- الأحد ديسمبر 18, 2011 8:29 pm
#43404
لقد عمل أبداً (ماكس فيبرMax Weber ) لما قد لا ينساه أي باحث متخصص في علم الاجتماع، وبقي عمله يسمى كنهج استدلالي اختط اسمه عريضاً، وبقي العالم كله مدينا لهذا الرجل العملاق، الذي لم يعش أكثر من ثمانية وخمسين عاما، ولكنه بقي تاركا بصماته الكبرى على علم الاجتماع، وأصبح أحد الكبار الثلاثة المؤسسين له (كارل ماركس)، (إميل دوركهايم)، و(ماكس فيبر)، كان الرجل عريض المنكبين، بجسد بدين، يدخن غليونه طوال اليوم، وهو إنسان عميق التفكير مقنع في جل أطروحاته، وصار منهجه (كل من سار على الدرب العقلاني وصل)، وكل باحث يُعلق أسئلته للآخرين، وجوباً فانه حتماً سيجد في اليوم التالي باحثاً مثله يرشده إلى غاياته ومطالبه، كان (ماكس فيبر) إنساناً جادا يتحدث بكل رؤاه العامة للمجتمع، ويغور عميقا في تحليل المجتمع طبقا للمنهج السوسيولوجي، حيث كان يغمر قارئه، وطلابه بكمٍّ غزير من المعلومات الدقيقة، والمشوقة عما يحدو به من فكر، ومنطق معاصر لعلم الاجتماع في فرادة تقنية فكر الغرب، وعقلانية الحضارة الغربية القديمة، والمعاصرة، وعلاقتها بسوسيولوجيا الأديان: (أي علم اجتماع الأديان، أو دراسة الأديان من وجهة نظر اجتماعية أو سوسيولوجية وليس فقط إيمانية تقليدية )، وكان ينظر ثاقباً إلى علاقة الدين بالمجتمع، ماضياً في شرح أفكاره بتحليل محايد تاريخي تراكمي، متوصلاً إلى نتائج بان الدين؛ لدى الغرب بقي سلاحا عظيما وخطيراً بحدين يستخدمه الساسة، لشدّ العامة، والعكس صحيح يستخدمه العامة لفك قيدهم من الساسة الطغاة، ويجري مقارنة دائمة ما بين الأخلاق البروتستانتية ونشوء الرأسمالية، فاغلب كتب السيرة التي كتبت عنه تقول بأنه ولد (ماكس فيبر) من أبوين تقنيين صناعيين مختصين بالنسيج، ونشأ متعلماً ومتنعماً بين وسط عائلي بروتستانتي ثري في ضاحية المهندسين من مدينة (إيرفورت) بألمانيا عام 1864م، وكان أعمامه وأخواله موظفين كبار وأساتذة جامعيين، وأما والده فقد كان قيادياً في الحزب القومي الليبرالي، ويُعد حزبا للمثقفين والبورجوازيين، وغالباً ما تعامل بمسٍّ مباشر بشخصيات سياسية، وفلسفية كبيرة كانت تحايثهُ من أمثال (ديلتي) و(مومسين) و(نورمان) وسواهما ويلتقيهم أبيه ببيته الذي كان مرتعاً للعلم والسياسة والفكر، وساعده هذا للاستدلال إلى الكثير من الأعلام الفكرية، وراح يقرأ بنهم أطروحات (ماركس)، و(نيتشه)، و(هيغل)، و(كانط)، فشغف التاريخ كان يفوق شغفه بالفلسفة، وعلم اللاهوت، والجماليات، وأيضا يفوق دروسه في (كلية الحقوق والاقتصاد)، و أطروحة الجامعية (المجتمعات التجارية في القرون الوسطى) التي نال بها درجة الشرف الأولى، ثم وظف كأستاذ في جامعة (فريبورغ) أولا (1894)، وجامعة (هايدلبرغ) ثانيا (1896) لمادة علم الاقتصاد السياسي، (ولكن صحته المتدهورة اضطرته إلى قطع دروسه وإيقافها تماما عام 1898)، وفي عام 1904 أسس (ماكس فيبر) مجلة صار لها دوراً في تطوير نظريات علم الاجتماع (عنوانها: أرشيفات العلوم الاجتماعية والعلوم السياسية)، وفي عام 1910 شارك في تأسيس (الرابطة الألمانية لعلم الاجتماع)، ومن ثم جاءت الطامة الكبرى في حياته إذ انخرط (ماكس فيبر) في العمل السياسي المحض وأصبح معارضا سياسيا للإمبراطور (غيوم الثاني) وتحول إلى عضو فاعل في (الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني)، وترك كتابة البحوث متحولا إلى العمل في الشعارات السياسية وملصقات الجدران، (وقد شارك بعد الحرب العالمية الأولى كعضو في الوفد الألماني إلى مؤتمر السلام الذي انعقد في فرساي عام 1919. وكان احد كتبة الدستور الجديد للجمهورية الألمانية )، ثم تسلم منصب أستاذ علم الاجتماع في جامعة (ميونيخ) عام 1918، حتى موته بنوبة قلبية عام 1920، تاركاً إرثاً كبيرا من الكتب الجدلية، مشتهرا بأنه أحد أهم المفكرين المشتغلين الذين انهمكوا في تحليل (ظاهرة الحداثة وكيفية نشوئها وتشكلها وسيطرتها على المجتمعات الصناعية المتقدمة)، وبقيت مراجعاته من أهم المراجع لأي مثقف معاصر يخوض مضمار الحداثة، أسياستها، والعودة إلى ما كتبه عنها من تنظيرات وأطروحات لأنه كان معنيا بسؤال الحداثة المهم بعلاقتها العلمية والتكنولوجية والبيروقراطية في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، كما وأيضا كيف تطورت عقلانية الأفكار في هذه المنطقة أكثر من سواها؟، متطرقا بعمق، ومفسرا إياها بـ(عقلنة العالم؛ أي دراسة العالم بشكل علمي، موضوعي، عقلاني لا بشكل غيبي، ميتافيزيقي، خرافي، هنا يكمن الفرق بين مجتمعات الحداثة والمجتمعات التقليدية، فهذه الأخيرة تسيطر عليها الرؤيا القديمة المليئة بالخرافات والمعجزات والأساطير)، ويقول أيضا بان الحداثة (جاءت فتبخرت كل هذه الأساطير والخرافات وبدا العالم على حقيقته المادية، والفيزيائية، والبيولوجية، وهكذا انقلب السحر على الساحر، وانكشفت إسرار وجه العالم الحقيقي، ولم يبدو شعريا كما كان عليه الحال السابق )، فقدت براءته بسبب تشريح العلم، وتم تحليله تحليلا موضوعيا بغية اكتشاف القوانين التي تتحكم به، فعرفت الأسباب وبطلت الأعاجيب، حيث عمت قيم التفاخر بالفرادة الأخلاقية الغربية الحديثة وأصولها، وبقي مؤمنا بأن القيم التطبيقية ستبقى تفوق ما كانت تفوق من كلام لا يمتلك جزءا من المصداقية، وظل يعتقد (بأن أخلاق التقشف وحب العمل، والادخار، وأداء الواجب بصورة سليمة ساعدت على ظهور الرأسمالية كنمط للحياة والإنتاج)، وبهذه المثل سيسود التقدم، ويتحقق للمجتمع استقراره، بتوفير فرص العمل المتكافئة عموما، وليس في المجتمعات التي تؤمن بالعقيدة البروتستانتية، وحدها، (أحد المذاهب المسيحية المنتشرة في شمال أوروبا وألمانيا وانجلترا)، فالرأسمالية ظهرت أولا في (بريطانيا) قبل أن تظهر في البلدان الكاثوليكية كـ(فرنسا) مثلا، لان مفهومه للاقتصاد وعلاقة الاقتصاد بالمجتمع، قد وضع براويز، وخطوط حمراء فوق مواطن الخلل والزلل، فـ(الاقتصاد السائد في المجتمعات البدائية، ونوعية الاقتصاد السائد في المجتمعات الصناعية الأول، هو -اقتصاد الكفاف- الذي يؤمّن بقاء الإنسان على قيد الحياة فقط، ولكن بدون متعة أو استهلاك زائد عن الحد، أما الاقتصاد الثاني فهو قوي جدا وقائم على الإنتاج الصناعي وليس فقط الزراعي، كما أنه قائم على إدخال الآلة إلى كل مراحل الإنتاج الزراعي)، فالمجتمع دائما متفاوت حسب تفاوت إمكانية كل إنسان، (المجتمع إلى طبقات متفاوتة في الدخل والثروة: أي طبقة العمال البروليتاريين، وطبقة أرباب العمل الرأسماليين، والطبقة الوسطى)، نتيجة تراكم (رأسمال) تتحكم به فئة قليلة من الأشخاص أو العائلات، وتضخم (مشكلة الهيبة الفوقية أو السلطة في المجتمعات الحديثة) وانتقال (الأمة الدينية المسيحية إلى مرحلة الأمة القومية الحديثة القائمة على فلسفة التنوير وحقوق الإنسان والمواطن وليس على الدين)، وكان أهم لبنة (حداثية)، أو طفرة حداثية، (وهي الطفرة التي انتقلت بأوروبا من مرحلة العصر الإقطاعي الأصولي القديم، إلى مرحلة العصر البورجوازي الرأسمالي التنويري الحديث)، بهذا رسخت أفكار(ماكس فيبر) مفاهيم الإجابة عن مشاكلنا المعاصرة، و(الفكر العقلاني يعيش، أبداً.. حتى يخطو همومه المعاصرة )، وقد وقف مضاداً للثقافة السياسية الأميركية، وديمقراطيتها المتعصبة، ونفعيتها المتواصلة، إذ أشار بأنها تعود بالإنسان إلى القيود، وقد بقي الرجل طودا شامخا يتحدى الزوال بأفكاره النيرة أبداً، وكان أنموذجا للعالم الخالد، المتفرد برقي أفضل منهج قويم.