منتديات الحوار الجامعية السياسية

شخصيات صنعت التاريخ

المشرف: بدريه القحطاني

#33185

سئل (تشاوتشيسكو) طاغية رومانيا السابق قبل مصرعه باربعة ايام وقد اندلعت الاحداث في مدينة (تيمي شوارا) على يد قسيس مسالم عما يجري وهل يخشى ان تتطور الامور إلى اسوأ قال: عندما تتحول اشجار البلوط إلى تين عندها قد تتغير الاوضاع في رومانيا، قال له الصحافي من جديد ولكن العاصفة في اوروبا الشرقية عرت كل الاشجار فهل يمكن ان يصيب رومانيا ما اصاب من حولها اجاب بثقة مطلقة: هذا صحيح وقد تغيرت الاوضاع في كثير من دول اوروبا الشرقية ولكن رومانيا شيء آخر لا تعرفونه انتم نحن نعلمه. من الغريب ان كل طاغية يكرر نفس المقولة ويحيق به نفس العذاب. كان ينطق على نحو من يسيطر على القدر وتجري الرياح مرسلات بين يديه، وانه يشكل استثناء اسطورياً فوق قوانين التاريخ. ولكن الذي حدث انه في ايام معدودات اصبح تحت التراب عظة لكل طواغيت الارض الذين لا يتعظون. وترك خلفه (قصر الشعب) الذي انفق عليه ميزانية خاصة كي يعمره فسكن المقابر والبلى وتركه خلفه خاويا على عروشه بما ظلم. وسرى عليه قانون التاريخ كما سرى على فرعون والمؤتفكات واصبح سلفا ومثلاً للآخرين، وانهار نظامه بأسرع من بيت كرتون. وودع هو والنخبة التي روعت البلاد والعباد فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين.
من المثير انه من رومانيا انتشرت اسطورة (دراكولا DRACULA) فيخرج في الليل بأنياب ذئاب لينقض على النيام فيمتص دماءهم ويحولهم إلى اشباهه على شكل اشباح تعس في عتمة الليل البهيم تنشر الرعب.

كان تشاوتشيسكو دراكولا ولكن يمارس الرعب في وضح النهار. وكان قطيع الاستخبارات (السيكوريتات) مائة الف او يزيدون مسلحين بكل عتاد في اوجرة تحت الارض بانفاق لا نهاية لها ولكنهم اختفوا خلال ايام وان اوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.

كل طاغية يكرر كلام تشاوتشيسكو على نحو آخر فيقول نعم ان تشاوتشيسكو سقط لان قدميه كانتا من صلصال من فخار اما انا فمعدني من مارج من نار.

والسؤال كيف يمكن لفرد الامساك برقبة امة تعد بالملايين؟ ما هي الالة الخفية الجهنمية للاستبداد؟ كيف نفهم الية عمل الحاكم والاعوان؟ كيف تتشكل القبائل الامنية الضاربة؟

في عام 1911م وزع منشور شيوعي على شكل كاريكاتور يضم خمسة طوابق وفوق الجميع استقرت صرة مكتنزة بالدولارات. وفي اسفل المنشور كتب (الهرم الرأسمالي). اذا تأملنا الصورة تبينت لنا في اعلى الهرم الطبقة الحاكمة وبجانبها عبارة: (نحن نحكمكم). واسفل منها يبدو اعوان الحاكم وسواعده من كاهن ومبشر وبجانبها كلمة: (نحن نخدعكم). اما الطابق الثالث فقد امتلأ بالجنود والاسلحة وبجانبها كلمة: (نحن نقتلكم). وفي اسفل الهرم ارتمى حشد لا نهاية له من الجياع والاطفال المهملين والعائلات المحطمة لصنفين من الناس: العمال والفلاحون وبجانبهم جملة: (نحن نعمل من اجل الجميع نحن نطعم الجميع). وبين طبقة البؤساء هذه وطبقة الجنود جلست طبقة مترفة منعمة تأكل من عرق وجهد المساكين وبجانبها كلمة ساخرة: (نحن نأكل من اجلكم).

من سخرية الاقدار ان تشاوتشيسكو كان شيوعياً احمر مراً، والشيء الذي جاءت من اجل اقتلاعه الشيوعية تحديداً تم ترسيخه على يد الرفاق اضعافاً مضاعفة فخدمت الرأسمالية ايما خدمة. وعُبِد ستالين ولينين وماوتسي تونغ بأشد من عبادة بني اسرائيل للعجل الجسد فكان له خوار الم يروا انه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً اتخذوه وكانوا ظالمين.

الدولة تقوم على احتكار العنف بواسطة الالة العسكرية وامتداداتها من القبائل الامنية الضاربة بفارق ان من يدخل في (جوار) شيخ قبيلة امنية لا يحمي نفسه من بقية القبائل التي تصل اذرعتها لكل مواطن اينما كان في اي وقت في ظل احكام عرفية مفتوحة.

الجيش يقضي على الفردية ليحول المجموع إلى قطعة لحمية مستلبة التفكير والمبادرة والارادة تعمل لصالح ارادة خارجية تنفذ من دماغ متفرد بارادة شخص واحد هو القائد. وحتى لا يحصل اي تمرد ولضمان مطلق الطاعة والانصياع فان التدريب يقوم على ان حياة الفرد من حياة القطيع ومخالفته للاوامر تعني الموت في محاكم ميدانية.

بهذه الطريقة تنشأ جيوش المرتزقة المستعدة للقتل بموجب الاوامر بدون تردد. وعندما يوقد مجنون عسكري ناراً للحرب فان الفرق العسكرية مزودة بفرق اعدام خلف الجيش فاذا لاحظوا ان الجندي لا يطلق الرصاص سحب واطلق عليه الرصاص. واذا التقى جيشان كما وصف (فولتير) فليس امامهما سوى ان يقتتلا بما لا تفعله البهائم بآلية المحافظة على الحياة. ويروي المؤرخ توينبي عن الحروب انها كانت (تسلية الملوك) فكان الشباب ينحر بعضهم بعضا باشارة من اصبع. هكذا فعلت المؤسسة العسكرية وكذلك يفعلون. والى هذا القانون الاجتماعي انتبهت الملكة اليمنية قديماً ان العسكريين اذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا اعزة اهلها اذلة وكذلك يفعلون. يقول (جارودي) في كتابه (نحو ارتقاء المرأة) ان العمود الفقري للآلة العكسرية يقوم على مبدأ التخلي الكامل عن المسؤولية الفردية والارادة المتميزة والتخلي عن اي مسحة تفكير. كما ان سمة المؤسسة العسكرية الاولى الذكورية وبذا مسخ الوجه الانساني للمجتمع فظهر بعين واحدة كما في اسطورة عملاق اوديسوس.

وكل فلسفة القرآن تقوم على تحرير المسؤولية الفردية ان الحساب في الاخرة فردي يوم يفر المرء من امه وابيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الارض جميعاً عله ينجيه. كلا لا وزر.

الحاكم يمسك الامة بواسطة الجيش ويتماسك الجيش بأمنه الخاص فيقتل من لا يقتل. وهي بدورها تصعد لتشكل في قمة الهرم الاجتماعي شريحة صغيرة متفاهمة لا تزيد عن اصابع اليدين عدداً تعمل بهذه الآلية وهي التي تفطن لها منذ القرن السادس عشر للميلاد (اتيين دي لابواسييه) فسجلها في كتابه (العبودية المختارة) عام 1562م فوصف (مجموعة الستة) التي تمسك بالبلد على النحو التالي: (انني اقترب الآن من نقطة هي التي يكمن فيها على ما اعتقد زنبلك السيادة وسرها، ويكمن اساس الطغيان وعماده... ان من يظن ان الرماحة والحرس وابراج المراقبة تحمي الطغاة يخطئ. فلا جموع الخيالة ولا فرق المشاة ولا قوة الاسلحة تحمي الطغاة، والامر يصعب على التصديق للوهلة الاولى ولكنه الحق عينه: هم دوماً اربعة او خسمة يبقون الطاغية في مكانه، اربعة او خمسة يشدون له البلد كله إلى مقود العبودية. في كل عهد كان ثمة اربعة او خمسة تصيخ اليهم اذن الطاغية يتقربون منه او يقربهم إليه ليكونوا شركاء جرائمه وخلان ملذاته وقواد شهواته ومقاسميه فيما نهب. هؤلاء الستة يدربون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع، لا بشروره وحدها بل بشروره وشرورهم. هؤلاء الستة ينتفع في كنفهم ستمائة يفسدهم الستة مثلما افسدوا الطاغية، ثم هؤلاء الستمائة يذيلهم ستة آلاف تابع توكل اليهم مناصب الدولة ويهبون اما حكم الاقاليم واما التصرف في الاموال ليشرفوا على بخلهم وقساوتهم وليطيحوا بهم متى شاءوا، تاركين اياهم يرتكبون من السيئات ما لا يجعل لهم بقاء إلا في ظلهم، ولا بعداً عن طائلة القوانين وعقوباتها إلا عن طريقهم. ما اطول سلسلة الاتباع بعد ذلك! ان من اراد التسلي بان يتقصى هذه الشبكة بوسعه ان يرى لا ستة آلاف ولا مائة الف بل ان يرى الملايين يربطهم الطاغية بهذا الحبل).

ويرى لابواسييه ان هذه السلسلة يمكن ان تمتد بالطول والعرض من خلال فتح الباب لكل مظاهر الحظوة: (من هنا جاء خلق المناصب الجديدة وفتح باب التعيينات والترقيات على مصراعيه. كل هذا يقيناً لا من اجل العدالة بل اولاً واخيراً من اجل ان تزيد سواعد الطاغية).

اما نوعية الناس التي تلتف حول الطاغية فيجب ان تكون من معدن خاص، يقول لابواسييه: (ما ان يعلن حاكم عن استبداده بالحكم الا والتف حوله كل أسقاط المملكة وحثالتها وما اعني بذلك صغار اللصوص بل أولئك الذين يدفعهم طموح حارق وبخل شديد ليصيروا هم انفسهم طغاة مصغرين في ظل الطاغية الكبير. هكذا الشأن بين اللصوص ومشاهير القراصنة: فريق يستكشف البلد وفريق يلاحق المسافرين. فريق يقف على مرقبة وفريق يختبئ. فريق يقتل وفريق يسلب).

ويصف الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد) هذا النموذج من الاعوان: (الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الاعظم إلى الشرطي والفراش وكناس الشوارع. ولا يكون كل صنف إلا من اسفل اهل طبقته اخلاقاً، لان الاسافل لا يهمهم جلب محبة الناس وانما غاية مسعاهم اكتساب ثقة المستبد. وهذه الفئة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته فكلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج إلى زيادة جيش العاملين له واحتاج إلى الدقة في اتخاذهم من اسفل السافلين الذين لا اثر عندهم لدين او وجدان واحتاج لحفظ النسبة بينهم بالطريقة المعكوسة وهي ان يكون اسفلهم طبعاً اعلاهم وظيفة وقرباً. ان العقل والتاريخ يشهدان ان الوزير الاعظم هو اللئيم الاعظم في الأمة). ونعود إلى قصة تشاوتشيسكو فبعد تصريحه عن شجرة البلوط والتين جمع الناس في صعيد واحد واستنفر الزبانية وسلح السكوريتات ثم خرج على الناس يخطب في الجموع: اليس لي ملك رومانيا وهذه الانهار تجري من تحتي افلا تبصرون واستخف قومه فأطاعوه. ثم حدثت المفاجأة عندما صفر احد الحاضرين استهزاء فانكسر حاجز الخوف ولم ينفع رصاص القمع وكانت شرارة تحولت إلى حريق كبير التهم كل نظام الطاغوت في ساعات، فقطع دابر القوم الذين ظلموا وقيل الحمد لله رب العالمين.