- الأربعاء ديسمبر 14, 2011 2:24 pm
#42199
ميشيل كيلو
عام 1983، سئل عبد الحليم خدام ذات مرة في لقاء مع عدد محدود من أعضاء اتحاد الكتاب العرب عن مكانه من النظام، وما إذا كان الرجل الثاني فيه، فقال: «في نظامنا لا يوجد رجل ثان، عندنا رجل واحد فقط ولا مجال أو محل لأي أحد سواه».
في الشمولية السورية، لا محل بالفعل لغير رجل واحد يسميه الإعلام الرسمي «السيد الرئيس» أو «سيد الوطن»، يمسك بجميع خيوط النظام سواء في السلطة أم في المجتمع. هذا السيد الرئيس يسمى أيضا «القيادة السياسية»، لأنه في آن معا الأمين العام القومي والقطري للحزب، والقائد العام للجيش والقوات المسلحة، ورئيس المنظمات الشعبية، التي ينضوي في إطارها كل مواطن سوري، فهو إذن الحرفي الأول، والعامل الأول، والصناعي الأول، والتاجر الأول، والصحافي الأول، والطبيب الأول، والمهندس الأول، والفلاح الأول، فضلا عن أنه السيدة الأولى، إذا ما نظرنا إليه من زاوية الاتحاد النسائي، كما أنه الفنان الأول، أي الممثل والمغني والمخرج الأول… إلخ، أخيرا هو المخبر الأول: الرجل الذي يعرف كل شيء ويعلم كل الخبايا والخفايا، ويشرف يوميا ولحظيا على كل شأن وأمر، ويتلقى تقريرين يوميين عبر الهاتف، وتقريرا كبيرا مكتوبا، إلى جانب مكالمات هاتفية متعددة يقدمها إليه في أي لحظة يختارونها من لحظات الليل أو النهار رجال محددون يحظون بثقته، حول أي شأن يرونه مهما، بما في ذلك زواج شاب بدوي من فتاة صحراوية وبالعكس. حين مرض حافظ الأسد عام 1983 وأشرف على الموت، نصحه الأطباء بأن يقلص عمله ويستغني عما ليس مهما منه، أو ما يستطيع شخص آخر القيام به. بعد أيام من بدء تعافيه، كان أول أمر أصدره هو تقديم تقريرين يوميين حول النشرة الجوية بدل تقرير واحد كان يصله صباحا قبل مرضه.
لا يثق «سيد الوطن» بأحد من أتباعه ومعاونيه، لذلك يدس عليهم من أتباعهم ومعاونيهم من يخبره بأدق تفاصيل حياتهم وأنشطتهم ويطلعه على أسرارهم، لاعتقاده أن رضوخهم له يتطلب معرفة كل شاردة وواردة عن كل واحد منهم، لأن في شمول معارفه، الأمنية غالبا، ضمانة نظام الرعب والتحكم الذي يديره باعتباره منسق أجهزة الأمن ومراقب مؤسساته أكثر منه رئيس بلاد يمارس سلطة شرعية أو دستورية تتصل بتمثيلها.
لو أن أحدا سأل بشار الأسد قبل أسبوع عن سيطرته على الوضع في سوريا، لحدثه بكل ثقة عن إمساكه المطلق بكل شيء فيه، ومعرفته بكل صغيرة وكبيرة عنه. ولقد سبق «للسيد الرئيس» أن رد بغضب على سؤال صحافي حول سيطرته على السلطة في بلاده. لذلك أثار كلامه عن جهله بوقوع أعمال قتل في سوريا حيرة وغضب كل من استمعوا إليه، وألقى بظلال من الشك على سلطته ومكانته من النظام، ليس فقط لأنه من غير المعقول أو المقبول ألا يكون قد سمع بما يجري، وهو الذي قال قبل أشهر قليلة إنه قابل 1180 وفدا شعبيا حدثه أعضاؤها عن مشكلات السوريين، وعن الأمن والحل الأمني وما ارتكب خلاله من تجاوزات شاملة، بل كذلك لأنه اعترف مرات متكررة بوقوع انتهاكات على يد أفراد من قوات الأمن، عزاها إلى قلة تدريبهم على التعامل مع المظاهرات، لأن هذه لم تكن تقع في سوريا!
يقول الرجل الذي تتجمع في يديه كل خيوط السياسة والأمن والاقتصاد والإعلام والمجتمع، وكل مفاصل حياة مواطنيه العامة والخاصة، إنه لا يعرف بوقوع أحداث في سوريا يقتل فيها الناس، ولم يأمر بقتل أحد، ويعزز قوله بحجة غريبة هي أنه «لا يملك الجيش والأمن وليس ملكا». قبل أسابيع قليلة سئل هذا الرئيس، الذي لا يعرف اليوم ما يجري في وطنه، إن كان سيورث في المستقبل الحكم لابنه حافظ، الذي يقل عمره عن عشرة أعوام، فقال: «أنا أنصحه بإقامة أوسع العلاقات مع المجتمع السوري، أما إذا كان يريد أن يصير رئيسا، فهذه مسألة سيقررها هو في حينها!». يقول الرئيس هذا بعد عشرة أشهر من عنف سلطوي أعمى أسقط عشرات آلاف القتلى والجرحى من مواطناته ومواطنيه، وأدى إلى اعتقال وملاحقة خلق لا حصر لعددهم، مع أنه سيادته في موقع يمكنه من معرفة كل شيء وإصدار أي أمر، ويتيح له إلزام كل فرد في النظام بتنفيذ أوامره وتحقيق رغباته، بما أنه ليس رجل النظام الأول، بل الوحيد، حسب شهادة خدام. لم يقل الرئيس إنه لا يعلم بوقوع أعمال قتل في سوريا وحسب، بل قال إنه لا يعلم ذلك لأن هذه لم تقع أصلا. بعد عشرة أشهر من نشر الجيش والأمن في كل شبر من أرض سوريا، وإعلانات رسمية تتكرر يوميا حول عدد قتلى الجيش والأمن، ينكر «سيد الوطن» أن تكون هناك أحداث في سوريا، ولا يترك لنا غير أن نوجه إليه السؤال الذي يحرص إعلامه على توجيهه إلينا: «من الذي يقتل إذن هؤلاء الجنود والضباط والعناصر الأمنية، الذين يبرز التلفاز الرسمي جنازاتهم كل يوميا وعلى مدار الساعة؟». ألم يسمع الرئيس بهذا أيضا، ويسائل نفسه عن سبب موتهم، أم أننا أمام تمثيلية ملفقة من ألفها إلى يائها؟ لا يعلم الرئيس أن هناك قتلى، لأنه يعلم أنه ليس هناك محتجون، ولو كان هناك مثل هؤلاء لما أمر بإطلاق النار عليهم، لأن من يأمر بذلك يكون مجنونا.
بدأت المسألة السورية وتضخمت وتعقدت بسبب نمط من المعرفة نشره الرئيس وتبناه، يقوم على إنكار وجود أزمة، وعلى رفض معالجتها بوسائل السياسة والتغيير والإصلاح. واليوم، وبعد عشرة أشهر من خراب البلد وموت هذا العدد الكبير من العباد، ما زال متمسكا بمعرفته التي تتلخص في عدم وجود أزمة في سوريا وعدم وجود محتجين، ووجود مؤامرة مسلحة تنفذها عصابات محدودة العدد لا هدف للنظام غير حماية الشعب منها. بهذه المعرفة، وهذا الفهم، ليس مستغربا أن ينكر وجود أوامر بالقتل صدرت عنه أو عن مساعديه، ووقوع قتلى وعمليات تعذيب مميتة تتهدد كل شخص في سوريا. هذه المعرفة والعقلية التي تنتجها هي اليوم إحدى أخطر مشكلات سوريا وأكثرها تدميرا للبلد. وما لم تتغير هذه العقلية أو تختفِ من الوجود، فإن سوريا ستبقى غارقة في المأساة التي أنتجتها ونشرتها طيلة نصف قرن، وتحافظ عليها اليوم وتكفل استمرارها بالقوة والعنف. هنا مكمن الكارثة التي تعصف بوطننا، إنها في رأس صاحب النظام، الذي انفصل نهائيا عن الواقع، ويعيش في عالم لم يعد يثير في سوريا وخارجها غير الشعور بالحسرة على السوريين، الذين لا تعني حريتهم اليوم غير التخلص من عقليته، التي تقتلهم بكل هذا الدم البارد!
عام 1983، سئل عبد الحليم خدام ذات مرة في لقاء مع عدد محدود من أعضاء اتحاد الكتاب العرب عن مكانه من النظام، وما إذا كان الرجل الثاني فيه، فقال: «في نظامنا لا يوجد رجل ثان، عندنا رجل واحد فقط ولا مجال أو محل لأي أحد سواه».
في الشمولية السورية، لا محل بالفعل لغير رجل واحد يسميه الإعلام الرسمي «السيد الرئيس» أو «سيد الوطن»، يمسك بجميع خيوط النظام سواء في السلطة أم في المجتمع. هذا السيد الرئيس يسمى أيضا «القيادة السياسية»، لأنه في آن معا الأمين العام القومي والقطري للحزب، والقائد العام للجيش والقوات المسلحة، ورئيس المنظمات الشعبية، التي ينضوي في إطارها كل مواطن سوري، فهو إذن الحرفي الأول، والعامل الأول، والصناعي الأول، والتاجر الأول، والصحافي الأول، والطبيب الأول، والمهندس الأول، والفلاح الأول، فضلا عن أنه السيدة الأولى، إذا ما نظرنا إليه من زاوية الاتحاد النسائي، كما أنه الفنان الأول، أي الممثل والمغني والمخرج الأول… إلخ، أخيرا هو المخبر الأول: الرجل الذي يعرف كل شيء ويعلم كل الخبايا والخفايا، ويشرف يوميا ولحظيا على كل شأن وأمر، ويتلقى تقريرين يوميين عبر الهاتف، وتقريرا كبيرا مكتوبا، إلى جانب مكالمات هاتفية متعددة يقدمها إليه في أي لحظة يختارونها من لحظات الليل أو النهار رجال محددون يحظون بثقته، حول أي شأن يرونه مهما، بما في ذلك زواج شاب بدوي من فتاة صحراوية وبالعكس. حين مرض حافظ الأسد عام 1983 وأشرف على الموت، نصحه الأطباء بأن يقلص عمله ويستغني عما ليس مهما منه، أو ما يستطيع شخص آخر القيام به. بعد أيام من بدء تعافيه، كان أول أمر أصدره هو تقديم تقريرين يوميين حول النشرة الجوية بدل تقرير واحد كان يصله صباحا قبل مرضه.
لا يثق «سيد الوطن» بأحد من أتباعه ومعاونيه، لذلك يدس عليهم من أتباعهم ومعاونيهم من يخبره بأدق تفاصيل حياتهم وأنشطتهم ويطلعه على أسرارهم، لاعتقاده أن رضوخهم له يتطلب معرفة كل شاردة وواردة عن كل واحد منهم، لأن في شمول معارفه، الأمنية غالبا، ضمانة نظام الرعب والتحكم الذي يديره باعتباره منسق أجهزة الأمن ومراقب مؤسساته أكثر منه رئيس بلاد يمارس سلطة شرعية أو دستورية تتصل بتمثيلها.
لو أن أحدا سأل بشار الأسد قبل أسبوع عن سيطرته على الوضع في سوريا، لحدثه بكل ثقة عن إمساكه المطلق بكل شيء فيه، ومعرفته بكل صغيرة وكبيرة عنه. ولقد سبق «للسيد الرئيس» أن رد بغضب على سؤال صحافي حول سيطرته على السلطة في بلاده. لذلك أثار كلامه عن جهله بوقوع أعمال قتل في سوريا حيرة وغضب كل من استمعوا إليه، وألقى بظلال من الشك على سلطته ومكانته من النظام، ليس فقط لأنه من غير المعقول أو المقبول ألا يكون قد سمع بما يجري، وهو الذي قال قبل أشهر قليلة إنه قابل 1180 وفدا شعبيا حدثه أعضاؤها عن مشكلات السوريين، وعن الأمن والحل الأمني وما ارتكب خلاله من تجاوزات شاملة، بل كذلك لأنه اعترف مرات متكررة بوقوع انتهاكات على يد أفراد من قوات الأمن، عزاها إلى قلة تدريبهم على التعامل مع المظاهرات، لأن هذه لم تكن تقع في سوريا!
يقول الرجل الذي تتجمع في يديه كل خيوط السياسة والأمن والاقتصاد والإعلام والمجتمع، وكل مفاصل حياة مواطنيه العامة والخاصة، إنه لا يعرف بوقوع أحداث في سوريا يقتل فيها الناس، ولم يأمر بقتل أحد، ويعزز قوله بحجة غريبة هي أنه «لا يملك الجيش والأمن وليس ملكا». قبل أسابيع قليلة سئل هذا الرئيس، الذي لا يعرف اليوم ما يجري في وطنه، إن كان سيورث في المستقبل الحكم لابنه حافظ، الذي يقل عمره عن عشرة أعوام، فقال: «أنا أنصحه بإقامة أوسع العلاقات مع المجتمع السوري، أما إذا كان يريد أن يصير رئيسا، فهذه مسألة سيقررها هو في حينها!». يقول الرئيس هذا بعد عشرة أشهر من عنف سلطوي أعمى أسقط عشرات آلاف القتلى والجرحى من مواطناته ومواطنيه، وأدى إلى اعتقال وملاحقة خلق لا حصر لعددهم، مع أنه سيادته في موقع يمكنه من معرفة كل شيء وإصدار أي أمر، ويتيح له إلزام كل فرد في النظام بتنفيذ أوامره وتحقيق رغباته، بما أنه ليس رجل النظام الأول، بل الوحيد، حسب شهادة خدام. لم يقل الرئيس إنه لا يعلم بوقوع أعمال قتل في سوريا وحسب، بل قال إنه لا يعلم ذلك لأن هذه لم تقع أصلا. بعد عشرة أشهر من نشر الجيش والأمن في كل شبر من أرض سوريا، وإعلانات رسمية تتكرر يوميا حول عدد قتلى الجيش والأمن، ينكر «سيد الوطن» أن تكون هناك أحداث في سوريا، ولا يترك لنا غير أن نوجه إليه السؤال الذي يحرص إعلامه على توجيهه إلينا: «من الذي يقتل إذن هؤلاء الجنود والضباط والعناصر الأمنية، الذين يبرز التلفاز الرسمي جنازاتهم كل يوميا وعلى مدار الساعة؟». ألم يسمع الرئيس بهذا أيضا، ويسائل نفسه عن سبب موتهم، أم أننا أمام تمثيلية ملفقة من ألفها إلى يائها؟ لا يعلم الرئيس أن هناك قتلى، لأنه يعلم أنه ليس هناك محتجون، ولو كان هناك مثل هؤلاء لما أمر بإطلاق النار عليهم، لأن من يأمر بذلك يكون مجنونا.
بدأت المسألة السورية وتضخمت وتعقدت بسبب نمط من المعرفة نشره الرئيس وتبناه، يقوم على إنكار وجود أزمة، وعلى رفض معالجتها بوسائل السياسة والتغيير والإصلاح. واليوم، وبعد عشرة أشهر من خراب البلد وموت هذا العدد الكبير من العباد، ما زال متمسكا بمعرفته التي تتلخص في عدم وجود أزمة في سوريا وعدم وجود محتجين، ووجود مؤامرة مسلحة تنفذها عصابات محدودة العدد لا هدف للنظام غير حماية الشعب منها. بهذه المعرفة، وهذا الفهم، ليس مستغربا أن ينكر وجود أوامر بالقتل صدرت عنه أو عن مساعديه، ووقوع قتلى وعمليات تعذيب مميتة تتهدد كل شخص في سوريا. هذه المعرفة والعقلية التي تنتجها هي اليوم إحدى أخطر مشكلات سوريا وأكثرها تدميرا للبلد. وما لم تتغير هذه العقلية أو تختفِ من الوجود، فإن سوريا ستبقى غارقة في المأساة التي أنتجتها ونشرتها طيلة نصف قرن، وتحافظ عليها اليوم وتكفل استمرارها بالقوة والعنف. هنا مكمن الكارثة التي تعصف بوطننا، إنها في رأس صاحب النظام، الذي انفصل نهائيا عن الواقع، ويعيش في عالم لم يعد يثير في سوريا وخارجها غير الشعور بالحسرة على السوريين، الذين لا تعني حريتهم اليوم غير التخلص من عقليته، التي تقتلهم بكل هذا الدم البارد!