- الأحد فبراير 27, 2011 2:34 pm
#32991
كان طفلاً مدللاً ، فهو الصبي الأول بعد خمسة بنات ، ورغم أنه ليس الأخير ، لكنه كان محطَّ أنظار العائلة كلها ، يرونه و كأنهم لا يصدِّقون أنفسهم ، الهدايا كانت لصويلح ، و الإبتسامات له ، أما الأحضان فمفتوحة لـ " صلوحي " و شبه موصدة بوجه الـ " بذور " ، و المشاوير إلى نبع الماء أسفل التلة الخضراء صباح مساء له دون سواه ، و إن اقتلع الأزهار الغالية على قلب أم صويلح فهذا حقه ، و جريمة أن ينهره أحد على فعاله ، و حتى أدوات المنزل الكهربائية صارت لعباً لصغير سكب فيه الآخرون ضياعهم .
منذ سنتين جاءني أبو صويلح ملهوفاً مسرعاً بثياب نومه التي بالكاد تستر كرشه حاملاً فلذة كبده المحروق ، عرفت أن عليّ أن أغلق باب بقاليتي الصغيرة و أن أدير مفتاح سيارتي التي دخلت متاحف الحياة و هي حية تعطِّر الأثير بدخانها و أُسرعَ باتجاه المشفى في المدينة المجاورة ، ركب بجواري و هو يصيح و يبكي كأنه بضعة نسوة اجتمعن في يوم النحيب ، كان يلكزني كي أطير ، و كنت أرفع جسدي قليلاً عن مقعد السيارة و كأنني أحاول جرَّها ، لقد جعلني اضطرب رغم تكدُّس أعصابي في ثلاجة من شتاء " كَوَانين " ، كنت أدعو الله ألا تتعطل السيارة في يوم غبار الجنوب ، سأكون في وضع لا أحسد عليه إن تعطلتِ أيتها الـ " طَرْطورة " ، كانت أبواب السيارة المهترئة تعارك الهيكل المكسور ، و تداعب كتف الأب المفجوع راجية ألا يلطمها ، كنت أحاول أن أشغل نفسي عن شتائم صاحبي بصوت الرياح المتسللة عبر شقوق الواجهة ، لقد صار هدير المحرك و " قرقعة " الحديد لحناً عذباً أمام جعجعة "الحنون" .
رزمت أعصابي و حزمتها و قلت : كأني سمعت أن الطبيب قال لك أن ضغطك مرتفع قليلاً و أن عليك … ، لجمني بخبطة من قدمه قصمت أرض السيارة و جعلتها حيواناً زاحفاً على إسفلت متموج مشرذم ، لا عليك يا أبا صويلح هاهي المشفى ، وَلَجْنا ، ركض و قد بقي في قدميه حذاء واحد رماه ككرة لم تخطئ هدفها من قرب أذن حارس البوابة ، صرخ على الطبيــــب و " دفش " الممرضات و اخترق طوابير المرضى ، و ارتمى متكوماً على كرسي أسود ذي عجلات قرب طاولة الفحص ، و نادى على الـ " حكيم " كي يباشر مهامه ، قال له الطبيب الشاب: ضع طفلك على السرير يا أخ ، فأجابه بسرعة البرق : تعال افحص الطفل هنا ، الحالة إسعاف ، كانت تلك اللحظة الأولى التي التقت فيها عيناي بعيــــــــني الـ " أزعر " ، رأيت بعض السكون و الهدوء غير المعتاد عليه ، لكنه ما إن تأكد من ابتسامتي المختبئة حتى ارتسمت ابتسامة ذكية على ملامح وجهه البريء ، فرحت جوانحي و عرفت أن الأمر غيمة صيفية ، ووسط إعادتي لترتيب أفكاري في زحمة فاقت تكدُّس غرفة الإسعاف استأذن مسامعي صوت الطبيب و هو يطمئن أبا صويلح ، و أردف ذلك الصوت معقباً : و لكن يا أخ ليس كل مرة تسلم الجرَّة ، انتبه لأطفالك ، " دير بالك " ، أليس أنت الذي أتيت بهذا الطفل منذ شهر و قد شرب علبة دواء جده و نام في العناية ؟ ، نعم أنت ، و هذا الأخ الذي يضــع النظارات – و أشار بيده إلي - كان معك أيضاً .
أنا بطبعي لا أحب الشركاء ، و لكنني صرت شريكاً لوالدك يا صويلح ، بسيطة - هكذا كنت أبربر بيني و بين نفسي - ، لم يهضم أبو صويلح كلام الحكيم و وقف على طوله و سرَّح شاربه المعقوف بيسراه ، و قال : يا سيد هل تريد أن تعلمــنا التربية ؟ ،أنا أربّي جدك !! ، و حمل ابنه و ركب سيارة لا يغلق بابها و قال : " شغِّل هالمحروسة " ، أردت الذهاب بطريق العودة لكنه سبقني إلى مقود السيارة ليوجهها إلى الشارع الموصل للسوق ، و سترنا الله من حادث كاد أن يختمها ، و ماذا تريد الآن من السوق ؟ ، أجابني بثقة : الطفل مريض ، لحم مشوي و موز و حلويـــــــــات و " بوظة " ، و صاح " الشقي ": و ثياب جديدة و علبة سجائر ، " تكْرَم يا صويلح".
اشترى " للمريض " حتى علبة السجائر الحمراء ، و في البلدة تلقتنا أم صويلح بالزغاريد ، و اجتمع الناس ، و سمعت أزيز الرصاص ، و سرنا في موكب النصر إلى صدر المضافة الكبيرة ، و جاء طفل صغير ليهمس في أذني أن زوجتي تريدني ، ذهبت إليها فأخبرتني بأن هدى أخت صويلح تتألم من بطنها و أن أختها الكبرى تريدنا أن نأخذها إلى الطبيب ، و هم لا يستطيعون التفوه بذلك أمام أبي صويلح المنشغل بتلقي التهاني ، أخذنا المسكينة التي كانت تتلوى من ألمها ، و تبين أن لديها التهاباً في الزائدة الدودية ، و أجريت العملية بصمت ، و في أواخر الليل لمحت " جار الرضا " يحمل ابنه على كتفيه باحثاً عن ابنته ، زارها - و للأمانة قبَّلها - ، و قال لأختها سعاد : غداً سنأتي أنا و أمك لنخرج هدى من المشفى .
لقد كانت الشمس على وشك الغروب عندما فتحت مصراعيّ باب بقاليتي هذا اليوم ، و أخرجت الكراسي التي لا تمل الأنين ، أشعلت الغاز الصغير و وضعت عليه إبريق الشاي ، و جاء بعض الرجال كالعادة إلى المجـــلس المختار ، و كان الأطفال هناك يلعبون في الحارة ، و بين الفينة و الأخرى يأتي أحدهم ليشتري زراً أو إبرة و قطعة حلوى ، لقد كنت أسجل في دفتر الديون فاتورة صغيرة عندما رصدت نظارتي يد أبي أحمد أحد وجهاء البلدة تمتد لتخرج علبة كبريت رُسم عليها فرس أسود ، و لم يبق بها إلا بضعة عيدان ، و أخذ منها عود ثقاب أخضر الرأس ، و قد سالت منه أثناء صناعته قطعة خضراء صغيرة تجمّدت كالدمعة على جانبه ، أراد أبو أحمد إشعـــال سيجارته ، ركض صويلح نحوه و خطف العلبة المهروسة من يد الشيــخ السمراء ، و قال له : لا و الله يا أبا أحمد ، أنت كبيرنا ، أنا من سيشعلها لك ، هات العود ، و أعطاه عود الثقاب بيد مرتجفة مع نشوة اختالت على شفتيه ببسمة لم تكتمل ، و حلَّق الشاربان في أفق مجد عريض للمرة الأخيرة ، و صرخ عود الثقاب و النيران تلتهب برأسه و تقترب من شاربي الوقور ، و تفوح رائحة شواء تضحك لها وجوه العجائز ، و يهرول صويلح و بيده حلم من نار ، يركض نحو بيادر تبكي سنابلها الذهبية في يوم الوداع الأخير ، و في الليل كان هناك ضوء القمر شاهداً على نيران أحالت ليل البلدة نهاراً
منذ سنتين جاءني أبو صويلح ملهوفاً مسرعاً بثياب نومه التي بالكاد تستر كرشه حاملاً فلذة كبده المحروق ، عرفت أن عليّ أن أغلق باب بقاليتي الصغيرة و أن أدير مفتاح سيارتي التي دخلت متاحف الحياة و هي حية تعطِّر الأثير بدخانها و أُسرعَ باتجاه المشفى في المدينة المجاورة ، ركب بجواري و هو يصيح و يبكي كأنه بضعة نسوة اجتمعن في يوم النحيب ، كان يلكزني كي أطير ، و كنت أرفع جسدي قليلاً عن مقعد السيارة و كأنني أحاول جرَّها ، لقد جعلني اضطرب رغم تكدُّس أعصابي في ثلاجة من شتاء " كَوَانين " ، كنت أدعو الله ألا تتعطل السيارة في يوم غبار الجنوب ، سأكون في وضع لا أحسد عليه إن تعطلتِ أيتها الـ " طَرْطورة " ، كانت أبواب السيارة المهترئة تعارك الهيكل المكسور ، و تداعب كتف الأب المفجوع راجية ألا يلطمها ، كنت أحاول أن أشغل نفسي عن شتائم صاحبي بصوت الرياح المتسللة عبر شقوق الواجهة ، لقد صار هدير المحرك و " قرقعة " الحديد لحناً عذباً أمام جعجعة "الحنون" .
رزمت أعصابي و حزمتها و قلت : كأني سمعت أن الطبيب قال لك أن ضغطك مرتفع قليلاً و أن عليك … ، لجمني بخبطة من قدمه قصمت أرض السيارة و جعلتها حيواناً زاحفاً على إسفلت متموج مشرذم ، لا عليك يا أبا صويلح هاهي المشفى ، وَلَجْنا ، ركض و قد بقي في قدميه حذاء واحد رماه ككرة لم تخطئ هدفها من قرب أذن حارس البوابة ، صرخ على الطبيــــب و " دفش " الممرضات و اخترق طوابير المرضى ، و ارتمى متكوماً على كرسي أسود ذي عجلات قرب طاولة الفحص ، و نادى على الـ " حكيم " كي يباشر مهامه ، قال له الطبيب الشاب: ضع طفلك على السرير يا أخ ، فأجابه بسرعة البرق : تعال افحص الطفل هنا ، الحالة إسعاف ، كانت تلك اللحظة الأولى التي التقت فيها عيناي بعيــــــــني الـ " أزعر " ، رأيت بعض السكون و الهدوء غير المعتاد عليه ، لكنه ما إن تأكد من ابتسامتي المختبئة حتى ارتسمت ابتسامة ذكية على ملامح وجهه البريء ، فرحت جوانحي و عرفت أن الأمر غيمة صيفية ، ووسط إعادتي لترتيب أفكاري في زحمة فاقت تكدُّس غرفة الإسعاف استأذن مسامعي صوت الطبيب و هو يطمئن أبا صويلح ، و أردف ذلك الصوت معقباً : و لكن يا أخ ليس كل مرة تسلم الجرَّة ، انتبه لأطفالك ، " دير بالك " ، أليس أنت الذي أتيت بهذا الطفل منذ شهر و قد شرب علبة دواء جده و نام في العناية ؟ ، نعم أنت ، و هذا الأخ الذي يضــع النظارات – و أشار بيده إلي - كان معك أيضاً .
أنا بطبعي لا أحب الشركاء ، و لكنني صرت شريكاً لوالدك يا صويلح ، بسيطة - هكذا كنت أبربر بيني و بين نفسي - ، لم يهضم أبو صويلح كلام الحكيم و وقف على طوله و سرَّح شاربه المعقوف بيسراه ، و قال : يا سيد هل تريد أن تعلمــنا التربية ؟ ،أنا أربّي جدك !! ، و حمل ابنه و ركب سيارة لا يغلق بابها و قال : " شغِّل هالمحروسة " ، أردت الذهاب بطريق العودة لكنه سبقني إلى مقود السيارة ليوجهها إلى الشارع الموصل للسوق ، و سترنا الله من حادث كاد أن يختمها ، و ماذا تريد الآن من السوق ؟ ، أجابني بثقة : الطفل مريض ، لحم مشوي و موز و حلويـــــــــات و " بوظة " ، و صاح " الشقي ": و ثياب جديدة و علبة سجائر ، " تكْرَم يا صويلح".
اشترى " للمريض " حتى علبة السجائر الحمراء ، و في البلدة تلقتنا أم صويلح بالزغاريد ، و اجتمع الناس ، و سمعت أزيز الرصاص ، و سرنا في موكب النصر إلى صدر المضافة الكبيرة ، و جاء طفل صغير ليهمس في أذني أن زوجتي تريدني ، ذهبت إليها فأخبرتني بأن هدى أخت صويلح تتألم من بطنها و أن أختها الكبرى تريدنا أن نأخذها إلى الطبيب ، و هم لا يستطيعون التفوه بذلك أمام أبي صويلح المنشغل بتلقي التهاني ، أخذنا المسكينة التي كانت تتلوى من ألمها ، و تبين أن لديها التهاباً في الزائدة الدودية ، و أجريت العملية بصمت ، و في أواخر الليل لمحت " جار الرضا " يحمل ابنه على كتفيه باحثاً عن ابنته ، زارها - و للأمانة قبَّلها - ، و قال لأختها سعاد : غداً سنأتي أنا و أمك لنخرج هدى من المشفى .
لقد كانت الشمس على وشك الغروب عندما فتحت مصراعيّ باب بقاليتي هذا اليوم ، و أخرجت الكراسي التي لا تمل الأنين ، أشعلت الغاز الصغير و وضعت عليه إبريق الشاي ، و جاء بعض الرجال كالعادة إلى المجـــلس المختار ، و كان الأطفال هناك يلعبون في الحارة ، و بين الفينة و الأخرى يأتي أحدهم ليشتري زراً أو إبرة و قطعة حلوى ، لقد كنت أسجل في دفتر الديون فاتورة صغيرة عندما رصدت نظارتي يد أبي أحمد أحد وجهاء البلدة تمتد لتخرج علبة كبريت رُسم عليها فرس أسود ، و لم يبق بها إلا بضعة عيدان ، و أخذ منها عود ثقاب أخضر الرأس ، و قد سالت منه أثناء صناعته قطعة خضراء صغيرة تجمّدت كالدمعة على جانبه ، أراد أبو أحمد إشعـــال سيجارته ، ركض صويلح نحوه و خطف العلبة المهروسة من يد الشيــخ السمراء ، و قال له : لا و الله يا أبا أحمد ، أنت كبيرنا ، أنا من سيشعلها لك ، هات العود ، و أعطاه عود الثقاب بيد مرتجفة مع نشوة اختالت على شفتيه ببسمة لم تكتمل ، و حلَّق الشاربان في أفق مجد عريض للمرة الأخيرة ، و صرخ عود الثقاب و النيران تلتهب برأسه و تقترب من شاربي الوقور ، و تفوح رائحة شواء تضحك لها وجوه العجائز ، و يهرول صويلح و بيده حلم من نار ، يركض نحو بيادر تبكي سنابلها الذهبية في يوم الوداع الأخير ، و في الليل كان هناك ضوء القمر شاهداً على نيران أحالت ليل البلدة نهاراً