- الأربعاء مارس 23, 2011 5:11 pm
#33643
البرجوازية
البرجوازية (من الفرنسية Bourgeoisie، ومن اللاتينية المتأخرة Burgus- المدينة المحصّنة) وكانت تعني أصلاً، في القرون الوسطى، سكان المدن المحصّنة من الفئات الاجتماعية الميسورة الأحوال التي هي وسط بين الشعب والنبلاء. بمعنى أنها طبقة اجتماعية محددة. وتضم الأشخاص ذوي الدخل المستقل، أو الذين يحققون لأنفسهم نوعاً من الاكتفاء الذاتي ولهم سمات وعادات اجتماعية خاصة بهم. ويعيش المنتمون إلى البرجوازية في الأغلب حياة ميسورة. وبتعبير آخر، تتألف البرجوازية من الأشخاص الذين لايمارسون أي مهنة من المهن اليدوية. وبهذا التحديد يخرج العمال والفلاحون وصغار الموظفين من إطار البرجوازية التي هي نقيض الطبقة العاملة (البروليتارية).
اتخذ مفهوم البرجوازية تاريخياً معاني مختلفة. ففي مطلع القرن الحادي عشر كانت كلمة Burgenses الفرنسية تعني سكان مدينة حديثة النشأة يعيشون نمطاً حياتياً جديداً في المدن خارج حدود الأرض التي يمتلكها الإقطاعي، ويمارسون في الغالب مهنة التجارة، ثم غدت كلمة Burgenses مرادفةً لكلمة تاجر قبل أن تأخذ الكلمة Bourgeois معناها المعروف في القرون الوسطى، إذ باتت تعني الشخص الذي يملك حقوقاً تتعلق بملكية قطعة أرض في المدينة أو بملكية عقارية. ثم تطور مفهوم البرجوازية في القرن الثامن عشر في فرنسة حتى صار يعني طبقة اجتماعية مؤلفة من التجار ومالكي العقارات وأصحاب المهن الحرّة، كما صار تعبير البرجوازية نظاماً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً أيضاً، إضافة إلى كونه يعبر عن ذهنية لها مظاهرها الخاصة التي نبعت من صميمها أفكار الثورة الفرنسية. فبعد أن اغتنت البرجوازية بفضل الامتيازات التي حصلت عليها وبفضل تطور التجارة، دخلت عالم الحياة السياسية، وصارت حليفة للنظام الملكي في مواجهة طبقة النبلاء المتمردة. وقد استمر هذا التحالف حتى نهاية القرن الثامن عشر حين قامت الثورة الفرنسية[ر] وأحدثت زلزالاً في العلاقة بين الملكية والبرجوازية.
تمثل البرجوازية مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي، وتُعد أساساً للكثير من الأفكار والمظاهر الاجتماعية الحديثة. فقد نشأت البرجوازية في أحشاء المجتمع الإقطاعي حاملة أسلوب الإنتاج الرأسمالي الأرقى وارتبطت بالتراكم الأولي لرأس المال الذي قام على انتزاع الأراضي وأدوات العمل من الجماهير الشعبية الواسعة. ومع تطور القوى المنتجة حلّت المانيفاكتورة (المصنع اليدوي) محل نظام الإنتاج الحرفي. ثم تلتها الصناعة الآلية الضخمة [ر: الثورة الصناعية] وامتلك رأس المال الصناعي وسائل الإنتاج وتركّزت ثروة مالية هائلة في أيدي البرجوازية. وتوطد النظام الرأسمالي بقيمه البرجوازية وأهمها: الفردية والمبادرة وفكرة الفرص المتكافئة والنجاح الشخصي أو ما يسمّى «أخلاق الإنجاز».
قامت البرجوازية في مراحلها الأولى بدور ثوري تقدمي في الصراع مع النظام الإقطاعي، فتحْتَ قيادة البرجوازية صُفِّيت العلاقات الإقطاعية وإسقاط التصوّر الطبقي الإقطاعي للإنسان. وقد أسهمت البرجوازية في تطوير العلم والتقانة (التكنولوجية) وفي رفع إنتاجية العمل، وحطّمت نمط الحياة الذي كان غالباً في العصور الوسطى.
وبنتيجة الثورات البرجوازية الممتدة من القرن السادس عشر إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر وصلت البرجوازية إلى السلطة السياسية وأصبحت هي الحاكمة في أغلب بلدان أوربة الغربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية. ومع تحوّل الرأسمالية إلى الامبريالية (أواخر القرن التاسع عشر) ثم إلى رأسمالية الدولة الاحتكارية (منذ الحرب العالمية الأولى تقريباً)، ومع دخول حكم الطبقة العاملة مسرح التاريخ تغير أثر البرجوازية في المجتمع تغيراً جذرياً، وصار نضال الطبقة العمالية الطليعية في مواجهة الرأسمالية مضمون المرحلة المعاصرة من تاريخ البشرية وسمتها الأساسية.
والبرجوازية من وجهة نظر كارل ماركس[ر] هي الطبقة الغالبة في المجتمع الرأسمالي، المالكة لكل وسائل الإنتاج والتبادل، المُسْتَغِلَّة للعمل المأجور.
تطورت البرجوازية في مختلف البلدان بصور مختلفة حددتها الخصوصيات القومية في تلك البلدان. كانت إنكلترة مثلاً بلد الثورة الصناعية الأول، في حين غابت المرحلة الإقطاعية في الولايات المتحدة، وتأخر التصنيع نسبياً في إيطالية. وفي سياق تطوّر مختلف أشكال رأسمالية الدولة الاحتكارية واتساع الثورة العلمية التقنية حدثت تطورات داخل البرجوازية، أدت عملية تمركز رأس المال والإنتاج وتجمعهما إلى إفلاس قسم كبير من الرأسماليين الصغار والمتوسطين، وقسم من الرأسماليين الكبار أيضاً، ممّا أدى إلى انخفاض نسبة الطبقة البرجوازية من مجموع السكان النشطاء اقتصادياً من ذوي المداخيل المستقلة، وكذلك من مجمل عدد السكان في البلدان الرأسمالية. وتحولت البرجوازية من طبقة كثيرة العدد نسبياً، في الماضي، إلى نخبة حاكمة قليلة العدد، ولكن بالغة التمركز والقوة في المجتمع.
وانقسمت البرجوازية بحسب مجالات استثمار رؤوس الأموال إلى برجوازية صناعية وتجارية ومصرفية وزراعية. أما بحسب حجوم مشروعاتها فقد انقسمت إلى برجوازية كبيرة ومتوسطة وصغيرة.
وتشغل البرجوازية الصغيرة وضعاً انتقالياً بين الطبقتين الرئيسيتين: الطبقة العاملة والبرجوازية. وتتألف بأكثريتها الساحقة من الفلاحين الصغار والمتوسطين في القرية ومن الحرفيين وصغار التجار وبقية مالكي المؤسسات الصغيرة في المدينة. والبرجوازية الصغيرة ليست متجانسة من حيث حجم ملكيتها، فإذ تقترب الشرائح العليا منها من البرجوازية تعيش الشرائح الدنيا منها أحياناً في ظروف أسوأ من ظروف العمال المَهَرَة في المصانع الكبرى. ولكن مهما ساء وضع البرجوازي الصغير فإنه يختلف عن العامل بأن لديه ملكية خاصة لوسائل الإنتاج. كما يتحدد الانتماء الطبقي للبرجوازي الصغير بأنه لا يقف في السوق الرأسمالية بائعاً لقوة عمله، بل بائعاً للسلع والخدمات التي ينتجها بنفسه.
وتبقى البرجوازية الصغيرة تؤلف جزءاً كبيراً من السكان العاملين، لكن أثرها الاقتصادي يتقلص باستمرار، لأن نمو الإنتاج وتمركزه يرافقهما دائماً اشتداد التنافس الذي يقود الآلاف من المزارعين والمنتجين الصغار والمتوسطين إلى الإفلاس في كل يوم نتيجة لتعرض البرجوازية الصغيرة المعاصرة للتمايز الطبقي الاجتماعي المستمر؛ فهي الشريحة الأقلّ استقراراً من قوام الطبقة البرجوازية، إذ تترك الأحوال الاقتصادية بصماتها على نفسية البرجوازي الصغير وتصوراته وأفكاره. ولما كان البرجوازي الصغير مالكاً وكادحاً في الوقت ذاته، تعاطف، بوصفه كادحاً، مع الطبقة العاملة يتضامن معها في الكثير من الأمور، وهذا سبب تمسُّكه بالديمقراطية والعدالة والمساواة والعداء للرأسمال الكبير وللاحتكارات. وبوصفه مالكاً يحسِد البرجوازي الكبير على ثرائه ووضعه، ويحلم بالوصول إلى مواقع الأقلية الممتازة. وهذا أساس ميله إلى المحافظة والفردية والخوف من الاشتراكية. فالبرجوازي الصغير يحاول عادة تجنّب الصدامات الطبقية الحادة، ويسعى إلى المحافظة على «الخط الوسط» في أوقات الهزات الاجتماعية والسياسية الكبرى. والمحدودية السياسية للبرجوازية الصغيرة هي السبب في أنها تنقاد بسهولة لغوغائية (ديماغوجية) الشرائح الأكثر رجعيةً من البرجوازية الكبيرة. وهذا ما حصل بوجه خاص في ألمانية النازية وإيطالية الفاشية، إذ استغلت النازية والفاشية الحاجات والمطالب الملحة للبرجوازية الصغيرة وعبثتا بحرصها وتطلعها إلى الإثراء وميلها إلى التشدُّد القومي. ولكن التاريخ يعرف غير قليل من الأمثلة التي وقفت البرجوازية الصغيرة فيها حليفاً للطبقة العاملة والبروليتارية. فقد كان الفلاحون والبرجوازيون الصغار القوة المحركة للثورة الإنكليزية في القرن السابع عشر، وللثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، وكذلك في ثورتي 1905 و1907 وثورة شباط 1917 في روسية وثورة تشرين الثاني 1918 في ألمانية.
في المرحلة المعاصرة يعد الإنتاج الصغير في البلدان النامية عاملاً أساسياً في التطور الاقتصادي لهذه البلدان. ويؤلف الفلاحون والحرفيون وصغار الكسبة فيها قوة مباشرة في الثورات الوطنية الديمقراطية المناهضة للإقطاع والامبريالية.
وقد أدى تطور رأسمالية الدولة الاحتكارية واتساع وظائف الدولة الرأسمالية المعاصرة ومهامها وتحوّلها إلى مالك كبير لوسائل الإنتاج إلى تعقّد بنية البرجوازية ودخول فئات اجتماعية جديدة إليها. وتحولت النخبة السياسية والعسكرية والبيروقراطية الرفيعة المستوى إلى فئة مستقلة من الطبقة البرجوازية السائدة. وظهرت شريحة جديدة من الرأسماليين هي شريحة البرجوازية الحكومية التي تضم رؤساء الشركات المؤممة والمشتركة. كما صار كبار المديرين Managers في الشركات الرأسمالية الخاصة جزءاً متزايد الأهمية من البرجوازية وإن لم يطرحوا أنفسهم فئة مستقلة منها.
وفي العقود المتأخرة من القرن العشرين، ومع توسّع مجالات الشركات العالمية، ظهرت فئة البرجوازية «المتعددة الجنسيات»، إذ أسهمت عالمية الإنتاج والرأسمال البرجوازي ونشاط الشركات المتعددة الجنسيات وانتشار طرق «الإدارة العلمية» للإنتاج في توحيد ذهنية البرجوازية المعاصرة وامِّحِاء الاختلافات الوطنية فيما بينها. وقد لامست هذه التغيرات إلى حد كبير البرجوازية الكبيرة والاحتكارية التي لم تعد تستغلّ العمال في بلدانها فحسب، بل وفي البلدان الأخرى أيضاً. وهذه الشريحة من البرجوازية قليلة العدد، ولكنها بالغة القوة الاقتصادية والمالية وتشغل مكان السيادة داخل البرجوازية الحكومية، وتضع يدها على المواقع الأساسية الاقتصادية والسياسية في البلدان الرأسمالية. وفي واقع الأمر هي التي تحدّد السياسة الداخلية والخارجية لهذه الدول وَفْق مصلحتها الخاصة وهي المسؤولة عن المشكلات الاجتماعية في هذه البلدان.
إلى جانب ذلك يتنامى أيضاً في عدد من البلدان المتقدمة ما يسمى «المجمعات الصناعيةـ الحربية»، أي تحالف الاحتكارات الصناعيةـ الحربية مع الأوساط الرجعية العسكرية والبيروقراطية. وتستغل البرجوازية الاحتكارية المعاصرة الدولة على نحو متزايد، وتلجأ إلى أسلوب برمجة الإنتاج والتنبؤ بتطوره، وإلى طريقة تمويل التقدم العلمي والتقني والإنتاج الحربي من قبل الدولة، وإلى أسلوب التكامل الامبريالي.
وفي سياق تطوّر المجتمع الرأسمالي وبتأثير التحولات الحاصلة في اقتصاده تطرأ جملة من التغيرات المهمة على الصفات الكمية والكيفية للطبقات والفئات الاجتماعية التي تؤلف قوام هذا المجتمع. فعلماء الاجتماع البرجوازيون يرون أن المجتمع البرجوازي يتحول إلى نظام اجتماعي متجانس يتألف من الفئات المتوسطة فقط. ويؤكدون أن الطبقة العاملة في سبيلها إلى الزوال متحولة إلى واحدة من «الفئات المتوسطة» لأن مستوى رفاهها قد ارتفع، ولأن عدد العمال الصناعيين في ظل التقدم العلمي والتقني والأتمتة الواسعة لعمليات الإنتاج لم يعد يتزايد كما كان من قبل، في حين يتزايد كثيراً عدد المثقفين والعاملين في ميادين الخدمات في الوقت الذي تنخفض فيه الفروق بين العاملين ذهنياً والعاملين عضلياً.
أما عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864-1920)، واضع نظرية الأنماط المثالية، فيرى أن العصور الغابرة والإقطاعية والرأسمالية ليست علاقات موجودة موضوعياً، وإنما هي وسائل للتنميط المثالي، والرأسمالية هي النمط الأمثل من بين الأنماط الاقتصادية، لأنّ سمتها الأساسية هي العقلانية ووجود المؤسسة المنظمة عقلانياً، ويعطي فيبر في علم الاجتماع السياسي اهتماماً كبيراً لتحليل صراعات المصالح بين مختلف فئات الطبقة الحاكمة مؤكداً أن الموقف من السلطة والاختلاف في الموقع والمكانة، وتقسيم الناس بحسب المؤشرات الدينية والأيديولوجية مهم تماماً مثل الاختلافات الناجمة عن علاقات الملكية الخاصة. ويرى فيبر أن الصراع الرئيسي في الحياة السياسية للدولة المعاصرة هو الصراع بين الأحزاب السياسية والجهاز البيروقراطي. وعموماً رفض فيبر إمكانية انتصار العلاقات الاشتراكية في المجتمع وطرح مقابل ذلك مقولة أن مجتمع المستقبل لن يكون «ديكتاتورية البروليتارية»، بل سيكون «ديكتاتورية البيروقراطية». ويمكن تمييز اتجاهين رئيسيين حول فيبر في الأدبيات الاجتماعية البرجوازية المعاصرة: الأول يتلخص في محاولة البرهنة على أن فيبر دحض الفهم المادي للتاريخ، وبرهن على أولوية العوامل الأخلاقية والدينية في التاريخ العالمي. أما الثاني فيعد فيبر متمماً للماركسية.
ولكن التغيرات الجارية في البنية الطبقية للبرجوازية تظهر الطابع التناحري لهذه البنية، وتكشف أن التناقضات الطبقية والاجتماعية الملازمة للمجتمع البرجوازي تزداد عمقاً واتساعاً. هذا في البلدان الرأسمالية، أما في البلدان التابعة والمستقلة حديثاً والنامية، فهناك نوعان من البرجوازية: الكومبرادورية التجارية (الوسيطة) والوطنية. ولأنه لا توجد في معظم هذه البلدان برجوازية صناعية قوية، فإن البرجوازية التجارية المؤلفة من المضاربين والوسطاء الطفيليين ومقاولي أعمال البناء الذين يستثمرون أموالهم في مجالات غير منتجة هم الذين يحددون وجه الطبقة الرأسمالية الموالية للامبريالية التي تقوم بدور الوسيط في خدمة رأس المال الأجنبي، وتؤدي وظيفة السند الاجتماعي للاستعمار الجديد بحكم مصالحها المرتبطة بالعالم الخارجي، وتمثل البرجوازية الوطنية فئة أصحاب العمل المحليين الذي لهم مصلحة في التطور الاقتصادي والسياسي المستقلين لبلدانهم، إذ يواجه هذا التطور عقبات في مختلف الميادين بسبب تحكّم رأس المال الأجنبي والعلاقات السابقة للرأسمالية التي يحتفظ بها المستعمرون، مما يؤدي إلى نشوء تناقض بالغ الحدّة بين البرجوازية الوطنية والبرجوازية الكومبرادورية من جهة، وبينها وبين البرجوازية الامبريالية من جهة ثانية.
من هنا تبرز موضوعياً مصلحة البرجوازية الوطنية في الثورة المعادية للإقطاع وللامبريالية. وقد قادت البرجوازية الوطنية في عدد من بلدان آسيا وإفريقية حقاً النضال السياسي الوطني لشعوبها، أو كانت إحدى القوى الرئيسية في الكتلة المعادية للامبريالية، واستطاعت أن تبرز من صفوفها زعماء وطنيين أفذاذاً، وأن تجتذب الجماهير ببرامج من أجل التحرر الوطني .
البرجوازية (من الفرنسية Bourgeoisie، ومن اللاتينية المتأخرة Burgus- المدينة المحصّنة) وكانت تعني أصلاً، في القرون الوسطى، سكان المدن المحصّنة من الفئات الاجتماعية الميسورة الأحوال التي هي وسط بين الشعب والنبلاء. بمعنى أنها طبقة اجتماعية محددة. وتضم الأشخاص ذوي الدخل المستقل، أو الذين يحققون لأنفسهم نوعاً من الاكتفاء الذاتي ولهم سمات وعادات اجتماعية خاصة بهم. ويعيش المنتمون إلى البرجوازية في الأغلب حياة ميسورة. وبتعبير آخر، تتألف البرجوازية من الأشخاص الذين لايمارسون أي مهنة من المهن اليدوية. وبهذا التحديد يخرج العمال والفلاحون وصغار الموظفين من إطار البرجوازية التي هي نقيض الطبقة العاملة (البروليتارية).
اتخذ مفهوم البرجوازية تاريخياً معاني مختلفة. ففي مطلع القرن الحادي عشر كانت كلمة Burgenses الفرنسية تعني سكان مدينة حديثة النشأة يعيشون نمطاً حياتياً جديداً في المدن خارج حدود الأرض التي يمتلكها الإقطاعي، ويمارسون في الغالب مهنة التجارة، ثم غدت كلمة Burgenses مرادفةً لكلمة تاجر قبل أن تأخذ الكلمة Bourgeois معناها المعروف في القرون الوسطى، إذ باتت تعني الشخص الذي يملك حقوقاً تتعلق بملكية قطعة أرض في المدينة أو بملكية عقارية. ثم تطور مفهوم البرجوازية في القرن الثامن عشر في فرنسة حتى صار يعني طبقة اجتماعية مؤلفة من التجار ومالكي العقارات وأصحاب المهن الحرّة، كما صار تعبير البرجوازية نظاماً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً أيضاً، إضافة إلى كونه يعبر عن ذهنية لها مظاهرها الخاصة التي نبعت من صميمها أفكار الثورة الفرنسية. فبعد أن اغتنت البرجوازية بفضل الامتيازات التي حصلت عليها وبفضل تطور التجارة، دخلت عالم الحياة السياسية، وصارت حليفة للنظام الملكي في مواجهة طبقة النبلاء المتمردة. وقد استمر هذا التحالف حتى نهاية القرن الثامن عشر حين قامت الثورة الفرنسية[ر] وأحدثت زلزالاً في العلاقة بين الملكية والبرجوازية.
تمثل البرجوازية مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي، وتُعد أساساً للكثير من الأفكار والمظاهر الاجتماعية الحديثة. فقد نشأت البرجوازية في أحشاء المجتمع الإقطاعي حاملة أسلوب الإنتاج الرأسمالي الأرقى وارتبطت بالتراكم الأولي لرأس المال الذي قام على انتزاع الأراضي وأدوات العمل من الجماهير الشعبية الواسعة. ومع تطور القوى المنتجة حلّت المانيفاكتورة (المصنع اليدوي) محل نظام الإنتاج الحرفي. ثم تلتها الصناعة الآلية الضخمة [ر: الثورة الصناعية] وامتلك رأس المال الصناعي وسائل الإنتاج وتركّزت ثروة مالية هائلة في أيدي البرجوازية. وتوطد النظام الرأسمالي بقيمه البرجوازية وأهمها: الفردية والمبادرة وفكرة الفرص المتكافئة والنجاح الشخصي أو ما يسمّى «أخلاق الإنجاز».
قامت البرجوازية في مراحلها الأولى بدور ثوري تقدمي في الصراع مع النظام الإقطاعي، فتحْتَ قيادة البرجوازية صُفِّيت العلاقات الإقطاعية وإسقاط التصوّر الطبقي الإقطاعي للإنسان. وقد أسهمت البرجوازية في تطوير العلم والتقانة (التكنولوجية) وفي رفع إنتاجية العمل، وحطّمت نمط الحياة الذي كان غالباً في العصور الوسطى.
وبنتيجة الثورات البرجوازية الممتدة من القرن السادس عشر إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر وصلت البرجوازية إلى السلطة السياسية وأصبحت هي الحاكمة في أغلب بلدان أوربة الغربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية. ومع تحوّل الرأسمالية إلى الامبريالية (أواخر القرن التاسع عشر) ثم إلى رأسمالية الدولة الاحتكارية (منذ الحرب العالمية الأولى تقريباً)، ومع دخول حكم الطبقة العاملة مسرح التاريخ تغير أثر البرجوازية في المجتمع تغيراً جذرياً، وصار نضال الطبقة العمالية الطليعية في مواجهة الرأسمالية مضمون المرحلة المعاصرة من تاريخ البشرية وسمتها الأساسية.
والبرجوازية من وجهة نظر كارل ماركس[ر] هي الطبقة الغالبة في المجتمع الرأسمالي، المالكة لكل وسائل الإنتاج والتبادل، المُسْتَغِلَّة للعمل المأجور.
تطورت البرجوازية في مختلف البلدان بصور مختلفة حددتها الخصوصيات القومية في تلك البلدان. كانت إنكلترة مثلاً بلد الثورة الصناعية الأول، في حين غابت المرحلة الإقطاعية في الولايات المتحدة، وتأخر التصنيع نسبياً في إيطالية. وفي سياق تطوّر مختلف أشكال رأسمالية الدولة الاحتكارية واتساع الثورة العلمية التقنية حدثت تطورات داخل البرجوازية، أدت عملية تمركز رأس المال والإنتاج وتجمعهما إلى إفلاس قسم كبير من الرأسماليين الصغار والمتوسطين، وقسم من الرأسماليين الكبار أيضاً، ممّا أدى إلى انخفاض نسبة الطبقة البرجوازية من مجموع السكان النشطاء اقتصادياً من ذوي المداخيل المستقلة، وكذلك من مجمل عدد السكان في البلدان الرأسمالية. وتحولت البرجوازية من طبقة كثيرة العدد نسبياً، في الماضي، إلى نخبة حاكمة قليلة العدد، ولكن بالغة التمركز والقوة في المجتمع.
وانقسمت البرجوازية بحسب مجالات استثمار رؤوس الأموال إلى برجوازية صناعية وتجارية ومصرفية وزراعية. أما بحسب حجوم مشروعاتها فقد انقسمت إلى برجوازية كبيرة ومتوسطة وصغيرة.
وتشغل البرجوازية الصغيرة وضعاً انتقالياً بين الطبقتين الرئيسيتين: الطبقة العاملة والبرجوازية. وتتألف بأكثريتها الساحقة من الفلاحين الصغار والمتوسطين في القرية ومن الحرفيين وصغار التجار وبقية مالكي المؤسسات الصغيرة في المدينة. والبرجوازية الصغيرة ليست متجانسة من حيث حجم ملكيتها، فإذ تقترب الشرائح العليا منها من البرجوازية تعيش الشرائح الدنيا منها أحياناً في ظروف أسوأ من ظروف العمال المَهَرَة في المصانع الكبرى. ولكن مهما ساء وضع البرجوازي الصغير فإنه يختلف عن العامل بأن لديه ملكية خاصة لوسائل الإنتاج. كما يتحدد الانتماء الطبقي للبرجوازي الصغير بأنه لا يقف في السوق الرأسمالية بائعاً لقوة عمله، بل بائعاً للسلع والخدمات التي ينتجها بنفسه.
وتبقى البرجوازية الصغيرة تؤلف جزءاً كبيراً من السكان العاملين، لكن أثرها الاقتصادي يتقلص باستمرار، لأن نمو الإنتاج وتمركزه يرافقهما دائماً اشتداد التنافس الذي يقود الآلاف من المزارعين والمنتجين الصغار والمتوسطين إلى الإفلاس في كل يوم نتيجة لتعرض البرجوازية الصغيرة المعاصرة للتمايز الطبقي الاجتماعي المستمر؛ فهي الشريحة الأقلّ استقراراً من قوام الطبقة البرجوازية، إذ تترك الأحوال الاقتصادية بصماتها على نفسية البرجوازي الصغير وتصوراته وأفكاره. ولما كان البرجوازي الصغير مالكاً وكادحاً في الوقت ذاته، تعاطف، بوصفه كادحاً، مع الطبقة العاملة يتضامن معها في الكثير من الأمور، وهذا سبب تمسُّكه بالديمقراطية والعدالة والمساواة والعداء للرأسمال الكبير وللاحتكارات. وبوصفه مالكاً يحسِد البرجوازي الكبير على ثرائه ووضعه، ويحلم بالوصول إلى مواقع الأقلية الممتازة. وهذا أساس ميله إلى المحافظة والفردية والخوف من الاشتراكية. فالبرجوازي الصغير يحاول عادة تجنّب الصدامات الطبقية الحادة، ويسعى إلى المحافظة على «الخط الوسط» في أوقات الهزات الاجتماعية والسياسية الكبرى. والمحدودية السياسية للبرجوازية الصغيرة هي السبب في أنها تنقاد بسهولة لغوغائية (ديماغوجية) الشرائح الأكثر رجعيةً من البرجوازية الكبيرة. وهذا ما حصل بوجه خاص في ألمانية النازية وإيطالية الفاشية، إذ استغلت النازية والفاشية الحاجات والمطالب الملحة للبرجوازية الصغيرة وعبثتا بحرصها وتطلعها إلى الإثراء وميلها إلى التشدُّد القومي. ولكن التاريخ يعرف غير قليل من الأمثلة التي وقفت البرجوازية الصغيرة فيها حليفاً للطبقة العاملة والبروليتارية. فقد كان الفلاحون والبرجوازيون الصغار القوة المحركة للثورة الإنكليزية في القرن السابع عشر، وللثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، وكذلك في ثورتي 1905 و1907 وثورة شباط 1917 في روسية وثورة تشرين الثاني 1918 في ألمانية.
في المرحلة المعاصرة يعد الإنتاج الصغير في البلدان النامية عاملاً أساسياً في التطور الاقتصادي لهذه البلدان. ويؤلف الفلاحون والحرفيون وصغار الكسبة فيها قوة مباشرة في الثورات الوطنية الديمقراطية المناهضة للإقطاع والامبريالية.
وقد أدى تطور رأسمالية الدولة الاحتكارية واتساع وظائف الدولة الرأسمالية المعاصرة ومهامها وتحوّلها إلى مالك كبير لوسائل الإنتاج إلى تعقّد بنية البرجوازية ودخول فئات اجتماعية جديدة إليها. وتحولت النخبة السياسية والعسكرية والبيروقراطية الرفيعة المستوى إلى فئة مستقلة من الطبقة البرجوازية السائدة. وظهرت شريحة جديدة من الرأسماليين هي شريحة البرجوازية الحكومية التي تضم رؤساء الشركات المؤممة والمشتركة. كما صار كبار المديرين Managers في الشركات الرأسمالية الخاصة جزءاً متزايد الأهمية من البرجوازية وإن لم يطرحوا أنفسهم فئة مستقلة منها.
وفي العقود المتأخرة من القرن العشرين، ومع توسّع مجالات الشركات العالمية، ظهرت فئة البرجوازية «المتعددة الجنسيات»، إذ أسهمت عالمية الإنتاج والرأسمال البرجوازي ونشاط الشركات المتعددة الجنسيات وانتشار طرق «الإدارة العلمية» للإنتاج في توحيد ذهنية البرجوازية المعاصرة وامِّحِاء الاختلافات الوطنية فيما بينها. وقد لامست هذه التغيرات إلى حد كبير البرجوازية الكبيرة والاحتكارية التي لم تعد تستغلّ العمال في بلدانها فحسب، بل وفي البلدان الأخرى أيضاً. وهذه الشريحة من البرجوازية قليلة العدد، ولكنها بالغة القوة الاقتصادية والمالية وتشغل مكان السيادة داخل البرجوازية الحكومية، وتضع يدها على المواقع الأساسية الاقتصادية والسياسية في البلدان الرأسمالية. وفي واقع الأمر هي التي تحدّد السياسة الداخلية والخارجية لهذه الدول وَفْق مصلحتها الخاصة وهي المسؤولة عن المشكلات الاجتماعية في هذه البلدان.
إلى جانب ذلك يتنامى أيضاً في عدد من البلدان المتقدمة ما يسمى «المجمعات الصناعيةـ الحربية»، أي تحالف الاحتكارات الصناعيةـ الحربية مع الأوساط الرجعية العسكرية والبيروقراطية. وتستغل البرجوازية الاحتكارية المعاصرة الدولة على نحو متزايد، وتلجأ إلى أسلوب برمجة الإنتاج والتنبؤ بتطوره، وإلى طريقة تمويل التقدم العلمي والتقني والإنتاج الحربي من قبل الدولة، وإلى أسلوب التكامل الامبريالي.
وفي سياق تطوّر المجتمع الرأسمالي وبتأثير التحولات الحاصلة في اقتصاده تطرأ جملة من التغيرات المهمة على الصفات الكمية والكيفية للطبقات والفئات الاجتماعية التي تؤلف قوام هذا المجتمع. فعلماء الاجتماع البرجوازيون يرون أن المجتمع البرجوازي يتحول إلى نظام اجتماعي متجانس يتألف من الفئات المتوسطة فقط. ويؤكدون أن الطبقة العاملة في سبيلها إلى الزوال متحولة إلى واحدة من «الفئات المتوسطة» لأن مستوى رفاهها قد ارتفع، ولأن عدد العمال الصناعيين في ظل التقدم العلمي والتقني والأتمتة الواسعة لعمليات الإنتاج لم يعد يتزايد كما كان من قبل، في حين يتزايد كثيراً عدد المثقفين والعاملين في ميادين الخدمات في الوقت الذي تنخفض فيه الفروق بين العاملين ذهنياً والعاملين عضلياً.
أما عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864-1920)، واضع نظرية الأنماط المثالية، فيرى أن العصور الغابرة والإقطاعية والرأسمالية ليست علاقات موجودة موضوعياً، وإنما هي وسائل للتنميط المثالي، والرأسمالية هي النمط الأمثل من بين الأنماط الاقتصادية، لأنّ سمتها الأساسية هي العقلانية ووجود المؤسسة المنظمة عقلانياً، ويعطي فيبر في علم الاجتماع السياسي اهتماماً كبيراً لتحليل صراعات المصالح بين مختلف فئات الطبقة الحاكمة مؤكداً أن الموقف من السلطة والاختلاف في الموقع والمكانة، وتقسيم الناس بحسب المؤشرات الدينية والأيديولوجية مهم تماماً مثل الاختلافات الناجمة عن علاقات الملكية الخاصة. ويرى فيبر أن الصراع الرئيسي في الحياة السياسية للدولة المعاصرة هو الصراع بين الأحزاب السياسية والجهاز البيروقراطي. وعموماً رفض فيبر إمكانية انتصار العلاقات الاشتراكية في المجتمع وطرح مقابل ذلك مقولة أن مجتمع المستقبل لن يكون «ديكتاتورية البروليتارية»، بل سيكون «ديكتاتورية البيروقراطية». ويمكن تمييز اتجاهين رئيسيين حول فيبر في الأدبيات الاجتماعية البرجوازية المعاصرة: الأول يتلخص في محاولة البرهنة على أن فيبر دحض الفهم المادي للتاريخ، وبرهن على أولوية العوامل الأخلاقية والدينية في التاريخ العالمي. أما الثاني فيعد فيبر متمماً للماركسية.
ولكن التغيرات الجارية في البنية الطبقية للبرجوازية تظهر الطابع التناحري لهذه البنية، وتكشف أن التناقضات الطبقية والاجتماعية الملازمة للمجتمع البرجوازي تزداد عمقاً واتساعاً. هذا في البلدان الرأسمالية، أما في البلدان التابعة والمستقلة حديثاً والنامية، فهناك نوعان من البرجوازية: الكومبرادورية التجارية (الوسيطة) والوطنية. ولأنه لا توجد في معظم هذه البلدان برجوازية صناعية قوية، فإن البرجوازية التجارية المؤلفة من المضاربين والوسطاء الطفيليين ومقاولي أعمال البناء الذين يستثمرون أموالهم في مجالات غير منتجة هم الذين يحددون وجه الطبقة الرأسمالية الموالية للامبريالية التي تقوم بدور الوسيط في خدمة رأس المال الأجنبي، وتؤدي وظيفة السند الاجتماعي للاستعمار الجديد بحكم مصالحها المرتبطة بالعالم الخارجي، وتمثل البرجوازية الوطنية فئة أصحاب العمل المحليين الذي لهم مصلحة في التطور الاقتصادي والسياسي المستقلين لبلدانهم، إذ يواجه هذا التطور عقبات في مختلف الميادين بسبب تحكّم رأس المال الأجنبي والعلاقات السابقة للرأسمالية التي يحتفظ بها المستعمرون، مما يؤدي إلى نشوء تناقض بالغ الحدّة بين البرجوازية الوطنية والبرجوازية الكومبرادورية من جهة، وبينها وبين البرجوازية الامبريالية من جهة ثانية.
من هنا تبرز موضوعياً مصلحة البرجوازية الوطنية في الثورة المعادية للإقطاع وللامبريالية. وقد قادت البرجوازية الوطنية في عدد من بلدان آسيا وإفريقية حقاً النضال السياسي الوطني لشعوبها، أو كانت إحدى القوى الرئيسية في الكتلة المعادية للامبريالية، واستطاعت أن تبرز من صفوفها زعماء وطنيين أفذاذاً، وأن تجتذب الجماهير ببرامج من أجل التحرر الوطني .