- الأربعاء مايو 04, 2011 3:15 am
#34588
هناك حكمة مشهورة تقول: «لو أنصف الناس لاستراح القاضي», وهذا في الحقيقة أمر غير ممكن لمخالفته السنن الكونية والفطرة التي فطر الله الناس عليها من المشاحة في الحقوق والاختلاف في العقول والتباين في الاجتهادات والآراء. فلا يمكن أن يأتي يوم يدع الناس الاختلاف والمشاحة وتغلق المحاكم أبوابها.
وإذا كان إنصاف الناسِ من أنفسهم أمراً غير ممكن، فإن مما يعد أمراً ممكناً جداً، بل هو مطلوب ومفترض، أن يكون المحامون أعواناً للعدالة وأنصاراً لها، وأن يكون المحامي مجسداً بسلوكه وعمله المقولة المعروفة (المحامي هو القاضي الواقف), وهذا الدور المنوط بالمحامي والأمانة الملقاة على عاتقه والرسالة الشريفة التي يؤديها تقتضي آداباً وأخلاقيات كثيرة لا يمكن أن يكون القاضي عوناً للعدالة دون التحلي بها. وعند تأمل واقع مهنة المحاماة في كثير من المجتمعات تجد بوناً شاسعاً بين الواقع والمأمول, وإذا قصرت الحديث عن واقع المحامين في المملكة فإن مما يؤسف له كثيراً أن مهنة المحاماة تعاني كثرة الدخلاء عليها والمنتسبين إليها من غير أهلها, ما أحدث في ميدانها تجاوزات كثيرة وسلوكيات مشينة لها أثرها السيئ في سمعة المهنة وصورتها.
وفي جلسة حوار قبل أيام مع بعض أصحاب الفضيلة قضاة محكمة الاستئناف في ديوان المظالم ممن تشرفت بالإفادة من علمهم وخبرتهم وما يمتازون به من كفاءة قضائية مشهود لها أيام عملي السابق في الديوان, حيث دار الحديث معهم عن مهنة المحاماة, فكان مما قاله فضيلة شيخنا الشيخ إبراهيم السويلم - وفقه الله: إن القاضي لا يستغني عن المحامي الكفء النزيه الذي يعينه على إظهار الحق والوصول إلى حكم عادل في الدعوى, وإن القاضي يفرح بهذا النوع من المحامين إذا ما مثلوا بين يديه .. إلخ ما قاله فضيلته .
وقد دعاني هذا الحوار إلى الإشارة إلى بعض الجوانب التي أعتقد أنه لو قام بها المحامون والتزموا بها لكان لهم دور كبير جداً في تخفيف العبء عن القضاء, وفي تقليل نسبة الظلم ونشر العدل وإشاعته بين الناس, ولكان المحامي حينها القاضي الأول للدعوى, وإني أؤكد أن هذه الآداب لا يتصور أن يتحلى بها من المحامين إلا من جمع بين عدة صفات أهمها:
1- النية الخالصة لله في تحقيق العدل والحذر من الظلم وإعانة الظالم على ظلمه, واستشعار المحامي المسلم أن الظلم من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله, وأنه لا يفلح الظالمون أبداً, وأن كل من كان طرفاً في إيقاع ظلم على أحد من زمرة الظالمين ومن أعوانهم الذين قال الله عز وجل فيهم : «احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم * وقفوهم إنهم مسؤولون». أسأل الله ـ سبحانه ـ أن يكفينا جميعاً شر الظلم والظالمين.
2- استشعار المحامي أيضاً شرف مهنته وخطورة مهمته وأهمية دوره في تحقيق العدل ولجم الظلم وإيصال الحقوق إلى أصحابها, وردع الظالمين عن مسالكهم.
3- تحلي المحامي بقدر كاف من العلم والخبرة والدراية يمكنه من معرفة أحكام المعاملات التي يتولى الترافع فيها مطالبة أو مدافعة, فالمحامي الجاهل لا يُنتظر منه أن يقوم بهذا الدور الشريف, بل سيقوده جهله إلى أن يكون هو نفسه عبئاً على القضاء, وعائقاً في وجه العدل. وهذا يبين أهمية تأهيل المحامين وأنه لا يجوز الترخيص لأي طالب رخصة محاماة قبل التحقق من تحليه بالحد المقبول من العلم والتأهيل, وهذا الدور منوط بوزارة العدل التي لا تزال تمنح التراخيص اعتماداً على توافر مؤهلات محددة لا تعني بالضرورة تأهيل حاملها لمزاولة مهنة المحاماة, ما يوجب أن تكون هناك مقابلات شخصية, وامتحانات مهنية دقيقة تعقد لكل طالب ترخيص, ثم تمنح التراخيص لكل شخص حسب تأهيله وتكون وفق مستويات متفاوتة كما في كل دول العالم, لا أن يكون كل من منح ترخيصاً يسمح له بالترافع أمام جميع المحاكم وبدرجاتها المختلفة, فهذا من الأخطاء الجسيمة التي ينبغي على الوزارة الاهتمام بها, ولو تطلب الأمر تعديل النظام بما يحقق هذه الغاية.
من كان من المحامين متحلياً بهذه الشروط فإنه ينتظر منه القيام بدور القاضي الأول للدعوى حين تُعرض عليه, فيكون مراعياً لعدة جوانب قبل إقدامه على الدخول في الدعوى والشروع في تقديمها للمحكمة, ومن أهم هذه الجوانب ما يلي:
أولاً: يجب على المحامي أن يتحقق من عدالة الدعوى, وسلامة موقف العميل الذي طلب منه تمثيله فيها أو تولي كتابة مذكراتها, فلا يكون هذا العميل (سواء كان مدعياً أو مدعى عليه) يطالب بباطل أو يماطل في حق, ولا تكون نيته مجرد إلحاق الضرر أو الأذى بخصمه من خلال دعوى كيدية لا تنطوي على مصلحة مشروعة, والله تعالى حذّر من المخاصمة عن الخائنين والظلمة قال تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم: «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً».ـ فإذا ما تحلى المحامي بهذه الصفة اكتسب رضا الله ــ عز وجل ــ وحمى ذمته وعرضه وسمعته من الأذى, وأصبح محلاً لثقة الناس والقضاة, وأعانه الله ــ بإذن الله ــ على النجاح فيما يسعى إليه ما دام مصحوباً بنية العدل والإصلاح.
ثانياً: كما يجب على المحامي أن يتفحص دعوى موكله ويتحقق من واقعيتها وتوافر الأدلة والقرائن التي تؤيدها وتشهد لها, فيناقش العميل عن كل صغيرة وكبيرة نقاش القاضي الذي يقصد الحكم بالعدل, لا نقاش التاجر الباحث عن مواطن الكسب, فكثيراً ما نرى دعاوى تتضمن طلبات بمبالغ طائلة إذا عُرضتْ على القضاء وأُعملت في بحثها القواعد الشرعية تبددت كأنها سراب بقيعة, بل إن بعضها تتكشف عن كون الطالب مطلوباً, ومدعي الظلم ظالما. وإن مما يؤسف له جداً أن بعض المحامين يكون سبباً لتضخيم الدعوى وحض المدعي على المطالبة بمبالغ كبيرة ما أنزل الله بها من سلطان, وليس عليها دليل ولا برهان, وإنما هي إلى أضغاث الأحلام أقرب منها إلى حقائق الأحكام. خاصة في جانب طلبات التعويض التي يعجب من يطلع عليها إذا رأى وضع ملايين الريالات بشكل جزافي للمطالبة بتعويض عن فعل يعتقد المدعي أنه خطأ وقع عليه.
والأعجب من ذلك أن تجد صحيفة دعوى صادرة عن محام يشير فيها إلى المطالبة بتعويض موكله عن ضرر نفسي ومعنوي وتجد ذلك المحامي قدّر الضرر لموكله بكذا مليون ريال وكأنه جهة استشارية لتقدير مثل هذه الأضرار. فهذا مما يثقل كاهل القضاء ويشغل القضاة عن القيام بدورهم الشريف في فصل الخصومات وإيصال الحقوق لأصحابها, ويخشى على المحامي في هذه الحال من الوقوع في الإثم والمعصية.
ثالثاً: كما يجب على المحامي قبل أن يباشر الدخول في أي قضية أن يتحقق من صحة الوقائع التي نتجت عنها الخصومة, وأن يسعى إلى تكييف هذه الوقائع ولو بشكل مبدئي تكييفاً يعينه على معرفة الحكم الأليق والأشبه بها والأقرب إلى نصوص الشرع والنظام, فإن من الأخطاء الجسيمة التي يقع فيها بعض المحامين في هذا الجانب ما يلي:
1- أن يزج المحامي في لائحة دعواه أو صحيفة دفاعه خليطاً من الوقائع والأحداث التي ينسجها على هيئة القصص والروايات, دون تمحيص ولا فحص, ولا اهتمام بالتحقق من صحة وقوعها من عدمه, ثم يرتب على هذه القصص مطالبات وأحكاما, ويلقي بها إلى القضاء ليتولى القاضي بعد ذلك تحليلها وتمحيصها وكأنه بذلك يفك عُقد ساحر.
2- أن يخطئ المحامي في تكييف دعوى موكله خطأ جسيماً غير مقبول من مؤهل, بحيث ينزل عليها أحكاماً لنصوص شرعية أو نظامية لا تتعلق بها من قريب ولا بعيد . فيوقع نفسه في حرج شديد عندما يواجه الحكم القضائي, ويعرض سمعته المهنية للتشويه, ولو أنه بذل أدنى قدر من البحث والتقصي لكان سلك طريقاً أقرب ولو قليلاً من هذا الطريق.
رابعاً: يجب على المحامي أن يجتهد كثيراً في معرفة جهة الاختصاص لأي دعوى قبل مباشرة رفعها, بحيث يتحاشى إضاعة الوقت عليه وعلى موكله, ويتجنب إشغال الجهات القضائية بإصدار أحكام عدم الاختصاص. وفي هذا الجانب لا بد من التأكيد على أمرين هما:
1- أن الاختصاص لا يكون ظاهراً في كل القضايا, بل إن بعضها مما يخطئ فيه أكثر القضاة خبرة, ومثل هذه القضايا الخفية لا يلام فيها المحامي, وإنما الحديث عن القضايا الواضحة التي لا يعذر المحامي بجهلها, ولا مانع أيضاً أن يشاور المحامي غيره من المحامين الأكثر خبرة أو حتى القضاة لسؤالهم عن جهة الاختصاص فيما خفي عليه, ولا يترك عبء ذلك على القاضي وحده.
2- أن من المسالك المشينة لبعض المحامين, التي وقفت على بعضها, أن يتعمد المحامي إقامة الدعوى في محكمة غير مختصة لغرض في نفسه. إما لإرادة إطالة أمد الضرر بالمدعى عليه, أو لغير ذلك من أغراض.
خامساً : يجب على المحامي أن يحرص على الإصلاح بين المسلمين, وأن يحاول تقريب وجهات النظر بين المتخاصمين, ويبذل جهده في إيجاد حلول ومقترحات لإنهاء الخصومة قبل الشروع في إقامة الدعوى.ـ وإن من أحسن المسالك التي أتمنى أن أراها يوماً أن يستعين محامي المدعي بمحامي المدعى عليه في تحقيق هذه الغاية الشريفة, حتى إن شرط لنفسه أجرة في حال تحقق الصلح على يديه, ولعل ذلك لا يضيع أجره ــ بإذن الله ــ إذا كان مقصده الأسمى هو طاعة الله وامتثال أمره ــ سبحانه ــ بالإصلاح بين المسلمين.
سادساً: يجب على المحامي إذا أقام الدعوى أن يبتعد فيها عن اللجاج والمماحكة في الخصومة, وأن يكون انتسابه لأعوان القضاء, وواجبه تجاه العدالة, أهم عنده من رضا موكله وتحقيق رغباته, وأن يتعاون مع القضاء في إجابة طلباته وحضور الجلسات, وعدم إيغار صدر موكله على القضاء وتشكيكه في القضاة, فإن هذا من أقبح المسالك وأخطر الأفعال التي تلحق الضرر بالقضاء وبصورته.
وهذا لا يعني أن يقبل المحامي بما يعتقد أنه ظلم وقع على موكله, بل يجب عليه أن يسلك كل السبل الشرعية والنظامية للمطالبة بحقوق موكله, والدفاع عنه أمام أي ظلم أو خطأ يرى أنه وقع عليه سواء كان من خصمه أم من القاضي, لكن بطريقة مهنية لا تخرج عن حدود الشرع والنظام.
هذه بعض الآداب التي أتمنى أن تكون واقعاً محسوساً مشاهداً في ميدان المحاماة. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت هو سبحانه حسبي ونعم الوكيل.
محمد بن سعود الجذلاني
* القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً ..
وإذا كان إنصاف الناسِ من أنفسهم أمراً غير ممكن، فإن مما يعد أمراً ممكناً جداً، بل هو مطلوب ومفترض، أن يكون المحامون أعواناً للعدالة وأنصاراً لها، وأن يكون المحامي مجسداً بسلوكه وعمله المقولة المعروفة (المحامي هو القاضي الواقف), وهذا الدور المنوط بالمحامي والأمانة الملقاة على عاتقه والرسالة الشريفة التي يؤديها تقتضي آداباً وأخلاقيات كثيرة لا يمكن أن يكون القاضي عوناً للعدالة دون التحلي بها. وعند تأمل واقع مهنة المحاماة في كثير من المجتمعات تجد بوناً شاسعاً بين الواقع والمأمول, وإذا قصرت الحديث عن واقع المحامين في المملكة فإن مما يؤسف له كثيراً أن مهنة المحاماة تعاني كثرة الدخلاء عليها والمنتسبين إليها من غير أهلها, ما أحدث في ميدانها تجاوزات كثيرة وسلوكيات مشينة لها أثرها السيئ في سمعة المهنة وصورتها.
وفي جلسة حوار قبل أيام مع بعض أصحاب الفضيلة قضاة محكمة الاستئناف في ديوان المظالم ممن تشرفت بالإفادة من علمهم وخبرتهم وما يمتازون به من كفاءة قضائية مشهود لها أيام عملي السابق في الديوان, حيث دار الحديث معهم عن مهنة المحاماة, فكان مما قاله فضيلة شيخنا الشيخ إبراهيم السويلم - وفقه الله: إن القاضي لا يستغني عن المحامي الكفء النزيه الذي يعينه على إظهار الحق والوصول إلى حكم عادل في الدعوى, وإن القاضي يفرح بهذا النوع من المحامين إذا ما مثلوا بين يديه .. إلخ ما قاله فضيلته .
وقد دعاني هذا الحوار إلى الإشارة إلى بعض الجوانب التي أعتقد أنه لو قام بها المحامون والتزموا بها لكان لهم دور كبير جداً في تخفيف العبء عن القضاء, وفي تقليل نسبة الظلم ونشر العدل وإشاعته بين الناس, ولكان المحامي حينها القاضي الأول للدعوى, وإني أؤكد أن هذه الآداب لا يتصور أن يتحلى بها من المحامين إلا من جمع بين عدة صفات أهمها:
1- النية الخالصة لله في تحقيق العدل والحذر من الظلم وإعانة الظالم على ظلمه, واستشعار المحامي المسلم أن الظلم من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله, وأنه لا يفلح الظالمون أبداً, وأن كل من كان طرفاً في إيقاع ظلم على أحد من زمرة الظالمين ومن أعوانهم الذين قال الله عز وجل فيهم : «احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم * وقفوهم إنهم مسؤولون». أسأل الله ـ سبحانه ـ أن يكفينا جميعاً شر الظلم والظالمين.
2- استشعار المحامي أيضاً شرف مهنته وخطورة مهمته وأهمية دوره في تحقيق العدل ولجم الظلم وإيصال الحقوق إلى أصحابها, وردع الظالمين عن مسالكهم.
3- تحلي المحامي بقدر كاف من العلم والخبرة والدراية يمكنه من معرفة أحكام المعاملات التي يتولى الترافع فيها مطالبة أو مدافعة, فالمحامي الجاهل لا يُنتظر منه أن يقوم بهذا الدور الشريف, بل سيقوده جهله إلى أن يكون هو نفسه عبئاً على القضاء, وعائقاً في وجه العدل. وهذا يبين أهمية تأهيل المحامين وأنه لا يجوز الترخيص لأي طالب رخصة محاماة قبل التحقق من تحليه بالحد المقبول من العلم والتأهيل, وهذا الدور منوط بوزارة العدل التي لا تزال تمنح التراخيص اعتماداً على توافر مؤهلات محددة لا تعني بالضرورة تأهيل حاملها لمزاولة مهنة المحاماة, ما يوجب أن تكون هناك مقابلات شخصية, وامتحانات مهنية دقيقة تعقد لكل طالب ترخيص, ثم تمنح التراخيص لكل شخص حسب تأهيله وتكون وفق مستويات متفاوتة كما في كل دول العالم, لا أن يكون كل من منح ترخيصاً يسمح له بالترافع أمام جميع المحاكم وبدرجاتها المختلفة, فهذا من الأخطاء الجسيمة التي ينبغي على الوزارة الاهتمام بها, ولو تطلب الأمر تعديل النظام بما يحقق هذه الغاية.
من كان من المحامين متحلياً بهذه الشروط فإنه ينتظر منه القيام بدور القاضي الأول للدعوى حين تُعرض عليه, فيكون مراعياً لعدة جوانب قبل إقدامه على الدخول في الدعوى والشروع في تقديمها للمحكمة, ومن أهم هذه الجوانب ما يلي:
أولاً: يجب على المحامي أن يتحقق من عدالة الدعوى, وسلامة موقف العميل الذي طلب منه تمثيله فيها أو تولي كتابة مذكراتها, فلا يكون هذا العميل (سواء كان مدعياً أو مدعى عليه) يطالب بباطل أو يماطل في حق, ولا تكون نيته مجرد إلحاق الضرر أو الأذى بخصمه من خلال دعوى كيدية لا تنطوي على مصلحة مشروعة, والله تعالى حذّر من المخاصمة عن الخائنين والظلمة قال تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم: «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً».ـ فإذا ما تحلى المحامي بهذه الصفة اكتسب رضا الله ــ عز وجل ــ وحمى ذمته وعرضه وسمعته من الأذى, وأصبح محلاً لثقة الناس والقضاة, وأعانه الله ــ بإذن الله ــ على النجاح فيما يسعى إليه ما دام مصحوباً بنية العدل والإصلاح.
ثانياً: كما يجب على المحامي أن يتفحص دعوى موكله ويتحقق من واقعيتها وتوافر الأدلة والقرائن التي تؤيدها وتشهد لها, فيناقش العميل عن كل صغيرة وكبيرة نقاش القاضي الذي يقصد الحكم بالعدل, لا نقاش التاجر الباحث عن مواطن الكسب, فكثيراً ما نرى دعاوى تتضمن طلبات بمبالغ طائلة إذا عُرضتْ على القضاء وأُعملت في بحثها القواعد الشرعية تبددت كأنها سراب بقيعة, بل إن بعضها تتكشف عن كون الطالب مطلوباً, ومدعي الظلم ظالما. وإن مما يؤسف له جداً أن بعض المحامين يكون سبباً لتضخيم الدعوى وحض المدعي على المطالبة بمبالغ كبيرة ما أنزل الله بها من سلطان, وليس عليها دليل ولا برهان, وإنما هي إلى أضغاث الأحلام أقرب منها إلى حقائق الأحكام. خاصة في جانب طلبات التعويض التي يعجب من يطلع عليها إذا رأى وضع ملايين الريالات بشكل جزافي للمطالبة بتعويض عن فعل يعتقد المدعي أنه خطأ وقع عليه.
والأعجب من ذلك أن تجد صحيفة دعوى صادرة عن محام يشير فيها إلى المطالبة بتعويض موكله عن ضرر نفسي ومعنوي وتجد ذلك المحامي قدّر الضرر لموكله بكذا مليون ريال وكأنه جهة استشارية لتقدير مثل هذه الأضرار. فهذا مما يثقل كاهل القضاء ويشغل القضاة عن القيام بدورهم الشريف في فصل الخصومات وإيصال الحقوق لأصحابها, ويخشى على المحامي في هذه الحال من الوقوع في الإثم والمعصية.
ثالثاً: كما يجب على المحامي قبل أن يباشر الدخول في أي قضية أن يتحقق من صحة الوقائع التي نتجت عنها الخصومة, وأن يسعى إلى تكييف هذه الوقائع ولو بشكل مبدئي تكييفاً يعينه على معرفة الحكم الأليق والأشبه بها والأقرب إلى نصوص الشرع والنظام, فإن من الأخطاء الجسيمة التي يقع فيها بعض المحامين في هذا الجانب ما يلي:
1- أن يزج المحامي في لائحة دعواه أو صحيفة دفاعه خليطاً من الوقائع والأحداث التي ينسجها على هيئة القصص والروايات, دون تمحيص ولا فحص, ولا اهتمام بالتحقق من صحة وقوعها من عدمه, ثم يرتب على هذه القصص مطالبات وأحكاما, ويلقي بها إلى القضاء ليتولى القاضي بعد ذلك تحليلها وتمحيصها وكأنه بذلك يفك عُقد ساحر.
2- أن يخطئ المحامي في تكييف دعوى موكله خطأ جسيماً غير مقبول من مؤهل, بحيث ينزل عليها أحكاماً لنصوص شرعية أو نظامية لا تتعلق بها من قريب ولا بعيد . فيوقع نفسه في حرج شديد عندما يواجه الحكم القضائي, ويعرض سمعته المهنية للتشويه, ولو أنه بذل أدنى قدر من البحث والتقصي لكان سلك طريقاً أقرب ولو قليلاً من هذا الطريق.
رابعاً: يجب على المحامي أن يجتهد كثيراً في معرفة جهة الاختصاص لأي دعوى قبل مباشرة رفعها, بحيث يتحاشى إضاعة الوقت عليه وعلى موكله, ويتجنب إشغال الجهات القضائية بإصدار أحكام عدم الاختصاص. وفي هذا الجانب لا بد من التأكيد على أمرين هما:
1- أن الاختصاص لا يكون ظاهراً في كل القضايا, بل إن بعضها مما يخطئ فيه أكثر القضاة خبرة, ومثل هذه القضايا الخفية لا يلام فيها المحامي, وإنما الحديث عن القضايا الواضحة التي لا يعذر المحامي بجهلها, ولا مانع أيضاً أن يشاور المحامي غيره من المحامين الأكثر خبرة أو حتى القضاة لسؤالهم عن جهة الاختصاص فيما خفي عليه, ولا يترك عبء ذلك على القاضي وحده.
2- أن من المسالك المشينة لبعض المحامين, التي وقفت على بعضها, أن يتعمد المحامي إقامة الدعوى في محكمة غير مختصة لغرض في نفسه. إما لإرادة إطالة أمد الضرر بالمدعى عليه, أو لغير ذلك من أغراض.
خامساً : يجب على المحامي أن يحرص على الإصلاح بين المسلمين, وأن يحاول تقريب وجهات النظر بين المتخاصمين, ويبذل جهده في إيجاد حلول ومقترحات لإنهاء الخصومة قبل الشروع في إقامة الدعوى.ـ وإن من أحسن المسالك التي أتمنى أن أراها يوماً أن يستعين محامي المدعي بمحامي المدعى عليه في تحقيق هذه الغاية الشريفة, حتى إن شرط لنفسه أجرة في حال تحقق الصلح على يديه, ولعل ذلك لا يضيع أجره ــ بإذن الله ــ إذا كان مقصده الأسمى هو طاعة الله وامتثال أمره ــ سبحانه ــ بالإصلاح بين المسلمين.
سادساً: يجب على المحامي إذا أقام الدعوى أن يبتعد فيها عن اللجاج والمماحكة في الخصومة, وأن يكون انتسابه لأعوان القضاء, وواجبه تجاه العدالة, أهم عنده من رضا موكله وتحقيق رغباته, وأن يتعاون مع القضاء في إجابة طلباته وحضور الجلسات, وعدم إيغار صدر موكله على القضاء وتشكيكه في القضاة, فإن هذا من أقبح المسالك وأخطر الأفعال التي تلحق الضرر بالقضاء وبصورته.
وهذا لا يعني أن يقبل المحامي بما يعتقد أنه ظلم وقع على موكله, بل يجب عليه أن يسلك كل السبل الشرعية والنظامية للمطالبة بحقوق موكله, والدفاع عنه أمام أي ظلم أو خطأ يرى أنه وقع عليه سواء كان من خصمه أم من القاضي, لكن بطريقة مهنية لا تخرج عن حدود الشرع والنظام.
هذه بعض الآداب التي أتمنى أن تكون واقعاً محسوساً مشاهداً في ميدان المحاماة. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت هو سبحانه حسبي ونعم الوكيل.
محمد بن سعود الجذلاني
* القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً ..