منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
By خالد حمزي 6
#32124

عن الفلسفة الوجدانية

د.الطيب بوعزة


غداة الحرب العالمية الثانية أصبحت الفلسفة الوجودية التقليعة الفكرية
لجيل كامل في فرنسا خاصة وأوروبا عامة، ثم ستنتقل خلال الستينات لتشمل
مناطق أخرى من العالم، فكان لها في مجالنا الثقافي العربي تداول وحضور
ملموسين، بل سيخرج من بين مفكرينا من ينادي بنظريات وجودية يزعم لها
التميز والخصوصية كما هو الحال مع د.عبد الرحمن بدوي الذي سينسب لنفسه
توجها فلسفيا وجوديا متميزا، محيلا بذلك الى كتابه "في الزمان الوجودي".
ولسنا هنا في مقام تحقيق هذا الزعم واختبار حقيقة ريادته وتميزه،
ولكننا بصدد مراجعة تبلور وتشكل هذه الفلسفة في سياق تاريخها الأوروبي
تحديدا. مثلما نريد فهم دلالتها وموقعها وأسباب شيوعها وانتشارها.


ومما يجدر الوقوف عنده بصدد الحديث عن أسباب ذيوع وانتشار هذه الفلسفة
هو مناقشة ذلك التفسير الشائع في مختلف الدراسات المتناولة لها، حيث
ترجع سبب شيوعها إلى كونها امتازت عن باقي الفلسفات باستعمالها للخطاب
الأدبي. وهذا صحيح إلى حد ما، فلو قارناها بفلسفات أخرى متقاربة معها
كالفلسفة الفينومنولوجية مثلا، سنلاحظ أن هذه الأخيرة لم ترزق أدباء
يعملون على إشاعتها وتحويلها إلى مادة للاستثمار والإبداع الفني، وإن كان
لها في الحقل الفني والأدبي ممارسة نقدية تنظيرية مشهودة بفضل إنغاردن؛
لكن على مستوى الإنتاج الفني لم يكن للفينومنولوجية حضور ملموس، عكس
الوجودية التي حظيت بذيوع وشيوع بفضل ما أنتجه فلاسفتها وأدباؤها من
أعمال فنية خاصة في جنسي الرواية والمسرح. ومن هنا يمكن القول إن فضل
انتشار الفلسفة الوجودية لا يعود إلى تصانيفها ومتونها الفلسفية، بل إلى
إبداعاتها الأدبية. تلك الإبداعات التي استطاعت تجسيد المفاهيم المركزية
في الفكر الوجودي كالقلق والحرية والاختيار وعبثية الوجود ولا معنى الحياة
.

بالفعل لقد كان الخطاب الأدبي للوجودية أكثر صيتا من خطابها الفلسفي،
وكانت أعمال فرانز كافكا المتأثر بالمفاهيم الوجودية واندري مالرو
وسارتر وألبير كامو هي الحوامل التي استنزلت الوجودية إلى سطح الحياة
وجعلت مفاهيمها لغة دارجة على الألسن والشفاه. هذا وإن كان حضورها
واندراجها في اللغة المتداولة لا يعني بالضرورة أنها فهمت فهما صحيحا،
أو تم استيعاب دلالتها الاستيعاب السليم.

لكن ليس هذا هو السبب الوحيد الذي جعل للوجودية الذيوع والانتشار؛ بل
ثمة أسباب أخرى لا ينبغي إغفالها، بدءا من نوعية المفاهيم التي أسستها،
وتوقيت ظهورها، ووضعية أوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين فقد
تضافرت كل هذه العوامل على جعل الوعي الأوروبي منجذبا نحو الفكر الوجودي
.

ما محددات الفكر؟

ليس ثمة اتفاق تام بين الفلاسفة الوجوديين، إذ من السهل أن نستحضر
أسماءهم وأنساقهم الفكرية، ونسطر على جوانب اختلاف تشعر المرء عندئذ
بأنهم ينتمون إلى تيارات متباعدة، لكن هذا التباعد والاختلاف منسجم مع
طبيعة الفلسفة الوجودية ذاتها؛ فحقيقة الموقف الفلسفي الوجودي تكمن في
كونه موقفا يؤكد الحرية والالتزام الذاتي، ودعوة إلى ابتداع الشخص لقيمه
وأفكاره ومعاييره؛ لذا ففي سياق هذا التوكيد على الخصوصية الذاتية كان
فلاسفة الوجودية متميزين ومتمايزين.

لكن على الرغم من هذا التميز والتمايز ثمة ناظم يجمع الوجوديين حول نقط
محورية تسوغ تصنيفهم ضمن مدرسة فلسفية مشتركة. إذ يشتركون في القول
بحرية الكائن الإنساني، فإذا كان سبينوزا مثلا يرى الإنسان محددا بما
يحيطه ويكتنفه، فإن الوجودية تختلف مع سبينوزا مثلما تختلف مع كل فلسفة
جبرية تحد من الحرية الإنسانية أو تلغي وجودها. صحيح ان سارتر يرى أن
الفرد الإنساني هو دائما يوجد ويعيش "داخل سياق" لكنه يضيف أنه هو الذي
يعطي لهذا السياق ولمكوناته معنى ودلالة. فحتى عندما يوجد سياق مليء
بالاكراهات والشروط، فإن ذلك لا يلغي حرية الإنسان إذا لم يعطها هو نفسه
القدرة على إلغاء حريته. بل أحيانا كثيرة تكون الاكراهات الخارجية دافعا
لانتشاء الإحساس بالحرية. في هذا الإطار يقول سارتر: "لم نكن أكثر حرية في
وقت أكثر مما كنا في زمن الاحتلال الألماني" ويقصد بذلك أنه خلال الاحتلال
نبع وعي بالحرية وإرادة لها ورغبة فيها أكثر مما كان من قبل، وهذا
توكيد على نسبية شروط السياق الاجتماعي والمادي أمام إرادة الإنسان.

إن محور الفكر الفلسفي الوجودي إذن هو التأكيد على أن الإنسان كائن حر.
ولم تسم هذه الفلسفة باسم الوجودية بسبب إعطائها الأولوية لمسألة الوجود
الإنساني فقط، ولا لأنها اتخذت من تحليل ظواهر هذا الوجود وإشكالاته
النفسية والانطلوجية مادة انشغالها واهتمامها. بل إن السبب هو أنها، في
تحليلها للكينونة الإنسانية، تعد "أول" فلسفة قالت بأسبقية الوجود على
الماهية؛ قاصدة بذلك أن الإنسان لا يتحدد مسبقا بفعل عوامل وراثية، أو
إرادة ماروائية بل هو يوجد أولا،وخلال وجوده تتحقق ماهيته. وهذه الماهية
هي مشروع دائم التشكل خلال حياة الفرد الإنساني وبإرادته. وبسبب محورية
مفهوم الحرية عند الوجودية خاضت هذه سجالا نقديا حادا مع التيار
السيكولوجي الفرويدي، لأن هذا التيار ألغى الحرية الإنسانية لصالح
إشراطات لاشعورية خارجة عن إرادة الكائن البشري، مثلما خاضت صراعا مريرا
مع الفكر البنيوي لأنه أخضع الإنسان للنسق واللغة.