By محمد الغامدي (8) - الأحد يونيو 05, 2011 4:18 pm
- الأحد يونيو 05, 2011 4:18 pm
#38536
لقد كان من الأهداف الأساسية للولايات المتحدة الأمريكية ـ والتي حققت جزءاً كبيراً منه وهي في طريق استكــمال باقي أهدافها ـ منذ مساهمتها الفاعلة في إنشاء (( منظمة الأمم المتحدة )) ، هو القضاء على دور أوروبا في إدارة السياسة الدولية والتحكم في الموقف الدولــي ، وجعل أوروبا جزءاً من السياسة العالمية أي (( العالم بما فيه أوروبا )) وليس (( أوروبا ومحيطها الخارجي )) .
وأدركت أمريكا مبكراً ما تملكه من إمكانات وقدرات تؤهلها للاضطلاع بدور الدولة الأولى في العالم ورغبتها الجادة في قيادته ، منذ اشتراكها في الحرب العالمية الأولى ، ثم الحرب العالمية الثانية والتي ظهر لها من خلالها مدى الضعف الذي آلت إليه الدول الكبرى في أوروبا وما آلت إليه أوضاعها ، ما دفعها لأن تكون حالها حين ساهمت في إنشاء (( منظمة الأمم المتحدة )) حال مَنْ يملي الشروط في تكوين الميثاق لا حال مَنْ يرغب بأن يكون عضواً دائماً فقط ، ذلك أن الولايات المتحدة هي المنظِّرة أصلاً لفكرة المنظمة الدولية عقب الحرب العالمية الأولى بواسطة الرئيس الأمريكي (( ودرو ولسون ) الذي صاغ إعلانه الشهير المكوَّن من 14 نقطة لتكون أساساً للمنظمة الدولية في حينه ، وكانت أمريكا حريصة على إنهاء التكتل الأوروبي بصفته تكتلاً يتحكم في مجريات السياسة الدولية آنذاك ، ولم تستجب دول أوروبا استجابة تامّة للإعلان الأمريكي ، ولم تنضم الولايات المتحدة إلى عصبة الأمم ـ التي شكلتها دول أوروبا ـ وتركتها تلاقي مصير الانهيار ، وفي نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت أمريكا من خلال ترومان بإجراء المشاورات بشان إنشاء منظمة دولية جديدة أطلقت عليها اسم (( الأمم المتحدة )) ، ولما كان الحلفاء حريصين ـ عقب الحرب العالمية الثانية ـ على دخول ومشاركة الولايات في المنظمة الدولية خاصة بعد الدمار الكبير الذي لحق بهم وبعد بروز روسيا السوفيتية كقوة سياسية ، فقد وافقت هذه الدول على إنجاز جميع الخطوات والمناقشات المتعلقة بميثاق (( منظمة الأمم المتحدة )) ، داخل أمريكا وعلى مسمع من المجتمع الأمريكي ومؤسساته ، إذ وافق مجلس الشيوخ على الميثاق بأغلبية 89 صوتاً مقابل صوتين ، ومع أن الميثاق لم يكن ينص على مقر المنظمة الدوليـة ، إلا أنها أقيمت على أرض أمريكية قدمها (( روكفلر )) مع قرض لإقامة البناء دون فوائد .
وبينما كانت الدول المؤسسة تتباحث لوضع اللمسات الأخيرة على بنود الميثاق والذي كان من مواده (( حفظ السلام والأمن الدوليين )) و (( منع الاعتداء ودرء الحرب )) ، كانت أمريكا تسير قدماً في برنامجها النووي السري والذي أظهرته للعالم بعد 41 يوماً من توقيع الميثاق في تفجيرها الذري في هيروشيما يوم 6/8/1945 معلنة بذلك نهاية الحرب العالمية الثانية واستقبال حقبة تاريخية جديدة تكون لها فيها الريادة وإملاء الإرادة .
والولايات المتحدة ومنذ إعلان سان فرانسيسكو الذي صاغته مع الاتحاد السوفيتي والصين الوطنية والمستند إلى مباحثات يالطا والذي تضمن حق النقض (( الفيتو )) للدول دائمة العضوية والذي نصه : ( نظراً للمسؤولية الأساسية التي يتحملها الأعضاء الدائمون لا يمكن أن يُنتَظر منهم في الوضع الحالي للظروف الدولية أن يقبلوا الالتزام بالعمل في ميدان بمثل خطورة ميدان حفظ السلام والأمن ) ، وذلك تنفيذا لقرار لم يوافقوا عليه ، أدركت الولايات المتحدة في حينه مدى خطورة الفيتو على دورها في قيادة الأمم المتحدة وإدارة الأزمات الدولية مع تمتعها هي أيضاً بالفيتو ولكن المشكلة بالنسبة لها هو تمتع الدول الكبرى التقليدية به إلى جانب القوى الدولية حينذاك الاتحاد السوفيتي ، لذلك فإن أمريكا سعت منذ البداية في الانتقال من (( توازن القوى )) الذي كان واقعاً دولياً تقوده دول أوروبا إلى مفهوم (( الأمن الجماعي )) أي من واقع تعدد الدول الكبرى التي ترى لها الحق ـ باعتبارها المنتصر ـ للتأثير في الوضع الدولي إلى واقع المؤسسات التي تحمي المعاهدات والضمانات بين الدول من خلال آلية اتخاذ القرارات في الجمعية العامة بأكثرية الأصوات ومع احتفاظ أمريكا بدورها القيادي .
لقد كان لانتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة منذ شباط 1961 وبداية سياسة الوفاق أثر حاسم في نجاح السياسة الأمريكية للجم أوروبا ودولها الكبرى التقليدية بإضعاف دورها في مجلس الأمن ومنظمة الأمم المتحدة مما ساهم في إبعادها عن الموقف الدولي والشؤون الدولية لحد ما .
وقد كان الأسلوب الذي اتخذته الولايات المتحدة لتحقيق غاياتها منذ تلك اللحظة ولا زالت تسير به حتى اليوم مع الأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي طرأت في الموقف الدولي ـ يقوم على الأسس التالية : ـ
الأول : تفعيل دور الجمعية العامة للأمم المتحدة بتمكين دول أخرى للانضمام للمنظمة الدولية بحيث لا يعود الأمر مقصوراً على الدول المؤسسة والدول دائمة العضوية وبإزالة القيود والشروط المفروضة على العضوية كالمطالبة بإلغاء الوصاية على المستعمرات والمطالبة باستقلال وتحرير الشعوب ، ومن جهة أخرى تحويل القضايا التي يعجز مجلس الأمن عن البت فيها إلى الجمعية العامة كما فعل وزير خارجية أمريكا في 3/11/1950 عندما تقدم بقرار عُرف فيما بعد باسم (( قرار أشيسون )) تحت عنوان (( الاتحاد من أجل المحافظة على السلام )) إذ يُعدّ هذا التفافاً على مجلس الأمن ودوله دائمة العضوية إذ أن حفظ السلام هو مهمته . وعليه فإنه في حالة شلل مجلس الأمن باستعمال حق النقض يمكن للجمعية العامة أن تتناول القضية بدعوتها للجمعية ولو بدورة استثنائية بناءاً على طلب أكثرية أعضاء الجمعية أو مجلس الأمن ، والقرار الذي يصدر لا يكون مُلزِماً بل هو عبارة عن توصية تعبّر عن مشاعر الأكثريــة وتضفي (( الشرعية الدولية )) على أي عمل تطوعي يحاول تحقيق الوصية ، وأبرز مثال على ذلك تدخل أمريكا بالحرب الكورية عام 1950 بناءاً على توصية الجمعية العامة ، والوقوف ضد الاجتياح السوفيتي للمجر على 1956 والوقوف ضد العدوان الثلاثي على مصر 1956 ، ويتضح من هذا دور الجمعية العامة في مقابل مجلس الأمن أي مقابل الدول الكبرى التقليدية وبتصاعد قوة أمريكا خاصة بعد ضعف الاتحاد السوفيتي ثم زواله ، قادت أمريكا دول العالم والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن والجمعية العامة لشنّ هجومها على العراق عام 1991 وحتى الآن ، مما يعني تكريساً لنجاحاتها ودورها القيادي المتفرِّد في الأمم المتحدة والموقف الدولي بحيث غدت الدول الكبرى التقليدية دائمة العضوية في مجلس الأمن لا فرق بينها وبين غيرها من الدول الأخرى .
الثاني : توسيع عضوية مجلس الأمن والسعي الحثيث لإلغاء حق النقض (( الفيتو)) والحد من فاعليته ، ففي عام 1952 عرضت الولايات المتحدة على المنظمة الدولية التخلي عن حق النقض (( الفيتو )) إلا أنه لم يُقَرّ ، إلا أن الولايات المتحدة لم تقف عند هذا الحد خاصة بعد سياسة الوفاق مع الاتحاد السوفيتي فعمدت إلى استخدام الفيتو كأداة تخويف ضد باقي الدول الكبرى سواء في مواضيع السلاح الذري وسباق التسلح أو من خلال عقد المؤتمرات الدولية التي تبحث في القضايا الدولية الكبرى كقضية الشرق الأوسط ، مُلغية دور مجلس الأمن كلياً وواضعة حداً لما يُسمّى بدول أوروبا الكبرى ولِحق (( الفيتو )) .
أما توسيع مجلس الأمن فقد حققته من خلال قرار أصدرته الجمعية العامة عام 1963 بزيادة عدد الأعضاء من 11 عضواً إلى 15 عضواً ، وتبعه بعد ذلك تعديل المادة 27 لتنصّ على أن القرارات التي يتخذها مجلس الأمن في الأمور الإجرائية تصبح نافذة إذا ما وافق عليها تسعـــة أعضاء ، وكذلك سعت أمريكا في بداية السبعينات لطرد الصين الوطنية (( فرموزا )) من عضوية مجلس الأمن ومنح الصين الشعبية حق العضوية الدائم ، وكررت هذا العمل في بداية التسعينات عندما أيدت منح مقعد الاتحاد السوفيتي ـ الذي انتهى وجوده ـ لصالح روسيا الاتحادية .
وفي عام 1992 أيدت الولايات المتحدة الجمعية العامة بالقرار الذي تقدمت به الهند لتوسيع عضوية مجلس الأمن ثم قررت الجمعية العامة في ديسمبر 1993 أن تنشئ فريقاً عاملاً مفتوح العضوية لمواصلة النظر في جميع جوانب المسألة الخاصة بزيادة العضوية وبباقي الأمور الأخرى ومنها حق (( النقض )) بحيث يصل عدد الأعضاء إلى 32 عضواً يتمتع 5 منهم بحق العضوية الدائم يمثلون قارة آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا ليصبح عدد الأعضاء الدائمين 10 أعضاء وقد رشّحت أسماء بعض هذه الدول مثل الهند وباكستان عن آسيا وألمانيا أو إيطاليا عن أوروبا ومصر عن أفريقيا والأرجنتين عن أمريكا اللاتينية ، ثم دعت لإلغاء حق النقض (( الفيتو )) بالتدرج وأن يعاود بحث ومراجعة الموضوع في الأعوام القليلة القادمة .
الثالث : تفعيل دور الأمين العام للأمم المتحدة وتهميش دور مجلس الأمن من خلال الجمعية العامة والوكالات الدولية المختلفة التابعة للأمم المتحدة ومن خلال الاشتراك والإشراف على القضايا الدولية العامة وأعمال حفظ السلام ومشاكل الحروب ، والمعونات الاقتصادية في حالة الكوارث والمجاعات بحيث يبرز دور المنظمة الدولية بوصفها أمماً متحدة وليس تكتلاً من مجموعة دول كبرى تقرر حالة السلم أو الحرب وتكرس مفهوم (( الأمن الجماعي )) و (( الاتحاد من أجل السلام )) وكان من أبرز هذه الأعمال بعد أن قطعت الولايات المتحدة شوطاً كبيراً في تحويل الموقف الدولي لصالحها هو ترحيب الجمعية العامة للأمم المتحدة باتفاقية دول أمريكا الوسطى لحفظ السلام والتي طالبت الجمعية العامة الأمين العام بإرسال (( مجموعة مراقبي الأمم المتحدة في أمريكا الوسطى )) وذلك في 7/10/1987 حيث بدأت أعمالها في عام 1989 وهي أو عملية سلام تقوم بها الأمم المتحدة منذ تأسيسها في أمريكا الوسطى ، مما يعني عدم تعارض هذا العمل مع مبدأ (( مونرو )) والذي يكشف عن المدى الذي وصلت إليه الولايات المتحدة في السيطرة على المنظمة الدولية ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل برز دور الأمين العام في عمليات إرسال مراقبي الأمم المتحدة لعمليات حفظ السلام إلى البلقان في أوروبا وإلى الشرق الأوسط ومشاركته بوصفه أميناً عاماً للمنظمة الدولية في المؤتمرات الخاصة بالدول الكبرى كمؤتمر الدول الفرنكوفونية الذي عُقِد في باريس أواخر العام الماضي 1998 وحضوره لمؤتمر مجلس التعاون الخليجي التاسع عشر في ديسمبر 1998 ودوره الفعّال في أزمة العراق الأخيرة ووساطته في قضية لوكربي ولا يخفى على المتتبع أن الولايات المتحدة تسعى في إدارتها لكثير من القضايا لدفع معظم الدول باتجاه المطالبة بتفعيل دور الأمم المتحدة وأمينها العام ، وهذا ما تهدف له وتريده .
هذا ما تسعى أمريكا لإحداثه من تغييرات في بنية الأمم المتحدة ودورها لتبقيها أداة فعالة في يدها وقاطعة الطريق ومنهية لدور الدول الكبرى التقليدية ودفعها لتقنع بأن تكون جزءاً من العالم ، وهي تتخذ من القضايا الكبرى الساخنة كقضية الشرق الأوسط في فلسطين ، والعراق وقضية البلقان وقضية أفريقيا مرتكزاً أساسياً في تحقيق عرضها . وهي حين أعلنت عن نظامها العالمي الجديد فإنها أعلنت عقب إدارتها لأزمة دولية كبرى أشبه ما تكون بحرب عالمية تتغير فيها معالم العلاقات والدول والأعراف ألا وهي أزمة العراق ، ومن المعلوم أن مدلول النظام العالمي الجديد يعني (( المنظمة الدولية )) في دورها وبنيتها ويعني في نفس الوقت ما تريد الدولة الأولى من إرسائه من علاقات وأعراف ومصطلحات ، فلا عجب أن تبقى أمريكا قابضة على زمام القضايا الكبرى بل وتزيد في تأزيمها كما هو حاصل في العراق وكوسوفا حتى تستقر علاقاتها وأعرافها على الوجه الذي تريده من السيطرة الدولية والتحكم في شؤون العالم ، وهي التي تدفع دولاً كروسيا وفرنسا وغيرهما للمطالبة بتفعيل دور الأمم المتحدة وتفعيل دور مجلس الأمن لتصبح التغييرات التي تريدها أمراً واقعاً يسير في تحقيقه الآخرون .
أما إلى أي مدى ستنجح الولايات المتحدة في تحقيق مبتغاها ، فهذا يعتمد على حجم القضايا وأنواعها وحالة الاستقرار من عدمه الذي تشهده الساحة الدولية في هذه الحقبة من حياة الدول والأمم ومدى استمرار قدرتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية في ملاحقة القضايا وإثارتها قياساً لغيرها من الدول التي هي أقلّ منها بكثير من ذلك .
الثامن من ذي الحجة 1419 هـ
25/3/1999م
بسم الله الرحمن الرحيم
التغييرات التي سعت أمريكا لإحداثها في الأمم المتحدة :لقد كان من الأهداف الأساسية للولايات المتحدة الأمريكية ـ والتي حققت جزءاً كبيراً منه وهي في طريق استكــمال باقي أهدافها ـ منذ مساهمتها الفاعلة في إنشاء (( منظمة الأمم المتحدة )) ، هو القضاء على دور أوروبا في إدارة السياسة الدولية والتحكم في الموقف الدولــي ، وجعل أوروبا جزءاً من السياسة العالمية أي (( العالم بما فيه أوروبا )) وليس (( أوروبا ومحيطها الخارجي )) .
وأدركت أمريكا مبكراً ما تملكه من إمكانات وقدرات تؤهلها للاضطلاع بدور الدولة الأولى في العالم ورغبتها الجادة في قيادته ، منذ اشتراكها في الحرب العالمية الأولى ، ثم الحرب العالمية الثانية والتي ظهر لها من خلالها مدى الضعف الذي آلت إليه الدول الكبرى في أوروبا وما آلت إليه أوضاعها ، ما دفعها لأن تكون حالها حين ساهمت في إنشاء (( منظمة الأمم المتحدة )) حال مَنْ يملي الشروط في تكوين الميثاق لا حال مَنْ يرغب بأن يكون عضواً دائماً فقط ، ذلك أن الولايات المتحدة هي المنظِّرة أصلاً لفكرة المنظمة الدولية عقب الحرب العالمية الأولى بواسطة الرئيس الأمريكي (( ودرو ولسون ) الذي صاغ إعلانه الشهير المكوَّن من 14 نقطة لتكون أساساً للمنظمة الدولية في حينه ، وكانت أمريكا حريصة على إنهاء التكتل الأوروبي بصفته تكتلاً يتحكم في مجريات السياسة الدولية آنذاك ، ولم تستجب دول أوروبا استجابة تامّة للإعلان الأمريكي ، ولم تنضم الولايات المتحدة إلى عصبة الأمم ـ التي شكلتها دول أوروبا ـ وتركتها تلاقي مصير الانهيار ، وفي نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت أمريكا من خلال ترومان بإجراء المشاورات بشان إنشاء منظمة دولية جديدة أطلقت عليها اسم (( الأمم المتحدة )) ، ولما كان الحلفاء حريصين ـ عقب الحرب العالمية الثانية ـ على دخول ومشاركة الولايات في المنظمة الدولية خاصة بعد الدمار الكبير الذي لحق بهم وبعد بروز روسيا السوفيتية كقوة سياسية ، فقد وافقت هذه الدول على إنجاز جميع الخطوات والمناقشات المتعلقة بميثاق (( منظمة الأمم المتحدة )) ، داخل أمريكا وعلى مسمع من المجتمع الأمريكي ومؤسساته ، إذ وافق مجلس الشيوخ على الميثاق بأغلبية 89 صوتاً مقابل صوتين ، ومع أن الميثاق لم يكن ينص على مقر المنظمة الدوليـة ، إلا أنها أقيمت على أرض أمريكية قدمها (( روكفلر )) مع قرض لإقامة البناء دون فوائد .
وبينما كانت الدول المؤسسة تتباحث لوضع اللمسات الأخيرة على بنود الميثاق والذي كان من مواده (( حفظ السلام والأمن الدوليين )) و (( منع الاعتداء ودرء الحرب )) ، كانت أمريكا تسير قدماً في برنامجها النووي السري والذي أظهرته للعالم بعد 41 يوماً من توقيع الميثاق في تفجيرها الذري في هيروشيما يوم 6/8/1945 معلنة بذلك نهاية الحرب العالمية الثانية واستقبال حقبة تاريخية جديدة تكون لها فيها الريادة وإملاء الإرادة .
والولايات المتحدة ومنذ إعلان سان فرانسيسكو الذي صاغته مع الاتحاد السوفيتي والصين الوطنية والمستند إلى مباحثات يالطا والذي تضمن حق النقض (( الفيتو )) للدول دائمة العضوية والذي نصه : ( نظراً للمسؤولية الأساسية التي يتحملها الأعضاء الدائمون لا يمكن أن يُنتَظر منهم في الوضع الحالي للظروف الدولية أن يقبلوا الالتزام بالعمل في ميدان بمثل خطورة ميدان حفظ السلام والأمن ) ، وذلك تنفيذا لقرار لم يوافقوا عليه ، أدركت الولايات المتحدة في حينه مدى خطورة الفيتو على دورها في قيادة الأمم المتحدة وإدارة الأزمات الدولية مع تمتعها هي أيضاً بالفيتو ولكن المشكلة بالنسبة لها هو تمتع الدول الكبرى التقليدية به إلى جانب القوى الدولية حينذاك الاتحاد السوفيتي ، لذلك فإن أمريكا سعت منذ البداية في الانتقال من (( توازن القوى )) الذي كان واقعاً دولياً تقوده دول أوروبا إلى مفهوم (( الأمن الجماعي )) أي من واقع تعدد الدول الكبرى التي ترى لها الحق ـ باعتبارها المنتصر ـ للتأثير في الوضع الدولي إلى واقع المؤسسات التي تحمي المعاهدات والضمانات بين الدول من خلال آلية اتخاذ القرارات في الجمعية العامة بأكثرية الأصوات ومع احتفاظ أمريكا بدورها القيادي .
لقد كان لانتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة منذ شباط 1961 وبداية سياسة الوفاق أثر حاسم في نجاح السياسة الأمريكية للجم أوروبا ودولها الكبرى التقليدية بإضعاف دورها في مجلس الأمن ومنظمة الأمم المتحدة مما ساهم في إبعادها عن الموقف الدولي والشؤون الدولية لحد ما .
وقد كان الأسلوب الذي اتخذته الولايات المتحدة لتحقيق غاياتها منذ تلك اللحظة ولا زالت تسير به حتى اليوم مع الأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي طرأت في الموقف الدولي ـ يقوم على الأسس التالية : ـ
الأول : تفعيل دور الجمعية العامة للأمم المتحدة بتمكين دول أخرى للانضمام للمنظمة الدولية بحيث لا يعود الأمر مقصوراً على الدول المؤسسة والدول دائمة العضوية وبإزالة القيود والشروط المفروضة على العضوية كالمطالبة بإلغاء الوصاية على المستعمرات والمطالبة باستقلال وتحرير الشعوب ، ومن جهة أخرى تحويل القضايا التي يعجز مجلس الأمن عن البت فيها إلى الجمعية العامة كما فعل وزير خارجية أمريكا في 3/11/1950 عندما تقدم بقرار عُرف فيما بعد باسم (( قرار أشيسون )) تحت عنوان (( الاتحاد من أجل المحافظة على السلام )) إذ يُعدّ هذا التفافاً على مجلس الأمن ودوله دائمة العضوية إذ أن حفظ السلام هو مهمته . وعليه فإنه في حالة شلل مجلس الأمن باستعمال حق النقض يمكن للجمعية العامة أن تتناول القضية بدعوتها للجمعية ولو بدورة استثنائية بناءاً على طلب أكثرية أعضاء الجمعية أو مجلس الأمن ، والقرار الذي يصدر لا يكون مُلزِماً بل هو عبارة عن توصية تعبّر عن مشاعر الأكثريــة وتضفي (( الشرعية الدولية )) على أي عمل تطوعي يحاول تحقيق الوصية ، وأبرز مثال على ذلك تدخل أمريكا بالحرب الكورية عام 1950 بناءاً على توصية الجمعية العامة ، والوقوف ضد الاجتياح السوفيتي للمجر على 1956 والوقوف ضد العدوان الثلاثي على مصر 1956 ، ويتضح من هذا دور الجمعية العامة في مقابل مجلس الأمن أي مقابل الدول الكبرى التقليدية وبتصاعد قوة أمريكا خاصة بعد ضعف الاتحاد السوفيتي ثم زواله ، قادت أمريكا دول العالم والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن والجمعية العامة لشنّ هجومها على العراق عام 1991 وحتى الآن ، مما يعني تكريساً لنجاحاتها ودورها القيادي المتفرِّد في الأمم المتحدة والموقف الدولي بحيث غدت الدول الكبرى التقليدية دائمة العضوية في مجلس الأمن لا فرق بينها وبين غيرها من الدول الأخرى .
الثاني : توسيع عضوية مجلس الأمن والسعي الحثيث لإلغاء حق النقض (( الفيتو)) والحد من فاعليته ، ففي عام 1952 عرضت الولايات المتحدة على المنظمة الدولية التخلي عن حق النقض (( الفيتو )) إلا أنه لم يُقَرّ ، إلا أن الولايات المتحدة لم تقف عند هذا الحد خاصة بعد سياسة الوفاق مع الاتحاد السوفيتي فعمدت إلى استخدام الفيتو كأداة تخويف ضد باقي الدول الكبرى سواء في مواضيع السلاح الذري وسباق التسلح أو من خلال عقد المؤتمرات الدولية التي تبحث في القضايا الدولية الكبرى كقضية الشرق الأوسط ، مُلغية دور مجلس الأمن كلياً وواضعة حداً لما يُسمّى بدول أوروبا الكبرى ولِحق (( الفيتو )) .
أما توسيع مجلس الأمن فقد حققته من خلال قرار أصدرته الجمعية العامة عام 1963 بزيادة عدد الأعضاء من 11 عضواً إلى 15 عضواً ، وتبعه بعد ذلك تعديل المادة 27 لتنصّ على أن القرارات التي يتخذها مجلس الأمن في الأمور الإجرائية تصبح نافذة إذا ما وافق عليها تسعـــة أعضاء ، وكذلك سعت أمريكا في بداية السبعينات لطرد الصين الوطنية (( فرموزا )) من عضوية مجلس الأمن ومنح الصين الشعبية حق العضوية الدائم ، وكررت هذا العمل في بداية التسعينات عندما أيدت منح مقعد الاتحاد السوفيتي ـ الذي انتهى وجوده ـ لصالح روسيا الاتحادية .
وفي عام 1992 أيدت الولايات المتحدة الجمعية العامة بالقرار الذي تقدمت به الهند لتوسيع عضوية مجلس الأمن ثم قررت الجمعية العامة في ديسمبر 1993 أن تنشئ فريقاً عاملاً مفتوح العضوية لمواصلة النظر في جميع جوانب المسألة الخاصة بزيادة العضوية وبباقي الأمور الأخرى ومنها حق (( النقض )) بحيث يصل عدد الأعضاء إلى 32 عضواً يتمتع 5 منهم بحق العضوية الدائم يمثلون قارة آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا ليصبح عدد الأعضاء الدائمين 10 أعضاء وقد رشّحت أسماء بعض هذه الدول مثل الهند وباكستان عن آسيا وألمانيا أو إيطاليا عن أوروبا ومصر عن أفريقيا والأرجنتين عن أمريكا اللاتينية ، ثم دعت لإلغاء حق النقض (( الفيتو )) بالتدرج وأن يعاود بحث ومراجعة الموضوع في الأعوام القليلة القادمة .
الثالث : تفعيل دور الأمين العام للأمم المتحدة وتهميش دور مجلس الأمن من خلال الجمعية العامة والوكالات الدولية المختلفة التابعة للأمم المتحدة ومن خلال الاشتراك والإشراف على القضايا الدولية العامة وأعمال حفظ السلام ومشاكل الحروب ، والمعونات الاقتصادية في حالة الكوارث والمجاعات بحيث يبرز دور المنظمة الدولية بوصفها أمماً متحدة وليس تكتلاً من مجموعة دول كبرى تقرر حالة السلم أو الحرب وتكرس مفهوم (( الأمن الجماعي )) و (( الاتحاد من أجل السلام )) وكان من أبرز هذه الأعمال بعد أن قطعت الولايات المتحدة شوطاً كبيراً في تحويل الموقف الدولي لصالحها هو ترحيب الجمعية العامة للأمم المتحدة باتفاقية دول أمريكا الوسطى لحفظ السلام والتي طالبت الجمعية العامة الأمين العام بإرسال (( مجموعة مراقبي الأمم المتحدة في أمريكا الوسطى )) وذلك في 7/10/1987 حيث بدأت أعمالها في عام 1989 وهي أو عملية سلام تقوم بها الأمم المتحدة منذ تأسيسها في أمريكا الوسطى ، مما يعني عدم تعارض هذا العمل مع مبدأ (( مونرو )) والذي يكشف عن المدى الذي وصلت إليه الولايات المتحدة في السيطرة على المنظمة الدولية ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل برز دور الأمين العام في عمليات إرسال مراقبي الأمم المتحدة لعمليات حفظ السلام إلى البلقان في أوروبا وإلى الشرق الأوسط ومشاركته بوصفه أميناً عاماً للمنظمة الدولية في المؤتمرات الخاصة بالدول الكبرى كمؤتمر الدول الفرنكوفونية الذي عُقِد في باريس أواخر العام الماضي 1998 وحضوره لمؤتمر مجلس التعاون الخليجي التاسع عشر في ديسمبر 1998 ودوره الفعّال في أزمة العراق الأخيرة ووساطته في قضية لوكربي ولا يخفى على المتتبع أن الولايات المتحدة تسعى في إدارتها لكثير من القضايا لدفع معظم الدول باتجاه المطالبة بتفعيل دور الأمم المتحدة وأمينها العام ، وهذا ما تهدف له وتريده .
هذا ما تسعى أمريكا لإحداثه من تغييرات في بنية الأمم المتحدة ودورها لتبقيها أداة فعالة في يدها وقاطعة الطريق ومنهية لدور الدول الكبرى التقليدية ودفعها لتقنع بأن تكون جزءاً من العالم ، وهي تتخذ من القضايا الكبرى الساخنة كقضية الشرق الأوسط في فلسطين ، والعراق وقضية البلقان وقضية أفريقيا مرتكزاً أساسياً في تحقيق عرضها . وهي حين أعلنت عن نظامها العالمي الجديد فإنها أعلنت عقب إدارتها لأزمة دولية كبرى أشبه ما تكون بحرب عالمية تتغير فيها معالم العلاقات والدول والأعراف ألا وهي أزمة العراق ، ومن المعلوم أن مدلول النظام العالمي الجديد يعني (( المنظمة الدولية )) في دورها وبنيتها ويعني في نفس الوقت ما تريد الدولة الأولى من إرسائه من علاقات وأعراف ومصطلحات ، فلا عجب أن تبقى أمريكا قابضة على زمام القضايا الكبرى بل وتزيد في تأزيمها كما هو حاصل في العراق وكوسوفا حتى تستقر علاقاتها وأعرافها على الوجه الذي تريده من السيطرة الدولية والتحكم في شؤون العالم ، وهي التي تدفع دولاً كروسيا وفرنسا وغيرهما للمطالبة بتفعيل دور الأمم المتحدة وتفعيل دور مجلس الأمن لتصبح التغييرات التي تريدها أمراً واقعاً يسير في تحقيقه الآخرون .
أما إلى أي مدى ستنجح الولايات المتحدة في تحقيق مبتغاها ، فهذا يعتمد على حجم القضايا وأنواعها وحالة الاستقرار من عدمه الذي تشهده الساحة الدولية في هذه الحقبة من حياة الدول والأمم ومدى استمرار قدرتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية في ملاحقة القضايا وإثارتها قياساً لغيرها من الدول التي هي أقلّ منها بكثير من ذلك .
الثامن من ذي الحجة 1419 هـ
25/3/1999م