منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#34575
مقدمـــــة:

للمملكة العربية السعودية دور رائد في تأسيس المنظمات السياسية الإقليمية والعربية والإسلامية والدولية ودعمها . وقد كان هذا الدور واضحاً لمن يتمعن تطور السياسة الخارجية السعودية في عهد الملك عبد العزيز، ثم اهتمامها المستمر بالنهج نفسه حتى الوقت الحاضر. وعلى الرغم من هذه الحقيقة إلا أن سياسة المملكة القائمة على أصول إسلامية لا تهتم كثيراً بالدعاية لما تقوم به، إيماناً منها بأنه من واجباتها تجاه الأمة العربية والإسلامية والمجتمع الدولي. وإزاء هذا الواقع ولتجلية هذا الدور، ووضع النقاط على الحروف، ستركز هذه الدراسة على بيان أسس السياسة الخارجية السعودية وأصولها ومبادئها التي أقام لبنتها الملك عبد العزيز، ثم دورها المؤسس والداعم لأربع من المنظمات السياسية المهمة في الوقت الحاضر، وهي مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وجامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة الأمم المتحدة.

وفي الحقيقة فقد اضطلعت المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها على يد الملك عبد العزيز – يرحمه الله – بمسؤوليات جسام تجاه أبنائها خاصة، وتجاه أبناء الأمة العربية والإسلامية، ثم تجاه المجتمع الإنساني. ومن الأمور الجوهرية في بناء الدولة السعودية وخدمة أبنائها ومصالحها الاهتمام بعلاقاتها الخارجية. لقد قامت المملكة العربية السعودية على إرث إسلامي مكين بناه الرسول ، e، ثم طبق مبادئه خلفاؤه الراشدون من بعده، ثم زعماء الأمة الإسلامية حتى العصر الحديث.

ومن الأسس الجوهرية في بناء المملكة العربية السعودية هو وحدتها الوطنية التي بدأها الملك عبد العزيز باستعادة الرياض عام 1319هـ/ 1902م، ثم توحيد بلاد نجد، والمنطقة الشرقية من شبه الجزيرة العربية، والحجاز والمنطقة الجنوبية والشمالية. وقد أثبتت الأيام أن توحيد البلاد السعودية جلب لها الاستقرار بعد الفرقة، والأمن بعد الخوف، وانبساط النعمة بعد الجوع والفاقة.



وعطفاً على هذه الخلفية، ولأهمية العمل الجماعي وفوائده فليس غريباً أن تهتم المملكة العربية السعودية وتشجع، بل وتكون من المؤسسين لأربع من المنظمات السياسية الإقليمية والعربية والإسلامية والدولية. فالتاريخ يشهد للمملكة دورها المؤسس والداعم لمجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 1401هـ/1981م، ومن قبله منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1389هـ/ 1969م. كما أن المملكة من الدول العربية السبع التي أسست جامعة الدول العربية عام 1364هـ/1945م. والمملكة من الدول الإحدى والخمسين المؤسسة لهيئة الأمم المتحدة على أنقاض عصبة الأمم عام 1364هـ/1945م.

ولم تكتف المملكة العربية السعودية بدورها المؤسس لهذه المنظمات ، بل كانت ترى عليها واجباً أخوياً وعربياً وإسلامياً وإنسانياً في دعم مواثيق هذه المنظمات مادياً وأدبياً، وتطوير مؤسساتها وأنشطتها المتعددة. من أجل ذلك كانت المملكة تتحمل تبعات كبيرة لم تمن بها ولم تفاخر بها، بل كانت تعمل بصمت، وهو ما جعلها تكسب احترام العالم أجمع.

وإيماناً بأهمية دور المملكة العربية السعودية الرائد في جميع المحافل الدولية والإقليمية حرص قادة هذه البلاد منذ عهد مؤسسها الملك عبد العزيز – يرحمه الله – حتى الوقت الحاضر على الإسهام بدور مؤثر في تأسيس أهم المنظمات العالمية والإقليمية ودعمها ، وهي بحسب تاريخ تأسيسها :

1– منظمة الأمم المتحدة.

2– جامعة الدول العربية.

3– منظمة المؤتمر الإسلامي.

4– مجلس التعاون لدول الخليج العربية.

وتمهيداً لدور المملكة في العمل السياسي سنستعرض في هذه الدراسة ملامح السياسة الخارجية السعودية ومرتكزاتها في عهد الملك عبد العزيز، وبداية التمثيل الدبلوماسي الخارجي في البلاد السعودية، ونشأة التمثيل الدبلوماسي وتطوره للمملكة العربية السعودية في الدول الخارجية. كما سنعرض لظروف تأسيس المنظمات السياسية الإقليمية والدولية من جهة، وإبراز دور المملكة العربية السعودية المؤثر في مجال التعاون الدولي من خلال جهودها في تأسيس هذه المنظمات ودعمها من جهة أخرى.

وحيث إن هذه الدراسة مقدمة إلى مؤتمر المملكة في مائة عام، وتمشياً مع الضوابط التي تحكم أبحاث المؤتمر، خاصة ما يتعلق بحجم الأبحاث؛ ونظراً لاشتمال هذه الدراسة على دراسة أربع منظمات سياسية عربية ودولية بالإضافة إلى دراسة منطلقات السياسة الخارجية السعودية التي كانت العامل المؤثر في دور المملكة تجاه تلك المنظمات، فقد اقتصرت هذه الدراسة على إيراد الخطوط العريضة لهذا الدور، دون الدخول في التفصيلات الكثيرة التي تحتاجها تلك الموضوعات لو درست بشكل منفرد. ولأهمية المباحث التي شملتها الدراسة فقد اشتملت هوامش البحث وكذلك قائمة المصادر والمراجع على مجموعة مختارة من المصادر التي تناولت تلك الموضوعات بشكل مفصل، والتي يمكن الرجوع إليها في هذا الخصوص.



معالم السياسة الخارجية السعودية وتطورها :

لم تكن الدولة السعودية حديثة العهد بالسياسة الخارجية، فقد كان للدولة السعودية الأولى والثانية اتصالات سياسية بالدول العربية والإسلامية القائمة في ذلك الوقت، كما كان لهاتين الدولتين اتصالات سياسية مع الدول الأوربية، وخاصة بريطانيا وفرنسا، اللتين حرصتا على قيام نوع من العلاقة والاتصال بينهما كل على حدة وبين الدولة السعودية، ضماناً لمصالحهما في الشرق. وكانت بريطانيا تسعى إلى ضمان استقرار نفوذها في الخليج العربي من خلال العمل مع الدولة السعودية الأولى ثم الثانية، لما لهما من نفوذ قوي في المناطق الشرقية من الجزيرة العربية، وخاصة بلاد الخليج في تلك الحقبة.

وخلال السنوات الأولى من القرن الرابع عشر الهجري/ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، تشرب الملك عبد العزيز مبادئ السياسة عموماً، وملامح السياسة الدولية خصوصاً، وهو في سن الشباب عندما كان في الكويت مع والده الإمام عبد الرحمن، بعد سقوط الدولة السعودية الثانية. ففي ذلك الوقت كانت الكويت تعج بالمباحثات والتحاورات السياسية في مجلس الشيخ مبارك الصباح أمير الكويت بين ممثلي الدول العظمى في ذلك الوقت بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والدولة العثمانية. وقد أظهر الملك عبد العزيز، منذ صغره، نباهة فائقة مما دعا الشيخ مبارك إلى أن يفسح له المجال في حضور تلك المجالس ، بل والمشاركة أحياناً في بعض المناقشات. ولا شك أن هذه المواهب والخبرات والتجارب التي عايشها الملك عبد العزيز كان لها أثر إيجابي عليه خلال حكمه الذي تجاوز الخمسين عاماً.([1])

وبعد قيام الدولة السعودية الحديثة باستعادة الملك عبد العزيز الرياض في 5 شوال 1319هـ/ 14 يناير 1902م، وما أعقب ذلك من سعيه المتزن لاستعادة باقي بلاد شبه الجزيرة العربية التي كانت تحت سلطة كل من الدولة السعودية الأولى والثانية، كان رسم السياسة الخارجية السعودية مرتبطاً بالملك عبد العزيز مباشرة. وقد بدأت الدولة الوليدة تنفتح على العالم الخارجي، وتهتم بمفهوم السياسة والعلاقات الدولية، لكن بداية هذه العلاقات والاهتمام السياسي الخارجي ظل محدوداً، وكان يرتبط مباشرة بالوضع الذي كانت عليه الدولة، حيث اقتصر في البداية على إقامة صلات محدودة مع كل من بريطانيا والدولة العثمانية؛ نظراً لنفوذهما وتواجدهما في الساحة العربية والخليجية. ومن جهة أخرى كان الملك عبد العزيز، خلال تلك الحقبة وما بعدها على اتصال بالعالم الخارجي عن طريق ممثلي الدول الأجنبية الكبرى في الخليج.

ومما يجدر التنبيه إليه هنا هو أن رسم السياسة الخارجية للدولة السعودية والموازنة بين المصالح المتضاربة للدول الكبرى كان يقوم به الملك عبد العزيز شخصياً، حيث لم يكن هناك وزارة للخارجية أو وزير للشؤون الخارجية، ولذلك كان الملك عبد العزيز يقوم بالاتصالات والمكاتبات مع تلك الدول، ويتلقى أجوبتها، ويقوم بالتفاوض معها، وكانت المعاهدات والاتفاقيات والبروتوكولات والرسائل تمهر بخاتمه الشخصي.([2]) وبذلك يمكن القول: إن الملك عبد العزيز كان يشرف بنفسه على الشؤون الخارجية للدولة السعودية الفتية .

ولا شك أن قيام الدولة السعودية على يد الملك عبد العزيز أحدث تغيراً في إستراتيجيات الدول الكبرى في نظرتها السياسية لهذه المنطقة، ولذلك نرى تلك الدول تتسابق في إرسال المبعوثين والمندوبين للالتقاء بالملك عبد العزيز ، وسبر غور السياسة السعوديــــة. ففي أبريـــل عام 1909م قام الكابـــتن شكسبير Captain William Henry Shakespeare، المعتمد السياسي البريطاني في الكويت، برحلة عبر الجزيرة العربية قابل خلالها الملك عبد العزيز.([3]) وفي عام 1912م قام الرحالة الدانمركي باركلي راونكيـــار Barclay Raunkiaer الذي كـــان يعمــــل لصـــالح ألمانيا بزيـــارة إلى الدولــــة السعوديـــة حيث قابل الملك عبد العزيز ووالده الإمام عبد الرحمن.([4]) وبعد أن استطاع الملك عبد العزيز ضم الأحساء عام 1330هـ/1913م، واتصلت بلاده بدول الخليج وانفتاحه على العالم عن طريق البحر لأول مرة، ازداد اهتمام الدول الغربية بما يجري في الجزيرة العربية. وخلال تلك الحقبة قابل الملك عبد العزيز عدداً من المبعوثين الأجانب. ففي عام 1917م قامت بعثـــة تألفت من جـــون فلبي H. St. John Philby والجنرال مارشــال General Marshall والكولونيـــل كنليف أويـــن Col. Cunliffe Owen والكولونيل هملتـــون Col. R. E. A. Hamilton الوكيـــل السياسي البريطاني في الكويت برحلة إلى الجزيرة العربية حيث قابل أعضاء البعثة الملك عبد العزيز في شهر نوفمبر من السنة نفسها.([5]) وفي مناسبات أخرى قابل الملك عبد العزيز مبعوثين آخرين من الدول الأوربية مثــــل برســــي كوكس Sir Percy Cox، وكذلـــك ستورس Ronald Storrs ورفيقــه هوغارث D. G. Hogarth.([6])

وهكذا نلحظ أن الملك عبد العزيز ارتبط بصلات قوية مع معظم الدول الأوربية دون أن يؤثر ذلك على مصلحة بلاده واستقلالها، أو أن ينحاز إلى طرف دون الآخر ، فكسب بذلك احترام العالم أجمع. يقول فلبي، الذي تربطه علاقة قوية بالملك عبد العزيز، عن موقف الملك خلال الحرب العالمية الأولى: "ولكن ابن سعود لا ينبغي أن يحسب من بين حلفائنا. فهو من الناحية الفعلية محايد، مهما كان طيباً معنا، ومن الناحية القانونية، وفي حكمته التي لا يسبر غورها، متجاهل لحالة الحرب المحيطة ببلاده من كل جانب... وبدون أن يخسر مثقال ذرة من صداقته الطويلة مع بريطانيا، فإن ابن سعود يقود سفينته بمهارة بين صخور محيط الدبلوماسية"([7]) .

ومن ناحية أخرى فيدل على اهتمام الملك عبدالعزيز بعلاقات بلاده الخارجية والتوازن الدولي في الخليج والعلاقات مع كل من بريطانيا والدولة العثمانية، أنه كان لديه عددٌ من المساعدين الذين يتولون مهام تتعلق بالعلاقات مع الدول الخارجية ومنها الدول الأوربية، مثل الأمير أحمد بن عبد الله بن ثنيان، الذي عاش مدة في تركيا، وكذلك الدكتور عبدالله الدملوجي، الذي كان مستشاراً للملك عبد العزيز ، وقام بأعمال ابن ثنيان بعد ذلك. وفي أوائل عام 1342هـ/ 1923م انضم كل من حمزة غوث وحافظ وهبة مستشارين للملك عبد العزيز للشؤون الخارجية، وخاصة في المهمات الرسمية. ومن المستشارين في الشؤون الخارجية كل من يوسف ياسين، ورشاد فرعون، وفؤاد حمزة، وخير الدين الزركلي، ورشيد عالي الكيلاني، وخالد أبو الوليد القرقني، وبشير السعداوي.([8])

وقبل العهد السعودي لم يكن هناك تمثيل سياسي أو دبلوماسي للدول الأجنبية، عدا بعض قنصليات الدول الكبرى في جدة. فحتى عام 1296هـ/ 1879م كان هناك ثلاث قنصليات لبريطانيا وفرنسا وهولندا، وكانت مهمتها الرئيسة رعاية شؤون الحجاج من رعايا تلك الدول. وكانت هذه القنصليات على قلتها تؤدي أعمالاً رسميـــة وتجارية بقدر محدود من العاملين. فقد كان القنصل البريطاني – على سبيل المثـــال – يقوم بأعماله في دار للقنصلية نصفها للأعمال الرسمية والنصف الآخر يهتم بالشؤون التجارية، وكانت القنصلية البريطانية تتكون من أربعة أشخاص، يديرون أعمالها.([9])

ومن جهة أخرى كان الوضع الأمني في الحجاز قبل العهد السعودي هو الهاجس الدائم للعاملين في تلك القنصليات، أو ممثلي الدول التي لم تفتتح قنصليات في جدة. وقد حدثت حوادث عدة راح ضحيتها كثير من مسؤولي الدول الأجنبية ورعاياها. ففي عام 1274هـ/ 1858م حصل خلاف بين الوكالة البريطانية في جدة والسلطات المحلية المسؤولة هناك، بشأن إحدى البواخر، فحصلت من جراء ذلك فوضى، وقد تعرض منزلا القنصلين البريطاني والفرنسي إلى اعتداء، وقتل نائب القنصل البريطاني، وكذلك القنصل الفرنسي وزوجته، كما قتل نحو عشرين شخصاً، وأصيب أكثر منهم. وقد كان لهذا الحادث آثار عكسية، سياسية وأمنية استدعى التدخل العسكري.([10]) كما حصل حادث مشابه، وذلك عندما هاجم بعض البدو جماعة من القناصل خارج سور جدة عام 1312هـ/ 1895م. وقد قتل في هذا الحادث القنصل الروسي، ونائب القنصل الهندي. ولا شك أن اللائمة في حصول هذه الحوادث تقع على حكومة الأشراف ؛ لأن الدولة العثمانية لا تستطيع التدخل في مثل هذه الأمور.

وبعد أن ضم الملك عبد العزيز الحجاز ظهر الاهتمام واضحاً بالسياسة الخارجية للدولة السعودية، خاصة بعد ضم مدينة جدة في 7 جمادى الآخرة عام 1344هـ/ 24 ديسمبر 1925م، التي تضم عدداً من قنصليات الدول الإسلامية والعالمية، التي كان من ضمن اهتماماتها رعاية الحجاج التابعين لها.

وغني عن القول أن المملكة العربية السعودية كانت منذ تأسيسها وما زالت تتميز بصفتين أساسيتين هما: النظام السياسي المحافظ، والاتجاه الديني، وهما من السمات الأساسية المؤثرة والمحركة لأهداف السياسة الخارجية السعودية ومصالحها في الإطارين الإقليمي والدولي. لقد اتصفت سياسة المملكة منذ تأسيسها على السير على هدي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والالتزام بالشريعة الإسلامية في النهج السياسي، وفي علاقاتها الدبلوماسية، وفي تنفيذ العهود والمواثيق، واحترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والعدل في الرعية ورعايا الدول الأجنبية العاملين في أراضيها أو الزائرين لها.([11]) ولا شك أن النجاح الذي حققته المملكة في سياستها الخارجية وفي علاقاتها الدولية ناتج عن تمسكها بالمبادئ الإسلامية في معاملاتها، واحتكامها إلى الشريعة الإسلامية في المجالات الدولية، العامة والخاصة، وهو بلا شك أسلم وآمن من القوانين الوضعية.([12])

أما التشكيل الإداري المنوط به تنفيذ السياسة الخارجية السعودية فقد بدأ عام 1344هـ/ 1925م عندما أنشئت شعبة خاصة للشؤون الخارجية مقرها مكة المكرمة. وفي 21 صفر 1345هـ/ 1926م تأسست مديرية الشؤون الخارجية نتيجةً حتمية لازدياد رقعة الدولة وارتباطها بالدول الخارجية وتطور الوسائل العصرية.([13])

وفي شهر رجب عام 1349م/ نوفمبر 1930م صدرت إرادة ملكية بتحويل شعبة الشؤون الخارجية إلى وزارة للخارجية، حيث عين الأمير فيصل بن عبد العزيز أول وزير خارجية للمملكة العربية السعودية.([14])

أما التفاعل الدولي مع قيام الدولة السعودية والاعتراف بها فقد حصل بشكل واضح بعد استعادة الملك عبد العزيز الحجاز، حيث بعثت قنصليات الدول الأوربية وغيرها تقارير إلى حكوماتها مفيدة باستقرار الأوضاع الأمنية والسياسية في البلاد السعودية، وأوصت حكوماتها بالإسراع في الاعتراف بالحكم السعودي. ومن أهم الدول الأجنبية التي اعترفت بحكم الملك عبد العزيز في ذلك الوقت كل من حكومة الاتحاد السوفيتي، ثم الحكومة البريطانية، ثم الحكومة الهولندية، فالحكومة الفرنسية، والحكومة التركية. وفي عام 1345هـ/ 1927م اعترفت الحكومة السويسرية بالدولة السعودية، كما اعترفت بها إيران في عام 1348هـ/ 1929م، ثم تواصل اعتراف الدول تباعاً حتى بلغ عدد الدول التي اعترفت بالدولة السعودية حتى عام 1367هـ/ 1948م ستاً وعشرين دولة.([15])

وللمعاملة بالمثل أقامت المملكة عدداً من السفارات والمفوضيات والقنصليات السعودية في الخارج. ففي وقت مبكر من قيام التمثيل الدبلوماسي السعودي افتتحت السفارات السعودية في كل من لندن وواشنطن والقاهرة، ومفوضيات في كل من تركيا وإندونيسيا والأردن وإيطاليا وأفغانستان، وقنصليات في كل من القدس ونيويورك والسويس والبصرة وبومباي. وبعد ذلك تتابع افتتاح السفارات والممثليات والقنصليات في الدول الخارجية.([16])

ويمكن وصف تطور الدبلوماسية السعودية منذ إنشائها في عهد الملك عبد العزيز – يرحمه الله – حتى الوقت الحاضر بأنها مرت بعدة مراحل. فعلى الرغم من تطور علاقات المملكة في عهد الملك عبد العزيز مع دول العالم فقد تميزت السياسة السعودية في ذلك الوقت بتجنب الدخول في إشكاليات أو تعقيدات في علاقاتها الخارجية، وذلك لكي تتفرغ الدولة لتثبيت الكيان الداخلي الذي كان حديث عهد بالتكوين والبناء . وقد أصبح للمملكة دور مؤثر ومعروف بالسياسة الهادئة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة أخرى. ثم تلا تلك المرحلة استقرار الدولة في بداية عهد الملك سعود، وانصرافها إلى البناء الداخلي وتجنب الدخول في مشكلات الدول الأخرى. وقد تميزت تلك الحقبة بمحاولة كثير من الدول العربية التحرر من هيمنة الدول الاستعمارية. وعلى الرغم من تأييد المملكة ومساعدتها لتلك الدول في سعيها للاستقلال، إلا أنها، بالإضافة إلى ذلك انتهجت سياسة دعم مطالب هذه الدول حيث قامت بدور مؤثر في هيئة الأمم المتحدة والمنظمات المناهضة للاستعمار. وفي عهد الملك فيصل اتسمت سياسة المملكة الخارجية بدورها النشط لإعادة توحيد الصف العربي أمام المخاطر التي واجهت البلاد العربية، والعمل على منع التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية. ومنذ منتصف الستينيات من القرن العشرين الميلادي، أي في عهد الملك خالد، ونتيجة للعدوان الصهيوني على البلاد العربية واحتلال القدس الشريف، أخذت سياسة المملكة العربية السعودية منحى جديداً تمثل في القيام بمبادرات سياسية تبناها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز حتى قبل أن يتولى الحكم. ومن هذه المبادرات مشروع السلام الذي اقترحه الملك فهد باسم المملكة ، وقدم إلى مؤتمر القمة العربي الثاني عشر الذي عقد في مدينة فاس بالمملكة المغربية في 7 شوال 1410هـ / 7 أغسطس 1981م . كما كان للمملكة دور رائد في المجال الاقتصادي داخلياً وخارجياً. وقد تبوأت المملكة نتيجة لذلك مكانة دولية مكنتها من أخذ زمام المبادرة للعمل على حل القضايا العربية والإسلامية العالقة، وبهذا أصبحت المملكة قوة سياسية مؤثرة في المجتمع الدولي.([17])



المملكة العربية السعودية ومنظمة الأمم المتحدة:

لقد تبين من خلال استعراض ثوابت السياسة الخارجية السعودية ومقوماتها منذ قيام الدولة السعودية الحديثة في عهد الملك عبد العزيز، المركز القوي الذي تبوأته المملكة العربية السعودية خلال العقود الماضية. وبسبب ذلك حققت المملكة نجاحاً واضحاً في علاقاتها الدولية، مكّنها من أن تحظى باحترام جميع الدول . ومن غير شك فإن هذه الثوابت – بالإضافة إلى الاستقرار السياسي الذي نعمت به البلاد بعد استكمال وحدتها – كانت من أهم العوامل التي أكسبت الدولة السعودية مكانة عالمية. ولهذه المكانة سعت الدول الكبرى المشتركة في عصبة الأمم – وهي التجمع العالمي الوحيد قبل قيام هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية – مراراً إلى إقناع الملك عبد العزيز بالانضمام إلى هذه العصبة، في البداية بالمقعد نفسه المخصص للشريف حسين، ثم باسم ملك الحجاز بعد ضم الحجاز إلى الدولة السعودية. وكانت وجهة نظر الملك بد العزيز في عدم الانضمام إلى عصبة الأمم أن انضمامه إليها يلزمه بقبول ميثاقها، وما فيه من مواد تتعلق بإحداث نظام الانتداب، الذي لا يقره الملك عبد العزيز أصلاً. ولم يغير الملك عبد العزيز موقفه الثابت هذا حتى استبدلت عصبة الأمم بهيئة الأمم المتحدة وتغير بناءاً على ذلك ميثاقها([18]).

والواقع أن الدولة السعودية في عهد الملك عبد العزيز كانت حريصة على كل ما من شأنه دعم السلم العالمي، وحفظ الأمن، وتجنيب البلاد والعباد ويلات الحروب. ومما قامت به في هذا المجال أنها اشتركت في التوقيع على ميثاق تحريم الحرب (ميثاق كلوج – بريان) في 27 أغسطس 1928م في باريس، مع أنها ليست عضواً في عصبة الأمم المتحدة، التي كانت تتولى رعاية هذه الأنظمة قبل أن تؤسس هيئة الأمم . وقد صدر أمر ملكي بالانضمام إلى هذه المعاهدة جاء فيه: "نحن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها. بعد الاعتماد على الله، وبعد الاطلاع على دعوة حكومة الولايات المتحدة الأمريكية الموجهة إلى حكومتنا بتاريخ أول أكتوبر سنة 1931 الموافق 18 جمادى الأولى سنة 1350هـ بشأن الانضمام إلى معاهدة تحريم الحرب الموقع عليها في باريس في 27 أغسطس سنة 1928م، وبعد الاطلاع على المادة الثالثة من المعاهدة السالفة الذكر، قد أصدرنا إرادتنا الملكية بانضمام حكومتنا إلى هذه المعاهدة المعروفة باسم معاهدة تحريم الحرب الموقع عليها في باريس في 27 أغسطس سنة 1928م، وبإعلان سريان مفعول تلك المعاهدة على العلاقات التي بيننا وبين الدول التي وقعت عليها أو انضمت إليها فيما بعد اعتباراً من تاريخه، وأذنا لحكومتنا باتخاذ التدابير اللازمة لإنفاذ ذلك. حرر في قصرنا في هذا اليوم 30 رجب سنة 1350هـ الموافق 10 ديسمبر سنة 1931م" ([19]).

ليس هذا فحسب، بل إن المملكة كانت حريصة على كيان المجتمعات ودرء المخاطر عنها والأخذ بأسباب الحيطة لما يسعى إليه ضعاف النفوس من الاتجار على حساب صحة الشعوب وسلامتها . ولتحقيق هذا الهدف اشتركت المملكة في مؤتمر عقدته عصبة الأمم في جنيف، حضره مندوبو 34 دولة، وذلك للنظر في تحديد المواد المخدرة وتنظيمها . وقد مثل المملكة سفيرها في لندن، حيث وقع على ما جاء في هذه الاتفاقية ؛ لأنها تتمشى مع سياسة المملكة في الحفاظ على بنية المجتمعات، وتتوافق مع النظام المعمول به في المملكة. وقد أقر الملك عبد العزيز هذه الاتفاقية، حيث جاء في قرار الموافقة عليها ما نصه: "وحيث إنه سبق لحكومتنا أن سنّت نظاماً سمته (نظام منع الاتجار بالمواد المخدرة) بتاريخ 27 جمادى الأولى سنة 1353هـ / 7 ديسمبر 1934م، فإن الاتفاقية التي وضعت في جنيف بتاريخ 13 يوليو سنة 1931م المشار إليها أعلاه نوافق عليها ؛ لأنها تحقق قسماً من الرغبة التي نرغبها لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في بلادنا، والتي تحظر حظراً باتّاً، أكثر من تلك الاتفاقية، منع تلك المواد والمتاجرة بها. حرر في قصرنا في الرياض يوم أول جمادى الأولى سنة 1355هـ/ 20 يوليو 1936م" . وفي المجال نفسه كانت حكومة الملك عبدالعزيز وانضمت إلى الاتفاقية الدولية للأفيون الموقعة في لاهاي في 23 يناير سنة 1912م ، وأبلغت ذلك إلى الأمانة العامة لعصبة الأمم.([20]) هذه المشاركة المؤثرة والإحساس القوي من جانب المملكة العربية السعودية، وعلى رأسها جلالة الملك عبد العزيز، تؤكد الحرص على التعاون مع الدول الأخرى فيما يخدم شعوب العالم ودولها أجمع.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية فكّر الحلفاء الذين انتصروا في تلك الحرب على تطوير عصبة الأمم لتكون هيئة عالمية. وبرغبة أكيدة من الملك عبد العزيز في العمل مع الدول الكبرى، والسعي معها في دعم السلم العالمي، بعث إلى ابنه الأمير فيصل في 15 ربيع الأول 1364هـ/ أول مارس 1945م، تعليمات بهذا الخصوص. ونتيجة لذلك بعث الأمير فيصل إلى نائب وزير الخارجية الأمريكية مبدياً رغبة المملكة العربية السعودية في تضامنها وتعاونها مع الأمم المتحدة ضد دول المحور، وأنها قررت الاشتراك في تصريح الأمم المتحدة الصادر في أول يناير 1942م، وهو ما خولها لأن تعد نفسها منضمَّة إلى هذا التصريح.([21]) وقد بعث نائب وزير الخارجية الأمريكية مرحباً بقرار المملكة المشاركة في ذلك التصريح، مما جعل عدد أعضاء الأمم المتحدة الذين اشتركوا في تصريح الأمم المتحدة يصل إلى خمسة وأربعين عضواً.([22]) وقد تلقت حكومة المملكة العربية السعودية دعوة حكومات الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وروسيا والصين لحضور مؤتمر الأمم المتحدة التمهيدي الذي عقد في مدينة سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأمريكية في 13 جمادى الأولى سنة 1364هـ/ 25 أبريل 1945م للتشاور في إنشاء هيئة الأمم المتحدة. وقد قبلت الحكومة السعودية الدعوة، وبعث الملك عبد العزيز ابنه الأمير فيصل ليرأس وفد المملكة العربية السعودية للتوقيع على تصريح الأمم المتحدة. وقد ألقى الأمير فيصل كلمة أكد فيها ضرورة قيام هذه المنظمة، وأهمية المبادئ التي تنادي بها، مؤكداً على ثوابت السياسة السعودية القائمة على مبادئ الإسلام السامية التي تلتقي معها أهداف المنظمة. ومما قاله الأمير فيصل في هذا الصدد: "إن الحكومة العربية السعودية لتنضمُّ إلى الأمم المتحدة في تصريحها القائل بأن مبادئ السلم والعدالة والحق يجب أن تسود أنحاء العالم، وإن العلاقات الدولية يجب أن تقوم على هذه المبادئ... وأن من دواعي اغتباطي العظيم أن أقول: إن هذه المبادئ تطابق تعاليم الدين الإسلامي الذي يعتنقه 400 مليون مسلم في العالم، وهي التعاليم التي اتخذت الحكومة السعودية منها دستوراً تسير على هديه. ولا غرو فإن الإسلام قد أقام العلاقات البشرية على قواعد الحق والعدالة والسلم والإخاء"([23]) ولا شك أن الأمير فيصلاً في خطابه هذا يؤكد أن سياسة المملكة، في انضمامها إلى الأمم المتحدة، لا يمكن أن تتعارض مع ما ارتضته الدولة السعودية من كونها دولة قامت على أسس إسلامية واضحة.

وقد تم في نهاية هذا المؤتمر التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة، حيث وقعه نيابة عن حكومة المملكة العربية السعودية الأمير فيصل بن عبد العزيز في مدينة سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية في شهر شوال سنة 1366هـ/ 26 يونيو 1945م. وفي هذه المناسبة ألقى الأمير فيصل كلمة بيّن فيها تطلعاته بأن تخدم هذه المنظمة آمال شعوب الأمم الصغيرة وتطلعاتها ، وأن تعمل على تحقيق السلام العالمي المنشود. وقد دافع سموه في هذا المؤتمر عن حقوق العرب عامة، واحتفظ لحكومته بكامل حقها في التصرف على حسب الطريقة التي تراها مناسبة دون التقيد ببعض قرارات هذا المؤتمر التي صاغته الدول الكبرى لتحقيق أهدافها. وعلى الرغم من انضمام المملكة العربية السعودية إلى هيئة الأمم المتحدة إلا أن ذلك لم يغير شيئاً من ثوابتها الإسلامية التي قامت على أساسها. ومما يشهد للملك عبد العزيز بالفخر والاعتزاز أنه عندما طلبت هيئة الأمم المتحدة من الحكومات الأعضاء فيها موافاتها بنسخة من دساتيرها لتحتفظ بها وثائقاً رسمية، طلب الملك عبد العزيز أن تبعث حكومته إلى الهيئة العالمية ما يفيد بأن القرآن هو دستورها الوحيد، وأن أحكامه نافذة في كل أنحاء البلاد. وبذلك سمع العالم أجمع بهذه الدولة الإسلامية التي تطبق أحكام القرآن، وما زالت على هذا النهج بعد أكثر من خمسين عاماً على إنشاء الأمم المتحدة.([24]) ففي كلمة له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1408هـ/1987م، قال سمو الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية: "إن السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية، التي تدين بالدين الإسلامي، وتطبق الشريعة الإسلامية السمحة، تسير على أساس أن المبادئ التي ارتكزت عليها منظمة الأمم المتحدة والأهداف النبيلة التي من أجلها وضع ميثاقها، فيها تأكيد لما تقرره الشريعة الإسلامية من تنظيم للعلاقات بين الدول" ([25]).

والمملكة بموقفها هذا لا تتوقع أن تحقق الأمم المتحدة – بميثاقها أو تطبيق اختصاصاتها – كل ما تتمناه شعوب العالم، وخاصة العالم الثالث، الذي لم يكن له رأي أو إرادة في إنشاء هذه الهيئة العالمية، لكن وجود هذه المنظمة هو وسيلة لتحقيق أهم أهدافها. وقد بين الأمير فيصل بن عبد العزيز عند إنشاء الأمم المتحدة بعض القضايا، حيث ركز على "أن هذا الميثاق (ميثاق الأمم المتحدة) لا يدل على الكمال، كما كانت تتوقع الأمم الصغيرة التي كانت تأمل أن يحقق المثل العليا، على أنه كان خطوة كبيرة إليها، وسنعمل كلنا للمحافظة عليه، وسيكون الأساس المتين الذي يبنى عليه صرح السلام العالمي"([26]) . وفي أواخر عام 1364هـ/ آخر سبتمبر 1945م، وقع الملك عبد العزيز مرسوماً ملكياً بإبرام ميثاق هيئة الأمم المتحدة والتصديق عليه، وبذلك أصبحت المملكة العربية السعودية من بين الدول المؤسسة لمنظمة الأمم المتحدة.

من خلال استقراء تاريخ الأمم المتحدة يتضح دور المملكة العربية السعودية المؤثر في أنشطتها. فالمملكة من الدول الإحدى والخمسين المؤسسة للمنظمة، حيث وقعت على ميثاق الأمم المتحدة في مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1364هـ/ 1945م. كما حضر الأمير فيصل ممثلاً لحكومة المملكة العربية السعودية اجتماع هيئة الأمم المتحدة الذي عقد في باريس في 17 من ذي القعدة 1367هـ/1946م، كما حضر عدة مؤتمرات تالية خصص بعضها لمناقشة قضية فلسطين. وكانت المملكة تحرص على حضور اجتماعات الأمم المتحدة التي تعقد في شهر سبتمبر من كل عام. وكان حضور الأمير فيصل بن عبد العزيز شخصياً له أبعاده السياسية لكونه رجل السياسة السعودية الذي تربى على يدي والده، كما كان في كل مداولات الأمم المتحدة مدافعاً عن قضايا العرب والمسلمين، حتى إن الصحف العالمية كانت تتحدث عن مواقفه الثابتة النابعة من ضمير يقظ.([27])

ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن التزمت المملكة ببنود ميثاق الأمم المتحدة التزاماً كاملاً، لكونها تشكل وحدة من وحدات المجتمع الدولي تؤثر فيه وتتأثر به، وبما يحدث من تطورات وأحداث. وقد أكدت المملكة العربية السعودية هذا الموقف في أكثر من مناسبة. فبعد توليه الحكم في شهر شعبان 1402هـ ، قال الملك فهد بن عبد العزيز في كلمة له بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك : "نحن نعمل في المحيط الدولي الشامل داخل دائرة هيئة الأمم المتحدة وفروعها ومنظماتها، نلتزم بميثاقها وندعم جهودها ونحارب أي تصرف شاذ يسعى لإضعافها وتقليص قوة القانون الدولي، لتحل محله قوة السلاح ولغة الإرهاب، ولقد كانت تصرفاتنا وستبقى تعكس إحساسنا بالانتماء إلى المجموعة الدولية كأسرة واحدة مهما اختلفت مصالحها، وتصور إيماننا بمبادئ السلام المبني على الحق والعدل، ونعتقد أن الأمن الدولي والاستقرار السياسي مرتبطان بالعدالة الاقتصادية ومنبثقان منها".([28])

وفي دورتها الثانية والأربعين في 5 صفر 1408هـ/ 28 سبتمبر 1987م، تحدث الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية مؤكداً حرص المملكة على دعم الأمم المتحدة، ووكالاتها المتخصصة بوصفها الإطار الصالح للتعاون بين الأمم والشعوب والوسيلة المؤثرة لفض المنازعات ومعالجة الأزمات. وأكد على تطلع المملكة إلى مرحلة مشجعة من التعاون الدولي لحل المشكلات السياسية والاقتصادية، الذي بدوره يؤدي إلى الاستقرار السياسي والاقتصادي المطلوب لمواجهة تحديات المستقبل.([29])



وفي عام 1415هـ/ 1995م ومناسبة مرور خمسين عاماً على إنشاء هيئة الأمم المتحدة قال صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز في حفل أقيم بهذه المناسبة في مقر هيئة الأمم المتحدة في نيويورك :" إن المملكة بصفتها أحد المؤسسين لهذه المنظمة الدولية تؤكد التزامها وحرصها المستمر على تنشيط دور الأمم المتحدة، وتعزيز قدرتها على صون السلم والأمن الدوليين، وبدعم التعاون في إطار الشرعية الدولية"([30]).

ومن هذه المنطلقات فإن الموقف السعودي الرسمي في المحافل الدولية وفي تصريحات كبار المسؤولين السعوديين هو دعم الأمم المتحدة في جميع المجالات لتحقيق أهدافها في حفظ السلم والأمن الدوليين، ومساعدة الشعوب في تقرير مصيرها. وهكذا تتضح علاقة المملكة بالأمم المتحدة من خلال كونها دولة مؤسسة وعضواً أصيلاً في الأمم المتحدة ومعظم وكالاتها المتخصصة ([31]).

وفي الجانب التطبيقي فإن المملكة تدعم العديد من وكالات الأمم المتحدة المتخصصة مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والهيئة الاستشارية للإدارة البيئية للتنمية المستديمة، ومنظمة اليونيسيف، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، ومنظمتي الهلال والصليب الأحمر الدوليين، ولجنة التنمية المستديمة، وبرنامج الأمم المتحدة لمراقبة المخدرات، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأغذية الدولية، والاتحاد الدولي للبريد والنقل العالمي، ولجنة إزالة الألغام، ومنظمة الطيران المدني، ومنظمة اليونسكو، ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية، واتحاد الاتصالات العالمية، وعمليات قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام والأمن الدوليين، وبرنامج تطوير النقل والطرق السريعة وإدارتها وصيانتها ([32]

المملكة العربية السعودية وجامعة الدول العربية:

عاشت الأمة العربية منذ بزوغ فجر الإسلام على يد الرسول الكريم– e – في عزة الإسلام ومنعة العروبة، لكن ذلك العز بدأ يتضاءل مع نشوء الحركة الاستعمارية الحديثة التي سعت في مطلع القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي إلى الهيمنة السياسية والاقتصادية على مقدرات الأمة العربية. ومن أجل ذلك بدأت الأصوات تنـــادي بضرورة تكاتـــف العرب وتوحيد صفوفهم وإزالة ما قد ينشأ بينهم من خلافات. كان الملك عبد العزيز الذي عاش تجربة الفرقـــة والبعد عن الوطن، ثم عاش حقبة الوحدة التي بــدأت تكتمل صورتها بتوحيد بلاد نجد والمناطق الشرقية من شبه الجزيرة العربية،كان أسبق الزعماء العرب إلى فكرة إنشاء رابطة تجمع العرب. ففي عام 1332هـ/1914م، وبعد نشوب الحرب العالمية الأولى أوفد الملك عبد العزيز ثلاثة من رجاله يحملون كتباً إلى زعماء الجزيرة العربية القريبين منه، وهم الشريف الحسين بن علي ملك الحجاز، والشيخ مبارك الصباح أمير الكويت، وابن رشيد أمير حائل، يدعوهم إلى أن يتحدوا في هذا الوقت بالذات الذي تواجه فيه الأمة الإسلامية تغيرات سياسية مهمة، كما اقترح عليهم عقد اجتماع للتباحث فيما يفيد العالم العربي ، ويؤدي إلى موقف موحد من الحرب التي ضربت أطنابها، لكنهم لم يعيروا نداءه الاهتمام الذي يستحقه. وفي مناسبة أخرى – في المدة نفسها – بعث الملك عبد العزيز رسالة إلى الدولة العثمانية يقترح عليها عقد مؤتمر لزعماء الدول العربية لتقرير وضع الدول العربية بالنسبة للدولة العثمانية.([37])

وبالإضافة إلى ذلك سعى الملك عبد العزيز إلى عقد معاهدة أخوية مع العراق عام 1355هـ/ أبريل 1936م، ثم انضمت إليها المملكة اليمنية في جمادى الآخرة عام 1356هـ/ أغسطس 1937م، مع فتح الباب لأي دولة عربية ترغب الانضمام إلى هذه المعاهدة. وبهذا النداء كان الملك عبد العزيز أسبق الزعماء العرب إلى فكرة الوحدة العربية، التي تبلورت فيما بعد إلى فكرة إنشاء جامعة الدول العربية.([38])

كانت أهداف الملك عبد العزيز من إنشاء أي تجمع عربي تختلف عن أهداف الزعماء الآخرين من الحكام العرب، حيث كان يهدف إلى إنشاء جامعة عربية تقوم على أسس إسلامية، وليس على مفهوم القومية العربية التي كانت شائعة في تلك الحقبة. كما أن الملك عبد العزيز يختلف عن الآخرين بأنه لم يكن يريد أية منفعة خاصة لنفسه أو لبلاده من وراء إنشاء الجامعة، بل كان يهدف إلى الحفاظ على كيان الأمة العربية وعقيدتها واستقلالها.([39])

ومع مرور الوقت لم ييأس الملك عبد العزيز من تحقيق حلمه بإنشاء تجمع عربي، فظل يبذل جهوده ويطرح هذه الفكرة في أي لقاء يجمعه مع أي زعيم عربي. ويبدو أن النخوة العربية حركت بعض الزعماء العرب بعد أن طرح وزير خارجية بريطانيا المستر إيدن في 29 مارس 1941م على الزعماء العرب فكرة إقامة وحدة يختارون نوعها، لكن من الواضح أنها تنادي بوحدة قومية، وليس على أسس إسلامية. ومما قاله الوزير البريطاني في هذا المجال: "إن كثيرين من المفكرين العرب يأملون أن تحظى القومية العربية بوحدة أوسع مما بلغته إلى الآن، وجدير بنا أن نعمل على استجابة نداء أصدقائنا العرب؛ لأن توثيق الروابط الثقافية والسياسية أيضاً بين الدول العربية هو أمر طبيعي وحق واضح..." ([40]) .

بدأت بعض الدول العربية تتنبه لأهمية الفكرة وأبعادها السياسية، فكان لإمارة شرقي الأردن جهودها، ولمصر جهودها عبر القنوات الدبلوماسية ومن خلال وسائل الإعلام، كما قامت حكومة العراق بدور في هذا السبيل. وعلى هذا تبلورت فكرة هذه الوحدة، التي سبق أن أطلقها الملك عبد العزيز قبل سنوات، لكن طريقة تنفيذها ما زالت تحتاج إلى عمل مكثف. ومن خلال المشاورات والمداولات بشأن عقد اجتماع تحضيري، كان للملك عبد العزيز موقف واضح من بعض أهداف تلك الاجتماعات، وكان يرفض ما يعتقد أنه لا يخدم الأمة العربية، أو ما يشم منه رائحة المصالح الشخصية. ولم تتعجل حكومة المملكة العربة السعودية في الاستجابة لهذه الدعوات؛ وذلك لأن الملك عبد العزيز، مع أنه من المؤيدين للوحدة العربية والعاملين لها، كان يشك في أهداف المساعي الجديدة لإنشاء هذا التجمع، خاصة أن بريطانيا هي التي نادت بها وهذا بحد ذاته سبب قوي يجعل الملك عبد العزيز يتريث حتى تتبين الأمور، وحتى يتأكد أن هذا التجمع سيقوم على أسس واضحة، خالية من الأهداف المشبوهة. وفي الوقت نفسه كان الزعماء العرب – وخاصة مصطفى النحاس، رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت – حريصين على حضور مندوب الملك عبد العزيز، وكانوا يرجونه الموافقة على حضور هذا الاجتماع التحضيري لعلمهم بمكانة المملكة واتزان موقفها وبعدها عن الأمور الشكلية أو الدعائية ([41]).

وبهذا وانطلاقاً من حرص المملكة العربية السعودية على تأييد فكرة أي تجمع سياسي عربي، وتنمية التعاون بين الدول العربية، والحفاظ على استقلالها سعت إلى وضع فكرة الجامعة العربية موضع التنفيذ، لكن على أسس متينة، ومبادئ راسخة. وفي اجتماعات بروتوكول الإسكندرية الذي عقد في 20شوال 1363هـ/ 5أكتوبر 1944م، كانت المملكة حريصة على لم الشمل والخروج برأي مشترك يحقق في الدرجة الأول وحدة العرب في المجال السياسي لتقف صفاً واحداً أمام أطماع الدول الاستعمارية. وقد وافقت المملكة على بروتوكول الإسكندرية، وأوضحت موقفها في رسالة من الملك عبدالعزيز إلى رئيس وزراء مصر، مصطفى النحاس، رئيس اللجنة التحضيرية، مؤرخة في 19 المحرم 1364هـ/ 4 يناير 1945م بيّن فيها رأي حكومة المملكة في أن أي اجتماع للعرب لا بد أن يكون على أسس قوية تبنى على المبادئ التالية: "يعقد بين الدول العربية حلف يرمي إلى تكاتفها وتعاونها، لسلامة كل منها، وسلامة مجموعتها، ويضمن حسن الجوار بينهم، وأن تكون الحرب محرمة بين الدول العربية، وكل خلاف يحل بالتوسط أو بالتحكيم، وإذا امتنع أحد الطرفين عن قبول التحكيم أو عن الإذعان لما حكم به، فللدول العربية نصيحته، فإن بغى واعتدى فلها بعد التشاور أن تقرر ما تراه لوقف الاعتداء".([42]) وقد أعطى الملك عبد العزيز تعليماته إلى الوفد السعودي لإبلاغ رئيس اللجنة التحضيرية أنه مستعد للتوقيع على البروتوكول بشروط خاصة.([43]) وقد جاءت هذه الشروط للحفاظ على الهوية الإسلامية للدولة السعودية التي التزمت بها منذ قيامها، حيث لم يخف على الملك عبد العزيز اختلاف ثقافات الدول العربية، خاصة التي رزحت تحت الاستعمار ردحاً من الزمن. وتأكيداً للهوية الإسلامية للمملكة، وجهودها الدعوية قال الملك عبد العزيز :" أما توحيد الثقافة وتوحيد التشريع بين الدول العربية فالحكومة العربية السعودية تراه عملاً مشكوراً، غير أن ظروفها ووجود البلاد المقدسة فيها، يجعل لها وضعاً خاصاً، فهي ستمتنع عن تنفيذ أي مبدأ في التعليم أو التشريع يخالف قواعد الدين الإسلامي وأصوله"([44]) .

وبعد ذلك بدأت الخطوات العملية لإنشاء الجامعة العربية، وقد كان لمصر دور المؤيد والمشجع لمبادرة الملك عبد العزيز، حيث قام عبد الرحمن عزام المنسق العام لمشروع الجامعة العربية بزيارة إلى الملك عبد العزيز لبيان أهداف الجامعة المقترحة ومسؤولياتها، حيث وجد كل تفهم من الملك عبد العزيز، كما اقتنع بمشروعية الشروط والتحفظات وأهميتها التي أبدتها المملكة، وكانت زيارته مثمرة.([45]) وفي حقبة لاحقة عقد اجتماع بين الملك عبد العزيز والملك فاروق في رضوى، وكان من نتيجته أن أزيلت بعض العوائق، واتضحت بعض الأمور وبعدها . وافق الملك عبد العزيز على العمل لدعم مشروع الجامعة العربية.([46]) وخلال زيارة الملك عبد العزيز لمصر في شهر ربيع الأول 1364هـ/ مارس 1945م، ومباحثاته مع الملك فاروق، ونتيجة للمشاورات والمداولات التي تمت بين قادة الأمة العربية في ذلك الوقت، انبثقت فكرة إنشاء جامعة الدول العربية. وسرعان ما تبلورت الفكرة إلى مشاورات مكثفة لتحقيق هذه الفكرة وجعلها واقعاً ماثلاً، بوضع هذا المشروع قيد التنفيذ، ووضع ميثاق للجامعة تسير عليه الدول الموقعة على إنشاء الجامعة ضماناً لسيادتها واستقلالها.

وفي 8 ربيع الآخر 1364هـ/ 22 مارس 1945م، وقع على إقرار ميثاق الجامعة العربية في قصر الزعفران بالقاهرة من جانب سبع من الدول العربية ، وهي: المملكة العربية السعودية، المملكة العراقية، المملكة المصرية، المملكة اليمنية، الجمهورية السورية، الجمهورية اللبنانية، وإمارة شرقي الأردن.([47]) وبعد إقرار ميثاق الجامعة، سارعت المملكة إلى التوقيع عليه بصيغته النهائية، ومن ثم التصديق عليه.

ومن هذا المنطلق فإنه يمكن القول إن فكرة إنشاء جامعة الدول العربية التي رأت النور بعد ثلاثين عاماً من طرحها لأول مرة من قبل الملك عبد العزيز، كان الفضل فيها – بعد الله – للملك عبد العزيز، لكن ذلك لا ينفي جهود أصحاب الغيرة من العرب، قادة وأدباء وشعراء ومفكرين.([48])

وعندما أصبحت الجامعة حقيقة ماثلة، سعت المملكة بكل ما تستطيع من إمكانيات إلى دعمها إدارياً، والوفاء بالتزاماتها المالية تجاهها، والعمل على تيسير أعمالها. وأصبح من سياسة المملكة العربية السعودية توثيق الصلة بالجامعة العربية، وتنسيق سياستها الخارجية بما يخدم ولا يتعارض مع اتجاهات الجامعة العربية في الأمور التي تكون من اختصاصها. وكانت المملكة تحرص، قبل أن تُقدِم على أي عمل له علاقة بالجامعة العربية، أو بإحدى الدول العربية، على إخطار الجامعة ومعرفة رأيها حياله.([49])

ومن المواقف المشرفة التي قامت بها المملكة في إطار جامعة الدول العربية هو سعيها لتأييد استقلال كثير من الدول العربية والإفريقية، وعندما استقلت هذه الدول سارعت المملكة إلى إقامة علاقات دبلوماسية معها، كما افتتحت لها سفارات وقنصليات في تلك الدول من أجل التنسيق والتعاون المشترك. ومن خلال التعاون بين الجامعة العربية والمنظمات الأخرى، وخاصة منظمة الوحدة الإفريقية، بلغت علاقة المملكة بالدول الإفريقية، خاصة الدول الإسلامية منها، ذروتها بالزيارات التي قام بها الملك فيصل في سبيل دعم التضامن الإسلامي. وقد استمرت جهود المملكة في دعم الدول الإفريقية، من خلال المنظمات الدولية، حتى الوقت الحاضر.

وفي مجال دعم الجامعة العربية، قامت المملكة العربية السعودية بدورها كاملاً بدءاً من عهد الملك عبد العزيز حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز الذي أكد في أول عهده أهمية الجامعة العربية وضرورة دعمها، وأنها مظلة لا غنى لأي دولة عربية عنها. يقول في ذلك: "وأول مراحل تعاوننا هي دائرة جامعة الدول العربية، تحيط بالأمة العربية ونرسم حدود نشاطنا معها، ونحاول داخلها أن نتعاون مع أشقائنا العرب على جمع الكلمة، ورأب الصدع إذ نؤمن بأن وحدة الصف قوة رادعة، وفي تفككه ضعف وهوان. ونأمل مخلصين أن تزول الخلافات الهامشية بين الدول العربية"([50]).

ودعماً لموقف الجامعة العربية، كانت المملكة تسارع إلى المشاركة في الاجتماعات الطارئة لحل بعض الخلافات بين بعض الدول العربية، وكانت دائماً تبذل ما تستطيع من جهد لتقريب وجهات النظر بين الدول العربية المتخاصمة. وكثيراً ما لبّت طلب جامعة الدول العربية في إرسال قوات سعودية للفصل في المنازعات الحدودية بين بعض الدول العربية. ولا يخفى الدور الرائد الذي قامت به المملكة في حل الخلافات الحدودية بين بعض الدول العربية كما حصل بين المغرب والجزائر، وبين سوريا والأردن، وبين البحرين وقطر.([51])

ومن المواقف الثابتة والحازمة التي قامت بها المملكة، عن طريق الجامعة العربية وغيرها من المحافل الدولية، هو موقفها الثابت والدائم من القضية الفلسطينية، منذ عهد الملك عبد العزيز، فضلاً عن الدعم المادي لأبناء الشعب الفلسطيني، ومنظمة التحرير الفلسطينية. وعلى المستوى العربي، كان للمملكة جهود خاصة في العمل على عودة الشعب الفلسطيني إلى وطنه وتحريره من الغاصب الصهيوني. وقد استمر هذا الموقف السعودي بعد الملك عبد العزيز، حيث تابع أبناؤه من بعده هذه السياسة بكل أمانة وحرص. وقد تجلى هذا الموقف في الاجتماعات الدورية للجامعة العربية. كما تجلى بشكل واضح في مشروع السلام السعودي الذي قدمه الملك فهـــد بن عبد العزيز إلى مؤتمر القمــة العربي الثاني عشر الذي عقد في مدينة فاس بالمملكة المغربية في 7 شوال 1401هـ/ 17 أغسطس 1981م.([52])

وللمملكة جهد واضح في دعم المنظمات المنبثقة من الجامعة العربية مادياً ومعنوياً. ولهذا الموقف الكريم أصبحت المملكة ترأس العديد من أجهزة هذه المنظمات، التي سارت أعمالها إلى النجاح المطرد على الأصعدة كافة .



المملكة العربية السعودية ومنظمة المؤتمر الإسلامي:

إن المستقرئ للتاريخ الإسلامي يدرك أن ضعف الأمة الإسلامية اقترن بانقسامها، وكان ذلك فرصة لأعداء الإسلام وخصومه لكي ينالوا من المسلمين، حيث أشاعوا فيهم بواعث الفرقة، وبذروا الشقاق والخلاف، وجعلوهم شيعاً وأحزاباً. وقد بلغ الأمر ذروته في القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي، حيث تمزقت أوصال العالم الإسلامي، واتسعت شقة الخلافات الحزبية والمذهبية، وظهرت الدعوات القومية والعصـــبية، فأصبحوا هائمين ضائعين لا ناصر لهم.([53]) وفي منتصف هذا القرن قيض الله – سبحانه وتعالى – لهذه الأمة من يوقظها من غفوتها، ويبعث فيها الأمل في حياة كريمة كما كانت خلال عهد قوتها الأول. إنه الملك عبدالعزيز الحريص دائماً على تماسك الأمة الإسلامية، حيث قام بدور مؤثر على مختلف المستويات، وبذر بذرة صالحة سرعان ما أينعت في عهد أبنائه.

وفي الواقع تعد المملكة العربية السعودية من أول الدول الإسلامية اهتماماً بأمر المسلمين، ومساعدتهم، والرفع من شأنهم، والدفاع عن قضاياهم. ولهذا فليس غريباً أن تتبنى المملكة فكرة إنشاء منظومة تهتم بأمر المسلمين. فبعد سقوط الخلافة العثمانية عام 1343هـ/ 1924م، وزوال الرمز الذي يحتمي به المسلمون، وبعد استعادة الملك عبد العزيز – يرحمه الله – الحجاز، ودخول الأماكن المقدسة في مكة والمدينة تحت مسؤوليته المباشرة، رأى أنه قد أصبح هو السلطان الفعلي للمسلمين لكون مكة المكرمة هي قبلة المسلمين في أي مكان من العالم. ومن منطلق هذه المسؤولية رأى أن من واجبه دعوة المسلمين إلى الاتحاد ونبذ الفرقة، لا رغبة في الهيمنة، بل من واقع المسؤولية والحرص على الإسلام وأهله. وفي هذا المجال بعث برقية إلى ملوك ورؤساء العالم الإسلامي أكد فيها على وجوب العمل على خدمة الحرمين الشريفين ، وتأمين مستقبلهما، وتوفير وسائل الراحة للحجاج والمعتمرين والزوار، كما دعا إلى تعاون المسلمين في هذا المجال. ولتحقيق هذا الهدف دعا الملك عبد العزيز إلى عقد المؤتمر الإسلامي في مكة المكرمة الذي حضره حوالي ستين عضواً، حيث بدأ أول جلساته في 26 ذي القعدة 1344هـ/ 17 يونيو 1926م. وقد اتخذ المؤتمر عدداً من القرارات التي تهم أمر المسلمين وتوثق الروابط بينهم عبر منظمة إسلامية، كما دعا إلى عقد دورات سنوية في موسم الحج في مكة المكرمة.([54])

وعلى الرغم من جهود بعض الهيئات والجماعات التي كانت حريصة على جمع كلمة المسلمين كما حصل في تجمع إسلامي عقد في القاهرة في عام 1344هـ/ مارس 1926هـ برئاسة شيخ الأزهر، والمؤتمر الإسلامي الذي عقد في القدس في عام 1350هـ/ 1931هـ برئاسة مفتي فلسطين، لكن تلك التجمعات والمؤتمرات لم تصل إلى صيغة تجمع الدول الإسلامية في بوتقة واحدة بسبب كثرة المشكلات والخلافات ووقوع أغلب الدول الإسلامية تحت نيران الاستعمار الغربي، الذي عمل ويعمل على وأد أية محاولة لجمع كلمة المسلمين.

وعلى الرغم من هذا الوضع، استمرت جهود المملكة لدعم فكرة إنشاء منظومة تجمع شمل الأمة الإسلامية خلال عهد الملك عبد العزيز، ثم تواصلت تلك الجهود بعد وفاته. ففي عام 1374هـ / أغسطس 1954م، عقد مؤتمر إسلامي في مكة المكرمة للبحث في محاولة إنشاء منظمة إسلامية، لكن الأمر لم يسفر عن نتائج إيجابية.([55])

وفي جو من القلق واليأس، وأمام تكالب الأعداء "انبعث صوت مؤمن هادئ رزين يدعو إلى ضرورة التعاون والتضامن بين شعوب العالم الإسلامي. كان هذا الصوت صوت فيصل بن عبد العزيز، وكانت دعوته هي الدعوة إلى التضامن الإسلامي، تلك الدعوة التي نادى بها الملك المسلم في حلكة الأحداث التي ألمّت بأمتنا لمواجهة المبادئ الدخيلة، والمذاهب الهدامة، التي اجتاحت ديارنا على يد فئة من جلدتنا، حتى يجمع المسلمين على كلمة سواء".([56])

ومن أجل هذا الهدف قام الملك فيصل – يرحمه الله – بجهود مكثفة للدعوة إلى التضامن الإسلامي. ولتحقيق هذا الهدف زار عدداً من الدول الإسلامية في آسيا وإفريقيا خلال عامي 1385–1386هـ/ ديسمبر 1965م وسبتمبر 1966م، شملت تسع دول إسلامية هي: إيران والأردن والسودان وباكستان وتركيا والمغرب وغينيا ومالي وتونس. وكان الهدف من هذه الزيارات بيان أهمية اتحاد المسلمين وتعاونهم للوقوف أمام أعدائهم الذين يتحينون الفرصة للانقضاض على بلادهم ومقدساتهم. ولشرح مبادئ دعوته للتضامن الإسلامي، ونظرته إلى تعاون المسلمين وتضامنهم يقول الملك فيصل: "إننا في هذه اللحظات عندما يواجه الإسلام كثيراً من الهزات وكثيراً من الاتجاهات الخفية التي تتجاذب المسلمين يميناً وشمالاً، شرقاً وغرباً، لأحوج ما نكون للتعاون والتكاتف لمواجهة كل المشاكل والصعوبات التي تعوق طريقنا كاملة إسلامية مؤمنة بالله ورسوله وشريعته". وعن أهداف الدعوة إلى التضامن الإسلامي، يقول: "... إننا لا نستهدف، فيما نسعى إليه، أي غرض أو مطمع، سوى غرض واحد هو نصرة الإسلام، ونصرة دين الله والتقاء المسلمين، وتفاهمهم به، وتعاونهم فيما بينهم، وفيما يصلح لدينهم ودنياهم".([57])

ومع هذه الجهود التي بذلتها المملكة، ممثلة بالملك فيصل، لقيام منظومة إسلامية تجمع شمل الأمة الإسلامية، والوقوف أمام التحديات السياسية والعسكرية التي تهيمن على الأمة العربية، وعلى الرغم من تأكيدات الملك فيصل بأن الدعوة إلى التضامن الإسلامي لن تكون بديلاً عن ما يجمعهم في بيتهم العربي الصغير، إلا أن هناك معوقات حالت دون تمخض هذه الجهود عن إجماع في الرأي، بسبب النزعات القومية والاشتراكية الضاربة أطنابها، خاصة في العالم العربي في ذلك الوقت، وجعلته منقسماً على نفسه. وقد تأكدت مخاوف الملك فيصل بعد حرب عام 1387هـ/ 1967م بين العرب والعدو الصهيوني، كما ازدادت تأكيداً، عندما حاول اليهود إحراق المسجد الأقصى في عام 1389هـ/ 21 أغسطس 1969م. ونتيجة لذلك انعقد المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية لبحث الموقف، وخلال الاجتماع طرح اقتراح عقد مؤتمر قمة عربي، لكن المملكة العربية السعودية طرحت اقتراحاً آخر، يتناسب مع حجم المشكلة ويضم جميع المهتمين بأمر الإسلام والمسلمين؛ لكون القدس والمسجد الأقصى شأناً إسلامياً عربياً. ومن هذا المنطلق اقترحت المملكة الدعوة إلى عقد مؤتمر قمة إسلامي، من أجل ربط القضية الفلسطينية بالعالم الإسلامي. وقد كانت الظروف مهيأة لتقبل أغلب الدول الإسلامية فكرة عقد المؤتمر، كما أبدت المغرب ترحيبها باستضافة المؤتمر. وقد وافقت الدول العربية على عقد المؤتمر، وكلفت المملكة والمغرب بالترتيب لعقده في أقرب فرصة. وتمت الترتيبات وحدد يوم 29 سبتمبر 1969م موعداً لعقده، وقد حضرته خمس وعشرون دولة. ولا شك أن هذا المؤتمر يعد تتويجاً لجهود المملكة منذ عهد الملك عبد العزيز حتى عهد الملك فيصل، لإقامة منظومة إسلامية تهتم بشؤون المسلمين وتدافع عن حقوقهم. كما كان لجهود المملكة السابقة والمتزامنة مع عقد المؤتمر دور في النجاح الذي حققه المؤتمر وما تبعه من مؤتمرات.([58]) ومع أن منظمة المؤتمر الإسلامي لا تملك القوة العسكرية التي تمكنها من حل النزاعات بين الدول الإسلامية، أو بينها وبين الدول الأخرى، إلا أن لها دوراً كبيراً في التقريب بين وجهات النظر، والدعوة لعقد المؤتمرات وتكوين الحكّام في تلك الخصومات.

ومن خلال استعراض مسيرة منظمة المؤتمر الإسلامي يتضح الدور الكبير الذي قامت به المملكة العربية السعودية في إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي ودعمها مادياً ومعنوياً، حيث شاركت المملكة في جميع مؤتمرات وزراء خارجية الدول الإسلامية، ومؤتمرات القمة الإسلامية. وفي الجانب العملي رحبت المملكة بأن تكون مدينة جدة مقراً لمنظمة المؤتمر الإسلامي إلى حين تحرير القدس التي اتفق على أن تكون المقر الدائم للمنظمة بعد تحريرها من العدو المغتصب. وقد استضافت المملكة المؤتمر الإسلامي الثالث لمنظمة المؤتمر الإسلامي، الذي عقد في جوار بيت الله الحرام في مكة المكرمة والطائف في عام 1401هـ/ 1981م.

وفي مجال الدعم المعنوي لمنظمة المؤتمر الإسلامي فإن المملكة عضو مؤثر في كل هيئات المنظمة وهياكلها، وهي مقر لعدد من تلك الهيئات. وعلى وجه الخصوص، فالمملكة عضو مؤثر ومؤسس للبنك الإسلامي للتنمية، ومقره جدة، وهي أكبر من أسهم فيه. وكان لهذا البنك ومازال دور مؤثر في دعم المشروعات الاقتصادية التي تعود بالنفع على أبناء الأمة الإسلامية.([59])

وفي مجال الدعم المادي للمنظمة، قامت المملكة العربية السعودية بدورها كاملاً، بل تعدته في سبيل إنجاح أهداف المنظمة. فالمملكة هي المسهم الأول في ميزانية الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي والمؤسسات المتفرعة عنها. وللدلالة على حجم تمويل المملكة لميزانية المنظمة قدرت حصة دول مجلس التعاون الخليج بـ 35% من ميزانية المنظمة التي بلغت في عام 1988م – على سبيل المثال – أكثر من 8 ملايين دولار، وبالتأكيد فإن نسبة كبيرة من إسهامات مجلس التعاون تأتي من المملكة العربية السعودية. وقد بلغ إجمالي ما قدمته المملكة للأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي من إسهامات وتبرعات أكثر من 47.393 مليون ريال أي ما نسبته 10% من إجمالي ميزانية المنظمة.([60]) وتحت مظلة منظمة المؤتمر الإسلامي بلغ مقدار الإسهامات المالية المقدمة من المملكة العربية السعودية للدول الإسلامية خلال خمسة عشر عاماً بين عامي 1390–1405هـ، 77 بليون ريال.([61]) كما أوضحت الإحصائيات الرسمية أن المملكة العربية السعوديـــة قدمت إلى الدول النامية الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي حتى عام 1417هـ/ 1996م أكثر من 122 ألف مليون ريال، تضمنت مساعدات للدول الإسلامية الفقيرة، وإغاثة المتضررين من الكوارث الطبعية، وفي خدمة الإسلام والدعوة الإسلامية، وتعزيز التضامن الإسلامي بين الدول الإفريقية وغيرها من الدول الإسلامية، إضافة إلى دعم منظمة المؤتمر الإسلامي والمؤسسات المنبثقة عنها والهيئات العاملة في إطارها ([62]).

وقد استمر دعم المملكة لهذه المنظمة حتى الوقت الحاضر. ومما يؤكد حرص المملكة على هذه المنظمة وتيسير أعمالها لتحقيق أهدافها هو دعمها غير المحدود مادياً ومعنوياً. وقد رحبت المملكة بأن تكون مقراً لأكثر من عشرة أجهزة من مؤسسات المنظمة المتخصصة والفرعية. ومن جهة أخرى كان للملكة دور بارز في دعم قضايا العالم الإسلامي مثل قضية القدس والمسجد الأقصى، والقضية الأفغانية ومساعدة مسلمي البوسنة والهرسك، واستقلال إرتريا، وأخيراً ما يتعرض له المسلمون في إقليم كوسوفو في ألبانيا. كما كان للمملكة دور في حل كثير من منازعات الحدود بين البلدان الإسلامية كما حصل بين دولتي باكستان وبنجلاديش، وكذلك بين السنغال وموريتانيا. وهناك الدور الكبير الذي قامت به المملكة في سبيل الإصلاح بين فصائل المجاهدين الأفغان، عندما قامت المملكة بدور رائد في هذا الشأن، حيث عُقد اجتماع ضم جميع تلك الفصائل برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، وما زالت المملكة تقوم بجهدهـــا في هذا المجال. وأخيراً لا يمكن إغفـــال الدور الرائد للمملكة العربية السعودية، سواء بطريق مباشر أم عن طريق منظمة المؤتمر الإسلامي، في دعم الأقليات المسلمة في أنحاء العالم مادياً ومعنوياً، والأخذ بيدها وانتشالها من رواسب المـــاضي ، كما حصل في دعم الأقليات المسلمة في البلاد التي خلفت ما سمي سابقاً بالاتحاد السوفيتي، وكذلك في جمهورية البوسنة والهرسك وجمهورية ألبانيا وغيرها من البلاد ([63]).

ومن جهة أخرى كان للمملكة اهتمام خاص بإنشاء المؤسسات الإسلامية ودعمها مادياً ومعنوياً، ببناء المساجد وإرسال الدعاة والأئمة والخطباء. ولعل آخر ما أقيم من هذه المراكز افتتاح مسجد الملك فهد في مدينة كالفر سيتي في لوس أنجلوس بالولايات المتحدة الأمريكية، ومسجد الملك فهد في مدينة أدنبرة بالمملكة المتحدة، والمراكز الإسلامية الملحقة بها في صيف عام 1419هـ/ 1998م.

وهكذا ومن خلال استعراض تاريخ المنظمة يتبين الدور الرائد للمملكة العربية السعودية منذ عهد الملك عبد العزيز حتى الوقت الحاضر. لقد بين خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز أهمية وجود منظمة المؤتمر الإسلامي، كما نوه بدور المملكة في إنشاء هذه المنظمة، وأكد الدعم الكامل لها للقيام بمهماتها في خدمة الشعوب الإسلامية. ولا شك في أهمية هذه المنظمة، لكونها الدائرة الإسلامية التي تجمع المملكة بالدول الإسلامية، كما لا يخفى الدور الأساسي رائد الذي بذلته المملكة في إنشاء هذه المنظمة. يقول في هذا المجال: "وهي الدائرة التي نمارس الآن نشاطنا الإسلامي داخلها، وهي لا تقل أهمية أو قوة عن دائرة الأمة العربية، فالإسلام عزنا، والمسلمون سندنا وعمقنا الإستراتيجي". كما أكد على أن على المملكة واجب الوقوف مع الدول الإسلامية الأخرى، التي عليها أن لا تتردد في أن تقف صفاً واحداً لبلوغ الهدف في وحدة المسلمين وتضامنهم؛ لأن في تحقيق التضامن الإسلامي قوة للإسلام والمسلمين لن تستطيع أي قوة مهما بلغت سطوة ونفوذاً قهرها أو تفتيتها".([64])

وفي مجال دعم المنظمة والدول الإسلامية الأعضاء فيها يقول خادم الحرمين الشريفين في خطاب له في يوم الثلاثاء 11 شوال 1412هـ: "من واجبنا كدولة شرّفها الله بخدمة الحرمين الشريفين، الوقوف إلى جانب إخواننا المسلمين، ومد يد العون لهم بالقدر الذي يمكنهم من توفير أسباب الأمن والاستقرار والرخاء، دون أن نتدخل في شؤونهم أو نربط مساعداتنا لهم بأية شروط".([65])



المملكة العربية السعودية ومجلس التعاون:

تتويجاً لسياسة المملكة العربية السعودية الرامية إلى تحقيق التعاون في مختلف صوره، خليجياً وعربياً وإسلامياً ودولياً، سعت المملكة وما زالت تسعى، إلى تأييد أي عمل وتشجيعه يؤدي إلى التعاون والترابط بين المسلمين. ومن غير شك فإن اهتمام قادة المملكة العربية السعودية بالخليج العربي لم ينشأ من فراغ، ولم يكن أمراً طارئاً، وإنما كان سياسة نهجت عليها المملكة، وهو يشكل أبعاداً دينية واجتماعية وتاريخية وجغرافية. ومن هذا المنطلق جاء اهتمامها بإنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية ودعمها له منذ أن كان فكرة تراود زعماء الدول الخليجية حتى برز إلى حيز الوجود وأصبح حقيقة شامخة ماثلة للعيان.

كانت فكرة العمل الجماعي في منطقة الخليج حاضرة في أذهان قادة دول الخليج وسكانها، حيث تبلورت من خلال مبادرات ودعوات رسمية خلال اجتماعات ومؤتمرات ونــدوات متعـــددة ، كما حصل في مؤتمر عقد في مسقط في أواخر عام 1396هـ/ نوفمبر 1976م، وما نادت به الكويت في عامي 1395 و 1399هـ/ 1975 و 1978م، والدعوات المشابهة التي صدرت من البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة لنقل الفكرة إلى واقع ملموس . على أن الخطوة الأكثر تقدماً ما حصل في لقاء قادة دول الخليج على هامش مؤتمر القمة العربي الذي عقد في الأردن عام 1400هـ/ 1980م.([66]) وخلال تلك المحاورات وقبلها وبعدها، كان للمملكة العربية السعودية دور رائد وبناء في تشجيع أية خطوة ودعمها لجمع كلمة دول الخليج، كما هو الحال في سعيها لجمع وحدة الأمة العربية، وكذلك الأمة الإسلامية في خطوات مشابهة لا تعارض بينها. وكما أوضحنا خلال حديثنا عن ملامح السياسة السعودية وثوابتها منذ عهد الملك عبد العزيز – يرحمه الله – حتى الوقت الحاضر، كان هدف المملكة هو قيام تعاون بين دول الخليج يقوم على تطوير دول الخليج وتنميتها والتعاون بينها فيما يخدم سكانها ويبعدها عن التكتلات والمزايدات، ولم يكن هذا التعاون موجهاً ضد أي دولة، كما أنه اقتصر على دول الخليج الست المتشابهة في عاداتها الاجتماعية وأنماط حياتها ونظرتها للحياة، وابتعادها عن الشعارات أو المطامع التوسعية.

وتتويجاً لجهود المملكة والدول الخليجية الأخرى، ظهرت فكرة إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج إلى حيز الوجود في مؤتمر القمة الخليجي الذي عقد على هامش مؤتمر القمة الإسلامي الثالث الذي عقد في مكة المكرمة الطائف عام 1401هـ/ 1981م حيث اتفق مبدئياً على قيام المجلس. ثم أعقب ذلك مشاورات بشأن الخطوات التفصيلية، قام بها وزراء خارجية الدول الخليجية الست التي تكوّن منها المجلس فيما بعد. وفي ربيع الآخر عام 1401هـ/ 4 فبراير 1981م عقد وزراء خارجية الدول الست مؤتمراً في الرياض وقّعوا في ختامه على وثيقة إعلان قيام مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وقد أكد البيان على أهداف المجلس ومقوماته، وما يربط دول الخليج الست من علاقات خاصة وسمات مشتركة نابعة من عقيدتها المشتركة، وتشابه أنظمتها، ووحدة تراثها، وتماثل تكوينها السياسي والاجتماعي والسكاني، وتقاربها الثقافي والحضاري. وقد أكد جميع زعماء مجلس التعاون وأمينه العام في أكثر من مناسبة أن المجلس ليس تكتلاً سياسياً أو عسكرياً أو أمنياً، وليس موجهاً ضد أحد، وإنما هو محاولة لتجسيد معالم التماثل ومقومات الاندماج وتوثيق عرى التعاون بين أعضائه.([67]) وفي سعيه لتحقيق هذا الهدف يعد مجلس التعاون حلقة من حلقات التعاون الدولي في مجال إقليمي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المواد 52، 53، 54 من الفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة يسمح بقيام تنظيمات أو وكالات إقليمية بشرطين : أن تكون أهداف المنظمة الإقليمية التعاون مع هيئة الأمم المتحدة بحفظ السلم والأمن، وأن لا تتعارض أهداف المنظمة الإقليمية ومبادئها مع أهداف الأمم المتحدة ومبادئها . وقد توافقت نشأت مجلس التعاون وتشكيلاته لتحقيق هذين الشرطين، حيث جاء في الفقرة الخامسة من المادة الثامنة من النظام الأساسي لقيام المجلس الأعلى اعتماد أسس التعامل مع الدول الأخرى والمنظمات الدولية. أما العلاقة بين مجلس التعاون وكل من جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي فقد سارت على النهج نفسه. وكان للمملكة العربية السعودية ثقل واضح في تنسيق علاقات مجلس التعاون مع المنظمات الدولية.([68])

وغني عن القول أن هذه المقومات والأهداف هي التي أملت على قادة المملكة العربية السعودية تأييد فكرة قيام مجلس التعاون الخليجي وتعضيدها . لقد أوجز خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز الأهداف والمبادئ التي أدت إلى إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية في خطاب له بمناسبة عيد الفطر المبارك، بعد شهرين من توليه الحكم في شهر شعبان عام 1402هـ، حيث يقول: "ولقد وفقنا الله أن ننشئ مع أشقائنا في الخليج، داخل دائرة الجامعة العربية، دائرة قوية فعالة، هي مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ليكون نموذجاً لما يجب أن يكون عليه مستوى التعاون بين الأشقاء العرب، وليصبح دعامة تقوي من جامعة الدول العربية، ودرعاً للعرب يصد الأذى ويعمق الأواصر" ([69]).

وفي الجانب العملي بذلت المملكة كل جهودها لإنجاح مسيرة مجلس التعاون وتذليل العقبات التي قد تؤدي إلى تعطيل مسيرته. وكانت المملكة من أكثر الدول الخليجية حماساً لتوحيد موقف دول الخليج في ظل التحديات التي ظهرت وتظهر بين حين وآخر ، وتشكل تهديداً خطيراً لهذا الكيان الخليجي الوليد. وفي مجال الحفاظ على كيان المجلس والدول الأعضاء فيه، سعت المملكة إلى إيجاد مشروع خليجي موحد لشراء السلاح لتسهيل التدريب وتبادل الخبرات. كما سعت إلى إيجاد تعاون واسع في مجال الأمن الداخلي وتكريس مفهوم الأمن في الخليج وصولاً إلى مشروع تحقيق الأمن الجماعي الذي تبنته المملكة ([70]).

وانطلاقاً من سياسة المملكة تجاه مجلس التعاون فإنها تؤكد باستمرار أنها تضع كل إمكانياتها وقدراتها لخدمة المجلس ودوله وشعوبه، وأنها لن تدخر وسعاً في التعاون والتنسيق مع أشقائها في دول الخليج لبذل كل جهد لتحقيق أماني شعوب دول المجلس. والمملكة من هذا المنطلق لا تريد الوصاية على المجلس أو الهيمنة عليه ، وإنما تريد التنسيق والتشاور بصفة مستمرة، وهي تعتقد أن الدور السعودي مكمّل ومدعّم لدور الأشقاء داخل المجلس. وقد عبر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز عن هذا الدور بقوله :" إن المملكة ستظل دائماً تلك الدولة المحبة لأشقائها، فنحن لا نريد شيئاً من أحد سوى أن يكون بخير كما كنا نراه دائماً ... وإن المملكة تريد أن يكون الإخوان كلهم بخير، وما يريدونه منا يجدونه على الرحب والسعة ... وهذا هو الأساس في تعاملنا مع الأشقاء"([71]).



أما دور المملكة في مجلس التعاون الخليجي فهو دور رائد، حيث أسهمت إسهاماً مباشراً ومؤثراً في إنشاء المجلس وفي تطويره. فالرياض عاصمة المملكة العربية السعودية تستضيف المقر الدائم للأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية. كما أن للمملكة دوراً بارزاً في جميع أنشطة المجلس، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتكامل العسكري. ولا يخفى دور المملكة في انتهاج سياسية اقتصادية متزنة في إطار مجلس التعاون الخليجي واستغلال عوائد النفط بما يحقق مصالحها ومصالح الدول الخليجية الأخرى. وعن طريق المجلس، ومن خلال الدبلوماسية الهادئة، سعت المملكة لإيجاد حل للأزمة العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات منذ عام 1400هـ/ 1980م، ومحاولة وقف نزيف الدم بين الجارتين المسلمتين. وعندما انتهكت سيادة دولة خليجية شقيقة، هي الكويت في عام 1411هـ/ 1990م، بلغ التحرك السياسي السعودي ذروته، وانطلقت الجهود السعودية شرقاً وغرباً لإيجاد مخرج يعيد للكويت سيادتها، وفي الوقت نفسه يمنع حدوث مجابهة عسكرية تؤثر على دول الخليج ومن ورائها الأمة العربية والإسلامية.



الخاتمـــــة:

وهكذا أوضحت هذه الدراسة جوانب مهمة من مقومات السياسة الخارجية السعوديـــة من جهة، وحرص قادة المملكة العربية السعودية منذ عهد الملك عبد العزيز – يرحمه الله – حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز على بناء علاقات المملكة وارتباطها بالمنظمات السياسية الإقليمية والعربية والإسلامية والدولية بما يتلاءم مع تلك المقومات.

لقد أكدت هذه الدراسة بالأمثلة الواقعية أن مقومات السياسة الخارجية السعودية هو اعتمادها بشكل كلي على الشريعة الإسلامية. لقد اتضح ذلك من خلال طروحاتها في اجتماعات هيئة الأمم المتحدة وسعيها من أجل تأكيد حقوق الدول الصغيرة والواقعة في قبضة الاستعمار، كما اتضح ذلك من خلال حرصها على إقامة منظومة عربية تجمع الأمة تحت مظلة واحدة، ثم كان للمملكة بقيادة الملك عبد العزيز – يرحمه الله – دور رائد في إنشاء الجامعة العربية ، والعمل على صياغة ميثاقها بما لا يتعارض مع مقومات المملكة العربية السعودية وسياستها الخارجية المبنية على جملة من المبادئ المنبثقة من الشريعة الإسلامية. ومن جهة أخرى كان دور المملكة، خلال عمر الجامعة العربية وما زال رائداً في العمل العربي المشترك، وكانت تسهم إسهاماً مؤثراً في اجتماعات الجامعة العربية واللجان المتفرعة عنها، كما كان لها دور في حل كثير من المشكلات التي واجهت الجامعة أو التي كان للجامعة فيه دور الوسيط.

أما منظمة المؤتمر الإسلامي فقد رأت النور بجهود مباركة مخلصة من قادة المملكة العربية السعودية. فمنذ وفق الله الملك عبد العزيز لضم الحجاز إلى البلاد السعودية جعل نصب عينية أهمية الأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة النبوية وارتباط شعوب العالم الإسلامي بهما. ومن جهوده في هذا المجال سعيه لعقد اجتماعات لزعماء الأمة الإسلامية وحثهم على الالتقاء والتشاور. ثم استمرت جهود المملكة في هذا السبيل، وخصوصاً في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز الذي بذل جهوداً مشكورة في سبيل جمع زعماء الأمة الإسلامية حتى وفقه الله، مع إخوانه قادة الأمة الإسلامية في إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي. وبعد ذلك كان للمملكة إسهامات مؤثرة، مادية ومعنوية، في سبيل قيام المنظمة بواجباتها تجاه الدول الإسلامية وما زالت تقوم بهذا الدور .

ومسك الختام في هذه الدراسة هو بيان جهود المملكة العربية السعودية في إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ثم السعي الحثيث لدعم هذا المجلس في جميع مشروعاته وسياساته. لقد أدرك خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز أهمية العمل الجماعي الخليجي في وقت تكالبت المؤثرات السياسية والاقتصادية ، وأخذت تنحو في اتجاهات تستدعي أخذ الحيطة والحذر. وكان إنشاء مجلس التعاون خطوة في سبيل توحيد سياسات دول الخليج العربية الثنائية والخارجية، والاقتصادية والاجتماعية، والإسهام في بناء كيان خليجي قادر على مواجهة التحديات التي تعصف بالكيانات الضعيفة.

وبمراجعة لمواقف المملكة العربية السعودية وسياستها داخل المنظمات الإقليمية والعربية والإسلامية والعالمية التي كانت محور هذه الدراسة يتبين حقيقة مهمة، وهي أن المملكة تنطلق في سياستها تجاه هذه المنظمات وداخل أروقتها اتجاهاً إصلاحياً داعماً لهذه المنظمات مادياً ومعنوياً بعيداً عن المزايدات أو الدعايات، وبعيداً عن فرض رأيها أو قناعاتها على الدول الأخرى، لكنها في الوقت نفسه لم تكن تتنازل عن حقوقها أو مبادئها التي قامت عليها مهما كانت الأسباب ومهما كانت النتائج. ومن جهة أخرى، كانت المملكة تتحمل في سبيل ذلك تبعات كبيرة لم تمن بها ولم تبخل بها ، وإنما كانت تعــد ذلك واجباً عليها تجاه الشعوب العربية والإسلامية والمجتمع الإنساني التي هي عضو فيــه.

وللتدليل على جهود المملكة في دعم المنظمات التي تحدثت عنها هذه الدراسة، فإن المملكة أضافت عدداً من مكاتب المنظمات الدولية والإقليمية التي اتخذت من بعض مدن المملكة مقراً لها ، وهي:





1– منظمة الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية ومقرها الرياض.

2– مكتب الممثل المقيم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومقره الرياض.

3– البنك الإسلامي للتنمية، ومقره جدة.

4– بعثة البنك الدولي، ومقرها الرياض.

5– منظمة إذاعات الدول الإسلامية، ومقرها جدة.

6– الاتحاد الإسلامي لمالكي البواخر، ومقره جدة.

7– منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) في الخليج، ومقرها الرياض.

8– مكتب الأمم المتحدة الإنمائي، ومقره الرياض.

9– مكتب ممثل منظمة الصحة العالمية، ومقره الرياض.

10– منظمة المؤتمر الإسلامي، ومقرها جدة.

11– منظمة رابطة العالم الإسلامي، ومقرها مكة المكرمة.

12– مجمع الفقه الإسلامي، ومقره جدة.

13– المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، ومقره الرياض.

14– المكتب الإقليمي لشؤون المكفوفين بالشرق الأوسط، ومقره الرياض.

15– مكتب التربية العربي لدول الخليج، ومقره الرياض.

16– وكالة الأنباء الإسلامية الدولية (إينا)، ومقرها جدة.

17– مكتب المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، ومقره الرياض
مع تحياتي ومشكورين عالمرور سلمان الشرهان 430102536