- الاثنين مارس 14, 2011 1:42 am
#33395
عبد اللطيف مهنا
حل يوم الاستفتاء على "انفصال" جنوب السودان عن شماله، الذي يطلق عليه مجازاً الاستفتاء على حق تقرير مصيره، وهو ذات اليوم المرصود لهذا الانفصال الموعود منذ ستة أعوام بالتمام والكمال، مهدت له، وعلى الأقل جعلته في حكم المتوقع، اتفاقية نيفاشا برعاية غربية، وافريقانية، وغياب عربي. انجزت هذه الاتفاقية جملة من العوامل الدافعة لتوقيعها، وكانت المُرجّح لنتيجتها التي يواجهها سودان اليوم... نعم، من حينها كان الانفصال هو النتيجة المحتومة التي لم تكن لتفاجئ أحداً إذا ما تمت بالنسبة له متابعة وقراءة كل ما أحاط بالاتفاقية من ظروف وضغوط كانت قد فرضتها في حينه، أو كانت سبباً وراء المساعي الحثيثة للوصول إليها.
كنت قد قررت التوقف عن الكتابة في هذه المسألة، ربما هروباً من تكرار، أو لأن نصال الأحزان والانكسارات والخيبات والكوارث العربية قد أدمنت التكسر على نصالها فادمناها بدورنا ووددنا لو لنا من منج من مقاربتها والتفكر بها. لاسيما وأنني كنت قد كتبت في نيفاشا آن توقيعها ما كتبت، واتبعت ذلك بسلسلة من المقالات حول بؤر التوتر السودانية الأخرى شرقاً وغرباً وشمالاً ووسطاً، والتي كنت قد عددتها في حينه بالست، وتوقفت أكثر من مرة ملياً أمام رابطها الجنوبي بالذات.
لكنني وقد تابعت في اليومين السابقين بعض من ردود الأفعال العربية على مثل هذا الاستحقاق المصيري الذي غدا من شبه المؤكد أنه سينجم عنه بتر جزء من خارطة هذا الوطن الذي تتناوش قلبه وأطرافه الأمم.. ردود الأفعال الإعلامية، ولا أقول الرسمية، التي لا نكاد نسمعها... قد عكست فيما عكست لدى الكثيرين نوعاً من التباكي المفاجئ على أندلسنا الأفريقي المفقود، عازيةً هذه الخسارة الفادحة إلى ما عده أصحابها فحسب تفريطاً سودانياً، لدرجة أن هناك من كاد أن يصور الرئيس البشير بعبدالله الصغير، وإن لم يشبه جوبا بغرناطة بعد. حيث قرأنا، مثلاً، في إحدى صحفنا عنواناً يقول: البشير يبيع جنوب السودان بلا ثمن، وآخر نقيضاً له وفي ذات الصحيفة، يقول بأن نائبه في باريس لقبض ثمن انفصال الجنوب، وجدت نفسي مدفوعاً، وإن مكرهاً، إلى العودة للكتابة في الموضوع، لكن أرى بداية أن علي أن أوضح ما يلي:
أولاً، أنا واحد من هؤلاء الناس الذين هم ضد التفريط بأي شبر من الوطن العربي الكبير، ولا أرى فرقاً بين هذا التفريط والتفريط بشبر أو حتى ملمتر واحد من فلسطين التاريخية. ومن اللذين لا تتجزأ عندهم قضايا الأمة من محيطها إلى خليجها. وكنت قد كتبت ما كتبت حول ما يعنيه انفصال جنوب السودان عن شماله. وما سيلحق بهذا الجسر العربي الحضاري الهام جداً الذي يربطنا بالقارة السوداء.
وثانياً، لست ممن يضع نفسه في موقع من يدافع عن حاكم أو نظام عربي ولن يكون هذا مني. لكنما مثل هذه اليقظة المتأخرة وهذا التفجع بعد فوات الآوان لما لحق بالسودان، وما فيه من محاولة تحميل السودان شعباً ونظاماً وحدهما المسؤولية أمر استفزني وشدني كما قلت لمعاودة الكتابة ثانيةً في هذا الشأن، لاسيما وأنني رأيت فيما تابعت نوعاً من التنصل من مسؤولية العرب، أمة وأنظمة ونخباً، عن ما فرض على السودان وأكره عليه، وخصوصاً إن فيما قرأت بعضاً مما يذكرني بما كنا ولا زلنا نلقاه نحن الفلسطينيين، ممن طاب لهم التنصل من مسؤوليتهم تجاه قضية قضايا العرب في فلسطين، من ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بإلقاء مسؤولية الراهن الفلسطيني على معزوفة الإنقسام الفلسطيني. بمعنى، لو أنه لم ينقسم الفلسطينييون على أنفسهم لما لحق بهم ما لحق، ولكنا تمكنا من مساعدتهم، ولكنهم بانقسامهم لم يتيح لنا مثل هذه الفرصة! هذا الكلام يعني أمرين:
أحدهما، تجاهل حقيقة أن الإنقسام الفلسطيني هو أمر موضوعي ويعكس انقساماً عربياً أشمل، بمعنى أنه انقسام بين تيارين، أحدهما انهزامي ومساوم والآخر صامد ومقاوم، ليس من السهل ولا المنطقي الجمع بينها، إلا إذا التحق أحدهما بالآخر، وهما كانا ويظلان امتداداً لتيارين عربيين وجزءاً لا يتجزأ منها، عرفا اصطلاحاً بمعسكري "الاعتدال" و "الممانعة".
وثانهما، إن أية وحدة فلسطينية لا يمكنها أن تكون إلا على أساس برنامج حد أدنى وطني مقاوم، وإن أية توحد عربي أو تضامن، أو قل في وصفه ما شئت، لن يكون إلا على أساس المصالح والحقوق العربية والذود عنها. وتحديد معسكري أعدائنا واصدقائنا في ساح المعركة لحماية هذه المصالح ولصون هذه الحقوق، الأمر الذي أين منه حالنا نحن اليوم فلسطينياً وعربياً؟!
هنا لابد من طرح بعض الأسئلة... أين كان هؤلاء المتباقيين والسودان يواجه وحده حصاراً وهجمة غربية لاترحم منذ عقود، هجمة كانت أطرافها أكثر انفصالية من الجنوبيين، وتضاف إلى مخططات صهيونية قديمة جديدة ومستمرة ومعروفة، وتأثيرات عنصرية أفريقانية تتضح بالعداوة من جوار حاقد على العرب، تغذيها ارساليات تبشيرية متعصبة تسرح وتمرح، وكان قد رسخه تاريخ استعماري بريطاني اشتهر بخبثه رحل تاركاً من خلفه للسودان بذوراً سامّة أينعت خمس وستين عاماً من الحروب الأهلية أعقبت الاستقلال؟!
أين كانت الجامعة العربية وأين هي اليوم مما واجهه السودان ويواجهه وحيداً مستفرداً به قبل وبعد نيفاشا، ثم ما هو كنه أغلب المواقف العربية الرسمية قولاً وعملاً من مشكلة الجنوب المستفحلة المزمنة واستحقاق الاستفتاء الانفصال؟
...مثلاً، أوليس من العرب من كان قد زود تمرد غرنق بصواريخ "سام 7" التي أدت إلى مجزرة الطائرات السودانية الشهيرة التي تساقطت ذات اليوم في أدغال الجنوب مع طياريها؟ ثم أوليس منهم أيضاً ذاك الذي زوده بالدبابات في يوم من الأيام؟
وألم يكن منهم من فتح له معسكرات التدريب المعروفة في حينه؟!
واليوم، والأمور قد سارت إلى ما هي قد انتهت إليه، كم من عواصمنا العربية من احتضنت وتحتضن الآن للانفصاليين الجنوبيين والدارفوريين من مكاتب وممثلين؟! وكم للعرب الآن من استثمارات أخذت تتوافد على جوبا وبدأت تتجاور جنباً إلى جنب مع الاستثمارات الإسرائيلية؟!
أين كانت النخب العربية من الجرح السوداني، وماذا كانت تعرف عن الجنوب السوداني، قبل أن تتفضل علينا هذه الأيام الفضائيات العربية فتعلن لنا عن اكتشافها المفاجئ له، وتطنب في حيادية مقيتة في تصوير ما يفرقه عنا وما يفرقنا عنه، لنكتشف عبرها، وهذه للأسف حقيقة، شعباً مختلفاً لا يجمعنا به رابط سوى العربية المكسرة، حيث يجاهر أهله على الشاشات بمعاداتنا ثقافة وحضارة، ويسعى حكامه ونخبه علناً إلى فصم قليل ما يربطه بنا؟!
لماذا يفعلون ما فعلته المعارضة السودانية، التي لطالما تواطأت مع انفصاليي الجنوب، والتي كانت أول من طرح تقرير المصير له في مؤتمر أسمرة المعروف، والتي لطالما استخدمها الجنوبيون الانفصاليون في مناوراتهم وتكتيكاتهم، وأخيراً، ومن باب المزايدات والمناكفات، تزعم اليوم الحرص على وحدة السودان وتحمل أطرافها النظام وحده مسؤولية الانفصال؟!
وللحقيقة والموضوعية والانصاف.. أوليس هذا هو الجنوب الذي سعى على مدار خمسة وستين عاماً أعقبت الاستقلال إلى الانفصال عن الشمال، حيث هناك مسلسل من تواريخ الاتفاقات وعمليات نقضها والانقلاب عليها من قبل الجنوبيين، أومتوالية افشال اتفاقات الصف الأول من قيادات التمرد التي يعقدونها مع الحكومات المركزية التي تأتي من قبل الصف الثاني منهم أو القادة المحليين دائماً... ابتدأ من مؤتمر المادة المستديرة، ثم اتفاقية جوزيف لاغو في أديس أبابا أو أنانيا الأولى، فأنانيا الثانية، ثم حركة غرنق، الذي يقال أنه تم اغتياله لتوجهاته الوحدوية!
ثم ألم تفشل وتتعثر كافة الأنظمة التي عرفها سودان ما بعد الاستقلال.. ما عرف بالديموقراطيات الثلاث ثم ما أعقبها من الانقلابات العسكرية الثلاث عليها... في حل المشكل الجنوبي؟!
ثم من حارب الانفصال منها أكثر من النظام الحالي، ومن كان منها لديه الشجاعة لمحاولة حل المشكلة التي استنزفت السودان دماءاً وإمكانيات وعطلت مسيراته التنموية منذ الاستقلال مثلما حاول؟
وراهناً، ألم ينفذ المركز بنظامه الحالي، وفق تقرير لجنة متابعة تنفيذ اتفاقية نيفاشا الدولية، 85% مما عليه تنفيذه بموجبها، في حين، لم ينفذ الجنوبيون إلا 23% مما يتوجب عليهم تنفيذه!
لماذا نتجاهل مثل هذه الحقائق، أو نهرب من مواجهتها، ونحن إزاء هذا الذي لحق ببلد عربي في مثل أهمية وخطورة السودان خصوصيةً وموقعاً ودوراً!
وأخيراً، وإذا كانت قضايا الحرية لا تتجزأ، سواء كانت عربية أو سواها، وإذا كان سودان ما بعد الاستقلال شمالاً وجنوباً قد فشل في الجمع بين جانحيه، ودفع ضريبة لذلك كل ما دفعه عبر 65 عاماً، وكانت كافة الظروف الدولية والإقليمية والعربية ومعها الذاتية كلها صبت وتصب في صالح الانفصال، وهذا الانفصال أو ما أسفرت عنه هذه العقود الدامية المستنزفة للسودان بشراً وإمكانيات، قد كشفت عن جزء أفريقاني يجاهر فيه مسلموه قبل مسيحييه وأراواحييه بعدم عروبتهم ويصرون على رفض عروبتنا، ويطالب بحق تقرير مصير ربما يعادل موضوعياً، في ظل دولة قادمة لن تكون إلا فاشلة بإجماع أغلب المراقبين، تشجع وتحض على قيامها موارد نفطية لا تكفي لبناء دولة تبدأ من عدم، ووعود غربية لم يفي أصحابها بها يوماً... تقرير مصير هو يعادل عملياً محاولة العودة للإندراج مرة ثانية تحت الهيمنة الاستعمارية في نسختها الأحدث، فلماذا يحول الشمال بينهم وبين مبتغاهم؟!
أوليس حرياً بأمة مقهورة مثل أمتنا، أن تربأ بنفسها من أن تقهر شعباً آخراً يرى في ارتباطه بها أمراً قسرياً لا يريده وقهرياً يرفضه ويتمرد عليه؟!
لعل هذا هو سر شبه اللامبالاة لدى الشارع الشمالي حيال انفصال الجنوب، الذي سبق وأن كتبت بأنه يحيرنا نحن العرب وقد لمسناه ونلمسه هذه الأيام أكثر، حيال مثل هذا الاستحقاق المصيري السوداني!
السودان، بإمكانياته وثرواته الهائلة الواعدة نفطاً وذهباً ومعادن أخرى وزراعةً وبشراً، قادر على العيش بدون جنوبه، الذي شكل ويشكل وسوف يشكل لو بقيت الوحدة عبئاً ثقيلاً عليه، لكنما هذا الجنوب ليس كذلك. هنا لا بد من الإشارة إلى تضخيم مبالغ فيه لمسألة عائدات النفط التي سوف يخسرها الشمال بفقدانه لجنوبه، والحقيقة أنها لا تزيد عن المليار دولار في حين أن الجنوب يكلف الشمال الآن أكثر بكثير، هذا ما خلى مسألة تكلفة مسؤوليته في وجوب إعادة إعماره لو بقي بلا انفصال. ولعل هذا مدعاة مراهنة بعض الشماليين على عودة هذا الجنوب إلى شماله طائعاُ في المستقبل. أما بالنسبة لنا كعرب، أوليس الأحرى بنا بدلاً من التنصل من المسؤولية وتحميلها للسودانيين محاولة الإفادة من مثل هذه التجربة المرة للمحافظة على سوداننا المتبقي؟ أما آن الأوان لكي نترجم فجيعتنا بفقدان جنوبه إلى حرص وحفاظ على شماله؟!
إن هذا هو أقل ما ينتظره السودان المستهدف من أمته في مواجهة مستهدفيه اللذين نجحوا في قضم جنوبه ويسيل لعابهم للمزيد.
حل يوم الاستفتاء على "انفصال" جنوب السودان عن شماله، الذي يطلق عليه مجازاً الاستفتاء على حق تقرير مصيره، وهو ذات اليوم المرصود لهذا الانفصال الموعود منذ ستة أعوام بالتمام والكمال، مهدت له، وعلى الأقل جعلته في حكم المتوقع، اتفاقية نيفاشا برعاية غربية، وافريقانية، وغياب عربي. انجزت هذه الاتفاقية جملة من العوامل الدافعة لتوقيعها، وكانت المُرجّح لنتيجتها التي يواجهها سودان اليوم... نعم، من حينها كان الانفصال هو النتيجة المحتومة التي لم تكن لتفاجئ أحداً إذا ما تمت بالنسبة له متابعة وقراءة كل ما أحاط بالاتفاقية من ظروف وضغوط كانت قد فرضتها في حينه، أو كانت سبباً وراء المساعي الحثيثة للوصول إليها.
كنت قد قررت التوقف عن الكتابة في هذه المسألة، ربما هروباً من تكرار، أو لأن نصال الأحزان والانكسارات والخيبات والكوارث العربية قد أدمنت التكسر على نصالها فادمناها بدورنا ووددنا لو لنا من منج من مقاربتها والتفكر بها. لاسيما وأنني كنت قد كتبت في نيفاشا آن توقيعها ما كتبت، واتبعت ذلك بسلسلة من المقالات حول بؤر التوتر السودانية الأخرى شرقاً وغرباً وشمالاً ووسطاً، والتي كنت قد عددتها في حينه بالست، وتوقفت أكثر من مرة ملياً أمام رابطها الجنوبي بالذات.
لكنني وقد تابعت في اليومين السابقين بعض من ردود الأفعال العربية على مثل هذا الاستحقاق المصيري الذي غدا من شبه المؤكد أنه سينجم عنه بتر جزء من خارطة هذا الوطن الذي تتناوش قلبه وأطرافه الأمم.. ردود الأفعال الإعلامية، ولا أقول الرسمية، التي لا نكاد نسمعها... قد عكست فيما عكست لدى الكثيرين نوعاً من التباكي المفاجئ على أندلسنا الأفريقي المفقود، عازيةً هذه الخسارة الفادحة إلى ما عده أصحابها فحسب تفريطاً سودانياً، لدرجة أن هناك من كاد أن يصور الرئيس البشير بعبدالله الصغير، وإن لم يشبه جوبا بغرناطة بعد. حيث قرأنا، مثلاً، في إحدى صحفنا عنواناً يقول: البشير يبيع جنوب السودان بلا ثمن، وآخر نقيضاً له وفي ذات الصحيفة، يقول بأن نائبه في باريس لقبض ثمن انفصال الجنوب، وجدت نفسي مدفوعاً، وإن مكرهاً، إلى العودة للكتابة في الموضوع، لكن أرى بداية أن علي أن أوضح ما يلي:
أولاً، أنا واحد من هؤلاء الناس الذين هم ضد التفريط بأي شبر من الوطن العربي الكبير، ولا أرى فرقاً بين هذا التفريط والتفريط بشبر أو حتى ملمتر واحد من فلسطين التاريخية. ومن اللذين لا تتجزأ عندهم قضايا الأمة من محيطها إلى خليجها. وكنت قد كتبت ما كتبت حول ما يعنيه انفصال جنوب السودان عن شماله. وما سيلحق بهذا الجسر العربي الحضاري الهام جداً الذي يربطنا بالقارة السوداء.
وثانياً، لست ممن يضع نفسه في موقع من يدافع عن حاكم أو نظام عربي ولن يكون هذا مني. لكنما مثل هذه اليقظة المتأخرة وهذا التفجع بعد فوات الآوان لما لحق بالسودان، وما فيه من محاولة تحميل السودان شعباً ونظاماً وحدهما المسؤولية أمر استفزني وشدني كما قلت لمعاودة الكتابة ثانيةً في هذا الشأن، لاسيما وأنني رأيت فيما تابعت نوعاً من التنصل من مسؤولية العرب، أمة وأنظمة ونخباً، عن ما فرض على السودان وأكره عليه، وخصوصاً إن فيما قرأت بعضاً مما يذكرني بما كنا ولا زلنا نلقاه نحن الفلسطينيين، ممن طاب لهم التنصل من مسؤوليتهم تجاه قضية قضايا العرب في فلسطين، من ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بإلقاء مسؤولية الراهن الفلسطيني على معزوفة الإنقسام الفلسطيني. بمعنى، لو أنه لم ينقسم الفلسطينييون على أنفسهم لما لحق بهم ما لحق، ولكنا تمكنا من مساعدتهم، ولكنهم بانقسامهم لم يتيح لنا مثل هذه الفرصة! هذا الكلام يعني أمرين:
أحدهما، تجاهل حقيقة أن الإنقسام الفلسطيني هو أمر موضوعي ويعكس انقساماً عربياً أشمل، بمعنى أنه انقسام بين تيارين، أحدهما انهزامي ومساوم والآخر صامد ومقاوم، ليس من السهل ولا المنطقي الجمع بينها، إلا إذا التحق أحدهما بالآخر، وهما كانا ويظلان امتداداً لتيارين عربيين وجزءاً لا يتجزأ منها، عرفا اصطلاحاً بمعسكري "الاعتدال" و "الممانعة".
وثانهما، إن أية وحدة فلسطينية لا يمكنها أن تكون إلا على أساس برنامج حد أدنى وطني مقاوم، وإن أية توحد عربي أو تضامن، أو قل في وصفه ما شئت، لن يكون إلا على أساس المصالح والحقوق العربية والذود عنها. وتحديد معسكري أعدائنا واصدقائنا في ساح المعركة لحماية هذه المصالح ولصون هذه الحقوق، الأمر الذي أين منه حالنا نحن اليوم فلسطينياً وعربياً؟!
هنا لابد من طرح بعض الأسئلة... أين كان هؤلاء المتباقيين والسودان يواجه وحده حصاراً وهجمة غربية لاترحم منذ عقود، هجمة كانت أطرافها أكثر انفصالية من الجنوبيين، وتضاف إلى مخططات صهيونية قديمة جديدة ومستمرة ومعروفة، وتأثيرات عنصرية أفريقانية تتضح بالعداوة من جوار حاقد على العرب، تغذيها ارساليات تبشيرية متعصبة تسرح وتمرح، وكان قد رسخه تاريخ استعماري بريطاني اشتهر بخبثه رحل تاركاً من خلفه للسودان بذوراً سامّة أينعت خمس وستين عاماً من الحروب الأهلية أعقبت الاستقلال؟!
أين كانت الجامعة العربية وأين هي اليوم مما واجهه السودان ويواجهه وحيداً مستفرداً به قبل وبعد نيفاشا، ثم ما هو كنه أغلب المواقف العربية الرسمية قولاً وعملاً من مشكلة الجنوب المستفحلة المزمنة واستحقاق الاستفتاء الانفصال؟
...مثلاً، أوليس من العرب من كان قد زود تمرد غرنق بصواريخ "سام 7" التي أدت إلى مجزرة الطائرات السودانية الشهيرة التي تساقطت ذات اليوم في أدغال الجنوب مع طياريها؟ ثم أوليس منهم أيضاً ذاك الذي زوده بالدبابات في يوم من الأيام؟
وألم يكن منهم من فتح له معسكرات التدريب المعروفة في حينه؟!
واليوم، والأمور قد سارت إلى ما هي قد انتهت إليه، كم من عواصمنا العربية من احتضنت وتحتضن الآن للانفصاليين الجنوبيين والدارفوريين من مكاتب وممثلين؟! وكم للعرب الآن من استثمارات أخذت تتوافد على جوبا وبدأت تتجاور جنباً إلى جنب مع الاستثمارات الإسرائيلية؟!
أين كانت النخب العربية من الجرح السوداني، وماذا كانت تعرف عن الجنوب السوداني، قبل أن تتفضل علينا هذه الأيام الفضائيات العربية فتعلن لنا عن اكتشافها المفاجئ له، وتطنب في حيادية مقيتة في تصوير ما يفرقه عنا وما يفرقنا عنه، لنكتشف عبرها، وهذه للأسف حقيقة، شعباً مختلفاً لا يجمعنا به رابط سوى العربية المكسرة، حيث يجاهر أهله على الشاشات بمعاداتنا ثقافة وحضارة، ويسعى حكامه ونخبه علناً إلى فصم قليل ما يربطه بنا؟!
لماذا يفعلون ما فعلته المعارضة السودانية، التي لطالما تواطأت مع انفصاليي الجنوب، والتي كانت أول من طرح تقرير المصير له في مؤتمر أسمرة المعروف، والتي لطالما استخدمها الجنوبيون الانفصاليون في مناوراتهم وتكتيكاتهم، وأخيراً، ومن باب المزايدات والمناكفات، تزعم اليوم الحرص على وحدة السودان وتحمل أطرافها النظام وحده مسؤولية الانفصال؟!
وللحقيقة والموضوعية والانصاف.. أوليس هذا هو الجنوب الذي سعى على مدار خمسة وستين عاماً أعقبت الاستقلال إلى الانفصال عن الشمال، حيث هناك مسلسل من تواريخ الاتفاقات وعمليات نقضها والانقلاب عليها من قبل الجنوبيين، أومتوالية افشال اتفاقات الصف الأول من قيادات التمرد التي يعقدونها مع الحكومات المركزية التي تأتي من قبل الصف الثاني منهم أو القادة المحليين دائماً... ابتدأ من مؤتمر المادة المستديرة، ثم اتفاقية جوزيف لاغو في أديس أبابا أو أنانيا الأولى، فأنانيا الثانية، ثم حركة غرنق، الذي يقال أنه تم اغتياله لتوجهاته الوحدوية!
ثم ألم تفشل وتتعثر كافة الأنظمة التي عرفها سودان ما بعد الاستقلال.. ما عرف بالديموقراطيات الثلاث ثم ما أعقبها من الانقلابات العسكرية الثلاث عليها... في حل المشكل الجنوبي؟!
ثم من حارب الانفصال منها أكثر من النظام الحالي، ومن كان منها لديه الشجاعة لمحاولة حل المشكلة التي استنزفت السودان دماءاً وإمكانيات وعطلت مسيراته التنموية منذ الاستقلال مثلما حاول؟
وراهناً، ألم ينفذ المركز بنظامه الحالي، وفق تقرير لجنة متابعة تنفيذ اتفاقية نيفاشا الدولية، 85% مما عليه تنفيذه بموجبها، في حين، لم ينفذ الجنوبيون إلا 23% مما يتوجب عليهم تنفيذه!
لماذا نتجاهل مثل هذه الحقائق، أو نهرب من مواجهتها، ونحن إزاء هذا الذي لحق ببلد عربي في مثل أهمية وخطورة السودان خصوصيةً وموقعاً ودوراً!
وأخيراً، وإذا كانت قضايا الحرية لا تتجزأ، سواء كانت عربية أو سواها، وإذا كان سودان ما بعد الاستقلال شمالاً وجنوباً قد فشل في الجمع بين جانحيه، ودفع ضريبة لذلك كل ما دفعه عبر 65 عاماً، وكانت كافة الظروف الدولية والإقليمية والعربية ومعها الذاتية كلها صبت وتصب في صالح الانفصال، وهذا الانفصال أو ما أسفرت عنه هذه العقود الدامية المستنزفة للسودان بشراً وإمكانيات، قد كشفت عن جزء أفريقاني يجاهر فيه مسلموه قبل مسيحييه وأراواحييه بعدم عروبتهم ويصرون على رفض عروبتنا، ويطالب بحق تقرير مصير ربما يعادل موضوعياً، في ظل دولة قادمة لن تكون إلا فاشلة بإجماع أغلب المراقبين، تشجع وتحض على قيامها موارد نفطية لا تكفي لبناء دولة تبدأ من عدم، ووعود غربية لم يفي أصحابها بها يوماً... تقرير مصير هو يعادل عملياً محاولة العودة للإندراج مرة ثانية تحت الهيمنة الاستعمارية في نسختها الأحدث، فلماذا يحول الشمال بينهم وبين مبتغاهم؟!
أوليس حرياً بأمة مقهورة مثل أمتنا، أن تربأ بنفسها من أن تقهر شعباً آخراً يرى في ارتباطه بها أمراً قسرياً لا يريده وقهرياً يرفضه ويتمرد عليه؟!
لعل هذا هو سر شبه اللامبالاة لدى الشارع الشمالي حيال انفصال الجنوب، الذي سبق وأن كتبت بأنه يحيرنا نحن العرب وقد لمسناه ونلمسه هذه الأيام أكثر، حيال مثل هذا الاستحقاق المصيري السوداني!
السودان، بإمكانياته وثرواته الهائلة الواعدة نفطاً وذهباً ومعادن أخرى وزراعةً وبشراً، قادر على العيش بدون جنوبه، الذي شكل ويشكل وسوف يشكل لو بقيت الوحدة عبئاً ثقيلاً عليه، لكنما هذا الجنوب ليس كذلك. هنا لا بد من الإشارة إلى تضخيم مبالغ فيه لمسألة عائدات النفط التي سوف يخسرها الشمال بفقدانه لجنوبه، والحقيقة أنها لا تزيد عن المليار دولار في حين أن الجنوب يكلف الشمال الآن أكثر بكثير، هذا ما خلى مسألة تكلفة مسؤوليته في وجوب إعادة إعماره لو بقي بلا انفصال. ولعل هذا مدعاة مراهنة بعض الشماليين على عودة هذا الجنوب إلى شماله طائعاُ في المستقبل. أما بالنسبة لنا كعرب، أوليس الأحرى بنا بدلاً من التنصل من المسؤولية وتحميلها للسودانيين محاولة الإفادة من مثل هذه التجربة المرة للمحافظة على سوداننا المتبقي؟ أما آن الأوان لكي نترجم فجيعتنا بفقدان جنوبه إلى حرص وحفاظ على شماله؟!
إن هذا هو أقل ما ينتظره السودان المستهدف من أمته في مواجهة مستهدفيه اللذين نجحوا في قضم جنوبه ويسيل لعابهم للمزيد.