ما أن تدخل في نقاش مع أحد من الجنوبيين – خاصة من أنصار "الحركة الشعبية" التي أسسها جون قرنق في جنوب السودان - حول مستقبل الجنوب وسر إصرار غالبية الجنوبيين (كما تزعم الحركة) علي خيار الانفصال وعدم تفضيلهم الوحدة مع الشمال، حتي يبادرك بتحميل الحركة الاسلامية السودانية وكوادرها في حزب المؤتمر الوطني الحاكم المسئولية عن هذه الرغبة في الانفصال، ضاربا مثلين محددين:
- الأول: تمسك حكومة الخرطوم بالشريعة الاسلامية ورفضها خيار العلمانية الذي طرحته الحركة الشعبية ضمن أطروحة "سودان علماني جديد"،
- الثاني: "تديين" أو "أسلمة" الحكومة السودانية للصراع مع الجنوب منذ مجيء حكومة الانقاذ وخليفتها حكومة حزب المؤتمر الوطني، ورفع شعار "الجهاد" ضد الجنوبيين في الحرب الأهلية التي أستعرت منذ 1983 واستمرت 20 عاما، وتجييش شباب (ميليشيا الدفاع الشعبي) التي نجحت في هزيمة الحركة الشعبية في عدة مدن بفضل هذه الحماسة الدينية.
وبالمقابل تري بعض الإسلاميين السودانيين، ومنهم الطيب مصطفي رئيس مجلس إدارة جريدة "الانتباهة"، وخال الرئيس السوداني عمر البشير، يحملون الحركة الشعبية الجنوبية مسئولية الانفصال ويرحبون بانفصال الجنوب عن الشمال لأنهم يعتبرون قيادات وكوادر الحركة الشعبية الجنوبية "عملاء" للغرب، ويعلنون أنهم سيقيمون صلاة شكر واحتفالات في شوارع الخرطوم للاحتفال بانفصال الجنوب ، ويعتبرون أن الجنوب سبب كل مشاكل السودان وسبب فقر السودان وسبب تعطل مسيرة التنمية وتحول السودان منذ زمن طويل لرقم صعب في أفريقيا كدولة كبري ، بل أن هؤلاء ظلوا يهاجمون خطط الحكومة السودانية المتعلقة بالتشبث بالوحدة مع الجنوب الذي يعتبرونه مدخلا للتدخل الأجنبي في كل شئون السودان.
والسبب الذي دعا هؤلاء الإسلاميين للترحيب بانفصال الجنوب منذ أكثر من ربع قرن، هو أنهم يدركون أن الوحدة في مفهوم جون قرنق زعيم الحركة الشعبية الراحل – والتي لا يزال أبناؤه مثل باقان أموم يسيرون عليها - تعني "سودانا أفريقانيا علمانيا مناهضا لهوية السودان العربية الإسلامية ويسعى لإخراج السودان من محيطه العربي الإسلامي"، بحسب الطيب مصطفي نفسه أكثر المرحبين بالانفصال والداعين له منذ سنوات، إذ يري هذا التيار داخل الحركة الإسلامية – وليس كل الحركة الإسلامية السودانية – أن انفصال الجنوب سيسمح للشمال بإقامة دولته الإسلامية العربية الخالصة التي تطبق الشريعة الإسلامية، وهو ما ألمح إليه البشير في خطابه الأخير حينما أشار لتطبيق الشريعة.
والحقيقة أنه لا يمكن إغفال هذه الاتهامات من الجنوبيين للحركة الاسلامية فيما يخص "أسلمة" الصراع أو إستغلال الحماسة الدينية، بيد أنه لا يمكن مع هذا، إنكار أنه كان هناك تجييش ديني مسيحي علي الجانب الأخر ومساعدات من قبل منظمات تبشيرية وأنظمة غربية للمتمردين الجنوبيين في ذلك الحين، منهم البارونة كوكس الشهيرة عضوة البرلمان البريطاني التي كانت تقود حربا دينية مسيحية ضد حكومة الخرطوم عبر الكونجرس الأمريكي وتجمع الدعم المالي والعيني لمقاتلي الجنوب، وهو ما أكده مسؤول الدائرة السياسية بحزب الترابي (المؤتمر الشعبي) كمال عمر في تصريح لصحيفة "آخر لحظة" قال فيه إن: "حرب الجنوب لم تبتدعها الحركة الاسلامية وإنما بدأت منذ عقود في ظل حكومات سابقة, والحركة الشعبية قادت حربا دينية ضد الشمال بدعم من البارونة كوكس".
وكان عمر يرد علي مطالبة القيادي البارز بالحركة الشعبية الجنوبية "أتيم قرنق" للدكتور حسن الترابي "بتفسير الجهاد ضد الحركة".
أيضا يرجع الطرف الشمالي أن له أجندة دينية إسلامية في صراعه مع الجنوب، إلى أن الجنوب تحول بدوره لمرتع للمنظمات التبشيرية وأجهزة الاستخبارات الغربية، ولعبت الكنائس الغربية دورا في التحريض ودعم التمرد الجنوبي لقتال الشمال برغم أن أخر إحصاء غربي لسكان الجنوب في الثمانينات تحدث عن 17% مسيحيين و18% مسلمين وأغلبية وثنية، ولا يجب أن نغفل أن هناك أجندة جنوبية بالمقابل أعلنها قرنق في مانفستو (بيان) إعلان الحركة الشعبية الجنوبية عام 1983 - أي قبل بدء "جهاد ميليشيا الدفاع الشعبي" التي حركتها الحركة الاسلامية السودانية للحرب في الجنوب بأكثر من خمس سنوات – ما يعني أن جهاد الشمال الديني ما هو سوي رد علي أجندة الحركة الشعبية ، التي بدأت يسارية وتحولت لدينية مسيحية – مع انهيار الشيوعية - تحتضنها المنظمات التبشيرية الغربية ومجلس الكنائس العالمي.
وبالتالي من المهم أن نذكر الأسباب التاريخية وجذور هذا الانفصال ممثلة ليس فقط في وجود حكومة إسلامية في الشمال وإنما أيضا: الكراهية المتوارثة تاريخيا بين الشمال والجنوب منذ فصل الاحتلال البريطاني الجنوب عن الشمال وجعل الدخول للجنوب بتاشيرات من الاحتلال، وكذا ظهور النفط وما أتصل به من أطماع دولية وتدخلات خارجية، أججت الصراع ووسعت شقة الخلاف والصراع بين الطرفين وجعلت الجنوب يتطلع لفكرة الانفصال قبل مجئ حكومة عمر البشير، ومن ثم طرح الاستفتاء علي تقرير المصير ( وضمنه الانفصال) في أتفاقية نيفاشا لسلام الجنوب عام 2005.
رأي التيارات الإسلامية الأخري
ومن المهم أن ندرك – علي الأقل فيما يخص الآراء بشأن انفصال الجنوب – أن الحركة الإسلامية في السودان كانت تضم تيارا عاما هو تيار الدكتور حسن الترابي الذي انقسم إلي حزبي: (المؤتمر الوطني) الحاكم و(المؤتمر الشعبي)، وبجانب هذا التيار الأكبر في السودان هناك أفرع عديدة للإسلاميين أبرزهم السلفيين، وجماعة الإخوان المسلمين، بخلاف حزب التحرير الإسلامي وتيار "منبر السلام" الذي يقوده الطيب مصطفي خال البشير، والذي يصفه معارضوه بأنه "ليبرمان الحركة الإسلامية" بسبب أرائه المتشددة ضد الجنوبيين، كما أن هناك تيار جهادي قاعدي وكذا تيار شيعي غير ظاهرين.
وقد كشفت ندوة عقدت يوم 12 يونيه 2010 لمناقشة مسالة استفتاء الجنوب عن تباين كبير في مواقف غالبية هذه الحركات تجاه الجنوب والجنوبيين لحد اعتبار الجنوب "دار حرب" من البعض، بل وهاجمت جماعات إسلامية ناشطة في الحقل الدعوي تنتمي لتيارات متشددة حزب المؤتمر الوطني الحاكم واعتبرته منفذا لأجندة الصهيونية العالمية، وشددت جماعة الأخوان المسلمين (تيار الإصلاح) وحزب التحرير الإسلامي ومنبر السلام العادل علي أن حق تقرير المصير لجنوب السودان هو الأسوأ في تاريخ البلاد.
وقال الناطق الرسمي باسم حزب التحرير الإسلامي (إقليم السودان) إبراهيم عثمان أبو خليل خلال ندوة جماهيرية حاشدة نظمتها حركة الإخوان المسلمين (الإصلاح) بمنطقة العيلفون شرقي العاصمة يوم 12 يونيه 2010 أن الاعتراف بحق تقرير المصير والعمل علي تنفيذ الاستفتاء هو قرار ومطلب الدول الخارجية "التي تقوم بفرض إملاءاتها" علي النظام الحاكم، وأن السودانيين هم من يقومون بتنفيذ مخططات الأمريكان، بالتالي فإن الدعوة لانفصال الجنوب تعد "إثما عظيما وعملا خبيثا"!.
وهاجم أمير جماعة الإخوان المسلمين (تيار الإصلاح) ياسر عثمان جاد الله ، حزب المؤتمر الوطني وحمّله مسئولية ما يجري من تآمر خارجي علي البلاد، موضحا أن المطالبة العلنية من قبل البعض لاستقلال الجنوب "هي دعوة ماسونية ومخطط إسرائيلي لتمزيق السودان وتقسيمه لدويلات.
وقال أن الانفصال يعد التحدي الأخطر علي البلاد في هذه المرحلة، مشيرا إلي أن القبول بحق تقرير مصير الجنوب أغري بعض أبناء دارفور للمطالبة في مباحثاتهم مع الوفد الحكومي بطرح بند تقرير مصير دارفور أسوة بالجنوب، وقال أن الرئيس البشير لا يستطيع حتي فرض سلطاته علي الجناح المخصص لطائرات الأمم المتحدة بمطار الخرطوم فضلا عن مطارات الجنوب ودارفور!!.
وأضاف أن الدستور الحالي الذي تحكم به البلاد دستور علماني تم إعداده في أعقاب المؤتمر القومي حول قضايا السلام الذي انعقد في بدايات حكم الإنقاذ، معتبرا التسليم بمبدأ الاستفتاء "خيانة لدماء الشهداء وانحراف عن المبادئ التي هبّ من أجلها المجاهدون للدفاع عن العرض والأرض في مسارح العمليات بجنوب السودان".
أما الأمين العام لمنبر السلام (البشري محمد عثمان)، فقال أن الجنوب لا يعد أرض (إسلام) وإنما هو دار (كفر) وان الانفصال هو الخيار المناسب لحل مشاكل السودان والتخلص من الحركة الشعبية ، وقال نائب الأمين العام للمنبر العميد ساتي سوركتي أن ما يجري اليوم لا ينفصل عما يدور في العالم العربي والإسلامي بالنظر إلي قضية الاستهداف في إطارها الكلي مبينا أن نيفاشا هي بداية النهاية للسودان وقال ان نيفاشا وغيرها من الاتفاقيات إنما هي مخططات صهيونية رسمها اليهود للقضاء علي الإسلام.
"نيفاشا" فشل للإسلاميين !
من المعطيات السابقة، يمكن تبرئة الحركة الإسلامية من أن رفعها شعار الجهاد في حرب الجنوب طوال التسعينات هو وحده السبب وراء سعي الجنوبيين للانفصال، لأن هذه كانت رغبة الجنوبيين منذ استقلال السودان، وتبقي مسئولية الإسلاميين – أو رموز منهم في السلطة - عن موافقتهم علي طلب الحركة الشعبية تضمين حق تقرير المصير (وضمنه الانفصال) في أتفاق سلام الجنوب (نيفاشا 2005) ، وحتي هذه قضية تبقى مثار إختلاف وجدل.
فهناك دراسات تؤكد أن ما قبله حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان في اتفاق سلام نيفاشا 2005 ، بشأن تقرير مصير جنوب السودان لم يكن بدعة جاء بها الحزب الحاكم، وإنما سبق طرح هذا الأمر عبر تيارات وقوي سياسية عديدة ، وكل ما فعله الحزب الوطني الحاكم (تيار علي عثمان طه نائب الرئيس الذي انشق عن الترابي) هو أنه أتخذ خطوة عملية لطرح هذا الخيار في اتفاق رسمي لإخراج السودان من الدائرة المغلقة التي يدور فيها بحرب الجنوب بعدما أدرك أنه لا يحارب الجنوبيين وإنما قوي استعمارية غربية تسعي لاستغلال هذه الحرب لإضعاف وتفتيت السودان ككل.
فالجنوبيون طالبوا عام 1960 بالحكم الفيدرالي الذي يعني ضمنا الحكم الذاتي، وتكرر هذا الطلب في مؤتمر المائدة المستديرة الذي عقد فى 16 مايو1965، في أعقاب ثورة أكتوبر 1964، لمناقشة قضية توزيع السلطة في السودان ولكنه طلبهم رُفض، واتفاقية أديس أبابا عام 1972، التي وضعت حدا للحرب الأهلية التي كانت قد اندلعت منذ عام 1955، منحت الإقليم الجنوبي حكما ذاتيا واسع الصلاحيات ومهدت لتقرير المصير خصوصا بعد عودة الحرب بين الشمال والجنوب في عهد نميري بعد تقسيمه الجنوب لثلاثة أقاليم وإعلانه تطبيق الشريعة الإسلامية.
لكن الحديث عن مسألة "حق تقرير المصير" لجنوب السودان صراحة بدأت في الظهور بشكل جدى على مسرح الحياة السياسية السودانية منذ عام 1991، أي قبل عشر سنوات على الأقل من توقيع اتفاق ماشاكوس الإطاري في 20 يونيه 2002، وأخذت تتكرس وتتعمق بمرور الوقت، وتكتسب مساحات متزايدة وأبعادا إضافية لدى القوى السياسية السودانية بمختلف أطيافها – المعارضة أو الحاكمة – حتى تم النص عليها بشكل صريح فى الدستور السوداني الذي تم إقراره في عام 1998، والذي مازال معمولاً به حتى الآن!.
ولهذا يؤكد د.الطيب زين العابدين المحلل والسياسي السوداني وأستاذا العلوم السياسية بجامعة الخرطوم وقطب الحركة الإسلامية، أن الحركة الإسلامية عموما بريئة من انفصال الجنوب أو قبول مبدأ تقرير المصير، مبررا هذا بأنه ليس هناك وجود للحركة الإسلامية في الحكم بالسودان حاليا، فهي جاءت بحكومة الإنقاذ في يونيو 1989م ولكن بعد ذلك جري تشكيل حزب المؤتمر الوطني الذي ضم عناصر من الإسلاميين وغيرهم ومن المسلمين وغيرهم ومن الجنوبيين أيضا، وأصبح هو الذي يمارس السلطة السياسية الحزبية كاملا ولا يُرجع للحركة الإسلامية إطلاقاً خاصة بعد انقسامها وشبه تجميد نشاطها.
فالحركة الإسلامية السودانية – بحسب زين العابدين - الآن مجمدة وليس هناك أي نشاط باسم الحركة الإسلامية لا نشاط (ثقافي ولا تربوي ولا فكري)، هناك هياكل تنظيمية مجمدة على مستوى المركز والولايات ولا دور لها فبالتالي الحركة الإسلامية مسئولة عن بداية السلطة وتأسيس الإنقاذ التي تحكم حتى اليوم، وبالتالي فالمسئولية السياسية والتاريخية تقع على المتنفذين في الحكم الآن وهم مجرد أفراد كانوا ينتمون للحركة الإسلامية ولا يتحركون حاليا كحركة إسلامية فهم الذين صاغوا اتفاقية السلام الشامل وهم الذين طبقوها وهم الذين دخلوا في مشاكسات مع الحركة الشعبية.
تعزيز المشروع الإسلامي
ولهذا يمكن القول أنه لو كان هناك فشل من قبل الحزب الحاكم فيما يخص تنازله للحركة الشعبية عن الكثير من النفوذ والثروات والامتيازات ومنه حق تقرير المصير في اتفاق نيفاشا، فهو ليس فشلا من جهة ان هذا الأمر كان مطروحا من قبل توقيع اتفاق نيفاشا بعشر سنوات، كما أن حزب المؤتمر الوطني لم يعد يمثل الحركة الإسلامية السودانية تمثيلا خالصا، وإنما أفراد من الحركة الإسلامية من مشارب متعددة، ومن أحزاب سودانية أخري وقوي شمالية جنوبية وغيرها.
وما يقال عن أن انفصال الجنوب هو خطوة للوراء في مشروع السودان الإسلامي، أو نوع من الهزيمة للمشروع الإسلامي السوداني (ممثلا في حركة الترابي والبشير قبل انقسامهما) لا يبدو صحيحا بدقة باعتبار أنه كانت هناك اختلافات في الرؤية بين الإسلاميين حول هذا الحق .. فريق يري أنه ضار ومقدمة لتقرير مصير السودان ككل وليس فقط الجنوب، وأن الاستفتاء سيجري لتقرير مصير السودان كله بأيدي بعض المواطنين السودانيين في الجنوب، وفريق يري أن انفصال الجنوب هو مقدمة خير وسيعزز المشروع الإسلامي السوداني.
ويؤيد هذا الفريق الثاني د. بسطامي محمد سعيد خير مدير مركز الدراسات الإسلامية بجامعة برمجهام ببريطانيا ، الذي يري أنه :" إذا كان انفصال الجنوب خطوة للوراء في مسيرة الحركة الإسلامية السودانية، إلا أنه يمكن أن يكون بداية لخطوتين للأمام!، لأن جنوب السودان بانفصاله سوف يجعل هم الحركة الإسلامية منصبا بكليته على دعم وتعزيز المشروع الإسلامي، الذي هو مسوغ وصولها للحكم ومسوغ بقائها وصمودها أمام المشكلات والمصاعب والعقبات الكثيرة والمتتالية. وإذا كان الأعداء من صهيونية وعلمانية غربية وهيمنة أمريكية أوربية قد كسبوا جولة، فإن الحركة الإسلامية ترجو من الله ما لا يرجون، وتنتظر من نصر الله في مستقبل الأيام ما لا يخطر لهم على بال".
المصدر: أون اسلام