منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
#37269
رغم الجدل المثار حول الاقتراح المصري، بقيام علاقة كونفدرالية بين شمال السودان وجنوبه، بدلا عن الانفصال الكامل، لا يبدو في الأفق، ما يشي باستعداد الجنوبيين للقبول بهذه المقاربة. ولعلنا لا نبتعد كثيرا عن الواقع، حين نتوصل إلى أن انفصال الجنوب عن المركز الأم بات مسألة وقت. يعزز هذه القناعة، تصريحات قادة الدولة الجنوبية المرتقبة العلنية عن النية في فتح البوابة الجنوبية لإسرائيل، لتكثيف تسللها للعمق الأفريقي، بما يضيف للخناجر المسمومة، التي تهدد الأمن القومي خنجرا آخر، تشمل مخاطره وادي النيل بأسره.
لقد أكدت ذلك، مراكز الدراسات الاستراتيجية الإسرائيلية، كما ورد في تصريحات لزعماء صهاينة. فقد أشار وزير الأمن الإسرائيلي، آفي ديختر بمحاضرة نشرها معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، إلى أن لدى إسرائيل موقفا استراتيجيا ثابتا تجاه السودان، يهدف إلى حرمانه من أن يصبح دولة مهمة بالمنطقة، تضيف إلى قدرات البلدان العربية. كانت جولدا مائير قد أكدت بعد نكسة يونيو، أن تقويض الأوضاع بالسودان والعراق يقتضي استغلال النعرات العرقية. إن استهداف وحدة البلدين، من وجهة نظرها، سيجعل العمق الاستراتيجي لدول المواجهة العربية مكشوفا، في أية حرب مع إسرائيل. وفي هذا الاتجاه، عمل الكيان الصهيوني على اكتساب مواقع في إثيوبيا وأوغندا وكينيا وزائير، بهدفين مركبين: الأول الانطلاق من هذه المناطق لعزل الجنوب السوداني ودارفور عن المركز، والثاني، التسلل لبقية القارة الأفريقية. وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، أرييل شارون، قد كشف عام 2003، عن نوايا حكومته للتدخل في دارفور، بالوسائل، والأهداف التي جربت في الجنوب.
إن ذلك يؤكد أن انفصال الجنوب عن الخرطوم لن يكون نهاية المطاف، ولن يسود السلام أرض السودان، بعده. سوف يكون الانفصال مقدمة لبراكين وأعاصير. وستتبعه مشاكل كبرى، لن تقتصر على تآكل جرف الوطن العربي، وجعل العمق الاستراتيجي للأمة مكشوفا، بل ستتعداه إلى استخدام المناطق التي يجري انفصالها، كقواعد انطلاق للعدوان عليه.
إن مقدمات ذلك، قد بدأت منذ الآن، في المفاوضات المتعلقة بالاستفتاء. فالتشابك الجغرافي والديمجرافي بين عموم السودان، الذي استمر لحقب طويلة، سيطرح قضية تحديد ماهية الجنوب وحدوده، كما سيطرح قضايا كثيرة، متعلقة بتوزيع الثروة والمياه، والعلاقات بين "الدولة المرتقبة" وبين الخرطوم.
ففي تخطيط الحدود بين الجنوب والمركز، برزت مشكلة منطقة أبيي، الغنية بالنفط. وهي مشكلة تقترب إلى حد كبير من مشكلة كركوك في شمال العراق. وفي كلتا الحالتين، تعتبر الحكومة المركزية هذه المدن امتدادا طبيعيا للوطن الأم، وتتمسك ببقائها تحت سيطرتها. وفي الحالتين، وقف الغرب، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، بالضد من رغبات شعوب المنطقة. في الحالة العراقية، حسمت الإدارة الأمريكية الأمر باحتلال العراق، ومصادرته كيانا وهوية، وفرضت القسمة الطائفية والإثنية عليه، وتركت الباب مفتوحا لمشاحنات الطوائف والأقليات حول اكتساب كركوك لهذا الفريق أو ذاك. وأصبح بحكم المؤكد تبعية هذه المدينة للحكومة الكردية بالشمال العراقي. أما في السودان، فإن إدارة الرئيس أوباما، تمسك بعصا غليظة من جهة، وتلوح بالجزرة من جهة أخرى. إن ذلك يعني أن الحكومة السودانية، وضعت بين خيارين أحلاهما مر: إما أن تسلم بكافة المطالب الجنوبية، بما في ذلك التفريط بمدينة أبيي، أو الاستعداد لجولة أخرى من العنف المدعوم بشكل مباشر من الأمريكيين والأوروبيين والصهاينة، بجنوب السودان وغربه، وبقاء العقوبات "الدولية"، سيفا مسلطا على رقبتها. وفي كلتا الحالتين فإن صناع القرار في السودان هم في وضع لا يحسدون عليه.
حين يتعلق الأمر بتقاسم المياه، تواجه مصر والسودان مشاكل كبرى. فهناك احتمال أن تسارع إسرائيل والغرب بالقفز بثقلهم إلى المنطقة، والقيام ببناء سدود مائية ضخمة، تحجز تدفق المياه إلى الشمال، بالكميات المعتادة، بما يهدد الأمن المائي العربي في الصميم، ويعرض مستقبل البلدين للمخاطر. ولا نعلم كيف سيتم تجاوز ذلك في ظل الوهن والعجز العربي. إن العجز العربي الرسمي عن تقديم دعم للأشقاء بالسودان يعني أن على السودانيين ألا يعولوا في هذه المرحلة على أي دور عربي لمساندتهم فيما يتعرضون له من ضغوط، دولية وإقليمية. لكن ذلك لا يعني عدم قرع جرس الإنذار، خاصة أن مخاطر الصمت عما يجري تشمل مستقبل مصر، بثقلها البشري والحضاري.
إن أوضاع السودان تتطلب، من مختلف القوى الوطنية السودانية الابتعاد عن الفئوية وسياسة الإقصاء، والالتفاف حول برنامج وطني يسهم في الخروج من المأزق. والمطلوب أيضا، أن تنتقل الصلة بين الشمال والجنوب، من علاقات صراع، إلى صداقة وسلام، بما يحبط المخططات المعادية للأمة، ويسهم في تجاوز عقد الماضي، باعتبار ذلك مقدمة الانطلاق لبناء المستقبل. :bom: