - أما المثال الطازج فهو ما أظهرته المعلومات التي أفلتت من الحصار الإعلامي من سلوكيات القوات البرية والجوية في التحالف الدولي في حرب أفغانستان الجارية. لقد أظهرت المعلومات المشار إليها صوراً من السلوك لو نسبت لغير قوات التحالف الدولي المتحضِّر لوصفت بأنَّها همجيَّةٌ ووحشية وجرائم حرب.ولو لم يكن الإعلام هالوكستيًّا بيد الدجال، ولو وجد إعلامٌ غير متحيِّز لربما صلحت صورة طالبان لتكون هي الصورة المقابلة، وعلى كل فإنه حتى الإعلام المتحيِّز لم يتَّهم جيوش طالبان في أوقات انتصارها باغتصاب النساء أو إحراق أسراهم بالديزل، أو إغراقهم، أو قصفهم إستراتيجيا بقاذفات القنابل أو تصيُّدهم بطائرات الهيلكوبتر أو العجن الإستراتيجي لقرى بكاملها حيث تختلط أجسام البشر بأجسام حيواناتهم وأنقاض بيوتهم وأثاثهم وتمسح من على الأرض مسحاً.على أنَّ طالبان لو ارتكبت مخالفاتٍ لقواعد القانون الدولي أو المعاهدات الدولية لكان من السهل افتراض أنَّ هذه القواعد لم تخطر لها ببال وربما لم تسمع بها.ولكن القادة العسكريين والمدنيين على السواء لا يجهلون هذه القواعد، وربما كان هذا ما أدى بجرمياه يورك أن يضع هذا السؤال:The biggest [whopper] is that the vast majority of those who understand what the Geneva Conventions are, and what they say, just don't care anymore. So who are the barbarians now? Are they those who don't know better, or who do, and choose not to care?مَن البرابرة الآن، الذين لا يعلمون عن اتفاقيات جنيف أو الذين يعلمون ثم لا يأبهون بانتهاكها؟
فيما سبق كان الحديث عن منهج الإسلام في التطبيق في حالة الحرب، أما في حالة السلم فإن المسلمين الملتزمين بالإسلام في كل زمان وكان قد اعتبروا القوة الإلزامية للمعاهدات قوة مطلقة، وهذا بالطبع يختلف تماماً مع المنهج الغربي للعلاقات الدولية، إذ يحكم المعاهدة كما يحكم غيرها المصلحة القومية والقوة. فإذا كانت المصلحة القومية للدولة الحديثة انتهاك المعاهدة وكانت قادرة على ذلك بحيث لا تتوقع أيَّ جزاءٍ، فإنها لا تتردَّد في تلبية ما تقتضيه المصلحة الوطنية:( أ ) - على سبيل المثال والمقارنة، كلا الدولتين إسرائيل والمملكة العربية السعودية وقعا الاتفاقية الدولية الخاصة بالملكية الفنية. ومع ذلك لا تضج الشركات الأمريكية من انتهاك حقوقها بموجب الاتفاق في أي دولةٍ بقدر ما تضجُّ من انتهاكها في إسرائيل. إسرائيل بالطبيعة صديقة لأمريكا وشريكة إستراتيجية. ولكنها كدولةٍ حديثةٍ لا تهتمُّ أجهزتها التنفيذية بحماية حقوق الملكية لدولةٍ أجنبيةٍ على حساب مصلحتها القومية في حدود استطاعتها. وبالعكس فإن الأجهزة التنفيذية في المملكة العربية السعودية تطبيقاً للاتفاق الدولية لا تحمي الحقوق الأمريكية الفنية بأكثر من حماية الولايات المتحدة الأمريكية لحقوق المملكة العربية السعودية فحسب، بل أكثر من حماية الأجهزة التنفيذية الأمريكية نفسها حقوق المواطنين الأمريكيين.وبصرف النظر عن حكمة أو عدم حكمة سلوك الأجهزة التنفيذية السعودية في الالتزام بما لا يلزمها قانوناً، إلا أنَّ المقصود (وهو المطلوب) الدلالة على الروح التي تحكم المسلم تجاه المعاهدات.(ب) - وللمقارنة أيضاً، في حرب الخليج وقعت مجندة أمريكية أسيرة في يد العراقيين، فاهتمَّت إذاعة B.B.C. بالسؤال عن قواعد الإسلام التي تحكم الأسرى، بالطبع السؤال لا محلَّ له، لأنَّ حكومة العراق حكومة بعثيَّة علمانية، وعقيدة البعث لا محلَّ فيها لتحكيم الدين أي دين. فحكومة العراق بمقتضى الحال لن تبحث عن أحكام الإسلام لتطبقها على أسراها، ولا أدري بماذا كان الجواب على سؤال الإذاعة. ولكن الجواب الصحيح في حالة الدولة المسلمة التي وقعت على اتفاقيات جنيف الدولية التي تحكم معاملة الأسرى، سوف تلتزم كحد أدنى بما تنص عليه هذه الاتفاقيات، ثم من وراء ذلك ومن فوقه ستعامل الأسير وفق المعايير الخلقية التي يهدي إليها القرآن والسنة الصحيحة، وهي بالطبع أوفى من الحد الأدنى الذي تلزم به الاتفاقيات الدولية.نقارب هذا المثل بمثل (( طازج ))، هو معاملة قوات التحالف الدولي لأسرى الحرب في أفغانستان. بالطبع لا نتوقع من اتفاقيات جنيف أن تسمح بقصف الأسرى، أو حرقهم بالديزل، أو إغراقهم بالماء المجمد، أو رميهم بالرصاص وهم مكتوفو الأيدي من الخلف، أو وهم يصلون، أو المعاملات اللاإنسانية الأخرى.ولكن الأسوأ من ذلك أن الأمر لم يقتصر على انتهاك أحكام الاتفاقيات، بل تعدى إلى الجناية على نصوصها، إذ لكي يفر التحالف الدولي من نسبته إلى انتهاك الاتفاقيات الدولية أو نسبته إلى ارتكاب جرائم الحرب سمى المحاربين الذين أسروا وهم في حالة الدفاع الحقيقي عن النفس في المعركة الحربية إرهابيين ومعتقلين، مقرِّراً سابقة خطيرةً لإلغاء الالتزام كلياًّ بقواعد القانون الدولي والمعاهدات الدولية عن طريق تغيير الاسم والتلاعب بالألفاظ.بالطبع ليس المقصود هجاء أحد، وليست هذه المقالة مجال هجاء، وإنما كان المقصود رد الحقائق المقلوبة والمشوَّهة إلى وضعها الصحيح.
الحقيقة أن المعاهدات محور ارتكاز في منهج العلاقات الدولية في الإسلام.لقد طبق المسلمون الملتزمون بالإسلام منهج الإسلام في العلاقات الدولية في حالة الحرب وفي حالة السلم، في كل وقت، وفي كل مكان - بالرغم من أن هذا المنهج كان دائماً يطبق من جانب واحد -. وذلك أكبر دليل على إمكانية تطبيقه عملياً.لو تحوَّلت الدول الغربية إلى دول متحضِّرةٍ فعلاً، لارتضت الالتزام بتطبيق القانون ومعايير الأخلاق الإنسانية.تذييل:لا يفوت التنبيه إلى أن التأثير الثقافي الطاغي للحضارة الغربية على العالم الإسلامي جعل دول العالم الإسلامي في كثير من الأحيان تطبِّق المنهج الغربي في العلاقات الدولية، سواء فيما بينها وبين الغرب، أو ما بين بعضها البعض، وغابت في كثير من الأحيان عن الفكر الإسلامي المعاصر مبادئ المنهج الإسلامي، ولم يسلم من ذلك حتى الحركات والجماعات الداعية لتطبيق الإسلام منهج حياة.والمجال لا يتَّسع للتفصيل وإيراد الأمثلة، وإنما المقصود التنبيه ليتذكَّر من تنفعه الذكرى.